تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

على تقدير التوصّل إليه لا مطلقا ، فالتخيير بين الفعل وترك خاصّ لا يكون إباحة وإنّما الإباحة هو التخيير بين الفعل ومطلق الترك.

وعن الثاني : بأنّ رجحان الفعل على وجه التخيير لا يستلزم مرجوحيّة تركه مطلقا ، وإنّما يستلزم مرجوحيّة تركه المجرّد عن المعادل فلا ينافي رجحان تركه المتوصّل به إلى المعادل.

ثمّ قال : « وسيأتي لهذا مزيد بيان في مبحث النهي » ، وكأنّه إشارة إلى ما ذكره في مبحث اجتماع الأمر والنهي من قوله : « وأمّا إذا كانا تخييريّين أو كفائيّين فلا إشكال في جواز الاجتماع ، لأنّ المطلوب بالأمر حينئذ وجود الطبيعة المقرون بعدم البدل وبالنهي عدمها المقرون بوجود البدل فلا يتّحد المورد ».

ولا يخفى ما فيه من وجوه الاختلال ، فإنّ الإماميّة وأكثر المعتزلة من العامّة في أفراد الواجب المخيّر على أنّه يجب كلّ واحد على البدل ولا يجب الجميع ، ولا يجوز الإخلال بالجميع ، والظاهر أنّ الأخيرتين من القضيّتين تفصيل لما أجملته القضيّة الاولى.

وحاصل المراد بهما : أنّ الواجب المخيّر ليس بمثابة حتّى يكون كلّ واحد من أفراده مطلوبا على كلا تقديري وجود الآخر وعدمه ، ولا هو بمثابة حتّى لا يكون كلّ واحد مطلوبا على كلا تقديري وجود الآخر وعدمه ، بل كلّ واحد مطلوب على تقدير عدم الآخر وليس بمطلوب على تقدير وجود الآخر وهذا معنى قولهم : « يجب كلّ واحد على البدل ».

وإن شئت تصوير ذلك بأكمل وجه فلاحظ العرف فيمن يعرضه حرارة مزاج لا يطفئها إلاّ أكل الرقى أو شرب السكنجبين فيكون إطفاء الحرارة مصلحة تعلّق بها غرضه الّذي دعاه إلى الطلب الإلزامي قائمة بكلّ من الطبيعتين حاصلة في الخارج بحصول أيّ منهما اتّفق ، فيكون كلّ مطلوبة له على تقدير عدم اتّفاق حصول الاخرى وغير مطلوبة له على تقدير اتّفاق حصول الاخرى ، فيحصل في المقام بملاحظة التقديرين قيدان متغايران كلّ منهما بالقياس إلى كلّ من الطبيعتين بمنزلة الفصل وهي منهما بمنزلة الجنس ، وإذا اعتبرت كلّ واحدة متفصّلة بكلّ من الفصلين يحصل به مفهومان متغايران أحدهما مطلوب وهو ما يصادف من كلّ من الطبيعتين عدم حصول الاخرى ، وثانيهما غير مطلوب وهو ما يصادف منهما حصول الاخرى ، فالأمر المتعلّق بكلّ منهما إن اقتضى نهيا عن الاخرى فإمّا أن يقتضيه في المفهوم الأوّل أو في المفهوم الثاني ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلكون ذلك المفهوم نفس المأمور به والشيء لا يعقل كونه ضدّا لنفسه.

٦٢١

وأمّا الثاني : فلأنّ المضادّة إنّما يتصوّر بين الشيئين في محلّ التعارض وما يصادف من الطبيعتين حصول الاخرى لا يعارض الطبيعة الحاصلة ، لما بين حصوليهما من الترتّب الخارجي بحسب التقدّم والتأخّر ، فإنّه عنوان لا يصدق إلاّ بعد حصول الطبيعة الحاصلة ، فهو في حقيقة الأمر ضدّ لما ارتفع عنه الأمر وحصل به الامتثال ، وفرضه ضدّا حينئذ خارج عن المسألة لأنّ معقد البحث ما كان ضدّا للمأمور به ، وفرض ما ذكر ضدّا يرجع إلى نظير فرض الصلاة ضدّا للإزالة المأمور بها بعد حصولها في الخارج وهو كما ترى.

ولو فرض المضادّة بين الأوّلين من مفهومي الطبيعتين اللذين تعلّق بهما الأمر التخييري ، بأن يقال ـ فيما ذكر من المثال : ـ إنّ الرقي المصادف لعدم حصول السكنجبين ضدّ للسكنجبين المصادف لعدم حصول الرقى وبالعكس ، فيكون كلّ منهيّا عنه للأمر بالآخر ، لكان أوضح فسادا لمنافاة فصل كلّ جنس الآخر تنافي السلب والإيجاب كما لا يخفى ، فيلزم المحذور الّذي أشرنا إليه سابقا في الموسّعين من لزوم فرض النهي في كلّ خروجه عن كونه مأمورا به ما دام النهي باقيا ، أو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لا يتصوّر فيه تعدّد جهة منوّعة ، وهو على القول بعدم الجواز محال فيلزم خلاف الفرض أعني فرض الأمر باقيا ، وعلى القول الآخر مناف للثمرة الّتي ذكروها للنهي عن الضدّ من فساده لو كان عبادة بل معاملة على رأي أيضا ، مضافا إلى منافاته لما ذكره في دفع الإشكالين مع ما في مبحث اجتماع الأمر والنهي ممّا نقلناه عنه في وجه ما جوّزه من اجتماعهما إذا كانا تخييرين ، لابتنائه على إبداء تعدّد المورد فيهما ولا ينطبق ذلك إلاّ على المفهومين من كلّ طبيعة متفصّلة بفصلين متغايرين كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده في تقرير الإشكال الأوّل من إرجاع طلبي الفعل والترك إلى الإباحة ، فإن أراد به أنّ الطلبين لتساويهما بحسب الرتبة يتعارضان ويتساقطان فيبقى الفعل والترك كأنّهما لم يتعلّق بهما طلب أصلا ، فهو مع أنّه مقالة لا يوافقها شيء من أقوال المسألة ولم يتفوّه بها أحد هنا متّضح الفساد في نفسه ، لأنّ قصارى ما هنالك اجتماع الأمر والنهي أو تقييد الأمر بالنهي على الخلاف في محلّه أو اجتماعهما فيما ليس من محلّ كلامهم كما زعمه هو على ما عرفت.

كيف ولو بنى على ذلك لكان مطّردا في جميع ما يفرض فيه الأمر والنهي معا وهو كما ترى ، وإن أراد أنّ الطلبين يكشفان عن تصادم مصلحة الفعل مع مفسدته المقتضية

٦٢٢

لرجحان الترك وتساقطهما الكاشف عن إباحة المورد على حدّ ما ذكروه من أنّهما إذا اجتمعتا في شيء واحد إن تساويتا كان ذلك الشيء مباحا وإلاّ كان واجبا أو حراما ، ففيه : أنّه كلام ليس المقام من مجاريه لأنّ المفروض تعلّق الطلب بكلّ من الفعل والترك.

وما ذكر كلام في غير ما تعلّق به طلب ، ضرورة أنّه مع تساقط الجهتين المتساويتين غير معقول من حيث إنّه تابع للرجحان أو المرجوحيّة وهما منتفيان مع هذا الفرض ، إلاّ أن يؤوّل في الأمر والنهي المفروض تعلّقهما ويجعلهما لمجرّد الإذن في الفعل والترك وهو أوضح فسادا من جميع ما مرّ.

وأمّا ما قرّره في الإشكال الثاني من منافاة مرجوحيّة الفعل لرجحانه.

ففيه : أنّ رجحان الفعل ذاتي ومرجوحيّته عرضيّة ناشئة عن مرجوحيّة ترك الغير ولا منافاة بينهما ، وإلاّ لكان جاريا في الضدّ الموسّع للمأمور به المضيّق أيضا ، فما وجه تخصيص الإشكال بالمقام.

وأمّا ما ذكره في الجواب النقضي ، فالضدّ الشرعي المذكور فيه غير واضح المراد ، فإن أراد به ما يضادّ الواجب المخيّر ممّا امر به مع الأمر التخييري بالمخيّر فيدفعه : أنّ القائل بالنهي عن الضدّ لا يجعله مطلوبا ما دام النهي باقيا ببقاء الامتثال بالمخيّر مع كونه من المضيّقات ، بل يجعل الأمر به مشروطا بحصول الامتثال بالمضيّق أو حصول المعصية بتركه كما تقدّم في بحث المقدّمة.

ويظهر عن كلامهم هنا كما عرفت ويشهد به ثمرتهم المعروفة من فساد العبادة ضرورة منافاة الفساد للأمر كما يظهر عنهم في بحث كون النهي في العبادات مفسدا ، وإن أراد به ما يكون ضدّا شرعيّا لغير الواجب المخيّر وهو الواجب التعييني كالصلاة بالقياس إلى الإزالة ، فيدفعه : بمثل ما ذكر.

ولا يذهب عليك : أنّ ما احتملناه من الوجهين في ظاهر العبارة لا يساعدهما ما في ذيلها من التشبيه بقوله : « كما لو خيّر بين الجميع ومنع الجمع » فإنّ ظاهره النقض بما لو كان الضدّية بين أفراد الواجب المخيّر بحسب جعل الشرع لا بحسب الذات كما في خصال الكفّارة حيث لا يمتنع اجتماعها في محلّ واحد ، بل الامتناع نشأ عن فرض كلّ فردا للواجب التخييري ، غير أنّ قوله : « لا ريب في مطلوبيّة كلّ واحد للتوصّل إلى الامتثال بفعل الآخر مجرّدا عن وصف الاجتماع » غير منطبق على مقصوده ، لكون المناسب له أن يقول :

٦٢٣

« لا ريب في مطلوبيّة ترك كلّ واحد للتوصّل إلى الامتثال بفعل الآخر ».

وعلى أيّ حال كان فيرد عليه أيضا : أنّ المنع من الجمع إن اريد به ثبوته بقاعدة التشريع فهو ممّا لا مدخل له في محلّ البحث ، لأنّ المنع من الجمع غير المنع عن كلّ واحد ، لأنّه يرجع إلى المنع عن المجموع من حيث المجموع وهو لا يستلزم منع كلّ فرد من حيث الخصوصيّة ، كما في سلب العموم المغاير لعموم السلب ، والنقض إنّما يتمّ على الوجه الثاني دون الأوّل وإن اريد به ثبوته بنفس الأمر فهو في محلّ المنع ، إذ غاية مفاده نظرا إلى أخذ الترديد في مفهومه عدم كلّ واحد على طريق العامّ الاصولي وهو أعمّ من المنع.

ولو سلّم فهو منع عن الجمع لا عن كلّ واحد فيرجع الكلام إلى سابقه ، هذا مع ما في الجواب الثاني عن أوّل الإشكالين من ابتنائه على أصل فاسد له مبيّن فساده في بحث المقدّمة.

المرحلة الثانية

فيما يتعلق بكلمة « الاقتضاء »

فاعلم أنّها لغة لمعان كثيرة ، منها : ما هو من محلّ البحث وهو الدلالة والاستلزام ، واستعمالها فيهما في كلام العلماء فوق حدّ الكثرة ولا سيّما الدلالة ، وهي عبارة عن فهم المعنى من اللفظ ، فإن كان ذلك المعنى المفهوم تمام ما وضع له من حيث هو فالدلالة مطابقيّة ، وإن كان جزؤه كذلك فالدلالة تضمّنيّة ، وإن كان خارجة اللازم كذلك فالدلالة التزاميّة.

ثمّ إنّ هذا الخارج إن كان بحيث يحصل تصوّره بمجرّد تصوّر ملزومه فهو لازم بيّن بالمعنى الأخصّ ، وإن كان بحيث يحصل من تصوّره وتصوّر ملزومه وتصوّر النسبة بينهما الجزم بلزومه ، سواء حصل تصوّره بمجرّد تصوّر ملزومه أو لا فهو لازم بيّن بالمعنى الأعمّ ، وإن كان بحيث لا يحصل تصوّره بمجرّد التصوّر ولا الجزم بلزومه بمجرّد التصوّرات الثلاث بل كان يتوقّف العلم بلزومه على النظر في وسط وتوسيط واسطة فهو لازم غير بيّن ، وقد جرت عادتهم بالتعبير عن الأوّلين بالدلالة اللفظيّة وعن الأخير بالدلالة العقليّة.

ولعلّه من جهة أنّ فهم كونه لازما للمراد منوط بحكم العقل باللزوم نظرا منه في الخطاب مع الواسطة المشار إليها بخلاف الأوّلين لثبوت كونهما مرادين أو لازمين للمراد بنفس الخطاب من دون افتقار إلى وسط.

فتبيّن أنّ من خواصّه الافتقار إلى الوسط دونهما ، ومن خواصّه أيضا عدم كونه مقصودا بالخطاب أصالة بل هو لازم للمقصود دونهما ، ولذا يجعل الدلالة عليه تبعيّة وعليهما أصليّة

٦٢٤

بالمعنى المتقدّم في بحث الواجب الأصلي والتبعي من مباحث المقدّمة ، هذا على ما يستفاد من كلامهم ولكن لنظر الناظر فيه مجالا واسعا.

ومع الغضّ عن ذلك فلعلّ الوجه فيه أنّ اللازم إذا كان بحيث يحصل تصوّره والجزم بلزومه للسامع فالمخاطب أولى بذلك ، فهو حينما يقصد الملزوم من خطابه قاصد للازم أيضا مع نوع تأمّل في إطلاق هذه الدعوى ، وحيثما يثبت إرادة اللازم مع الملزوم فهو لا يستلزم كونه من باب الاستعمال في أكثر من معنى بعد ملاحظة أنّه يقصد من اللفظ إفادة الملزوم ومن الملزوم إفادة اللازم وكأنّ التعبير عن الأوّل بقولهم : « مقصود من الخطاب » وعن الثاني بقولهم : « مقصود بالخطاب » إشارة إلى ذلك كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الدلالة في الأخير من حيث الاعتبار مثلها في الأوّلين ، فهي أيضا من الدلالات المعتبرة عرفا وشرعا وإن لم تكن مقصودة بالخطاب كما صرّح به غير واحد من الأعلام.

والوجه في ذلك أنّ الغرض الأصلي من فتح باب الألفاظ ووضعها بل مطلق المواضعة إنّما هو التوصّل بها إلى المقاصد وما في الضمائر من معتقدات المخاطبين ، فيكون اعتبار الدلالات من جهة كشفها بواسطة الألفاظ وغيرها عمّا في الضمائر من المقاصد والمعتقدات.

ولا ريب أنّ الدلالة المذكورة ممّا يكشف كغيرها عن الاعتقاد ، غاية الفرق أنّها ليست كغيرها ممّا يقصد بها إفادة الاعتقاد أصالة ، وهو لا يوجب فرقا بينهما في الحكم ، ضرورة دوران الأحكام شرعيّة وعرفيّة مدار المعتقدات في الواقع ونفس الأمر ، والمراد بها ما هو من معتقد الشارع ومن هو بمنزلته في وجوب إطاعته عقلا أو شرعا أو عرفا ، فلو استكشفنا بالخطاب ولو مع انضمام خارج إليه عمّا هو من معتقد المخاطب شارعا كان أو غيره كان متّبعا ويترتّب عليه أحكامه المعلومة في الخارج من طريقة ذلك المخاطب ، سواء كان من جملة الوضعيّات أو غيرها ، ومن هذا الباب أقلّ الحمل المستفاد من الآيتين كونه ستّة أشهر مع عدم كونه مقصودا بهما جزما.

ولذا ترى يحكم عليه بجميع ما قرّر في الشريعة وعلم من طريقة الشارع من الأحكام المحمولة على الحمل.

وربّما يستبعد وجود هذا النوع من الدلالة في كلام الشارع ، وقد أشرنا في بحث المقدّمة إلى ما يقضي بضعفه ، ونقول هنا أيضا : إنّ مبنى تلك الدلالة على عدم القصد من الخطاب بالخصوص والّذي يمتنع في الشارع إنّما هو عدم الالتفات والتصوّر والشعور

٦٢٥

لا عدم القصد كما لا يخفى ، ولا ملازمة بين الالتفات والقصد إذ المراد بالقصد في مداليل الألفاظ ما يرادف الإرادة ، وهي في باب الدلالات عبارة عن طلب إفادة الاعتقاد وما في الضمير سواء بواسطة اللفظ أو غيره وهو أمر ينشأ بعد الالتفات والتصوّر فيكون أخصّ.

ومن البيّن عدم استلزام وجود الأعمّ لوجود الأخصّ.

ثمّ ما تقدّم للاّزم من الأقسام الثلاث إنّما هي وفي أصلها من مصطلحات أهل الميزان فجعلوها لتوابع الجثث والأعيان ولوازمها من حيث الوجود أو من حيث هي ، ولكنّ القوم توسّعوا في الاصطلاح فجعلوها لمطلق التوابع سواء قيست إلى الأعيان أو غيرها من الامور الخارجيّة أو الذهنيّة ، فلذا تراهم يجعلون المقدّمة من لوازم ذيها باعتبار وجوده الخارجي ووجوبها من لوازم وجوبه ، ثمّ طرّدوها إلى الدلالات اللفظيّة وجعلوا الالتزاميّة منها منقسمة إلى الأنواع الثلاث.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ تفسير الاقتضاء هنا بالدلالة اللفظيّة وإن توهّمه جماعة لا يلائم ما قدّمنا تحقيقه من كون الخلاف بينهم في الملازمة العقليّة ولا ينافيها القول بالتضمّنيّة والعينيّة فيما بين الأقوال لما ستعرف ، فلابدّ من تفسيره « بالاستلزام ».

ولذا ترى في بعض العنوانات التعبير به دون « الاقتضاء » ولمّا أنّهم مع الخلاف في أصل « الاقتضاء » اختلفوا في كيفيّته من حيث العينيّة والتضمّن والالتزام فلابدّ من أن يراد « بالاستلزام » ما يعمّ الجميع ، وإن كان قد يستبعد إرادة العينيّة من لفظ « الاقتضاء » إلاّ أنّه وارد في غير محلّه ، من جهة أنّ « الاقتضاء » بمعنى الاستلزام على الوجه الأعمّ يراد به عدم الانفكاك أو استحالته ، وكما أنّ اللازم لا ينفكّ عن ملزومه والجزء عن الكلّ فكذلك الشيء عن نفسه ، فقول القائل بالعينيّة « أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه » يراد به أنّه مستحيل الانفكاك عنه لكونه عينه ، ولا بعد فيه أصلا وإن كان الإطلاق عليه قليلا.

المرحلة الثالثة

فيما يتعلّق بكلمة « النهي »

فاعلم أنّ النهي كالأمر يطلق تارة على ما هو من مقولة الألفاظ. واخرى على ما هو من مقولة المعاني ، إلاّ أنّ المراد به هنا هو الثاني وإن كان القول بالعينيّة قد يومى إلى إرادة الأوّل ، بناءا على بعض محتملاته من إرادة الترادف بين صيغتي الأمر والنهي ، غير أنّه

٦٢٦

احتمال لا ينبغي الاعتداد به لوضوح فساد مبناه على ما سنحقّقه.

ثمّ إنّه بالمعنى الثاني كالأمر في انقسامه إلى ما سبق في بحث المقدّمة وغيرها من الأقسام ، فقد يكون مطلقا ، وقد يكون مشروطا ولو بالقياس إلى الشرائط الأربع المعروفة ، وقد يكون تعبّديّا كالصوم الواجب بناءا على تعلّق التكليف فيه بالتروك وإن عبّر عنها بأمر وجوديّ ، وقد يكون توصّليّا وهو الغالب ، وقد يكون نفسيّا وقد يكون غيريّا ، وقد يكون أصليّا وقد يكون تبعيّا ، ويعرف تفاسير الجميع بملاحظة ما سبق فلا حاجة إلى الإعادة.

وإنّما الغرض المهمّ بيان أنّ المراد به هنا أيّ واحد من الأقسام وقد وقع فيه خلاف ، فمن الأعلام من صرّح بكون النزاع في النهي الأصلي في غير موضع ـ هنا وفي بحث المقدّمة ـ مع اعترافه بثبوت النهي التبعي بعد ما اختار هنا القول بعدم الاقتضاء ، التفاتا إلى أنّه لا يثمر الثمرات المذكورة في المقام من ترتّب العقاب على فعل الضدّ وفساده لو كان عبادة إلاّ النهي الأصلي.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ الفساد المستفاد من النهي المتعلّق بالعبادة ليس من جهة دلالة اللفظ عليه ابتداء ، بل من جهة منافاة التحريم لصحّة العبادة ، وحينئذ فأيّ فرق بين استفادة التحريم من اللفظ ابتداءا ومن العقل بواسطة اللفظ كما في المقام أو من العقل المستقلّ.

إلى أن قال في آخر كلامه : « فتلخّص ممّا قرّرنا أنّ النزاع في المقام في تعلّق النهي الغيري التبعي بالضدّ ، فالقول بكون الأمر بالشيء مستلزما للنهي عن ضدّه إنّما يعنى به ذلك ، والقائل بعدمه يمنع عن حصول النهي عن الضدّ من أصله » ... إلى آخره.

ولا يخفى أنّ هذا النزاع ممّا لا يعلم له وجه بعد ملاحظة أقوال المسألة الدائرة بين القول بنفي الاقتضاء وإثباته على طريق العينيّة أو التضمّن أو الالتزام اللفظي أو العقلي ، بل الاستدلال عليه من الطرفين يشبه بأن يكون اجتهادا في مقابلة النصّ ، فإنّ الالتزام العقلي غير خال من أن يكون المراد به الغير البيّن كما يظهر من المصنّف عند نقله القول بانحصار الاستلزام في المعنوي عن بعض أهل عصره ، بناء على أن يكون مراده بالمعنوي هو العقلي وأن يكون الغير البيّن مدلولا تبعيّا ، أو ما يعمّ البيّن بالمعنى الأعمّ أو الغير البيّن كما فهمه بعض المحقّقين من كلام المصنّف في مفتتح المسألة ، حيث حمل الاقتضاء المعنوي الّذي نفاه المصنّف عن الضدّ الخاصّ على أن يجزم العقل بعد تصوّرهما باللزوم بمجرّد تصوّرهما أو بالدليل ولم يكن تصوّره فقط مستلزما لتصوّره ، أو المعنى الّذي فهمه بعض

٦٢٧

الأعلام وتبعه غيره من أن يحكم العقل بأنّ ذلك مراد المتكلّم أصالة.

وعلى جميع التقادير يلزم أن يكون بعض الأقوال متضمّنا لدعوى الأصلي وبعضها متضمّنا لدعوى التبعي ، ولا سيّما مع ملاحظة احتجاجهم بقاعدة المقدّمية ـ بناءا على ما استفدنا في بحث المقدّمة من كون النزاع في الوجوب التبعي ـ فبطل بذلك إطلاق كلّ من الدعويين ، وتنزيل كلامهم على الوجه الأعمّ إلى الأصلي مطلقا أو التبعي مطلقا ، بل الّذي يقتضيه النظر وقوع النزاع فيما بينهم بالنسبة إلى أصل النهي ماهيّة ولو تبعيّا ، فالنافي ينفيه على الوجه الأعمّ كالمصنّف في الضدّ الخاصّ والمثبت يثبته في الجملة.

غاية الأمر أنّ الاختلاف في كيفيّة الاقتضاء خلاف آخر وقع بين القائلين بالاقتضاء بعد إثباته في الجملة ، ولا ينافيه عدم تصريحهم بتعدّد النزاع ولا بحثهم في عنوانين ، نظير ما صنعه الأشاعرة في إدراك العقل لحسن الأشياء وقبحها ، لأنّ ذلك من باب تداخل العنوانين واندماج النزاعين طلبا للاختصار وإثباتا للدعويين على وجه مطلوب مرغوب.

نعم يبقى الكلام في أنّ الثمرات الّتي ذكروها هل تترتّب على النهي على الوجه الأعمّ حتّى ما لو كان تبعيّا أو لا؟ وهو كلام آخر يأتي إلى تحقيقه الإشارة فيما بعد ذلك إن شاء الله.

المرحلة الرابعة

فيما يتعلّق بكلمة « الضدّ »

وتفصيل القول في شرح « الضدّ » وبيان معانيه يأتي في شرح عبارة المصنّف إن شاء الله.

ولمّا كان بناء المسألة نفيا وإثباتا بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ على مقدّمية ترك الضدّ لفعل المأمور به وعدمها ، أو على جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه ، فالأنسب صرف عنان النظر إلى تحقيق الحال في هاتين المسألتين.

فأمّا المسألة الاولى : فالمشهور فيها إلى كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ ، والكعبي إلى كون فعل الضدّ مقدّمة للترك على عكس الاولى كما هو المعروف من مقالته في نفي المباح.

وربّما يعزى إليه المصير إلى المقدّمية من الطرفين ، غير أنّ الأوّل شرط للوجود والثاني علّة للعدم ، ونسب ذلك إلى مختصر الحاجبي وشرحه للعضدي حيث سلّما المقدّمية في الطرفين ، والمحقّق السلطان إلى منع المقدّمية من الجانبين بدعوى : كون كلّ مع الآخر من المقارنات الاتّفاقيّة من غير توقّف فيهما ، وعليه المحقّق السبزواري أيضا. وعزاه بعض الأعاظم إلى الكاظمي أيضا.

٦٢٨

وعليه شيخنا البهائي في زبدته حيث منع التوقّف من الطرفين في دفع شبهة الكعبي ، واستدلال القائلين بكون الأمر مقتضيا للنهي بقاعدة المقدّمية.

فقال في الأوّل : « إنّ استدلال الكعبي على وجوبه ـ يعني المباح ـ بأنّ ترك الحرام لا يتمّ إلاّ به أو هو هو ، مع مصادمته للإجماع مدخول [ لا ] لعدم التعيين لثبوت مطلبه بالتخيير ، ولا للزوم وجوب المحرّم لالتزامه باعتبارين ، ولا لمنع وجوب غير الشرعيّة لثبوته كما مرّ ، بل لعدم كون المباح مقدّمة لترك الحرام ولا فردا منه ، إذ هو الكفّ عنه والمباح كاخوته الثلاثة مقارنات لا غير ».

وقال في الثاني : وفيهما كلام ، يعني في الاستدلال بتوقّف الواجب على تركه فيجب ، واستلزام فعله ترك الواجب فتحرم.

هذا على ما في المتن وشرحه في الحاشية بقوله : « يقال على الأوّل : إنّ المراد بمقدّمة الواجب ما يكون وسيلة ووصلة إلى فعله كقطع المسافة في الحجّ ولا نسلّم أنّ ترك أحد الضدّين وسيلة إلى فعل الآخر ، بل هو لازم ومقارن له كما هو مذكور في دفع شبهة الكعبي » إلى آخر ما ذكره ، ووافقه من شرّاحه صاحب الكواكب.

ويظهر ذلك عن العلاّمة في التهذيب حيث قال ـ بعد ما ذهب إلى النهي في الضدّ العامّ ـ : « وأمّا الضدّ الوجودي فلازم بالعرض ».

وعلّله بعض محشّيه : بأنّ المنافاة الحقيقيّة بين الشيء وعدمه ، وباعتبار أنّ عدم الشيء يتحقّق مع ضدّه يكون منافيا لذلك الشيء بالعرض ، فالنهي لازم باعتبار منع الاخلال بالمأمور به بالذات وباعتبار الضدّ الوجودي بالعرض ... إلى آخره.

وسيأتي في كلام أهل المعقول ما يفسّر هذا الكلام ، ونفي المقدّمية عن ترك الضدّ لازم لكلّ من قال في بحث المقدّمة بوجوبها وهنا بمنع اقتضاء الأمر للنهي كما لا يخفى ، وهذا هو الحقّ عندي.

ومن المحقّقين من فصّل فجعل ارتفاع الضدّ شرطا دون عدمه الأزلي.

وتحقيق المقام : مبنيّ على النظر في أنّ الضدّين هل يتحقّق بينهما تمانع في الوجود الخارجي ، بمعنى كون وجود كلّ مانعا عن وجود الآخر وعدمه ، فعلى الأوّل يثبت مقدّمية الترك ، بضابطة : أنّ عدم المانع مقدّمة بخلافه على الثاني.

وقد وقع فيه خلاف ، فالقائلون بعدم المقدّمية على الثاني وهو الحقّ ، كما أنّ القائلين

٦٢٩

بالمقدّميّة على الأوّل.

ولنا : على ذلك وجوه :

أوّلها : أنّ وجود الضدّ مع عدم الآخر إنّما هو من باب مصادفة ما يكون مانعا على تقدير وجود المقتضي لانتفاء ذلك المقتضي ، فيكون عدم المقتضي مستندا إلى عدم ما يقتضي وجوده ، ووجود الضدّ الآخر معه مقارن له باعتبار مقارنته لعدم المقتضي فلا يكون مانعا ، لأنّ المانع ما يستند إليه العدم لا محالة.

وتوضيح ذلك : أنّ المنع على ما يساعده النظر الصحيح والوجدان الصريح عبارة عمّا لو كان هناك شيء له قابليّة واستعداد فيصادفه شيء آخر ويزاحمه في ترتّب الآثار المعدّة له عليه فالشيء الأوّل هو المقتضي والثاني المانع ، ومزاحمته لترتّب الآثار منع ، وإلى ذلك ينظر ما في كلام أهل اللغة من أنّ المنع خلاف الإعطاء ، فإنّ الإعطاء في مقابلة المنع إنّما يطلق فيما لو كان هناك حقّ فلا يدفعه إلى صاحبه فالمنع المقابل له حبس للحقّ فيقال : « أعطاني زيد حقّي » و « منعني عن حقّي » أو « منع عنّي حقّي ».

فبالجملة المنع لغة وعرفا لابدّ في صدقه من تحقّق ما له قابليّة التأثير والاستعداد القريب لترتّب الأثر عليه حتّى يصدق عنوان « المانعيّة » على ما يقتضي عدم فعليّة الترتّب ممّا يصادفه في الوجود ، وعليه ينطبق اصطلاح العلماء قاطبة في جميع موارده بالقياس إلى الموانع العقليّة والعاديّة والشرعيّة ، فلا يصدق عنوان « المانعيّة » عقلا ولا عادة ولا شرعا إلاّ على ما يتحقّق معه المقتضي التامّ.

ألا ترى أنّ القياس بطريق الشكل الأوّل في اقتضاء النتيجة عقلا يجتمع معه سبق الشبهة إلى الذهن ، ولكن صدق عنوان « المانعيّة » عليه بالقياس إلى النتيجة ينوط بكلّيّة كبرى القياس لأنّه مقتض على هذا التقدير ، وأمّا مع عدمها يكون وجوده بمنزلة عدمه من حيث إنّه لا ينشأ منه أثر حينئذ لاستناد عدم النتيجة إلى انتفاء المقتضي لكونه الجزء المتقدّم من جزئي العلّة ، وظاهر بالوجدان أنّ العلّة مع انتفاء جزئية معا يستند انتفاء المعلول إلى جزئها المتقدّم وهو وجود المقتضي ، ويكون انتفاء الجزء الآخر معه وهو فقد المانع كالحجر في جنب الإنسان.

وكذلك الخبر المتواتر في اقتضاء العلم بالصدق عادة ، ومثله النار في اقتضاء الاحتراق ، وصيغة البيع والصلاة في اقتضاء الصحّة شرعا ، فإنّ الأوّل مقتض لو بلغ عدد

٦٣٠

المخبرين في الكثرة حدّا يأبى العادة تواطؤهم على الكذب ، والأخيرتان مقتضيتان لو جامعت الاولى للجهات المعتبرة فيها من كمال المباشر والتنجيز والعربيّة والصراحة ونحوها وصدرت الثانية من المتطهّر بالنسبة إلى حدثي الأكبر والأصغر ، فيصدق على سبق الشبهة إلى الذهن والرطوبة مع وجود النار وجهالة المحلّ أو نجاسته أو مغصوبيّته وقصد الرياء أو الاشتمال على جزء ما لا يؤكل لحمه أو الذهب الغير المسكوك أو الحرير الغير المختلط عنوان « المانعيّة » جزما لغة عرفا عامّا أو خاصّا لاستناد العدم حينئذ إليها استنادا واقعيّا.

وأمّا لو فرض الخبر فاقدا للعدد ، والنار غير موجودة ، والصيغة صادرة من الناقص أو معلّقة أو غير عربيّة ، والصلاة صادرة عن المحدث بالأكبر أو الأصغر لاستند العدم إلى فقد المقتضي استنادا حقيقيّا ، فيكون وجود الامور الاخر الّتي كانت موانع على التقدير الآخر مع عدمها حينئذ على حدّ سواء ، إذ لا ينشأ منها أثر فلا يصدق على شيء منها عنوان « المانعيّة » إلاّ على سبيل المسامحة والتجوّز ، فيكون وجود كلّ مع عدم المقتضي من باب المقارنات الاتّفاقية لمقارنته لفقد المقتضي.

ولا ريب أنّ وجود كلّ واحد من الأفعال الوجوديّة مع عدم الآخر ممّا يفرض له ضدّا من هذا الباب ، لمصادفته دائما لما لا استعداد له للوجود ، لأنّه فرع ميل النفس التابع لاعتقاد النفع ولو ظنّا ، التابع لاشتماله على النفع الّذي هو عبارة عن موافقة الغرض ، وهذه الامور مع حصولها في جانب الضدّ الموجود يمتنع حصولها في جانب الآخر لامتناع اشتمال الضدّين معا على موافقة الغرض كما يشهد به الوجدان ، لأدائه إلى كون كلّ من طرفي النقيض موافقا للغرض من جهة استلزام وجود كلّ لعدم الآخر ، ولذا قال المعتزلة ـ في تفسيرهم الإرادة « باعتقاد النفع » على ما حكي عنهم : ـ : أنّ نسبة قدرة القادر إلى طرفي المقدور أعني فعله أو تركه بالسويّة ، فإذا اعتقد نفعا في أحد طرفيه ترجّح ذلك الطرف عنده وصار ذلك الاعتقاد مع القدرة مخصّصا لوقوعه منه.

وقضيّة ذلك خلوّ الطرف الآخر عمّا يقتضي الرجحان وهو اعتقاد النفع ، فيسري ذلك على تقدير كون الطرف الواقع هو الفعل لرجحانه إلى ما يفرض له ضدّا ، لكونه مستلزما للطرف المقابل الّذي لا رجحان فيه أصلا فيكون خاليا عن المقتضي بالمرّة ، فيستند عدمه إلى فقد المقتضي كما يستند وجود الضدّ الآخر إلى وجود مقتضيه ، فيلزم أن لا يصدق عليه عنوان « المانعيّة » لأنّه فرع استعداد الضدّ المعدوم للوجود وهو مع فرض انتفاء المقتضي

٦٣١

مفروض الانتفاء ، ولمّا كان وجود ما فرض وجوده مقارنا لفقد المقتضي لوجود الآخر كان وجوده مقارنا لعدمه من دون أن يؤثّر ذلك الوجود في ذلك العدم.

لا يقال : ننقل الكلام إلى المقتضيين ونفرض التضادّ بينهما ولا يكون إلاّ من جهة ما بينهما من التمانع وإلاّ لأدّى إلى التسلسل ، فيكون وجود كلّ مانعا عن وجود الآخر وهو كاف في ثبوت المطلوب ، إذ ليس المراد بالتمانع المتنازع فيه ما يكون بلا واسطة خاصّة ، فيصدق على كلّ من الضدّين أنّه مانع بالقياس إلى الآخر ولو بالواسطة.

لأنّا نقول : بأنّ المراد بالمقتضي على ما عرفت هو الرجحان ، وهو في الضدّ الموجود مستند إلى اعتقاد النفع أعني موافقة الغرض ، وهو تابع لكونه موافقا للغرض فيكون عدم رجحان الضدّ الآخر مستندا إلى عدم اعتقاد النفع فيه وهو تابع لعدم كون ذلك الضدّ موافقا للغرض وهو لا يحتاج إلى علّة ومؤثّر لأنّ العدم الصرف لا يقتضي علّة ، فلا يرد أنّ عدم موافقته للغرض لعلّه نشأ عن موافقة الضدّ الآخر له فبطل توهّم التمانع بالمرّة.

وثانيها : ما يشهد به العيان المغني عن البيان من جريان ضرورة الأذهان بأنّه كما يتوجّه النفس إلى الفعل مع جميع ما اعتبر فيه من الخصوصيّات عند العزم عليه لمصلحة راجحة فيه توجّها تفصيليّا فكذلك يتوجّه إلى مقدّمات وجوده بأسرها طلبا لإحرازها مع جميع ما يعتبر فيها من الخصوصيّات كمّا وكيفا توجّها تفصيليّا لا يشوبه شكّ ولا ريب ، فمن أراد إنشاء سفر لدخول بلد أو قرية كما أنّه يلاحظ أصل السفر وغايته المطلوبة منه فكذلك جميع ما يتوقّف عليه وجوده من المقدّمات من قطع طريق وتعيينه وما يحتاج إليه فيه من زاد وراحلة وحشم وخدم وغيرها ممّا يصلح له وممّا لا يصلح كمّا وكيفا ملاحظة تفصيليّة فيمهّدها على وفق ما يرفع حاجته ويحصل مقصده ، وكذلك من أراد فتح بلد من الامراء فكما أنّه يلاحظ الفتح وغايته المطلوبة منه كذلك يلاحظ مقدّمات وجوده لتمهيدها من تدبير عسكره وتعيينه عددا وشخصا وما يصلح له من السلاح والآلات والحشم والخدم ملاحظة تفصيليّة ، وكذلك من أراد ضيافة قوم في جميع ما ذكر ، ونرى أنّ ترك الضدّ لا يدخل في جملة ذلك ولا يلتفت إليه النفس أصلا تفصيلا ولا إجمالا فلولا عدم كونه مقدّمة لامتنع ذلك جزما.

فإن قلت : لعلّ ذلك من جهة أنّ العدم لا يفتقر إلى تأثير حتّى يحصل الالتفات لانشاء ذلك التأثير كما في سائر المقدّمات ، بخلاف الوجود فإنّه يفتقر إلى التأثير لا محالة فلابدّ

٦٣٢

من الالتفات إليه حتّى يتمكّن من إحرازه.

قلت : مع أنّ الاستمرار على العدم إذا كان قائما بما يكون من مقولة الأفعال ربّما يفتقر إلى التأثير ، أنّ عدم الضدّ عند من يراه مقدّمة أعمّ من العدم الغير المسبوق بالوجود والعدم المسبوق به المعبّر عنه بالارتفاع ، بل الثاني أولى بالمقدّميّة كما لا يخفى ، ولذا خصّ المقدّميّة بعض المحقّقين به ونفاها عن الأوّل.

ولا ريب أنّه يفتقر إلى تأثير وليس من جملة ما يلتفت إليه من المقدّمات طلبا لإحرازها.

وثالثها : طريقة العرف والعادة على التعبير عن شيئين بينهما ترتّب في الوجود الخارجي وتوقّف لأحدهما على الآخر بتوسّط أداة الترتيب ، فيقال : « تطهّر زيد فصلّى » و « نصب السلّم ثمّ صعد » و « قطع الطريق ثمّ حجّ » ولا يصحّ ذلك في ترك الضدّ بالقياس إلى فعل الضدّ الآخر ، فلا يقال : « ترك القيام فقعد » ولا « ترك الأكل فنام » ولا « ترك السفر فحضر » كما لا يقال : « حرّت الشمس فضاءت » فلولا أنّهما متلازمين حصل التلازم بينهما اتّفاقا لما كان الأمر فيهما كذلك.

ورابعها : لو تمانع الضدّان لكانا متنافيين والتالي باطل فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّ التمانع لا يثبت إلاّ على تقدير كون كلّ نافيا للآخر لا بمجرّد عدم الاجتماع وإلاّ لكان المثلين أيضا متمانعين لامتناع اجتماعهما في محلّ واحد ، وهو باطل للقطع بأنّه لا توقّف بين وجود أحدهما مع عدم الآخر ، بل هما متلازمان معلولان لعلّة ثالثة وهي فرض الاثنينيّة بينهما فإنّ الاجتماع رافع لها.

وأمّا بطلان التالي : فلما قرّر في المعقول من أنّ المنافاة بين الشيء ورفعه ذاتيّة ، وأمّا بينه وبين شيء آخر مضادّ له عرضيّة ، لكون كلّ مستلزما لرفع الآخر بحيث لولا استلزامه لذلك لما كان منافيا له أصلا.

وإن شئت فلاحظ كلام أهل المعقول ، حيث قالوا : إنّ منافي الشيء إمّا رفعه أو مستلزم رفعه ، لأنّ ما عداهما يجوز اجتماعه مع ذلك الشيء قطعا ، ولا شكّ أنّ منافاة رفع الشيء معه إنّما هي لذاتهما ولذلك إذا لاحظهما العقل مع قطع النظر عمّا عداهما تفصيلا أو إجمالا حكم بالمنافاة بلا توقّف ، وأنّ منافاة مستلزم رفع الشيء معه إنّما هي لاشتماله على رفعه إذ لولا اشتماله عليه لما ينافيه قطعا ، فالمستلزم لرفع الشيء إنّما ينافيه على سبيل التبع لا لذاته ، ولذلك إذا لاحظ العقل مفهوما ولاحظ معه مفهوما آخر مغايرا للمفهوم الأوّل فما لم

٦٣٣

يشعر لاستلزامه لرفعه لم يحكم بامتناع الاجتماع بينهما ، لكن قد يكون المفهوم الآخر ظاهر الاستلزام لرفع المفهوم الأوّل ، فمجرّد ملاحظته مشعر بالاستلزام إجمالا ولا يشعر بهذا الشعور الإجمالي فيغلط ويظنّ أنّ الحكم بالمنافاة لذاتي المفهومين. انتهى. (١).

فإن قلت : حصول المنافاة بينهما بالتبع كاف في ثبوت المطلوب.

قلت : إنّما يثبت المطلوب لو استند الرفع المنافي للشيء إلى وجود الشيء الآخر المقابل له ، بأن يكون استلزامه له استلزاما توقّفيا ، وهي في حيّز المنع لجواز كونه استلزاما تقارنيّا كما في معلولي علّة واحدة ، ولا يحكم العقل بأزيد من الاستلزام لو لم ندّع حكمه بعدم الاستناد ، وإلاّ فهو قاض قضاء ضروريّا بأنّ رفع الشيء إنّما يستند إلى انتفاء علّة ثبوته وإنّما الشيء الآخر يتحقّق معه من باب المقارنة معلولا لعلّته المقتضية لتحقّقه من دون استناد لرفع الشيء الأوّل إليه أصلا ، مع أنّ التنافي وعدم الاجتماع في محلّ واحد فيما بين النفي والإثبات أشدّ منه في غيرهما كما قرّر في المعقول أيضا وسيق لبيانه العبارة المتقدّمة ، فيلزم أن يكون عدم كلّ مقدّمة لوجود الآخر ، وأنّه محال لأدائه إلى كون الشيء مقدّمة لنفسه ، إذ لا واسطة بين النفي والإثبات ، فعدم النفي هو الإثبات كما أنّ عدم الإثبات هو النفي ويسري ذلك إلى ضدّين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فإذا كان ترك الحركة مقدّمة للسكون الّذي هو عينه يلزم أن يكون السكون مقدّمة للسكون وكذا في العكس وانكار العينيّة إنكار للبديهة ، وإخراج الضدّين اللذين لا ثالث لهما عن حكم المقدّمية تخصيص في العقل ، وكلّ ذلك لا يليق بأرباب الفضل ، مع أنّ الوجدان قاض بأنّ المتضادّين في غير ما لا ثالث لهما ربّما يكونان معدومين معا فيتعارضان في نظر القادر عليهما المريد للإتيان المتردّد بينهما لاشتراكهما في المصلحة فينظر في المرجّحات ويرجّح أو يخيّر.

ولا ريب أنّ عدم ما بقي منهما على العدم هو العدم السابق وقد قارنه وجود الآخرين من غير أن يكون له تأثير فيه.

والمحكيّ من حجّة هذا القول وجوه :

الأوّل : الوجدان الّذي قرّره بعض مشايخنا : بأنّ كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ فرع لأن يكون بينهما ترتّب ، ونحن كلّما نلاحظ لا نجد بينهما ترتّبا ولا نراهما إلاّ متلازمين ،

__________________

(١) ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من العبارة حسبما في النسخة الحاضرة عندنا وظنّي اشتمالها على غلط في بعض الكلمات ، ولكن لا يضرّ في المعنى المراد وليرجع لحقيقة الحال إلى نسخة اخرى فليصحّح العبارة ها هنا طلبا لمرضاة الله. ( منه عفي عنه ).

٦٣٤

فيكونان معلولين لعلّة ثالثة وإن لم نعلمها بالخصوص.

فأورد عليه : بأنّه معارض بمثله وهو الوجدان الّذي يأتي تقريره في حجّة القول بالمقدّمية ، بل دعوى كون ذلك من مقتضى الوجدان افتراء على الوجدان.

وبالتأمّل فيما قرّرناه من الوجوه يظهر ضعف ذلك.

الثاني : ما قرّره بعض المشايخ أيضا ـ حكاية ـ من : أنّ ترك الضدّ لو كان مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ففعل الضدّ أولى بكونه مقدّمة لترك الضدّ لكونه مستلزما له بخلاف الترك فإنّه غير مستلزم للفعل والتالي باطل ، وإلاّ للزم الالتزام بشبهة الكعبي ، فأورد عليه : بمنع الأولويّة وكون التوقّف في جانب العكس في محلّ المنع بل الفعل ليس إلاّ من مقارنات الترك لاستناده إلى وجود الصارف وعدم الإرادة ، إذ الإرادة من أسبق مقدّمات الفعل فيكون تركها علّة لتركه فيخرج فعل الضدّ من المقدّمية ويكون من المقارنات الاتّفاقيّة.

وفيه : أنّه مناف للقول بتمانع الأضداد وذهاب إلى نفي المانعيّة ، إذ المانع لا يراد منه إلاّ ما كان علّة للعدم فجعل ترك الضدّ مستندا إلى الصارف إخراج للضدّ الآخر عن كونه مانعا.

فلا يكون تركه شرطا لابتنائه على فرض المانعيّة وهو كما ترى تناقض في المقالة.

وقرّره بعض الأعلام عن المحقّق السلطان بأنّه : « لو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فكون فعل الضدّ مقدّمة لترك ضدّه أولى بالإذعان ، ولمّا كان منشأ توهّم التوقّف هو المقارنة الاتّفاقيّة حصل ذلك الاشتباه في المقامين مع أنّه محال » حاملا لقوله : « مع أنّه محال » على إرادة لزوم الدور ، مع حمله ثاني المقامين على شبهة الكعبي في نفي المباح الّتي هي مسألة مستقلّة في الكتب الاصوليّة ، فيكون أوّل المقامين مرادا به دعوى كون الترك مقدّمة للفعل كما في مسألتنا المبحوث عنها.

والظاهر أنّ العبارة المذكورة مأخوذة منه عن حواشيه على شرح المختصر كما قيل ، وإلاّ فلا يوافق عبارته في حواشي الكتاب ، حيث أخذ بدفع الاحتجاج على اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ بقاعدة المقدّمية ، فقال : والتحقيق في الجواب منع كون ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة وموقوفا عليه الواجب ، وإنّما يحصل معه في الوجود بلا توقّف من الطرفين.

والعجب توهّم الكعبي كون فعل أحد الضدّين مقدّمة لترك الضدّ الآخر على عكس المذكور هاهنا.

وأعجب من ذلك توهّم تسليم مصنّف المختصر وشارحه ما ذكر في الموضعين مع

٦٣٥

تنافيهما ، وإنّما أجابا في الموضعين بمنع كون مقدّمة الواجب واجبا مطلقا غير أنّ مفاد العبارتين واحد بالنسبة إلى الدعوى وإن خصّ ذكر السند بإحداهما.

وكيف كان فأجاب بعض الأعلام عن دعوى عدم الفرق بين المقامين في كون كلّ من الموضوعين من باب محض الاتّفاق ، بأنّ : « الفرق بينهما في كمال الوضوح فإنّ ترك الحرام قد يتخلّف عن جميع الأفعال مع وجود الصارف ، ومع عدم التخلّف فلا يتوقّف عليه غالبا بخلاف فعل المأمور به فإنّه لا يمكنه التخلّف أبدا ».

ومحصّل مراده : أنّ ترك الضدّ لا يتوقّف على فعل الضدّ الآخر غالبا كما يرشد إليه تخلّفه في بعض الأحيان عن جميع الأفعال ، فلو كان الفعل مقدّمة لاستحال التخلّف ، بخلاف الفعل فإنّه لا يتخلّف عن الترك أبدا فيكون الترك ممّا يتوقّف عليه الفعل ، وهو لو تمّ لقضى بمنع الأولويّة أيضا.

ولكن ضعفه واضح ممّا أشرنا إليه من منافاة التمانع ، ضرورة أنّ عنوان « المانعيّة » لا يصدق إلاّ إذا تحقّق جميع أجزاء العلّة التامّة عدا فقد المانع ، فيكون مؤثّرا في العدم وإلاّ لم يكن مانعا ولا فقده شرطا وجزءا أخيرا من العلّة ، كما يشهد به تعريفه : « بأنّه ما يلزم من وجوده العدم » بناءا على كون كلمة « من » نشويّة نظير ما يقال في الشرط من أنّه : « ما يلزم من عدمه العدم » وفي السبب من أنّه : « ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود » كما أنّ عدمه مؤثّر في الوجود لكونه من أجزاء العلّة ، ولو صلح وجود الصارف المقارن لعدم الإرادة مؤثّرا في الترك موجبا لنفي المقدّميّة عن الفعل بالمرّة فيكون الفعل حيثما يتّفق معه من باب محض الاتّفاق ، فليكن عدم الصارف المقارن للإرادة مؤثّرا في الفعل موجبا لعدم مقدّميّة الترك له ، فيكون حيثما يتّفق معه الفعل من المقارنات.

غاية الأمر أنّ الأوّل على تقدير تسليم جواز خلوّ الإنسان عن جميع الأفعال مقارن اتّفاقي والثاني مقارن دائمي ، ومجرّد ذلك الفرق لا يوجب فرقا بينهما باعتبار المقدّمية والعدم وإلاّ لكان كلّ من معلولي العلّة الثالثة مقدّمة للآخر ، وظنّي أنّ توهّم مقدّمية الترك اشتباه نشأ عن ملاحظة دوام لزومه كما يظهر عن عبارة الجواب.

وبالجملة التفكيك بين الموضوعين مع البناء على التمانع غير معقول ، فلابدّ في المقام إمّا من التزام التوقّف من الطرفين أو القول بعدم التمانع على حدّ الانفصال الحقيقي ، والواسطة مناقضة في المقالة أو مكابرة أو داخلة في مقالة من لا تدبّر له.

٦٣٦

ثمّ إنّه رحمه‌الله استغرب عن إيراد الدور بقوله : « وهو أغرب من سابقه لأنّ المقامين متغايران » ولا يخفى ما في ذلك التعليل من الإجمال وعدم اتّضاح المراد فيحتمل أن يكون المراد بتغاير المقامين تغايرهما من حيث القائل ، لأنّ القائل بتوقّف الفعل على الترك غير القائل بتوقّف الترك على الفعل فلا يرد عليهما إشكال الدور لعدم قولهما بالتوقّف من الطرفين ، أو تغايرهما من حيث الموضوع نظرا إلى أنّ موضوع التوقّف في أحدهما الفعل وفي الآخر الترك وهما متغايران فلا يلزم الدور لاشتراط وحدة الموقوف والموقوف عليه فيه ، أو تغايرهما من حيث جهة التوقّف نظرا إلى أنّ أحدهما شرط والآخر علّة ، أو تغايرهما في أصل التوقّف والعدم بمعنى تسليمه في أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ غرض المحقّق بما ذكره من الإيراد إنّما هو إلزام المشهور بما هو لازم مذهبهم من ثبوت التوقّف ـ بناءا على التمانع ـ في جانب العكس بطريق أولى المفضي إلى الدور المحال ، مع أنّ المقامين ربّما يتّحد فيهما القائل كما عرفت عن الحاجبي والعضدي فإيراد المحذور ترد عليهما.

وأمّا الثاني : فلأنّ مجرّد هذه المغايرة لا يدفع الدور ما لم يتعدّد الموقوف والموقوف عليه في القضيّة الدوريّة ، كأن يكون أحدهما الوجود الذهني والآخر الوجود الخارجي ، كما قيل في رفع الدور الوارد على من جوّز تحديد العلم بغيره ، ومن عرّف الاجتهاد باستفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ، أو يكون على تقدير كونهما الوجود الذهني أحدهما العلم التفصيلي والآخر العلم الإجمالي ، كما قيل في دفع ما أورد على التبادر والقياس بطريق الشكل الأوّل ، أو يكون أحدهما فعليّا والآخر ملكيّا كما قيل في دفع هو ما أورد على تعريف الاجتهاد بما تقدّم أيضا أو غير ذلك من الجهات المغيّرة للموقوف والموقوف عليه ، ولا ريب أنّهما في محلّ البحث واحد.

وأمّا الثالث : فواضح بل التوقّف في جانب العلّة أشدّ فهو آكد بلزوم الدور من فرضه شرطا ، مع احتمال كونه عند من توهّمه مقدّمة شرطا أيضا ، ضرورة افتقار الترك معه إلى مقدّمات اخر.

وأمّا الرابع : فلأنّه مقالة بعد المصير إلى التمانع لا تسمع من أحد ، بل ولا ينبغي الالتفات إليها حيث لا يمكن الجمع بينهما ، مع أنّه يوجب خروج ما بعد هذه العبارة تكرارا إلاّ أن يجعله تفصيلا بعد الإجمال ، إلاّ أنّه بعيد عن سياق التأدية كما لا يخفى ، إذ لا يصلح

٦٣٧

قوله : « وإن أراد أنّ ترك الضدّ كما أنّه مقدّمة لفعل الضدّ الآخر على ما قلت ، ففعل الآخر علّة لترك هذا الضدّ إلى آخره » بيانا لما ذكر أوّلا.

وعلى أيّ تقدير فقوله ـ في جواب ذلك ـ : « بأنّ في هذا الكلام اشتباه التوقّف بالاستلزام » معارض بالمثل ، إذ كما يجوز كون الترك في هذا الفرض لازما للفعل من غير توقّف له عليه فكذلك يجوز كون ذلك الفعل لازما لما تحقّق معه من الترك من غير توقّف له عليه ، والفرق مكابرة.

والعجب عن بعض الأعاظم حيث بالغ في إثبات التمانع وإحراز المقدّميّة للترك وأطنب الكلام فيه ولم يأت بشيء يكون قابلا للالتفات إليه ، إلاّ أنّه ذكر امورا بعضها مصادرة ، وبعضها غير مرتبط بمحلّ البحث ، وبعضها غير مناف لنفي المقدّميّة ، وبعضها بديهي الفساد ، ولعلّنا نشير إلى كلامه فيما بعد ذلك.

الثالث : ما أشار إليه المحقّق السبزواري في دفع شبهة الكعبي من أنّه لو كان الأضداد مانعا من حصول الحرام كان المانعيّة من الطرفين لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة مثلا مانعة من الزنا كان الزنا أيضا مانعا منها ، وحينئذ كان الزنا موقوف على عدم الصلاة فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ، لأنّ دفع مانع الشيء من علل وجوده فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين. هذا خلف ، وكأنّه أراد منه الدور.

وقد يقرّر الدور : بأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ، وترك الإزالة مقدّمة للصلاة ، فيكون ترك ترك الصلاة ـ وهو فعلها ـ أيضا مقدّمة لترك الإزالة لتوقّفه عليه ، ولازمه أن يكون ترك ترك الإزالة أيضا ـ وهو فعلها ـ مقدّمة لترك الصلاة ، فالترك في كلّ من الجانبين مقدّمة وذو مقدّمة أي موقوف وموقوف عليه وكذلك الفعل وهو محال.

واجيب عنه : بمنع كون فعل الضدّ مقدّمة لترك الضدّ الآخر ، إذ الترك لا يستند إلى فعل الضدّ وإنّما يستند إلى عدم وجود علّته ، والعلّة كما أنّها تنعدم بانعدام جميع أجزائها فكذلك تنعدم بانعدام أحد أجزائها الّتي كان كلّ واحد منها مقدّمة للمعلول ، فإن كان تلك الأجزاء بحسب وجودها الخارجي في درجة واحدة فمقدّمة الترك انتفاء واحدة منها تخييرا ، إذ مع انتفائها ينتفي العلّة فينتفي المعلول ، وإن لم تكن في درجة واحدة بأن يكون بينها ترتّب في الوجود الخارجي ، فعلّة الترك انتفاء ما هو أقربها إلى المعلول ، ومن المعلوم أنّ أقرب المقدّمات إليه هو الإرادة فيكون انتفاؤها علّة لتركه ، فليس فعل شيء من الضدّين ممّا

٦٣٨

يستند إليه ترك الآخر ، بل يستند إلى ترك إرادته لأنّه مقدّم على الفعل المؤخّر عن إرادته ، فيكون ذلك الفعل من المقارنات الاتّفاقيّة فلا دور ، إذ لا توقّف في جانب الفعل بل التوقّف منحصر في جانب الترك لأنّه الّذي يتوقّف عليه الترك.

وما يقال : من أنّ كثيرا مّا لا يترك الضدّ إلاّ بفعل الضدّ ، كما في الشابّ العزب الحاضر عند امرأة أجنبيّة جميلة الغير المريد للزنا معها ، العالم بأنّه لو استمرّ بقاؤه عندها لحدث منه إرادة الزنا فيقع فيه بحيث لا مدفع له عن ذلك إلاّ الخروج عن محضرها ، فيكون ذلك الخروج واجبا عليه لئلاّ يقع في المحرّم وظاهر أنّ الخروج ضدّ وجوديّ للزنا ومقدّمة لتركه.

يدفعه : منع كون الفعل مقدّمة للترك حتّى في ذلك الفرض ، بل المقدّمة فيه أيضا عدم الإرادة ، والفعل المفروض مقدّمة لعدم الإرادة واستمرار بقائه ، فيكون مقدّمة للمقدّمة.

وتوهّم بقاء الدور بحاله بتقرير : أنّ ذلك الفعل لا يمكن صدوره إلاّ بعدم إرادة الزنا فيكون موقوفا على عدم الإرادة ، وإذا فرضته مقدّمة لعدم الإرادة يكون ممّا يتوقّف عليه عدم الإرادة وهو الدور.

مدفوع : بأنّ مقدّمة ترك الزنا وإن كان عدم الإرادة ، ولكن لا ما هو متحقّق الآن بل الّذي سيتحقّق في الزمان اللاحق.

والّذي هو متحقّق الآن مقدّمة للفعل المفروض ، وهو مقدّمة لما يتحقّق في الزمان اللاحق وهو مقدّمة لترك الزنا ، فلا دور.

وفيه أوّلا : النقض بعدم الإرادة الّذي اخذ مقدّمة للترك ، فإنّ الفعلين كما أنّهما متضادّان فيكونان متمانعين فيكون ترك كلّ مقدّمة لفعل الآخر فكذلك إرادتهما ، فإنّ إرادة كلّ ضدّ تضادّ إرادة الآخر فيكون كلّ مانعة عن الاخرى ، وعدم المانع مقدّمة فعدم كلّ إرادة مقدّمة لوجود الاخرى ، وهو لكونه مانعا عن وجود الاولى فيكون مقدّمة لعدمها وهو دور.

وثانيا : أنّ قضيّة التمانع بين الأضداد ـ الّذي بنى عليه المذهب ـ عدم إمكان التفصّي عن الدور ، ضرورة أنّ أحد الضدّين إذا كان وجوده مانعا عن وجود الآخر يكون وجوده علّة لعدم الآخر على ما هو من لوازم المانعيّة ، والمفروض أنّ عدم الآخر أيضا من مقدّمات وجوده ، فيكون كلّ من الوجود في جانب الضدّ الموجود والعدم في جانب الضدّ المعدوم موقوفا وموقوفا عليه وذلك دور ، إلاّ أنّ التوقّف في جانب العدم من باب الشرطيّة وفي جانب الوجود من باب العلّيّة ، ولكنّه لا يوجب اندفاع الدور ، لأنّ مبناه على التوقّف في كلا

٦٣٩

الجانبين وهو حاصل في كلّ من الأمرين ، ولا مدفع له إلاّ نفي التمانع.

سلّمنا أنّ الترك قد يستند إلى عدم الإرادة ، ولكن لا يدفع المحذور بحذافيره لعدم انحصار فرضه في الفعل والترك الاختياريّين اللذين يلزمهما القصد والإرادة ، لعدم انحصار الضدّ في الفعل الاختياري ، فنفرض الكلام في الضدّ الاضطراري كما لو اكره عليه ونحوه ، كالصلاة إذا اكره عليها فصدرت اضطرارا فإنّها مانعة من الإزالة قطعا ، فترك الإزالة حينئذ مستند إليها لا إلى عدم إرادتها لعدم صدور الصلاة عن قصد وإرادة حتّى يكون منافيا لقصد الإزالة وإرادتها.

ولو سلّم أنّ الصلاة لا تتوقّف حينئذ على تركها ليلزم الدور بل إنّما تتوقّف على ما طرأها من الإكراه لأنّه علّة ، فنفرض الكلام في الضدّين اللذين ليسا من مقولة الأفعال حتّى يجري فيها الإرادة والإكراه كالسواد والبياض ، فإنّ السواد إذا كان مانعا عن وجود البياض يكون علّة لعدم البياض وإذا فرضنا عدم البياض شرطا لوجود السواد فيلزم الدور ، فلابدّ من المصير إلى عدم التمانع مطلقا [ أ ] وتخصيصه بما عدا الأحوال ، والثاني تحكّم فتعيّن الأوّل.

فإن قلت : هاهنا شقّ ثالث يندفع به الدور وهو المصير إلى ما اختاره المحقّق الخوانساري من كون الشرط ارتفاع الضدّ الموجود لا عدم الضدّ المعدوم فلا يلزم الدور ويثبت به حقّيّة هذا المذهب.

وتوضيح ذلك : أنّ الضدّين لابدّ لوجود كلّ واحد منهما من محلّ قابل ومن المعلوم أنّ قابليّة المحلّ لابدّ وأن تكون فعليّة ، فإذا فرض أحد الضدّين موجودا في محلّ خرج ذلك المحلّ عن كونه قابلا لوجود الضدّ الآخر لكونه مشغولا بالضدّ الموجود ، ومع اشتغاله به يستحيل كونه قابلا لوجود الضدّ الآخر ، فعدم ذلك الضدّ مستند إلى عدم قابليّة المحلّ وهو مستند إلى كون الضدّ الموجود فيه شاغلا له ، فوجود ذلك الضدّ المعدوم موقوف على قابليّة المحلّ وهي موقوفة على ارتفاع الضدّ الموجود في ذلك المحلّ فهو موجود على ذلك الارتفاع ، وأمّا وجود ذلك الضدّ الموجود فلا يتوقّف على عدم الضدّ المعدوم بل يتوقّف على قابليّة المحلّ والمفروض حصولها ، وهي أيضا لا تتوقّف على عدم ذلك الضدّ بل على الارتفاع وهو فرع الوجود وهو مفروض الانتفاء.

قلت : لا يفيد هذا الكلام إلاّ تطويلا بلا طائل ، فإنّ الضدّ بناء على التمانع كما أنّها مانع في حدوثه فكذلك مانع في بقائه ، بمعنى أنّ المانعيّة وصف لوجود الضدّ وهو أعمّ من

٦٤٠