تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

الاخر فيكون حالها نظير ما لو علم بتعلّق الخطاب بشيء لم يعلم بكونه عبادة مستقلّة قد أمر بها أو عدمه شرطا أو جزء لعبادة اخرى كالمرّة الاولى في محلّ الكلام ، فأصالة البراءة بالنسبة إلى ما زاد عليها وإن كانت تنفي التكليف به مستقلاّ ولكنّها معارضة بأصالة البراءة عن شرطيّة عدمه أو جزئيّته للمرّة الاولى ، ولمّا كان الاشتغال اليقيني بالنسبة إليها يستدعي اليقين بالبراءة عنها فلا جرم يتعيّن ترك الزائد تحصيلا للبراءة اليقينيّة ، ولا معارض له ليكون قاضيا بالتكرار ، لعدم ثبوت الاشتغال بالنظر إلى الزائد بعنوان اليقين ليستدعي البراءة منه بهذا العنوان.

ومنها : الدوران بين التكرار والمرّة التعدّديّين ، ولا ريب أنّ أصالة الاشتغال واستصحاب الحال لا مجرى لشيء منهما في المرّة الاولى ، وأمّا المرّة الثانية وتواليها فمردّدة بين الوجوب والتحريم ، نظير ما لو علم بتعلّق الخطاب بشيء ولم يعلم بمفاده من حيث الحكمين ، وأصالة البراءة من وجوب الإتيان بها ليست بأولى من أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب ، فهما متعارضتان فيؤول الأمر حينئذ إلى التخيير بدويّا ، لعدم دليل واضح على الاستمراري ليكون قاطعا لمقتضى الاشتغال الثابت ، مضافا إلى استلزامه المخالفة القطعيّة فإنّها غير جائزة عقلا ما لم يقم دليل على الترخيص شرعا.

ومنها : الدوران بين وجهي المرّة لا بشرط ، ولا أصل في البين يقتضي رجحان أحدهما إلاّ أصالة البراءة عن التحريم التشريعي على احتمال الدلالة على عدم مطلوبيّة الزائد ، بناء على التفسير المتقدّم للبدعة ، فقضيّة ذلك تعيّن المرّة المستلزمة للسكوت عمّا زاد.

ومنها : الدوران بين المرّة لا بشرط والمرّة التقييدي بكلا وجهيهما ، والأصل في الكلّ المرّة لا بشرط ، المستلزم لعدم اعتبار ترك ما زاد على المرّة الاولى في المأمور به جزءا وشرطا ، التفاتا إلى عدم قيام ما يقضي بالجزئيّة أو الشرطيّة بالخصوص ، والكلام في قيام أصل الشغل واستصحاب الأمر ـ لو فرض ـ نظير ما تقدّم من أنّهما في خصوص المقام لا تأثير لهما ، لمكان انتفاء ما هو مناط جريانهما بعد إعمال الأصل المذكور.

ومنها : الدوران بين المرّة لا بشرط بكلا وجهيها والمرّة التعدّدي ، ولا ريب أنّ مقتضى أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عمّا زاد بناء العمل على الاولى ، لعدم استلزامها التحريم.

لا يقال : إنّ التحريم ثابت على كلّ تقدير ، أمّا على المرّة التعدّدي فبدلالة الأمر وأمّا على غيرها فبقاعدة البدعة.

١٨١

لنا : أنّ المتبادر من الأمر طلب إيجاد حقيقة الفعل * ،

__________________

ثمّ إنّه على تفسير المرّة لا بشرط بالدلالة على عدم المطلوبيّة فواضح ، وعلى تفسيرها بالسكوت فمبنيّ على التعميم في جنس مفهوم البدعة بتفسيرها بإدخال ما ليس من الدين.

لأنّ المرّة التعدّدي تستلزم التحريم وترتّب العقاب على فعل ما زاد على جميع الأحوال بخلاف المرّة لا بشرط مطلقا ، لاختصاص التحريم والعقاب فيها ببعض الأحوال ، كما يظهر بالتأمّل في القيود المعتبرة في البدعة ، ومن المعلوم أنّها الموافق للأصل لا ما يقابلها.

ومنها : الدوران بين وجهي المرّة التقييدي ، ولا أصل في البين يقتضي رجحان إحداهما إلاّ على تقدير كون النهي فيما يكون منهما الزائد فيها منهيّا عنه مستلزما للعقاب زيادة على إفضائه إلى فوات الامتثال بالمرّة الاولى ، بناء على فرضه نفسيّا نظير شرب الخمر حال الصلاة ، فالأصل حينئذ براءة الذمّة عن ذلك العقاب ، إلاّ أنّه على التقدير الآخر ليس بينهما ، فرق فاحش ليكون منشأ لوقوع التعارض بينهما فالفرق حينئذ لفظي.

ومنها : الدوران بين المرّة التقييدي بكلا الوجهين والمرّة التعدّدي ، والأصل فيهما المرّة التقييدي لأصالة الاشتغال واستصحاب الحال ، بعد اشتغال أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب بمعارضة أصالة البراءة عن شرطيّة أو جزئيّة ترك الزائد للمأمور به ، الموجب لحصول التساقط بينهما.

* ولا يخفى أنّ بذلك تمّ الاحتجاج ، ومحصّله : التمسّك بالتبادر الكاشف عن الوضع كما في كلام الجمهور من أهل هذا القول ، وهو في محلّه لا غبار عليه ، ولكن لمّا كان التبادر من الأمارات العرفيّة الغير الصالحة بمجرّدها لإثبات الحكم في غير العرف من الشرع واللغة فينبغي أن ينضمّ إليه أصالة عدم النقل ، القاضية بتسرّي الحكم إليهما أيضا ليتمّ الاستدلال ويثبت المدّعى بتمامه ، كما هو الحال في نظائر المقام ، وإنّما لم يتعرّض المصنّف لذكره تعويلا على وضوحه ، أو على سبق التنبيه على توقّف تتميم الاحتجاج بكلّ تبادر على ذلك في الاحتجاج على كون الصيغة للوجوب.

وبما قرّرناه تبيّن أنّه لا وقع لما قيل (١) في الفرق بين هذا التقرير والتقرير الآتي من : أنّه ادّعى في الأوّل كون مدلول الصيغة هو طلب حقيقة الفعل ، وأنّ حقيقة الفعل يخرج عنها المرّة والتكرار بدون الاستدلال عليه ، فكأنّه ادّعى البداهة فيه.

__________________

(١) القائل هو المدقّق الشيرواني ( منه ).

١٨٢

والمرّة والتكرار خارجان عن حقيقته ، كالزمان والمكان ونحوهما *. فكما أنّ قول القائل : « إضرب » غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب ، كذلك غير متناول للعدد في كثرة ولا قلّة.

__________________

وفي الثاني استدلّ على تلك المقدّمة بالوصف بالأوصاف المتقابلة ، وما يدخل في الشيء لا يوصف ذلك الشيء بمقابله. انتهى (١).

كما يندفع به ـ مع ملاحظة ما قدّمنا ذكره في تحرير العنوان من كون النزاع فيما اخذ في وضع الصيغة ـ ما اعترض على ما حكم به المصنّف بعد ذلك من خروج المرّة والتكرار عن حقيقة الفعل ، بأنّه لا يلزم من الخروج عن الحقيقة عدم الدلالة ، فإنّ دلالة الالتزام إنّما هي دلالة على الخارج عن الحقيقة ، لخروج هذه الدلالة عن مقاصد القوم ، وعدم كون الدلالة المطلقة معقدا لكلامهم ، وإنّما الكلام فيما كان مأخوذا في وضع الصيغة ، والمدلول الالتزامي ليس بهذه المثابة ، مع أنّ اللفظ لا دلالة له على كلّ خارج بالالتزام بل على ما كان لازما لما وضع له ، وهو في المقام إمّا لازم له بحسب الوجود الخارجي أو لازم بحسب المفهوم العرفي ، والأوّل مسلّم وغير مجد في الدلالة ، والثاني مجد وغير مسلّم.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا ، فالدلالة المذكورة على تقدير ثبوتها غير قادحة فيما ادّعاه المصنّف ، بل الدلالة على أحد الأمرين على طريق البدليّة من لوازم القول بكون الأمر لطلب الماهيّة ، نظرا إلى أنّ الطبيعة قابلة للتقييد بهما وجهة جامعة بينهما ، فالدلالة على الوجه المذكور لازمة لها وهي ليست من الدلالة على المرّة أو التكرار عند أصحاب القول بهما ، لاعتبار التعيين والمنع فيهما والبدليّة تنافيهما كما لا يخفى.

فلا حاجة حينئذ إلى أن يجاب عنه بما في كلام ابنه : بأنّ المرّة والتكرار والمكان وشبهها من لوازم الحدث الّذي هو المعنى المصدري ـ أعني جزء الأمر ـ ولا يلزم من لزوم شيء لجزء المركّب لزومه للمركّب ، حتّى يتوجّه إليه أنّه إنّما يستقيم في المركّبات الخارجيّة دون المركّبات الذهنيّة ، إذ المحقّق فيها كون لازم الجزء لازما للمركّب ، حيث إنّ التركيب فيها أمر يعتبره العقل بعد التحليل ، وإلاّ فالّذي يتصوّر وينساق ابتداء أمر بسيط.

* ولمّا كان ما ذكره من الاحتجاج مظنّة سؤال : بأنّ تبادر طلب حقيقة الفعل من الأمر

__________________

(١) حاشية ملا ميرزا الشيرواني ( منه ).

١٨٣

لا ينافي بظاهره القول بالمرّة ولا التكرار ، إذ الشيء قد يكون ذا حقيقة مطلقة وقد يكون ذا حقيقة مقيّدة ، فأجاب عنه : بأنّ المرّة والتكرار خارجان عن حقيقة الفعل الّتي هي المتبادر.

واستدلّ عليه بعدم تبادر العدد في قلّة ولا كثرة من قول القائل : « اضرب » تنظيرا له بعدم تبادر زمان ولا مكان ولا آلة يقع بها الضرب.

فلا وجه لما أورده بعض الأفاضل من عدم الحاجة في الاحتجاج بالدليل المذكور إلى تلك المقدّمة ، بدعوى : أنّه بعد بيان كون المتبادر من الصيغة هو طلب إيجاد حقيقة الفعل يثبت كون الصيغة حقيقة في طلب إيجاد الطبيعة المطلقة ، القابلة للتقييد بكلّ من التكرار والمرّة وغيرهما ، من غير دلالة فيها على خصوص شيء منهما ، لوضوح خروج كلّ من تلك الخصوصيّات عن الطبيعة اللابشرط من غير حاجة إلى إثبات ذلك بالدليل ، فإنّ ذلك فرع ظهور الحقيقة في عبارة الدليل في الطبيعة اللابشرط وهو في حيّز المنع كما لا يخفى ، فلا مناص من المقدّمة المذكورة لأن يدفع بها السؤال.

نعم يرد عليه : أنّ أقصى ما يقضي به تلك المقدّمة إنّما هو خروج نفس المرّة والتكرار القاضي بعدم جزئيّتهما في الموضوع له ، ولا قضاء لها بخروج التقييد بأحدهما معيّنا أيضا ، ولعلّ القائل بالمرّة أو التكرار مدّع لدخولهما في الموضوع له من باب التقييد لا الجزئيّة ، ولقد تقدّم في تحرير الأقوال ما يقضي بجريان الوجهين في كلّ من القولين.

اللهمّ إلاّ أن يدفع ذلك : بتناول العبارة لدفع كلّ من الاحتمالين ، بدعوى : أنّ عدم تبادر القيدين يستلزم عدم اعتبار التقييد بهما في الوضع ، لاستلزام اعتباره تبادره عند الإطلاق الموجب لتبادرهما ولو على سبيل الترتّب ، كما في لفظة « العمى » الموضوعة لعدم البصر على طريقة التقييد.

فلا حاجة حينئذ في تصحيح تلك المقدّمة إلى ارتكاب تكلّفات لا ينبغي حمل العبارة على شيء منها ، مثل أن يقال : بأنّ خروج المرّة والتكرار عن الطبيعة المطلقة وإن كان أمرا ظاهرا إلاّ أنّه لابدّ من ملاحظته في المقام لتوقّف الاحتجاج عليه ، ووضوح المقدّمة لا يقتضي عدم اعتبارها في الاحتجاج.

أو أنّ المقصود من كون المتبادر من الأمر طلب حقيقة الفعل معناه الحدثي ، أعني المعنى المصدري كما سيشير إليه في التقرير الثاني ، فثبت بالمقدّمة الاولى كون الصيغة حقيقة في طلب معناه المادّي من دون إفادتها ما يزيد على ذلك ، فيفيد ذلك عدم دلالة

١٨٤

نعم لمّا كان أقلّ ما يمتثل به الأمر هو المرّة ، لم يكن بدّ من كونها مرادة * ، ويحصل بها الامتثال ، لصدق الحقيقة الّتي هي المطلوبة بالأمر بها.

__________________

الأمر بهيئته على شيء من المرّة والتكرار ، ثمّ بيّن بقوله : « والمرّة والتكرار خارجان » أنّ معناه الحدثي لا دلالة فيه على شيء من الأمرين ، فإنّه بعد الرجوع إلى العرف لا يفيد خصوص شيء منهما كما هو الحال في الزمان والمكان.

أو أنّ المقصود بالتبادر المدّعي عدم دلالة الأمر بالمطابقة أو التضمّن على شيء من المرّة والتكرار ، حيث إنّ مدلوله ليس إلاّ طلب حقيقة الفعل.

ومن البيّن خروج المرّة والتكرار عن نفس الطبيعة ، والمراد بقوله : « المرّة والتكرار خارجان » بيان انتفاء الدلالة الالتزاميّة ، فإنّ الخارج عن الحقيقة قد يكون مدلولا التزاميّا لها ولا يفيد خروجه عن المدلول انتفاء الدلالة عليه.

وأنت خبير بعدم ظهور هذه الوجوه عن سوق العبارة بل هي بعيدة عنها جدّا.

وربّما يقال ـ في الحكم بخروجهما عن حقيقة الفعل ـ : بكونه مبنيّا على أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة من حيث هي كما عليه المتأخّرون ، أو على أنّ المصادر الغير المنوّنة كذلك على ما ادّعى السكّاكي عليه الإجماع ، بل ربّما يؤخذ ذلك احتجاجا على تلك المقدّمة الّتي استدلّ عليها المصنّف بعدم التبادر كما في كلام جماعة من أجلّة الأصحاب.

* لا ريب أنّ ذلك لا يستلزم الاعتراف بضدّ المطلوب كما تخيّل ، بدعوى : إرادة كون المرّة الملحوظة على وجه اللا بشرط مستفادة من الصيغة نظرا إلى الوجه المذكور.

غاية الأمر كونها مدلولا التزاميّا للصيغة وضعا ، وذلك لا يقضي بالفرق في نفس المدلول إذا قضى ذلك حصول الفرق بينهما في كيفيّة الدلالة ، ولا فائدة له بعد حصول الإفادة على ما هو المقصود في المقام ، لجواز إرادة كون المرّة مرادا من خارج اللفظ من باب دالّين لمدلولين على طريقة القرائن المفهمة ، ولعلّه في المقام المقدّمة العقليّة القاضية بأنّ الطبيعة المأمور بها لا يمكن الامتثال بها إلاّ في ضمن المرّة أو التكرار ، ولمّا كان الأوّل أقلّ ما يمتثل به فهو القدر المتيقّن ممّا هو مراد في المقام ، وليس ذلك من القول بالمرّة في شيء ، مع إمكان إرادة كونها لازما للمراد على حدّ الدلالة بالإشارة ، ولو سلّم إرادة كونها مرادة من اللفظ فإنّما هي من جهة كونها مقدّمة للإتيان بالمطلوب لا أنّها مطلوبة

١٨٥

وبتقرير آخر * : وهو أنّا نقطع بأنّ المرّة والتكرار من صفات الفعل ** ،

__________________

بنفسها ، كما يومئ إليه « الباء » في قوله : « به » من حيث ظهورها في السببيّة.

وإلى ذلك ينظر ما أفاده بعض الأفاضل في دفع ما ذكر : من أنّ القائل بالمرّة يجعل خصوص المرّة مندرجة في المأمور به بخلاف ما يستفاد من الوجه المذكور.

فإنّ أقصى ما يفيده حصول المطلوب بها لا أنّها مطلوبة بخصوصها ، بعد ما ذكر أوّلا من أنّ كون المرّة أقلّ ما يمتثل به الأمر يفيد حصول الامتثال بالأكثر أيضا ، وذلك ممّا لا يقول به القائل بكون الأمر للمرّة.

فقضيّة البيان المذكور حصول الامتثال بالمرّة قطعا ، وإن قضت الصيغة بحصوله بالأكثر أيضا ، ولا ربط له بالقول المزبور.

* بينه وبين التقرير الأوّل ـ مضافا إلى تغائرهما من حيث العبارة كما هو شأن المقام ـ فرق واضح باعتبار الوضع والترتيب ، من حيث إنّه أخذ أوّلا بالاحتجاج على أصل الدعوى ، ثمّ بدفع ما تقدّم من السؤال المقدّر في التقرير الأوّل ، وعكس الأمر في التقرير الثاني.

وباعتبار المفهوم والمعنى من حيث إنّه تمسّك لدفع السؤال في الأوّل بعدم تناول اللفظ لشيء من المرّة والتكرار ، الّذي هو في معنى عدم تبادرهما من اللفظ ، التفاتا إلى شيوع التعبير عن عدم تبادر معنى من لفظ بعدم تناول ذلك اللفظ لذلك المعنى كما هو واضح للواقف على مظانّ إطلاقهم.

وفي الثاني بقاعدة تقييد اللفظ بوصفين متضادّين ، القاضية بكونه للقدر الجامع بينهما ، وهو الذات الموصوفة بهما لا بشرط اتّصافها بأحدهما.

فما يقال : من أنّ الفرق بينهما أنّه ادّعى في الأوّل كون مدلول الصيغة هو طلب حقيقة الفعل ، وأنّ حقيقة الفعل يخرج عنها المرّة والتكرار بدون الاستدلال عليه ، فكأنّه ادّعى البداهة فيه ، وفي الثاني استدلّ على تلك المقدّمة بالوصف بالأوصاف المتقابلة ، وما يدخل في الشيء لا يوصف ذلك الشيء بمقابله ، ليس بشيء فلا ينبغي الالتفات إليه.

** أي نقطع بأنّها من الصفات الراجعة إلى المعنى المصدري المستند إلى مادّة الأمر باعتبار الوضع المادّي ، كما أنّ القليل والكثير من الصفات الراجعة إليه ، والدليل على تلك الدعوى الموجب للقطع المذكور صحّة تقييده بهما عرفا في قولك : « اضرب ضربا مكرّرا » و « اضرب ضربا غير مكرّر » كصحّة تقييده بالقليل والكثير في قولك : « اضرب ضربا قليلا »

١٨٦

أعني المصدر ، كالقليل والكثير ؛ لأنّك تقول : اضرب ضربا قليلا ، أو كثيرا ، أو مكرّرا ، أو غير مكرّر ، فتقيّده بالصفات المختلفة *. ومن المعلوم أنّ الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصيّة شيء منها **.

__________________

و « اضرب ضربا كثيرا ».

* وتقييد الشيء بالصفات المختلفة دليل بحسب العرف والعادة على عدم مدخليّة شيء من تلك الصفات في حقيقة ذلك الشيء وذاته ، كما أنّ صحّة اعتبار تلك الصفات مع اللفظ ظاهرة في كونها قيودا لمعناه الحقيقي ، ظهورا كاشفا في نظر العرف عن كونه وضعا للقدر المشترك بينها ، ولعلّه من جهة الاستقراء وتحقّق الغلبة في نظائر المقام ، فلا ينافيه ما يتحقّق في بعض الأحيان من تقييده بصفات يرجع بعضها إلى المعنى الحقيقي وبعضها إلى المعنى المجازي كتقييد « الأسد » بالافتراس والرمي ، وتقييد « الماء » بالإطلاق والإضافة.

كما أنّ صحّة تقسيمه إلى الأقسام المتبائنة ظاهرة في نظر العرف والعادة باعتبار الاستقراء والغلبة في كونه بإزاء القدر المشترك فيها ، فلا ينافيه ما في بعض الأحيان من التقسيم إلى المعنى الحقيقي والمجازي كتقسيم « الأسد » إلى المفترس والشجاع.

فما يقال : من أنّ تقييد المصدر بالصفات المتقابلة لا يفيد كونه حقيقة في الأعمّ إذ قد يكون التقييد قرينة على التجوّز ، فصحّة التقييد بالقيدين دليل على جواز إرادة الأعمّ وصحّة الإطلاق عليه وهو أعمّ من الحقيقة ـ كما في الهداية ـ فهو مناقشة في غير محلّها ، إذ الحكم مبنيّ على الظاهر والغالب ، ولا ينافيهما الاحتمال المرجوح النادر.

نعم ربّما يقدح ذلك فيما ادّعاه المصنّف من القطع بالدعوى بمجرّد تلك القاعدة كما لا يخفى ، من غير أن يقدح في أصل الحكم المبتنى على الظنّ والظهور ، لكون موضوعه ممّا يدور وجودا وعدما على الظنون الاجتهاديّة والظهورات العرفيّة.

ولو اعتبر في الاحتجاج مقدّمة اخرى بأن يقال : إنّ المصدر يصحّ تقييده بالصفات المتقابلة من دون انفهام تعارض ولا تأكيد ، لارتفعت تلك المناقشة أيضا ، وأفادت القضيّة المشتملة على التقييد القطع بالمطلوب كما لا يخفى ، ولعلّها مطويّة في كلام المصنّف.

ويمكن أن يراد بالقطع [ القطع ] العرفي الغير المنافي لاحتمال الخلاف الموجب لرفع الحاجة إلى التوجيه المذكور.

** والسرّ في ذلك ما هو المعروف في الألسنة من قضيّة قولهم : « العامّ بمجرّده

١٨٧

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّه ليس المفهوم من الأمر إلاّ طلب إيجاد الفعل * أعني

__________________

لا يدلّ على الخاصّ » كما يشهد به الوجدان المقرون بالضرورة والعيان ، فإنّ المراد بالموصوف هو الذات المعرّاة عن جميع تلك الصفات القابلة لتوصيفها بكلّ منها على نحو البدليّة ، وظاهر أنّها إذا لو حظت بهذا الاعتبار تكون بالنظر إلى صفاتها المجرّدة عنها أعمّ ، فتسقط عن الدلالة على شيء خاصّ منها.

ولكن لا يذهب عليك أنّ التقابل فيما بين المرّة والتكرار إنّما يتحقّق إذا اخذت المرّة بشرط لا ، كما يومئ إليه ما في كلام المصنّف من التعبير عنهما (١) فيما لو اخذا قيدين للمصدر بـ « المكرّر وغير المكرّر » فقد أصاب بعض الأفاضل حيث تنبّه على ذلك ، ضرورة أنّ المرّة المأخوذة لا بشرط لا تنافي بينها وبين التكرار حتّى يندرجا في المتقابلين ، لما يقال : من إنّ اللا بشرط لا ينافيه ألف شرط.

فمن هنا يتوجّه إلى المصنّف أنّ الاحتجاج إنّما يستقيم إذا كان المرّة في إرادة القائل بها هي المرّة بشرط لا دون غيرها ، ولقد تقدّم أنّها في كلام هذا القائل محتملة للمرّة اللا بشرط أيضا ، إلاّ أن يدفع ذلك باستفادة هذا المذهب له عن قوله المقابل للقول بالتكرار بقرينة المقابلة القاضية بذلك.

وأنت خبير بأنّه في غاية الإشكال ، إذ التقابل فيما بين الأقوال لا يجب أن يكون كالتقابل فيما بين الأشياء المتضادّة الّذي هو المراد بالاحتجاج جزما ، بل المدار فيها على الاختلاف بوجه مّا ولو بالاعتبار لا على التقابل المصطلح ، وإلاّ لانحصر القول في غالب الخلافيّات في اثنين وهو كما ترى.

نعم ، يمكن تتميم الاحتجاج بعدم القول بالفصل إن تمّ.

* هذا استدلال بالتبادر على أصل المدّعى بعد إحراز خلوّ الفعل المدلول عليه بالمصدر بما هو فعل عن الدلالة على خصوص المرّة أو التكرار.

فقد تقرّر من جميع ما تقدّم ابتناء ثبوت المدّعى على الاستدلال بالتبادر ، وابتناء تماميّة الاستدلال على خروج المرّة والتكرار عن الفعل المعبّر عنه بالمعنى المصدري بدلالة أحد الامور الثلاث عليه : من عدم تبادرهما عن المصدر ، أو تقييده بهما القاضي بكونه وضعا للأعمّ منهما ، أو الاتّفاق المنقول عن السكّاكي في المفتاح على أنّ المصادر

__________________

(١) في الأصل : « عنها » والصواب ما أثبتناه كما يقتضيه السياق.

١٨٨

المعنى المصدري ؛ فيكون معنى « اضرب » مثلا طلب ضرب مّا * ، فلا يدلّ على صفة الضرب ، من تكرار أو مرّة أو نحو ذلك.

وما يقال : من أنّ هذا إنّما يدلّ على عدم إفادة الأمر الوحدة أو التكرار بالمادّة ، فلم لا يدلّ عليهما بالصيغة؟ **

__________________

الخالية عن اللام والتنوين موضوعة للطبائع من حيث هي ـ كما استند إليه جماعة ـ وربّما يجعل ذهاب ابن الحاجب هنا إلى كون المطلوب بالصيغة هو الحقيقة من حيث هي ـ مع ذهابه في الإيضاح إلى خلاف التحقيق من كون اسم الجنس موضوعا للطبيعة المقيّدة بالوحدة ـ شاهدا بذلك الاتّفاق.

* قيل : أراد به مطلق الضرب المبهم الشامل للوحدة والكثرة لا فرد مّا من الضرب ، إذ لا يتبادر من المصدر إلاّ مطلق الطبيعة دون الفرد المنتشر حسبما قرّره.

أقول : إنّما يصحّ ذلك على مذاق من يرى أسماء الأجناس موضوعة بإزاء.

الطبائع المطلقة ، ولعلّ المصنّف لا يقول به بل يراها موضوعة للطبيعة المقيّدة بوجودها في ضمن فرد مّا ، فلابدّ حينئذ من أن يراد بذلك مفهوم الفرد المنتشر المقابل للوحدة والكثرة ، وليس في كلامه ما ينافي ذلك ولا ما يؤيّد الوجه المذكور ، بل يؤيّد ما ذكرناه مذهبه المعروف له في متعلّق الأحكام من كونه الفرد دون الطبيعة ، كما نقله عنه ابنه في الحاشية وقال : « بكون ذلك يظهر منه في مواضع من مصنّفاته ، بل صرّح في المنتقى عند ذكر استدلال العلاّمة بما ورد في الموجبات من قوله عليه‌السلام : « لا ينقض الوضوء إلاّ حدث » قائلا : بأنّ المراد بالحدث نفس الماهيّة ، فردّ عليه الوالد بأنّ الأحكام الشرعيّة لا يتعلّق بالماهيّة ».

اللهمّ إلاّ أن يدفع ذلك بالاتّفاق المشار إليه في خصوص المصادر ، فلابدّ حينئذ من أن يكون مذهبه في متعلّق الأحكام ناشئا عن قرينة خارجة ممّا هو مذكور في محلّه ، دفعا للمنافاة بينه وبين قوليه بوضع المصادر للطبائع من حيث هي ووضع الصيغة لطلب المعاني المصدريّة ، أو يقال : بمنع هذا المذهب منه وإن كان معروفا نسبته إليه ، بدعوى : أنّ مراده بالماهيّة الّتي ينفى تعلّق الأحكام الشرعيّة بها إنّما هي الماهيّة بشرط لا ، لا مطلقا كما احتمل في كلامه ابنه ، فهو حينئذ لا يخالف القائلين بتعلّق الأحكام بالطبائع ، لأنّ مرادهم بالطبيعة إنّما هي الماهيّة الملحوظة لا بشرط كما لا يخفى.

** وقد يعترض ها هنا تارة على المصنّف : بأنّ الحكم بانحصار مدلول الأمر في طلب

١٨٩

فجوابه : أنّا قد بيّنا انحصار مدلول الصيغة * بمقتضى حكم التبادر في طلب إيجاد الفعل. وأين هذا عن الدلالة على الوحدة أو التكرار؟

__________________

المعنى المصدري يدفع هذا الإيراد ، تعليلا : بأنّ ما ذكره في الجواب ممّا تضمّنه ، أصل الدليل بلا زيادة عليه وهو سياق غير مستحسن ، وإنّما الأولى تقرير الدليل على وجه يتوجّه إليه الإيراد ليحتاج إلى التعرّض بجوابه.

واخرى على المورد : بأنّه غفل عن اعتبار التبادر من الهيئة في طلب إيجاد المادّة حسبما أخذ في الاحتجاج.

أقول : ويمكن توجيهه على طريق يندفع معه الاعتراض ، فإنّ المصنّف قد ادّعى التبادر عند الاحتجاج في الأمر وهو ـ بناء على تفسيره بالقول أو الصيغة حسبما تقدّم بيانه في محلّه ـ مركّب له جزءان مادّي وصوري ، والمرّة والتكرار على القول بهما يمكن استنادهما إلى المجموع أو المادّة فقط أو الصورة وحدها ، والّذي نفاه احتجاج المصنّف بالتبادر إنّما هو الاحتمال الأوّل لظهوره في المجموع ، ثمّ تعرّض لنفي الاحتمال الثاني بما ذكره في المقدّمة الثانية الّتي قد ذكرنا كونها دفعا لسؤال مقدّر ، فتبقى الاحتمال الثالث بلا وجه ناف له أيضا ، نظرا إلى عدم منافاة عدم إفادة المجموع المركّب للمرّة والتكرار مع إفادة بعض أجزائه إيّاهما ، كعدم منافاة تبادر النسبة عن المجموع المركّب من « زيد » و « قائم » للمعاني المتبادرة عن أجزائه ، فتصدّى لإيراد هذا السؤال للتعرّض بجوابه ليستقيم الاحتجاج ، ويتمّ المدّعى بحذافيره.

* وهذه العبارة وإن كانت قاصرة عن إفادة ما قرّرناه من الاحتمال ، إلاّ أنّه ينبغي حملها عليه دفعا للاعتراض.

ومحصّلها : أنّ التبادر الّذي ادّعيناه في المقام تبادر في الصيغة ، فإنّ المتبادر منها هو الطلب المذكور لا من المجموع ، حيث إنّه لا وضع له سوى وضعي الجزءين بناء على التحقيق.

[ إقامة الأدلّة على المختار ]

هذا كلّه في شرح كلام المصنّف ، ولمّا كان الراجح في النظر القاصر ما اختاره المصنّف وفاقا له وللمحقّقين ، فينبغي إيراد الأدلّة القاضية بذلك مفصّلة ليزيل احتمال الخلاف بالمرّة ، ويبلغ المختار في غاية وضوحه إلى حدّ الضرورة ، فعمدة ما يقضي بذلك تبادر

١٩٠

طلب الماهيّة عن الصيغة المجرّدة وعدم تبادر شيء من التكرار والمرّة ، وهما من أقوى شواهد الوضع في طرفي الإثبات والنفي ، وقد تكرّر منّا في مواضع كثيرة أنّ الأصل فيهما الوضعي بالمعنى الّذي تقرّر في محلّه ، بعد الغضّ عن الجزم بعدم مدخليّة ما سوى اللفظ من داخل أو خارج في ذلك أصلا ، مضافا إلى أصالة عدم تعلّق الوضع بما يزيد على طلب الماهيّة إن أفادت الوصف بمجرّدها.

والمناقشة (١) فيها : بأنّ الأصل لا مسرح له في نحو هذه المقامات ، تعليلا بوضوح أنّ الامور التوقيفيّة إنّما تتبيّن من توقيف الواضع ، يدفعها :

أوّلا : النقض بالتبادرات والاصول المنضمّة إليها لتأدية تعدّي الحكم إلى ما عدا العرف من الشرع واللغة في جميع المقامات ، وكذلك غيرها من الأمارات الّتي لا تكون من توقيف الواضع في شيء ، ولو فرّق بينها وبين الأصل بأنّها إنّما يؤخذ بموجبها لكشفها عن توقيف الواضع.

لمنعناه : بأنّ الأصل أيضا بملاحظة انتفاء ما يقضي بالخلاف ـ كما هو المعتبر في مجاريه ـ يكشف كشفا ظنّيا عن توقيفه بما هو مطلوب في كلّ مقام.

ولو قيل : بأنّ المقصود قيام الأصل من حيث هو حجّة ، والضميمة خارجة عنه.

لقلنا : بعدم خلوص شيء من الأمارات عن ضميمة كما لا يخفى على المحيط بحقائقها.

وثانيا : بالحلّ بأنّ نفي المسرحيّة عن الأصل في أمثال هذه المقامات إن كان من جهة التعبّد بدعوى : أنّ الأصل لا يؤخذ به هنا تعبّدا ، فهو حقّ متين لعدم انصراف أدلّة التعبّد إلى أمثال المقام ، ولكن النظر إليه فيها ليس من تلك الجهة وإنّما هو لأجل إفادته الوصف ، وإن كان من جميع الجهات حتّى فيما كان قد أفاد وصفا ولو مع ملاحظة الضميمة فهو بمكان من المنع ، كيف وجواز التعويل على الاصول العدميّة بل الوجوديّة في المطالب اللغويّة ممّا لا يكاد يخفى على أحد ، لانعقاد الإجماع عليه كما في أصالة عدم النقل ، وأصالة عدم تعدّد الوضع ، وأصالة عدم القرينة ، أو الالتفات إليها في التبادرات ونحوها ، وإنّما خصّصنا الاعتبار بصورة إفادة الوصف لأنّه المعلوم من بنائهم أو هو القدر المتيقّن من طريقتهم.

ولا ينافيه ما قد يرى من التأمّل في بعض العبارات بالنسبة إلى بعض المقامات ، لكونه ناشئا إمّا عن انتفاء الصغرى بانتفاء ما هو مناط الاعتبار وهو الوصف ، أو عدم تحقّق حال العرف وبنائهم فيه بالنسبة إلى هذا المقام ، غفلة عن عدم انحصار طريق اعتباره في بنائهم

__________________

(١) كما في الهداية. ( منه ).

١٩١

على العمل وإنّ له طريقا آخر وهو إجماع أهل العلم الثابت هنا جزما ، بملاحظة ما قرّرناه من الاصول الّتي يرسلونها إرسال المسلّمات ، فإنّه في الحقيقة إجماع على اعتبار الظنّ المستفاد عن الأصل ولو بملاحظة المقام ، كإجماعهم على اعتبار الظنّ الحاصل عن سائر الأمارات ، والفرق بين ما ذكر من الاصول ومحلّ البحث تحكّم كما أنّ الفارق مكابر ، للجزم بأنّ مجرّد كون المعنى مركّبا لا يصلح مانعا عن جريان الأصل بالنسبة إلى بعض أجزائه.

نعم لو فرّق بقصور الأصل بالنسبة إلى الأجزاء عن إفادة الوصف بخلاف سائر الاصول كما لا يخفى ، أو بعدم قوّته في إفادة ذلك كغيرها فلا حجر ، إلاّ أنّه لا ينهض ردّا علينا كما لا يخفى ، كما أنّه لا وجه لإطلاق المناقشة في اعتباره.

وممّا يدلّ على المدّعى : ما قرّرناه في محلّه من القاعدة القاضية بوضع اللفظ لما غلب استعماله فيه ، ممّا هو جامع بين معنيين آخرين استعمل فيهما بالخصوص أيضا.

وأمّا الاستدلال عليه أيضا : بأنّه يستعمل تارة في المرّة واخرى في التكرار والأصل فيما استعمل في الأمرين أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والمجاز ، فإن كان مرجعه إلى تلك القاعدة فلا ضير فيه ، وإلاّ لكان بمكان من الوهن عندنا ، لا لما قيل : بأنّه مع البناء على كونه حقيقة في القدر المشترك يلزم المجاز أيضا حيثما استعمل في كلّ من المعنيين بخصوصه ، لوضوح الفرق بين ما يترتّب على فعل الواضع وما يترتّب على استعمال المتكلّم.

والّذي يعدّ مرجوحا في نظرهم ـ ما هو بالنسبة إلى الواضع ، كما عليه مبنى القاعدة (١) ـ إنّما هو الأوّل كما لا يخفى ، وهو يتحقّق على تقدير الوضع لأحد المعنيين ، لأنّه إرسال للمعنى الآخر مجازا دون الوضع للقدر المشترك ، لعدم انحصار الاستعمال حينئذ فيما يستلزم التجوّز ، بل لابتنائه حينئذ إلى بعض الاعتبارات الّتي لا عبرة بها عندنا كما بيّنّاه في محلّه ، إلاّ أن يكون مرجعه إلى ما ينفي الاشتراك ولوازم المجاز عن الاصول العدميّة ، فيرجع هذا الوجه حينئذ إلى ما قرّرناه من الأصل.

والعجب من بعض الأفاضل أنّه ناقش في الأصل مذيّلا له بالاعتماد على هذا الوجه ، مع أنّه لا وجه له من الصحّة إلاّ على تقدير استفادته من الأصل.

وممّا يدلّ عليه أيضا : ما تقدّم الإشارة إليه في كلام المصنّف من تقييد الأمر تارة بالمرّة

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر أنّ ما بين الشارحتين زيادة.

١٩٢

واخرى بالتكرار من دون انفهام تناقض ولو ظاهرا ، ولا تأكيد ولو إجمالا ، وقضيّة الأصل المستفاد عن العرف والعادة في مثل ذلك كونه حقيقة في القدر المشترك بينهما.

ودعوى : أنّه ينفي الوضع للمرّة إذا لو حظت بشرط لا دونها إذا لوحظت لا بشرط ، تعليلا : بأنّ اللا بشرط أيضا قدر مشترك بين الملحوظة بشرط لا والتكرار.

يدفعها : أنّ الأصل جار ولو اعتبر التقييد بالمرّة الملحوظة لا بشرط ، والمنع عن عدم حصول التأكيد حينئذ ، يندفع : بأنّه فرع انفهام المرّة عن الصيغة بمجرّدها ، ضرورة كونه من الامور النسبيّة الغير المتحقّقة بدون تحقّق المضاف إليه ، وهو محلّ منع.

وبذلك يندفع القول بأنّه لو تمّ فإنّما ينفي القول بوضعه لخصوص المرّة والتكرار دون القول بالاشتراك اللفظي بينهما ، فلا ينهض حجّة على المطلوب ، فإنّ الاشتراك اللفظي أيضا يستلزم انفهام تأكيد في الجملة ، نظرا إلى أنّ القرينة المعيّنة لها جهة تأكيد بالنظر إلى ما انفهم من اللفظ أوّلا على طريق الإجمال ، لما هو المحقّق من أنّ المشترك عند تجرّده عن القرائن يتبادر منه معانيه بأجمعها إجمالا ، وجهة تأسيس بالقياس إلى المراد ولقد نفيناه في تقرير الدليل ودفع الاعتراض أصلا ورأسا.

وممّا يدلّ على المدّعى أيضا : الاستقراء التامّ في سائر أنواع صيغ الأفعال وغيرها من صيغ سائر المشتقّات عدا صيغة النهي القاضي بأنّه لا يتبادر ولا يراد من شيء منها مرّة ولا تكرارا ، فتكون بشهادة الاستعمالات وتبادر الماهيّات حقيقة في نفس الطبيعة بل لا نرى مخالفا في ذلك ، ضرورة أنّ « فعل » و « يفعل » و « فاعل » و « مفعول » ونحوها لا يطلق على مرّة ولا تكرار إلاّ في ضمن بعض الموادّ كمادّتي « القتل » و « الحفظ » وما شابههما.

بل يمكن أن يقال : بأنّ المراد بهما أيضا إنّما هو الطبيعة وما يرى فيهما من المرّة والتكرار فإنّما هو من لوازم وجودها الخارجي ، وظاهر أنّه لا تلازم بين لزوم شيء لشيء واعتباره في الوضع والإرادة ، بل نقول بمثل ذلك أيضا في صيغة النهي ، فإنّها وإن أفادت الدوام والاستمرار ـ بناء على التحقيق ـ إلاّ أنّهما ليسا من مقتضيات الوضع ودلالة الصيغة بنفسها ، وإنّما هي تقضي باعتبار الوضع بطلب ترك الماهيّة ، وترك الماهيّة بما هي ماهيّة لا يتحقّق عقلا في الخارج إلاّ بالاستمرار على الترك ، أو بترك جميع الأفراد ولو أحيانا ، فالمظنون في محلّ البحث الّذي صار مشكوكا فيه كونه كذلك أيضا إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

وهذا الاستقراء وإن كان نوعيّا إلاّ أنّه في المقام لا يقصر عن إيراث الظنّ بالمطلوب ،

١٩٣

لفقد ما يعارضه من الغلبة الفرديّة أو الصنفيّة كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : أيضا في الاستدلال بأنّه قد نصّ أهل اللغة بأنّه لا فرق بين « افعل » و « يفعل » إلاّ كون الأوّل إنشاء والثاني خبرا.

ومن البيّن صدق الثاني مع كلّ من الوحدة والتكرار فيكون للأعمّ فكذلك الأوّل ، وإلاّ لثبت بينهما فرق آخر ، فهو متّضح الوهن بمنع ثبوت النقل أوّلا ، ومنع اعتباره ثانيا ، بعد ظهور خلافه الّذي يدّعيه أصحاب القولين ، ومنع كون « يفعل » للأعمّ على حدّ الاشتراك المعنوي ، لجواز كون الصدق مع كلّ من المعنيين من جهة الاشتراك اللفظي ثالثا ، ومنع منافاة الصدق مع كلّ منها لاختصاص الوضع بأحدهما لجواز كونه في أحد الجانبين صدقا مجازيّا والمخالف لا ينكره جزما رابعا.

وربّما يستدلّ عليه أيضا : بعدم فهم التناقض عرفا من كثرة الأوامر من المولى إذا أمكن إيجاد كلّ مرّة ، وعلى بطلان التكرار خاصّة بقبح العقاب من المولى على تركه معلّلا : « بأنّي أمرتك » والأوّل محلّ تأمّل والثاني وجيه.

واستدلّ عليه أيضا : بحسن الاستفهام ، وفساده في غاية الوضوح ، فإنّه على القول بالاشتراك أوضح تقريبا ، كما أنّه لا ينافي اختصاص الوضع بالمرّة أو التكرار لأنّه قضيّة يؤتى بها في مظانّ الاحتمال ولو مرجوحا.

واستدلّ عليه العلاّمة في التهذيب : باستلزام كون كلّ عبادة ناسخة لما تقدّمهما ، التفاتا إلى اقتضاء التكرار استيعاب الأوقات ، وهو مع تعدّد العبادات وورودها متعاقبة غير ممكن ، فلا جرم يكون اللاحق ناسخا للسابق وهو باطل ، للعلم الضروري بعدم اعتبار الحجّ نسخا للصلاة ، ولا غسل اليد لغسل الوجه ، ولا الصلاة للوضوء.

وأورد عليه تارة ـ كما في المنية ـ : بأنّه لا يوجب المطلوب ، لجواز الوضع للمرّة خاصّة فيكون أعمّ.

واخرى : بما حكاه بعض الأجلّة (١) من أنّ جعل الأمر بالعبادة الثانية قرينة على عدم إرادة التكرار أولى من جعلها ناسخة.

وثالثة : بما في كلام بعض الفضلاء من أنّ القائل بالتكرار إنّما يقول به إذا تمكّن المكلّف منه عقلا أو شرعا كما عزاه [ إلى ] بعضهم ، وهو الظاهر من إطلاق الإمكان الّذي اعتبر في

__________________

(١) صاحب الكواكب الضيائيّة. ( منه ).

١٩٤

احتجّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : أنّه لو لم تكن للتكرار ، لما تكرّر الصوم والصلاة *. وقد تكرّرا قطعا.

والثاني : أنّ النهي يقتضي التكرار ، فكذلك الأمر ** ، قياسا عليه ، يجامع اشتراكهما في الدلالة على الطلب.

والثالث : أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، والنهي يمنع عن المنهيّ عنه دائما ؛ فيلزم التكرار في المأمور به ***

__________________

تحرير العنوان ، وظاهر أنّ الأمر الثاني إنّما يرفع تمكّن المكلّف في الزمن المتأخّر ، ولا يرفع الحكم إذ لا ثبوت له مع عدم التمكّن.

* وبملاحظة ما سبق في تحرير موضع النزاع يتبيّن أنّ مراده كون الأمر للتكرار بحسب الوضع اللغوي ، كما يومئ إليه هنا التصدير بـ « اللام » فمحصّل الاستدلال حينئذ : أنّه لو لم يكن الأمر المطلق موضوعا للتكرار لما أفاد الأمر بالصوم والصلاة التكرار فيهما ، والتالي باطل بالعيان لما يرى من أنّ الصلاة تتكرّر في كلّ يوم ، والصوم يتكرّر في شهر من كلّ سنة أو في كلّ يوم من الشهر ، والملازمة بيّنة ، فيستقيم حينئذ ما أجاب به المصنّف وغيره من إبداء احتمال كون ذلك مستفادا عن دليل خارج.

** يرد عليه : ما أشرنا إليه سابقا في الاحتجاج على المختار بالاستقراء من أنّ تكرار النهي ليس من مقتضيات الوضع ودلالة اللفظ عليه من حيث هو ، وإنّما هو من لوازم نفي الماهيّة الّذي هو من مقتضيات اللفظ ، وأين هذا من مطلوبكم.

*** وقد يعترض (١) عليه : بعدم اقتضاء دوام ترك الضدّ دوام فعل المأمور به ، لجواز الواسطة ، إلاّ أن يفرض في ضدّين لا ثالث لهما ، وهو لا يفيد ثبوت كلّيّة الدعوى.

أو يقال : بإرادة النهي عن جميع الأضداد ، وترك جميع الأضداد لا يحصل إلاّ بفعل المأمور به كما توهّم الكعبي ، ولا يخفى بطلان ذلك التوهّم فلابدّ من حمل الضدّ على الضدّ العامّ بمعنى الترك.

__________________

(١) المعترض سلطان العلماء ( منه ).

١٩٥

والجواب عن الأوّل : المنع من الملازمة ؛ إذ لعلّ التكرار إنّما فهم من دليل آخر *. سلّمنا ، لكنه معارض بالحجّ ** ؛ فإنّه قد امر به ، ولا تكرار.

__________________

ويردّه : أنّ الضدّ على تقدير حمله على الخاصّ ليس المراد به ـ عند القائل بالنهي عنه في دلالة الأمر ـ أمرا معيّنا لئلاّ يلزم من دوام تركه دوام فعل المأمور به ، لجواز الانتقال إلى الواسطة المفروض ثبوتها في المقام ، بل المراد على ما يستفاد من استدلالاتهم ـ مضافا إلى التصريحات الواقعة عنهم ـ أحد الأضداد الوجوديّة بمعنى ما ينافي المأمور به في الوجود على البدليّة ، وهو الّذي يختار فعله المكلّف بدلا عن الإتيان بالمأمور به عمّا بين الأضداد الوجوديّة ، وظاهر أنّ الواسطة الّتي فرض الانتقال إليها بعد ترك الضدّ الآخر داخل في هذا المفهوم ، فتكون هي الضدّ الّذي نهى عنه على طريق البدليّة فيلزم تركها مقدّمة للإتيان بالمأمور به.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد بالفرض أنّ الأمر إنّما دلّ على النهي عن ضدّ مّا من الأضداد الوجوديّة ، فبدوام ترك بعضها يحصل امتثال ذلك النهي فلم يبق بالنسبة إلى الضدّ الآخر ـ وهو الواسطة ـ نهي بعد حتّى يستلزم دوام تركه أيضا دوام فعل المأمور به ، وإلاّ للزم خلاف الفرض وهو حمل الضدّ على العامّ بمعنى جميع الأضداد الوجوديّة.

وأمّا ما ذكره من إسناد التوهّم على الفرض الآخر إلى الكعبي فلا ينبغي في فساده ، فإنّ الكعبي ـ على ما سيأتي بيان مذهبه ـ لا يجعل ترك الأضداد الوجوديّة مقدّمة لفعل المأمور به حتّى يلزم منه حرمة الجميع كما يقول به الآخرون ، وإنّما يجعل الأضداد الوجوديّة مقدّمة لترك الحرام أو مستلزما له ، فلذا أنكر وجود المباح ، وبين المعنيين بون بعيد كما لا يخفى.

* بل مقطوع بانفهامه من دليل آخر خارج عن الأمر كالإجماع والأخبار ونحوها ، مع أنّه لو كان من مقتضى الأمر لوجب أن لا ينضبط بما هو المقرّر فيهما من الكيفيّة والكمّيّة ولا يتقيّد بأوقات مخصوصة ، بل الإمكان الّذي اخذ في مفهومه يقتضيه أزيد ممّا هو المقرّر بكثير كما لا يخفى ، فانضباطه بتلك الكيفيّة المخصوصة وعدم انطباقه على ما يقتضيه الإمكان شاهد قطعي بكونه من دليل خارج لا من مقتضى الأمر وإن فرضناه للتكرار بحسب الوضع.

** بيان المعارضة : أنّه لو كان الأمر للتكرار لتكرّر الحجّ في كلّ عام لمكان الأمر به ، ولكنّه لم يتكرّر فلم يكن الأمر للتكرار ، ولا يخفى أنّ الخصم يتمكّن عن دفع ذلك بما دفع

١٩٦

وعن الثاني من وجهين : أحدهما ـ أنّه قياس في اللغة ، وهو باطل ، وإن قلنا بجوازه في الأحكام. وثانيهما ـ بيان الفارق ، فإنّ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة ، وهو إنّما يكون بانتفائها في جميع الأوقات * ، والأمر يقتضي إثباتها

__________________

به الاستدلال أوّلا من إبداء احتمال استناد انفهام عدم التكرار من دليل آخر خارج عن الأمر ، فيبقى الدليل سليما عن المعارض.

ويمكن دفعه : بأنّه لو صحّ ذلك لكان المنساق عن الأمر الملحوظ مجرّدا عن هذا الدليل هو التكرار ، والتالي باطل بقرينة سؤال سراقة بن مالك أو عكاشة عن تكرار الحجّ بعد الاطّلاع على الأمر ، بقوله : « أفي كلّ عام يا رسول الله »؟ (١) إذ لو كان الأمر بحسب الوضع للتكرار لما احتاج إلى السؤال ، كما هو الحال في جميع الحقائق المجرّد ألفاظها عن القرائن المنافية لها.

* هذا وما قبله مع ما بعده هو الواقع في كلام كلّ من تعرّض لردّ الاستدلال.

ومحصّله : أنّه قياس أوّلا ، وفي اللغة ثانيا ، ومع الفارق ثالثا ، وبيان الفارق من وجهين :

الأوّل : أنّ النهي طلب لترك الطبيعة ، وتركها لا يتحقّق ، إلاّ بالدوام والتكرار ، والأمر طلب لإيجاد الطبيعة وإيجادها يحصل بالمرّة ، ومبنى ذلك على قاعدة كلّيّة يترتّب عليها فوائد لطيفة وفروع شريفة في أبواب كثيرة أصوليّة وفقهيّة ، وهي إنّ الطبائع الّتي تعلّق بها الأحكام ـ خبريّة أو إنشائيّة ـ وإن كانت لطبعها تقتضي السراية إلى جميع أفرادها ، إلاّ أنّ الأحكام المتعلّقة بها من حيث اقتضاء السراية والعدم تختلف باعتبار كونها حكما بالوجود أو العدم ، فقولك : « أوجدت الماء أو الضرب » أو « الماء أو الضرب قد وجد » لا يقتضي إلاّ تعلّق الحكم بالطبيعة في ضمن فرد من أفرادها ، من غير فرق في ذلك باعتبار الزمان بين المضيّ وغيره ، ولا من حيث الأداء بين الخبر والإنشاء ، فقولك : « سأوجد الضرب » أو « أوجد الضرب » انشاء مندرج في ذلك ، كما أنّ قولك : « أعدمت الماء » و « إنّ الماء قد عدم » يقتضي تعلّق الحكم بالطبيعة في ضمن جميع الأفراد من غير فرق أيضا بين الأزمنة ولا بين الأداءين ، ولا فرق في ذلك كلّه بين كون الوجود والعدم مدلولا عليهما بالمطابقة كما ذكر من الأمثلة ، مضافا إلى « ثبت » و « وجب » و « تحقّق » و « حقّق » و « تقرّر » و « نفى » و « انعدم »

__________________

(١) مشكل الآثار ـ للطحاوي ـ ٢ : ٢٠٢.

١٩٧

وهو يحصل بمرّة ، وأيضا التكرار في الأمر مانع من فعل غير المأمور به *. بخلافه في النهي ، إذ التروك تجتمع وتجامع كلّ فعل.

__________________

و « انتفى » أو مدلولا عليهما بالتضمّن أو الالتزام ، فقولك : « أكلت الخبز » و « شربت الماء » و « بعت العبد » و « اشتريت الجارية » داخل في القسم الأوّل ، كما أنّ قولك : « امتنعت عن الشرك » و « أبيت الكفر » و « أنكرت النفاق » و « تركت الظلم » و « كففت عن الإساءة » مندرج في الثاني.

فبهذا الاعتبار يدخل الأوامر بأسرها في القسم الأوّل ويندرج النواهي بأجمعها في القسم الثاني ، ضرورة أنّ قولك : « اضرب » ونحوه في معنى قولك : « أوجد الضرب » أو « أطلب منك إيجاد الضرب » كما أنّ قولك : « لا تضرب » ومثله في معنى قولك : « اتركه » أو « كفّ نفسك عنه » أو « أطلب منك تركه » أو « كفّ النفس عنه » ومدرك تلك القاعدة إمّا فهم العرف وشهادة الاستعمالات ، أو حكم العقل ومساعدة الاعتبارات ، لقضاء القوّة العاقلة بأنّ الطبيعة في تحقّقها تكتفي بفرد من أفرادها وفي انعدامها تتوقّف على انعدام جميع أفرادها ، فلا حاجة لها على الأوّل إلى انضمام فرد آخر إلى الفرد الّذي تحقّقت في ضمنه ، كما أنّه لا تتصوّر انعدامها مع وجود بعض أفرادها.

وبما قرّرناه ينقدح جواب آخر عن الاستدلال وهو منع الحكم في المقيس عليه ، فإنّ دوام النهي وتكراره ليس من مقتضيات الصيغة ، مع أنّ المطلوب إثبات كونه من مقتضيات الصيغة بحسب الوضع واللغة كما مرّ مرارا ، ولعلّه أسدّ وأقوم من الأجوبة الاخر ، إلاّ أنّه لم نجد في كتب القوم إشارة إليه.

* وهذا هو الثاني من وجهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه اللذين أشرنا إليهما ، إلاّ أنّه اعترض عليه : (١) بأنّ من قال بالتكرار قال بأنّه للتكرار الممكن عقلا وشرعا كما صرّح به الآمدي في الإحكام ، فلا يكون التكرار في زمان يمنع من فعل غير المأمور به ممّا يلزم فعله شرعا أو عقلا ممّا يجب عليه ، لأنّه تكرار غير ممكن ، فلا يكون التكرار على مذهبه مانعا من فعل غيره ممّا يجب فعله.

والظاهر في النظر القاصر ورود ذلك الكلام في هذا المقام على خلاف التحقيق ، لأنّ

__________________

(١) المعترض هو السلطان.

١٩٨

وعن الثالث : بعد تسليم كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، أو تخصيصه بالضدّ العامّ * وإرادة الترك منه ، منع كون النهي الّذي في ضمن الأمر مانعا عن المنهيّ

__________________

غرض الأصحاب فيما ذكر من الجواب إنّما هو إبداء الفرق بأنّ مورد التكرار في النهي إنّما هو التروك ، وهي في حدّ ذواتها لا تمانع بينها بل يجتمع الجميع في زمان كترك الزنا مثلا ، فإنّ له باعتبار تعدّد المزنيّ بها أفرادا متعدّدة تحصله الجميع في زمان واحد كما لا يخفى ، بخلاف فعل المأمور به فإنّ أفراده لا تجتمع في زمان واحد إلاّ في بعض الفروض النادرة بالنسبة إلى بعض الامور.

وأيضا ترك المنهيّ عنه يجامع كلّ فعل وجودي ممّا يتصوّر مباحا أو غيره ، بل ويجامع ترك سائر الأفعال الوجوديّة ، بخلاف فعل المأمور به فإنّه لا يجامع فعلا آخر مضادّا له في زمان واحد ، إمّا لما بين الأفعال الوجوديّة المضادّة من التمانع كما توهّم ، أو لعدم قابليّة المحلّ باشتماله على الشاغل بناء على التحقيق ـ ولتفصيل ذلك محلّ آخر يأتي إن شاء الله ـ ولا ريب أنّ هذا المعنى لا ربط له بما يقول به أصحاب القول بالتكرار من تقييده بالإمكان عقلا وشرعا ، فإنّ مراد المجيب إحراز المانعيّة لفعل المأمور به عن فعل غيره في موارد الإمكان الّذي عليه مدار وجوب التكرار ، ونظر المعترض إلى ثبوت المانعيّة لما يجب فعله عقلا أو شرعا ممّا يوجب سقوط التكرار لفوات ما عليه مدار وجوبه من الإمكان ، وهذا مقام أجنبيّ عن المقام الأوّل بالمرّة فلا ورود له عليه.

نعم ، لو كان نظر المجيب في إبداء الفرق إلى أنّ التكرار الّذي في الأمر قد يعرضه الامتناع إذا عارضه فعل ما يجب فعله عقلا أو شرعا لما بينهما من التمانع أو عدم قابليّة المحلّ فيقبح على الآمر الحكيم إرادته بخلاف التكرار الّذي في النهي ، فإنّ ترك المنهيّ عنه دائما لا يعرضه الامتناع ، فإنّه لا يعارضه فعل ما يجب فعله عقلا أو شرعا بل ولا ترك ما يجب تركه عقلا أو شرعا فلا يقبح على الحكيم إرادته ، لكان الاعتراض متوجّها ولكنّه مضافا إلى اعتراض آخر : بأنّه قبح عقلي وهو لا ينافي الجواز اللغوي الناشئ عن الوضع كما لا يخفى ومحلّ البحث هو الأخير ، بعيد عن معقد كلامه بمراحل.

* وأنت خبير بقصور تلك العبارة عن تأدية المراد ، لأنّ المصنّف في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه مثبت في الضدّ العامّ ـ بمعنى الترك ـ وناف في الضدّ الخاصّ ، وقضيّة

١٩٩

انطباق عبارته على مذهبه أن يكون مراده بالضدّ في الشقّ الأوّل المتضمّن لمنع كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه أعمّ من الضدّ العامّ ، نظرا إلى أنّ نفي المطلق غير مناف لاثبات المقيّد ، لا الضدّ العامّ خاصّة لمنافاته لمذهبه ، فسياق العبارة حينئذ تقييد الضدّ فيها بالإطلاق بزيادته مضافا إلى المصدر ، أو زيادة المطلق وصفا للضدّ ، فإرسالها خالية عن ذلك سياق غير مستحسن.

ولو اريد بالضدّ الخاصّ لارتفع هذه الحزازة مع عدم لزوم التنافي لمذهبه ، ولكنّه يوجب خروج قوله : « أو تخصيصه بالضدّ العامّ » عطفا على التسليم غير مرتبط بما قبله كما لا يخفى ، لأنّه إنّما يحسن على تقدير إرادة الإطلاق من الضدّ في الشقّ الأوّل.

وكيف كان فالعبارة في أحد شقّيها لا تخلو عن حزازة ، إلاّ أنّ مقصوده على كلّ تقدير واضح ، بعد ملاحظة أنّه يريد الترديد في الضدّ بين كون المراد منه المطلق أو العامّ بمعنى الترك خاصّة.

فعلى الأوّل يتوجّه إليه أوّلا : المنع عن كون الأمر نهيا عنه.

وثانيا : المنع من كون ذلك النهي ـ على فرض تسليمه ـ للدوام.

وعلى الثاني يختصّ الجواب بالمنع الثاني ، والوجه في ذلك : أنّ الدوام الّذي يستفاد من النهي ما كان مدلولا عليه بالصيغة ، نظرا إلى وضعها له ـ كما قد يتوهّم ـ أو لكونها لنفي الطبيعة المستلزمة له ـ كما هو التحقيق بالتقريب المتقدّم ـ والنهي الّذي في ضمن الأمر لا يكون مستفادا عن الصيغة حتّى يلزم منه دوام الترك بأحد الوجهين ، بل هو مستفاد عن الأمر بأحد الوجوه الآتية في محلّه.

ومن البيّن أنّ كون المطلوب منه دوام الترك فرع كون المطلوب بالأمر دوام الفعل ، كما أنّ كون المطلوب بالأمر فعل المأمور به في ساعة مثلا يستلزم كون المطلوب به ترك الضدّ في تلك الساعة ، فإذا لم يثبت كون الأمر للدوام فكيف يستدلّ على كونه للدوام بكون النهي الّذي في ضمنه للدوام.

ومن هنا يتبيّن جواب آخر عن الاستدلال من جهة كونه دوريّا كما لا يخفى.

لا يقال : لو كان ذلك النهي لطلب ترك الطبيعة ، كما هو لازم قولكم : « بأنّ الأمر لطلبها » لكان مقتضيا للدوام ، لأنّ ترك الطبيعة لا يتحقّق إلاّ به كما اعترفت به مرارا ، إذ النهي المذكور في ذلك أيضا يتبع الأمر لكونه مستفادا منه ، ولمّا كان الأمر لا يقتضي أزيد من

٢٠٠