تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

أن يدفع بالأصل حيثما يقع مشكوكا في حدوثه.

غاية الأمر انقطاع ذلك الأصل بالقياس إلى طلب المأمور به لفرض ورود الأمر به ، ويبقى الباقي تحته ومنه طلب ترك ضدّه.

وأمّا الثالث : فلأنّ الضدّ غير خال عن كونه واجبا أو مندوبا أو مكروها أو مباحا ، فهو لا محالة مباح بالمعنى الأعمّ مستفاد إباحته عن عموم الأدلّة أو إطلاقها ، والنهي عنه يوجب التخصيص أو التقييد في تلك الأدلّة والأصل ينفي كلاّ منهما لكونه في موضع الشكّ على الفرض.

وبما قرّرناه يندفع ما عساه يناقش في تلك الاصول تارة : بأنّ النزاع إذا كان في الملازمة العقليّة ـ بناء على ما سبق تحقيقه ـ فالعقل إمّا قاض بملازمة إيجاب الشيء لتحريم ضدّه أو قاض بعدمها.

وعلى أيّ تقدير فلا يعقل منه الشكّ في الحكم حتّى يكون المقام من مجاري الاصول المنوطة به.

واخرى : بأنّ الأصل على فرض جريانه موافقا لقول النافي على الإطلاق ليس بمثمر ولا يظهر له فائدة بعد ما كان الحكم معلوما بالدليل ، فيكون وجوده بمنزلة عدمه.

فإنّ العقل إنّما لا يعقل منه الشكّ إذا كان الحكم المطلوب منه من باب الإنشاء وأمّا لو كان من باب الإدراك فربّما يعقل منه الشكّ كما لو كان متردّدا في الحكم الشرعي الثابت للواقعة على حسبما هي عليه في الواقع.

ومن المعلوم أنّ النزاع وإن كان في الملازمة العقليّة إلاّ أنّه نفيا وإثباتا يرجع إلى دعوى إدراك العقل لنهي الشارع عن ضدّ المأمور به بملاحظة ما ورد به من الخطاب ودعوى عدم إدراكه أو إدراك عدمه ، فإذا أمكن فرض المسألة خالية عن الدليل الاجتهادي ـ حسبما قرّرناه ـ لا يفرق بين كون ذلك الدليل هو العقل أو غيره من أدلّة الشرع.

وما يرى من عدم ظهور ثمرة للأصل المقرّر على النهج المذكور ـ على فرض تسليم جريانه ـ فإنّما ينشأ عن ملاحظة الدليل الاجتهادي الموجود معه لغنائه عنه ، وإلاّ فمع فرض عدمه يترتّب عليه جميع فوائده وثمراته.

وبذلك يوجّه ما يكثر في كلام الفقهاء عند الاستدلال على المطلب من الجمع بين الأصل والدليل ، كيف ولو صلح ذلك مناقشة لكان مطّردا ومتوجّها إلى كلّ من يجمع في مسألة واحدة بين أكثر من دليل واحد كما هو دأبهم وديدنهم قاطبة.

٦٦١

نعم ربّما يمكن المناقشة في أصل البراءة هنا بأنّ : اشتغال الذمّة ليس طريق ثبوته منحصرا في الطلب الشرعي المتعلّق بما يكون شاغلا للذمّة ، لأنّه حكم إرشادي من العقل قد ينشأ بملاحظة الطلب المتعلّق بالشيء ، وقد ينشأ بملاحظة كونه من لوازم وجود ما تعلّق به الطلب لمجرّد كونه ممّا يستلزم تركه تركه ، كما أنّه قد ينشأ بملاحظة كونه من مقدّمات وجوده لمجرّد كونه ممّا لابدّ منه.

وظاهر أنّ العقل كما يحكم باشتغال الذمّة بنفس المأمور به كذلك يحكم باشتغال الذمّة بلوازمه وإن لم يكن من مقدّمات وجوده ، فلذلك تجد نفسك جازما عند كونك مكلّفا بالاستقبال إلى القبلة بكون ذمّتك مشغولة بالتوجّه إلى كلّ ما يحاذي القبلة ممّا بينها وبينك ، وإن لم يدخل في وصف الوجوب إلاّ على سبيل العرض والمجاز ، ومن جملة ذلك ترك أضداده الوجوديّة.

كما يمكن المناقشة في الاستصحاب : بأنّ المستصحب في آن اليقين عدم لا في الموضوع وفي آن الشكّ عدم في الموضوع ، وهو اختلاف بينهما لا يوافق قانون الاستصحاب.

ولكن يمكن دفع الاولى : بأنّ المقصود بالأصل نفي ما يكون محلاّ للنزاع وهو الاشتغال بالترك بعنوان كونه مطلوبا للشارع بالخصوص.

ولا ريب أنّ الأصل المستفاد من عمومات الآيات والروايات ممّا يفيد ذلك فيترتّب عليه جميع الثمرات المطلوبة من القول الموافق له ، ولو تطرّق إليه شبهة كونه من الاصول المثبتة بالنسبة إلى بعض الثمرات كالصحّة فيما لو كان الضدّ من العبادات أو المعاملات ، والإباحة فيما لو كان ممّا عداها ، بدعوى : أنّ أقصى ما يفيده الأصل إنّما هو نفي الفساد والحرمة لا ثبوت الصحّة والإباحة.

لدفعناها : بكون تلك اللوازم بعد نفي مقابلاتها بالأصل ممّا يثبت في كلّ باب بأدلّة ذلك الباب من العمومات والإطلاقات ، لسلامتها على هذا التقدير عمّا يصلح للمعارضة لها ، فالمقصود بالأصل إنّما هو رفع المانع لا إحراز المقتضي.

كما يمكن دفع الثانية : بأنّها مناقشة لا مأخذ لها سوى ما اشتهر فيما بينهم من اقتضاء الاستصحاب موضوعا للمستصحب ، وأنّه لابدّ فيه من بقاء الموضوع ، وهو إنّما يستقيم فيما لو كان المستصحب ، من الامور الوجوديّة دون ما لو كان من الامور العدميّة.

ووجه الفرق : أنّ الأمر العدمي ممّا لا حقيقة له أصلا بل هو شيء يعتبره العقل عند انتفاء

٦٦٢

الوجود ، فهو ليس بحيث يقتضي موضوعا في الخارج يتقوّم به لأنّه من خواصّ الموجود ، غايته أنّه من باب المقارنات الاتّفاقيّة قد يصادف شيئا موجودا في الخارج وإلاّ فكثيرا مّا يصادف أمرا معدوما.

وأيّا ما كان فيصلح للاستصحاب حيثما كان متيقّنا فشكّ في بقائه ، بخلاف ما لو كان من الوجوديّات فإنّه لا محالة يكون من مقولة الأعراض فلابدّ له من موضوع يتقوّم به ، ولا ريب أنّ المقصود بالاستصحاب حينئذ إبقاء ما يكون من هذه المقولة الّذي كان متيقّنا في الزمن السابق ، فإمّا أن يراد إبقاؤه لا في الموضوع أو في موضوع كان متقوّما به في آن اليقين أو في موضوع غير ذلك الموضوع ، والأوّل محال والثاني متعيّن لكون الثالث كالأوّل في الاستحالة إن فرضنا الباقي هو العرض المتيقّن في آن اليقين ، لاستلزامه انتقال العرض وهو على ما برهن عليه في محلّه غير جائز ، مع أنّه تابع في الوجود لموضوعه الأوّل فيرتفع بانعدامه ومعه يبقى الاستصحاب بلا مستصحب ، أو مخلاّ بما يكون من أركان الاستصحاب وهو اليقين السابق إن فرضناه عرضا آخر لعدم كونه ممّا تعلّق به اليقين السابق.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى ممّا يقتضيه الأخبار الواردة في باب الاستصحاب الناهية عن نقض اليقين إلاّ بيقين مثله ، بعد ملاحظة أنّ المراد باليقين المنهيّ عن نقضه إنّما هو آثار اليقين وأحكامه المترتّبة عليه في الزمان السابق ، الراجع محصّله إلى النهي عن الاعتناء بالشكّ الطارئ والأمر بتنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقّن في جميع الأحكام المحمولة عليه سابقا ، لا نفس اليقين لأدائه إلى التكليف بغير المقدور ، ولا المتيقّن كما توهّم لاشتراكه مع الأوّل في المحذور.

فلا وقع لما يعترض عليه من منع اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب استنادا إلى إطلاق تلك الأخبار ، فإنّها بعد كونها متقيّدة لا يتصوّر لها إطلاق حتّى يستند إليه.

ولو سلّم فهو تقييد يجيء من جانب العقل وهو حجّة ، كما لو جاء من قبل الشرع.

فقد تبيّن ممّا ذكر : أنّ ما عدا القول بنفي الاقتضاء مخالف للاصول من غير فرق في ذلك بين القول باقتضاء النهي التبعي أو الأصلي الغير الشرعي أو الأصلي الشرعي.

فما ذكره بعض من لا تدبّر له ـ من عدم جريان أصل البراءة على القول بالنهي التبعي أو الأصلي الغير الشرعي ، تعليلا باشتراكهما مع القول بنفي الاقتضاء مطلقا في عدم ترتّب العقاب على المخالفة كما في وجوب المقدّمة ـ كلام واه ورد على خلاف التحقيق ، لعدم

٦٦٣

كون المقصود بأصل البراءة هنا نفي العقاب خاصّة ، وهو كما أنّه ينفي العقاب حيثما يجري كذلك ينفي ما هو ملزوم له وهو الطلب الشرعي المتعلّق بالمكلّف فعلا.

ونظير ذلك الاعتراض في وروده على خلاف التحقيق ما في كلام بعض الأجلّة من الاعتراض على الاستصحاب ، بأنّه : يقتضي يقينا سابقا وعدم اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ ليس له زمان يقين في السابق حتّى يحكم ببقائه في اللاحق بحكم الاستصحاب ، إذ ليس المراد بالمستصحب هنا عدم الاقتضاء الّذي هو من أحوال الأمر حتّى يتوجّه أنّه لم يكن متيقّنا في شيء من الآنات ، بل عدم الطلب الّذي هو سابق على ورود الأمر بل على جميع الامور الوجوديّة المسبوق وجودها على العدم الأزلي.

ولا ريب في كونه متيقّنا إلى زمان وجود المكلّف وبلوغه وورود الأمر المتعلّق به ، فصار مشكوكا في بقائه بالنسبة إلى أضداد المأمور به بعد القطع بانتقاضه بالنسبة إلى نفس المأمور به كما عرفت.

نعم على القول باقتضاء عدم الأمر لا يجري من الاصول إلاّ أصالة عدم التخصيص أو التقييد في العبادات ، لاشتراكه مع القول بنفي الاقتضاء مطلقا في موافقة أصل البراءة والاستصحاب كما لا يخفى.

الثالث في ثمرات المسألة :

واعلم أنّ ثمرة كلّ مسألة هي الغاية المطلوبة عن عقد تلك المسألة والبحث عنها ، وظاهر أنّ المسائل الاصوليّة قواعد عقدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فيكون غايتها المطلوبة عنها من حيث كونها مسائل اصوليّة استنباط الأحكام.

ومن البيّن أنّه من وظيفة الفقيه ومحلّه الفقه ، وكيفيّته على ما أشرنا إليه في صدر المسألة أن يؤخذ المسائل الاصوليّة كبريات في الاستدلالات المسائل الفقهيّة الّتي صغرياتها قضايا فرضيّة لكون موضوعاتها امورا فرضيّة ، نظرا إلى أنّ الفقيه إنّما يبحث عن أحوال موضوع بحثه من حيث كونه أمرا فرضيّا وإن كان له وقوع في الخارج ، لئلاّ يخرج عن موضوع بحثه ما لا وقوع له في الخارج من الفروض أصلا ، فالنتيجة الحاصلة من تلك الاستدلالات مسألة فقهيّة واستنباطها بالكيفيّة المذكورة ثمرة المسائل الاصوليّة ، فلا يلزم الاتّحاد بين ثمرة علم ومسألة علم آخر.

وعلى هذا فثمرة تلك المسألة على القول باقتضاء الأمر للنهي إنّما هو استنباط التحريم

٦٦٤

لكلّ فعل للمكلّف مندرج في عنوان « الضدّ » الّذي هو بمفهومه الكلّي موضوع لتلك المسألة ، ولكن القوم لم يتعرّضوا لذكر ذلك إلاّ قليل منهم كبعض الأعاظم حيث أشار إليه في جملة من كلامه بقوله : « نعم يختلف الحكم في الأضداد بين أن يكون من العبادات والمعاملات وغيرهما من وجه آخر ، وهو أنّه إن كان من الأوّلين يترتّب عليهما أو على أحدهما ـ على الخلاف ـ حكم الفساد على القول به ، ولكن يشترك الكلّ في الاتّصاف بالحرمة » انتهى.

نعم ذكروا في المقام امورا اخر وهي على ما يتحصّل من عباراتهم المتفرّقة مندرجة في ثلاثة أصناف :

أوّلها : التعليقيّات كالنذور والأيمان والظهار ، فلو حلف أن لا ينهى زيدا عن شيء فأمره بشيء ، أو علّق ظهار زوجته على مخالفة نهيه فأمرها بالقيام فقعدت ، فعلى القول باقتضاء النهي يلزم الحنث ويقع الظهار دون القول بعدم الاقتضاء ، ولو نذر إعطاء درهم لزيد إن لم يفعل حراما فأتى بضدّ المأمور به كالصلاة في موضع الإزالة مثلا ، ومثله ما لو نذر إعطاء الدرهم لمن لم يفعل محرّما فأعطاه لمن أتى بضدّ المأمور به ، فعلى القول الأوّل لا يجب الوفاء في الفرض الأوّل ولا يحصل البراءة في الفرض الثاني بخلاف القول الآخر.

ومثله لو علّق النذر بإعطاء الدرهم على صدور محرّم منه أو علّق ظهار زوجته على صدور محرّم منه أو منها فصلّى أو صلّت عند الأمر بالإزالة ، فعلى القول الأوّل يجب ويقع دون القول الآخر.

ومثله لو علّق النذر على فعل واجب لفاعله فصلّى أحد في سعة الوقت في موضع الإزالة المأمور بها ، فعلى القول باقتضاء النهي أو اقتضاء عدم الأمر لم يكن ذلك بالواجب فلا يبرأ بإعطائه بخلاف القول الآخر.

وثانيها : الأسباب الشرعيّة الموجبة للملك والاستحقاق كالأقارير والوصايا والأوقاف ، فلو أقرّ لمن يأتي بمحرّم ، أو أوصى لمن لا يأتي بمحرّم ، أو وقف على من لا يأتي بمحرّم ، فعلى القول باقتضاء النهي يثبت الإقرار لمن أتى بضدّ المأمور به ولا يندرج ذلك في الموصى له ولا الموقوف عليه دون القول الآخر.

وثالثها : الأحكام الوضعيّة كالصحّة والفساد ، فعلى القول الأوّل يبطل العبادات المأمور بأضدادها كالصلاة عند الأمر بردّ الوديعة وإزالة النجاسة ، والحجّ حال مطالبة الزوجة بالمهر مع الإيسار.

٦٦٥

قال البهائي : وممّا فرّعوا على هذا الأصل ما لو أشرف الأعمى على السقوط في بئر مثلا وترك المصلّي تحذيره بالقول مع انحصار المتحذّر فيه وبقى مشتغلا بالقراءة ، فإنّ صلاته تبطل إن قلنا باستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ لتعلّق النهي بجزء الصلاة أعني القراءة. وإن لم نقل بذلك لم تبطل ، لأنّ النهي حينئذ عن أمر خارج عن الصلاة ، أمّا لو كان وقت التحذير ساكتا عن القراءة فإنّ صلاته لا تبطل ، لأنّه ليس في تلك الحالة منهيّا عن جزء الصلاة ولا عن شرطها.

ثمّ قال : ولقائل أن يقول : إنّه في تلك الحالة منهيّ عن شرط الصلاة وهي الاستدامة الحكميّة ، فيجب تخصيص الحكم بما إذا لم نقل ببطلان الصلاة عند التحذير بكلام قليل وبما إذا لم يتوقّف حصول حذره على كلام كثير يخرج به عن كونه مصلّيا. انتهى.

قوله : « لأنّ النهي حينئذ عن أمر خارج عن الصلاة » ظاهره كون المراد بالأمر الخارج المنهيّ عنه ترك التحذير الّذي هو ضدّ عامّ له ، نظرا إلى ذهابه في الضدّ العام إلى اقتضاء النهي عنه.

ولا ريب أنّه أمر خارج عن الصلاة ملازم لها في الوجود ، وإلاّ فعلى القول بعدم اقتضاء النهي عن الضدّ الخاصّ لا يعقل شيء آخر خارج عن الصلاة يكون منهيّا عنه بالأمر بالتحذير حتّى ينطبق عليه التعليل.

وقوله : « أمّا لو كان في وقت التحذير ساكتا عن القراءة » بيان لفائدة قيد « الاشتغال بالقراءة » الّذي اعتبروه في محلّ ظهور الفرع المذكور ، وتنبيه على كونه قيدا إحترازيّا ، فيكون قوله : « فإنّ صلاته لا تبطل » مرادا به أنّها لا تبطل على القولين ، فلا يظهر في تلك الصورة فرق بينهما.

وقوله : « ولقائل أن يقول » اعتراض على ما ذكر في التعليل لعدم بطلان الصلاة في الصورة المفروضة على القولين من عدم كونه حينئذ منهيّا عن جزء الصلاة ولا عن شرطها ، ومحصّله : أنّ النهي عن شرط الصلاة إذا كان مبطلا لها فهو حاصل في تلك الصورة لأنّ الاستدامة الحكميّة عند السكوت عن القراءة من جملة الشروط وهي على القول باقتضاء النهي تكون منهيّا عنها فيظهر الفرق بينه وبين القول الآخر.

وفيه نظر لأنّ الكلام في الضدّ الخاصّ والاستدامة الحكميّة عبارة عندهم عن عدم قصد المنافي فليس بأمر وجوديّ ليكون ضدّا خاصّا ، وإن كان يعبّر عنه بالأمر الوجودي ، وفرض هذا الكون المتحقّق عند السكوت عن القراءة ضدّا خاصّا وإن كان ممكنا إلاّ أنّ

٦٦٦

النهي عنه ـ على القول به ـ ليس نهيّا عن شرط الصلاة ولا جزئه ، لكونه أمرا مباحا لما قيل من أنّ القيام المتخلّل بين أجزاء القراءة حال السكوت عنها قيام مباح في مقابلة القيام المتحقّق حالها لكونه واجبا.

قوله : « فيجب تخصيص البحث ... الخ » ظاهره بحسب القواعد اللفظيّة كونه تفريعا على الاعتراض مرادا به فرض ما يصحّ معه محلّ الاحتراز ، ولكنّه بحسب المعنى لا يلائم المقام ، مضافا إلى أنّه لا يلائمه العطف بقوله : « وبما إذا لم يتوقّف إلى آخره » لارتباطه بمحلّ ظهور الفرع المذكور فلابدّ من حمل « الفاء » على الاستئناف أو الاستدراك ليرجع إلى محلّ الفرع ، فيكون محصّل المراد به حينئذ : أنّ ما ذكروه من الفرع صحّته مبنيّة على مقدّمتين :

إحداهما : ثبوت أنّ التحذير بالكلام القليل الخارج عن أذكار الصلاة لا يوجب بطلان الصلاة كما يوجبه لو وقع في غير موضع التحذير ، بدعوى اختصاص ما جعله الشارع قاطعا للصلاة بغير محلّ الضرورة ، والتحذير بالكلام القليل موضع ضرورة لمكان الأمر به.

وثانيتهما : عدم كون الكلام المذكور كثيرا ماحيا لصورة الصلاة وإلاّ لبطلت على القولين.

وكيف كان فما ذكروها في الصنفين الأوّلين بدعوى كونها من ثمرات المسألة موضع نظر ، لعدم كونها ممّا عقدت المسألة لأجل استنباطها ، بل هي امور مقرّرة في محالّها تثبت عند تحقّق أسبابها ، ومن أفرادها الإتيان بضدّ المأمور به على القول بكونه منهيّا عنه وعدمه ، إذ يترتّب عليه الامور المذكورة بعد ما استنبط الفقيه بملاحظة مذهبه في تلك المسألة حكمه من الحرمة أو عدمها ، فهي في الحقيقة من فروع بحث الفقيه ، فتكون بالنسبة إلى تلك المسألة من جملة الفوائد.

وفرق واضح بين الفائدة والثمرة في العموم والخصوص ، فإنّ الفائدة قد لا تكون من الثمرات ولا سيّما إذا كانت بعيدة غير ملحوظة في الأنظار كالامور المذكورة ، ومن هذا القبيل أخذ الاجرة على فعل الضدّ في كونه حراما أو مباحا على القولين ، لما قرّر من عدم جوازها على المحرّمات ، وكونه موجبا للفسق وعدمه إذا كان مع ضميمة ترك المأمور به محقّقا لموضوع الإصرار إن لم يكن الترك بنفسه كبيرة ، إذ يتحقّق على القول بكونه منهيّا عنه معصيتان صغيرتان ، بخلاف الثمرة فإنّها دائما من الفوائد.

وبالجملة لو أرادوا بذكر هذه الامور كونها من جملة الفوائد كما يرشد إليه التعبير بالفرع والتفرّع في كلام كثير منهم فلا بأس به ، ولو أرادوا كونها من الغايات المطلوبة كما

٦٦٧

يومئ إليه التعبير بلفظة « الثمرة » في كلام بعضهم فلا ريب في بطلانه.

وأمّا الصنف الأخير فبيان صحّته وسقمه يستدعي الإشارة إلى ما لا يكاد يخفى على البصير ، وهو أنّ مذاهب العلماء في صحّة الضدّ وفساده حيثما كان عبادة مأمورا بها أو معاملة ثلاث :

الأوّل : كونه صحيحا وموافقا للأمر إذا كان عبادة موجبا للطاعة من حيث الأمر به مطلقا ، وإن استلزم معصية بترك المأمور به المضيّق أو تأخيره ، وهذا مبنيّ على عدم استلزام تحريم اللازم لتحريم الملزوم مع عدم كون ترك الضدّ مقدّمة كما هو الحقّ ، أو عدم كون المقدّمة واجبة على الإطلاق أو في الجملة كما عليه جماعة.

الثاني : كونه فاسدا وكون الأمر به مقيّدا بما عدا صورة المعارضة ، لا بالمعنى المقابل للواجب المطلق المرادف للمشروط ، بل بالمعنى المقابل للمطلق المتداول في سائر المواضع ، وهذا مبنيّ إمّا على استلزام تحريم أحد المتلازمين لتحريم المتلازم الآخر ، أو على كون ترك الضدّ مقدّمة ومقدّمة الواجب واجبة والنهي عن الشيء مقتضيا للفساد مطلقا أو إذا كان عبادة ، وهو مذهب كلّ من جزم في المسألة بالثمرة المذكورة.

الثالث : كونه صحيحا والأمر به إذا كان من العبادات مشروطا بما لو حصل الشرط حصل الأمر فيقع العمل موافقا له ، وهذا مبنيّ على كون الترك مقدّمة والمقدّمة واجبة ، وإلاّ لما حاجة إلى العدول عن إطلاق الأمر بالضدّ إلى جعله مشروطا وكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضدّ لئلاّ ينافي وجوب المقدّمة وعدم كون النهي في العبادات مقتضيا للفساد لئلاّ ينافي المصير إلى صحّتها مع قيام الأمر المضيّق المقتضي للنهي عنها ، وهو مذهب جماعة منهم بعض المشايخ في كشف الغطاء وبعض الأفاضل وأخيه والمحقّق الثاني ـ على ما حكي عنه ـ وغيره على ما تقدّم في بحث المقدّمة من أنّهم صحّحوا العبادات الواجبة مع انحصار مقدّماتها في المحرّمة وجعلوا منها ترك الواجب المضيّق لفعل الموسّع خلافا للمشهور حيث أفسدوها استنادا إلى ما ذكرناه ثمّة.

ولكنّهم بعد ما جعلوا الأمر مشروطا اختلفوا في الشرط ، فكثير منهم جعلوه مشروطا بحصول الحرام وهو الّذي رجّحناه ثمّة.

وبعض الفضلاء جعله مشروطا بالاعتبار اللاحق بالمكلّف وهو كونه ممّن يأتي بالمقدّمة وقد ذكرنا الفرق بينه وبين الأوّل ثمّة.

٦٦٨

وظاهر العبارة المحكيّة عن كشف الغطاء كونه مشروطا بالعزم على المعصية لأنّه قال ـ في تلك المسألة من مقدّمات الكتاب ـ : بأنّ انحصار المقدّمة في الحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية ، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت لمعصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه (١) في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد. انتهى.

ولكن الظاهر أنّه لا يخالف القول الأوّل كما لا يخفى.

وإذا عرفت ذلك ، فإن أرادوا ممّا ذكروه من كون الفساد ثمرة للقول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ كون الفساد ملازما لهذا القول كما هو شأن الثمرات وأنّ من يقول بتلك المقالة فليس له أن يقول بما يخالف الفساد ، فهو في حيّز المنع لجواز القول بالتفكيك بينهما كما عرفته من جماعة فكيف يدّعى الملازمة ، مع أنّ اقتضاء النهي الصريح النفسي للفساد في العبادات أو هي والمعاملات معركة للآراء ولهم فيه أقوال مختلفة ـ على ما يأتي في محلّه ـ وقد صار جماعة من أهل النظر إلى المنع فكيف بالنهي الضمني الغيري ، فدعوى الملازمة بين هذا القول وفساد الضدّ عبادة كانت أو معاملة باطلة جدّا.

وإن اريد أنّه ممّا يتفرّع على هذا القول على بعض التقادير فهو مسلّم ، غير أنّ عدّه من الثمرات في موضع المنع لما تقدّم ، بل هو من الفوائد المترتّبة على هذا القول بناء على اتّفاقه مع القول بالفساد في نهي العبادات والمعاملات.

واعترض عليه أيضا بوجوه غير وجيهة.

__________________

(١) والوجوه على ما حكاه بعضهم ثلاث :

أحدها : أنّ الجاهل له في الواقع بالنسبة إلى القصر والإتمام والجهر والإخفات حكمان أحدهما مطلق والآخر مشروط.

أمّا الأوّل : فهو القصر في السفر والإتمام في الحضر.

وأمّا الثاني : فهو الإتمام في الموضعين ، فإنّه مشروط بالمخالفة في الأوّل ، وكذا الكلام في الجهر والإخفات.

وثانيها : ما نسب إلى السيّد المرتضى من أنّ الجاهل المقصّر بنفسه موضوع من الموضوعات جعل الشارع له بخصوصه أحكاما كما أنّه جعل لسائر الموضوعات أحكاما ، فحكمه في نفس الأمر بالنسبة إلى المسألتين التخيير بين الجهر والإخفات والقصر والاتمام.

ثالثها : أنّ ما جعله الشارع له في الواقع هو الّذي جعله للعالم ، غير أنّ الفرق بينه وبين العالم أنّه إذا أتى بما يخالف الواقع يسقط عنه الإعادة بخلاف الجاهل لأنّه الّذي دلّ عليه الأدلّة دون المخالفة في الواقع. ( منه ).

٦٦٩

منها : ما أورده في المناهج بقوله : ولا يخفى أنّ الحكم ببطلان العبادات الموسّعة والنوافل بطلب أداء الدين وردّ الوديعة ومثلهما على القول بالاستلزام لا وجه له ، لأنّ دليل الواجب الموسّع مخصوص بأجزاء وقته ودليل وجوب أداء الدين فورا مثلا عامّ لإطلاقه بالنسبة إلى أجزاء هذا الوقت وما قبله وما بعده ، أي معناه : أنّ في كلّ وقت طلب الغريم دينه يجب أداؤه فورا ، سواء كان في وقت الموسّع أم لا ، ويلزمه النهي من الموسّع في وقته ، فمعنى العامّ الأوّل جواز الاشتغال بالصلاة مثلا في كلّ جزء من أجزاء الوقت الواقعة فيما بين الدلوك والغروب ، ومقتضى الثاني عدم جواز الاشتغال بما يضادّ أداء الدين في كلّ وقت طلبه ، سواء كان وقت طلبه وقت الموسّع أم لا ، وسواء كان وقت ما يضادّه الصلاة أم لا ، فيتعارضان في خصوص وقت الصلاة والأوّل أخصّ مطلقا فيجب تخصيص الثاني به ، فيكون الأمر بوفاء الدين فورا مخصوصا بغير حال الاشتغال بالصلاة.

هذا إذا فرض اختصاص الخطابين بالمديون ، وإلاّ فيكون دليل الموسّع خاصّا مطلقا من حيث الفعل والوقت ومن وجه من حيث الفاعل ، فيكون المعنى : يجوز خصوص الصلاة لكلّ مكلّف خال من موانع الصلاة في أيّ جزء من الأجزاء الواقعة بين الدلوك والغروب ، ويكون معنى لازم الأمر بوفاء الدين : لا يجوز لكلّ مديون شيء من أضداد أداء دينه في وقت من الأوقات ، فيكونان عامّين بينهما عموم مطلق ، فيجوز الإتيان بكلّ من الفعلين في الوقت المشترك كما يأتي ، أو يكون معنى الأوّل : يجوز لكلّ مكلّف الصلاة في كلّ جزء من الأجزاء الواقعة بين الدلوك والغروب ، سواء اشتغلت ذمّته بدين واجب الأداء أم لا ، ويكون معنى الثاني : لا يجوز لكلّ [ مديون ] فعل ما يضادّ أداء الدين في شيء من أوقات اشتغال ذمّته بأداء الدين سواء كان في وقت الموسّع أم لا ، فيكون بينهما عموم من وجه فيجوز كلّ من الفعلين في وقت التعارض على ما يأتي ، وكذا النوافل وبعض المباحات.

ثمّ قال : وتحقيق المقام : أنّ الأضداد الخاصّة للمأمور به إمّا واجب أو مندوب أو مباح ، وكلّ من الأوّلين إمّا مضيّق أو موسّع إمّا موقّت أو غير موقّت ، والمباح إمّا مباح بنصّ الشارع أو بالعمومات أو بالأصل ، والمباح المنصوص إمّا منصوص بإباحته في وقت معيّن أو مطلقا.

ثمّ المأمور به إمّا موسّع أو مضيّق ، وكلّ منهما إمّا موقّت أو غير موقّت وهو في المضيّق يتصوّر بأن يكون تضييقه باعتبار فوريّته ، فإن كان المأمور به موسّعا لا يبطل ضدّه ولا يحرم الامتثال به قبل تضيّق المأمور به مطلقا ، والوجه ظاهر.

٦٧٠

وإن كان مضيّقا والضدّ مضيّقا أيضا فقد سبق حكمه من وجوب الرجوع إلى الترجيح أو التخيير. وكذا إن كان الضدّ مندوبا مضيّقا ، وأمّا في البواقي فيتعيّن الحكم بحرمة المباحات الغير المنصوصة على إباحتها في وقت المأمور به ، لأنّ دليلها يكون هو الأصل وهو يزول بدليل المأمور به.

وأمّا غير المباحات فاللازم الرجوع إلى دليلي المأمور به والضدّ وملاحظة أنّ ما يلزم من دليل المأمور به من النهي عن الضدّ وحرمته يعارض المدلول المطابقي لدليل الضدّ أم لا ، ثمّ ملاحظة كيفيّة التعارض فيحكم بحرمة الضدّ مطلقا وبطلانه إذا كان عبادة لو كان دليل المأمور به أخصّ مطلقا ، وبالجواز والصحّة في سائر صور التعارض إلى آخره.

ويكون محصّل كلامه تسليم الحرمة في المباحات في صورة واحدة وتسليمها مع البطلان في غيرها في صورة واحدة أيضا ، وهو ما كان دليل المأمور به أخصّ مطلقا من دليل الضدّ ، وأمّا في غيرها فقد حكم بعدم حرمة الضدّ مطلقا وعدم بطلانه إذا كان عبادة من غير فرق بين أن يكون بين دليلهما عموم مطلق أو من وجه.

ثمّ أورد بالنسبة إلى الثاني سؤالا بقوله : « فإن قيل : إنّ من صور التعارض ما كان بالعموم من وجه فما السرّ في الجواز والصحّة فيها؟ ».

فأجاب بقوله : « قلنا : السرّ أنّه لمّا لم يعلم المخصّص منهما بخصوصه فلا يحكم بتخصيص شيء منهما قطعا ، ويجوز العمل بعموم كلّ منهما لعدم دليل مخصصّ لهما مع أصالة عدم التخصيص ، نعم لا يمكن العمل بعمومهما معا للقطع بتخصيص واحد منهما ، نظير وجدان المنيّ في الثوب المشترك حيث يحكم بصحّة صلاة كلّ منهما ويجوز دخوله المسجد.

إلى أن قال : هكذا ينبغي أن يحقّق المقام وما سبقني على ذلك أحد. انتهى.

ولا يخفى ما فيه مع كونه تطويلا بلا طائل من خروجه عن السداد والصواب ، فإنّ من يفرّع البطلان على القول بالاقتضاء فإنّما يفرّعه بدعوى الملازمة من وجوه ثلاث ، ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، وملازمة النهي عن الشيء تحريم المنهيّ عنه ، وملازمة تحريم الشيء بطلانه إن كان عبادة.

والّذي يمنع عن هذا التفريع لابدّ له من منع إحدى تلك الملازمات. وما ذكر من التفصيل في مقام المنع إن كان واردا مورد منعها كلاّ أم بعضا فهو فاسد.

أمّا أوّلا : فلكونه منافيا لمذهبه في المقامات الثلاث ، فإنّه يرى الأمر ملازما للنهي كما

٦٧١

تبيّن عند نقل الأقوال ، والنهي ملازما للتحريم على ما عليه المشهور كما اختاره في محلّه ، والتحريم ملازما للفساد في العبادة مطلقا وفي المعاملة إذا كان راجعا إلى العين أو الجزء أو الوصف أو الخارج اللازم أو الشرط إذا كان ممّا يفسد بالنهي أو أمر يوجد مع المشروط بإيجاد واحد.

وأمّا ثانيا : فلمنافاته لتسليم الفرع في بعض الصور من التحريم في بعض المباحات ، والبطلان معه في العبادات على بعض الوجوه.

وأمّا ثالثا : فلمنافاته لسند المنع من مقتضى قواعد التعادل والترجيح ، فإنّهما نوعان من التعارض وهو عبارة عن تنافي الدليلين ، وهو لا يكون إلاّ بتنافي مدلوليهما كما قرّر في محلّه ، وتنافي المدلولين تابع للدلالة وهي في معنى الملازمة في كلّ من المراتب الثلاث.

وأمّا رابعا : فلأنّهم ذكروا الفرع على فرض ثبوت الملازمة على كلّ من الجهات ، فالقضيّة شرطيّة.

ومن البيّن عدم تنافي صدق الشرطيّة لكذب الشروط وما ذكر في التفصيل راجع إلى إنكار الشرط ، فلا يرتبط بدعوى الشرطيّة ليكون واردا عليه ، وإن كان واردا مورد منع الدعوى بعد تسليم الملازمة من جميع الجهات فهو غير معقول أوّلا ، إذ بعد تسليم المقدّمات لابدّ من ترتّب النتيجة قهرا ، وغير صحيح ثانيا لما بيّنّا في صدر المسألة من أنّ النزاع في الملازمة العقليّة بين إيجاب الشيء وتحريم ضدّه ، والملازمة لابدّ من تحقّقها في أمر واقعي وموضوعها وجوب فوري مستفاد من دليل لفظيّ أو لبّي متعلّق بشيء في مقابلة ضدّ له مباح بالمعنى الأعمّ ، فالّذي يراه ملازما للتحريم والفساد يراه كذلك بعد فرضه مضيّقا في مقابلة الموسّع فيكون الدليل الدالّ عليه في مقابلة دليل الموسّع كالدليل في مقابلة الأصل ، والنصّ في مقابلة الظاهر ، كالخاصّ والعامّ ونحوهما.

وقد قرّر في محلّه أنّ الأصل لا يعارض الدليل ، والظاهر لا يعارض النصّ غايته كون دليل المضيّق حاكما على دليل الموسّع مطلقا متعرّضا بمضمونه لمضمون الموسّع كاشفا عن أنّ المراد به غير مورد الاجتماع كما في النصّ والظاهر على بعض التقادير.

فالاعتراض عليه : بأنّ هذا الأمر بقرينة المعارضة ليس مضيّقا ليس على ما ينبغي ، لكونه نزاعا معه في الصغرى والمفروض أنّه أخذ النتيجة بعد إحراز الصغرى ولو فرضا ، كما أنّ إجراء قواعد التعارض هنا مع عدم المعارضة في الواقع على ما عرفت ليس على ما ينبغي ، مع أنّ الأمر المضيّق أخصّ من الأمر الموسّع وإباحة المباح دائما باعتبار الوقت

٦٧٢

فيكون مقدّما عليه دائما على ما اعترف به المعترض ، والمفروض أنّ العبرة في موضوع المسألة إنّما هو بالوقت ، إذ كلّ وقت يزاحم الضدّ لفعل المأمور به يكون من محلّ النزاع ، وكلّ وقت لا يزاحمه فيه ليس منه في شيء ، كما أنّ العبرة في الأمر بالمعنى دون اللفظ ومعلوم أنّ وقت الامتثال به متعيّن دائما وإلاّ لا يكون مضيّقا ووقت الامتثال بالموسّع مشترك بين وقته وغيره فيكون أعمّ دائما.

ولو أرجعنا الكلام إلى الدليل ، نقول أيضا : دليل المضيّق يقتضي وجوب شيء على المكلّف في زمان معيّن ، ودليل الموسّع يقتضي وجوبه في زمان مشترك بينه وبين غيره ممّا قبله وما بعده ، فتأمّل.

ومنها : ما أورده في الضوابط بأنّ الأمر بالضدّ الموسّع والأمر بالمضيّق إمّا كلاهما قطعيّان [ لبّا ](١) كأن يدلّ إجماع مثلا على أنّ الصلاة مأمور بها حتّى عند وجود الأمر بالمضيّق ، وإجماع آخر على أنّ المضيّق مأمور به حتّى في صورة الأمر بالموسّع وإمّا كلاهما ظنّيان ، وإمّا أن يكون الأمر بالموسّع حين الأمر بالمضيّق قطعيّا ونفس الأمر بالمضيّق حينئذ ظنّيّا وإمّا أن يكون عكس ذلك.

أمّا الصورة الاولى : فغير معقولة على مذهب من يقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، لأنّه يقول بأنّه يمتنع عقلا صدور الأمر بالموسّع والمضيّق في زمان واحد ، فعند الأمر بأحدهما لابدّ من ارتفاع الآخر.

وأمّا الصورة الثانية : فلا تجري الثمرة المذكورة فيها ، إذ غاية ما ثبت من امتناع اجتماعهما عقلا هو لزوم صرف أحد الأمرين عن ظاهره والأخذ بالآخر ، إمّا أن يقال : إنّ الأمر بالموسّع غير مطلوب في زمان المضيّق.

أو يقال : إنّ أمر المضيّق أمر ندبي أو غير فوري في تلك الحالة ، أي حالة وجود الأمر بالموسّع ولا دليل على تعيين صرف الموسّع عن ظاهره ، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة وإلاّ فالوقف ، والمرجّح الخارجي قد يقتضي طرح الموسّع وقد يقتضي طرح المضيّق.

وأمّا الصورة الثالثة : فلا يجري الثمرة فيها أيضا ، إذ بعد لزوم التأويل في أحد الأمرين لا ريب في أنّ التأويل في الظنّي أولى ، فيطرح الأمر بالمضيّق بحمله على الندب أو على عدم الفور ويحكم بصحّة الموسّع.

__________________

(١) هكذا في الضوابط.

٦٧٣

وأمّا الصورة الرابعة : فالثمرة فيها جارية لا من جهة [ مجرّد ](١) كون الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه ، بل من جهة أنّه بعد لزوم صرف أحد الأمرين عن ظاهره بحكم العقل بامتناع الاجتماع لابدّ من طرح الظنّي وهو الموسّع والأخذ بالمضيّق فيكون الصلاة حينئذ فاسدة.

ثمّ إنّه ذكر عقيب ذلك ما يقتضي تفصيلا في الظنّين بين ما لو كان المضيّق بمعناه الأعمّ فيظهر فيه الثمرة المذكورة ، وما لو كان بمعناه الأخصّ أو كان مشكوكا فيه فلا يظهر الثمرة.

حيث قال ـ في دفع إيراد (٢) أورده على نفسه ـ : أنّ قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(٣) مثلا يدلّ على كون الظهرين موسّعين ـ إلى أن قال ـ : فقوله عليه‌السلام : « متى ذكرت صلاة فاتتك قضيتها » ونحوه معارض للآية الشريفة إن أفاد قوله هذا فوريّة القضاء ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، يتصادقان فيمن عليه قضاء وهو في وقت الأداء الموسّع ، ويصدق الرواية فيمن عليه قضاء قبل وقت الأداء ، ويصدق الآية فيمن هو في الوقت ولا قضاء عليه ، وفي مادّة الاجتماع الآية حاكمة [ ظنّا ](٤) بوجوب الأداء والرواية حاكمة بفوريّة القضاء ظنّا والعقل حاكم بزعم الخصم بعدم إمكان اجتماع هذين الخطابين ، وبأنّه لابدّ من طرح أحدهما فلابدّ إمّا من رفع الأمر بالموسّع وإبقاء وجوب القضاء فورا بحاله ، وإمّا من رفع فوريّة القضاء لعدم إمكان رفع [ أصل ] وجوبه فيكونان حينئذ موسّعين ولا يرتفع شيء من الأمرين ، وحينئذ فللمستدلّ أن يقول : إنّ بقاء وجوب القضاء في الجملة قطعي فرضا أو وقوعا والشكّ إنّما هو في بقاء فوريّته الثابتة بدليل ظنّي المعارضة مع الأمر الموسّع بالأداء الثابت بدليل ظنّي أيضا ، وإذا تعارض فوريّة القضاء مع نفس الأمر الموسّع بالأداء الثابتين بالدليل الظنّي فتساقطا كان وجوب أصل القضاء ثابتا ، ويشكّ في أنّ المرتفع لأجل المعارض فوريّة القضاء أم وجوب الأداء ، فأصالة فساد العبادة يقتضي فساد الأداء للشكّ في الأمر به.

__________________

(١) هكذا في الضوابط.

(٢) والإيراد ما أشار إليه بقوله : فإن قلت : في الصورة الثانية يحكم بفساد الموسّع إذا لم يكن مرجّح لأحد الطرفين إذ بعد التوقّف يرجع إلى الأصل وهو عدم صحّة الصلاة فيتمّ الثمرة.

فأجاب : عنه بقوله : قلنا ذلك مسلّم إن سلّمنا بعد التعارض بقاء الأمر بالضدّ الآخر وشكّ في الفوريّة ولكن نحن نقول بعد التوقّف يحتمل ارتفاع الأمرين معا فلا يتمّ مطلوب فتأمّل.

وحاصل الجواب : أنّ قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) إلى آخر ما قال. ( منه عفي عنه ).

(٣) الإسراء : ٧٨.

(٤) هكذا في الضوابط.

٦٧٤

وأمّا الأمر بالقضاء في الجملة فهو ثابت لاستصحاب الحال وقاعدة الاشتغال ، فثبت في الأمرين الظنّيين وجود الثمرة في مثل تلك الصورة وإن كان بضميمة أصالة الفساد.

نعم لو كان بعد التعارض أصل وجوب القضاء مشكوكا كأصل وجوب الأداء فلا يجري الثمرة. انتهى.

وهذا الإيراد وإن خصّ تقريره بالقول بأنّ الأمر يقتضي عدم الأمر بالضدّ ، غير أنّه جار في القول باقتضائه للنهي أيضا ، بل هو مصرّح به في ذيل كلام المورد حيث قال : « ثمّ إنّ الإيراد المذكور يرد أيضا على جعلهم ثمرة القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ الخاصّ هي فساد الضدّ إن قلنا : إنّ النهي يقتضي الفساد ، انتهى.

وجوابه يظهر بالتأمّل في جواب الإيراد السابق (١) ومحصّله : أنّ إجراء قواعد باب

__________________

(١) وحاصل كلامنا في هذا الجواب : أنّ القطع والظنّ مرآتان للواقع ، ومحلّ الثمرة ما لو اجتمع الأمر المضيّق مع الأمر الموسّع في الواقع مع قطع النظر عن مرآتي القطع والظنّ ، فمدّعيها يقول بكون الأوّل لدلالته على النهي عن الضدّ مقيّدا للثاني بغير مورد الاجتماع ، فلا يفرق حينئذ بين كونهما بحسب الدليل قطعيّين كما لو قام إجماع على وجوب الإزالة فورا ووجوب الصلاة من الدلوك إلى غسق الليل ، فإنّ الأوّل بزعم مدّعي الثمرة كاشف عن كون المجمع عليه مقيّدا بغير صورة المزاحمة.

أو ظنّيين كما لو ورد رواية ظنّي السند على وجوب الإزالة واخرى كذلك على وجوب الصلاة كما ذكر فإنّه يزعم كون الاولى كاشفة عن كون الثانية مقيّدة بغير صورة المزاحمة.

أو الأوّل قطعيّا والثاني ظنّيّا كما لو قام إجماع على وجوب الإزالة فورا ورواية على وجوب الصلاة كما ذكر ، فإنّ الإجماع كاشف عن كون الرواية مقيّدة بغير صورة المزاحمة.

أو الأوّل ظنّيّا والثاني قطعيّا كعكس المذكورة ، فإنّ الرواية حينئذ تكشف عن كون المجمع عليه مقيّدا بغير صورة المزاحمة ، وليس لأحد أن يقول : إنّ الدليل الظنّي لا مجال له في محلّ وجود الدليل العملي ، لجواز أن يكون مذهب مدّعي الثمرة في الظنّ كونه في درجة العلم في الحجّيّة من غير فرق بينهما ، كما يستفاد ذلك عن بعض الأعلام.

وإن شئت بيانا أوضح من ذلك فافرض الكلام فيما لو قال السيّد لعبده : « اسقني ماء » ثمّ قال : « اشتر اللحم » أو عكس الأمر ، نظرا إلى فوريّة الأوّل وتوسعة الثاني بحسب العرف والعادة ، فإنّ الأوّل يكشف عن كون الثاني مقيّدا بغير صورة المزاحمة ، بمعنى عدم شمول الأمر بشراء اللحم للجزء من الزمان الّذي يقع فيه السقي ، ومثله ما لو صدر الأمر بالشراء من السيّد وبلغ أمره بالسقي بواسطة من لا يفيد قوله إلاّ الظنّ ممّن جعل السيّد قوله حجّة عليه ، فإنّ مدّعي الثمرة يجعله كاشفا ظنّيّا عن المراد بالأوّل ، غاية الأمر كون الفساد الّذي يقول به ظنّيّا لا قطعيّا.

ومثل ما ذكر ما لو سمع المشافه من المعصوم يقول : « يجب إزالة النجاسة من المسجد » و « يجب الصلاة من الزوال إلى المغرب » فإنّ الأمر بالإزالة المضيّق لكونه نهيا عن الصلاة يكشف عن عدم شمول الأمر بها للزمان الّذي يقع فيها الإزالة ، بمعنى أنّ المعصوم إنّما أراد من هذا الأمر غير ذلك الزمان لئلاّ ينافي الحكمة ولا يلزم اللغو ( منه عفي عنه ).

٦٧٥

التعارض في أمثال المقام ليس في محلّه ، فإنّ معقد البحث اتّفاق الأمر المضيّق مع الأمر الموسّع بحسب الواقع كائنا ما كان من غير نظر إلى قطعيّة دليله أو ظنيّته فيهما أو في أحدهما ، والثمرة المذكورة إنّما تترتّب على القول باقتضاء عدم الأمر أو اقتضاء النهي بزعم كون الثاني بحكم العقل مقيّدا بغير صورة الاجتماع وكون الأوّل حاكما عليه ، فلا تعارض بينهما بحسب الواقع حتّى يرجع إلى قواعد التعارض ، ولذا لا يقع التعارض بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من سائر أنواع النصّ والظاهر ، وما يرى بينهما من التنافي في ظاهر اللفظ فإنّما هو تناف بدويّ لا اعتداد به في مجرى تلك القواعد.

ولا فرق فيما ذكر بين العامّ والخاصّ والعامّين من وجه والمتبائنين إلاّ أنّه في الأوّل على طريق السلب الكلّي وفي الأخيرين على طريق السلب الجزئي ، فإنّ العامّين من وجه قد يرتفع التعارض عمّا بينهما بحسب الواقع بشاهد عقلي أو عرفي رافع للافتقار إلى النظر في الترجيح أو التعادل الموجب للتخيير أو التساقط أو التوقّف ، ولذلك ترى أنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على أدلّة سائر الأبواب من العبادات وأدلّة نفي الضرر حاكمة على أدلّة سائر الأبواب في المعاملات ، وأنّ الأدلّة المحظّرة حاكمة على الأدلّة المبيحة مطلقا ، وإن كان بينهما في كلّ من الصور عموم من وجه.

ومن القسم الأخير حكومة أدلّة تحريم الغناء على أدلّة إباحة قراءة القرآن واستحبابها مؤكّدا مع أنّ بينهما عموما من وجه.

والمتبائنين قد يختصّ في حكم العقل أو فهم العرف أحدهما ببعض الأفراد والآخر بالبعض الباقي.

ومن هذا الباب عدم المعارضة بحسب الواقع بين قوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » وبين قوله : « ثمن بول الحيوان سحت » وقوله : « لا بأس بثمن بول الحيوان » ومثله ما لو قال : « ثمن الخمر من السحت » و « لا ضير في ثمن الخمر » فإنّ الذهن بملاحظة الخطابين ينتقل في فهم العرف إلى اختصاص الأوّل بالعدول وغير مأكول اللحم واتّخاذ الخمر للشرب ونحوه من الانتفاعات الاخر ، واختصاص الثاني بالفسّاق ومأكول اللحم واتّخاذ الخمر للتخليل.

وبذلك يبطل ما أفاده بالنسبة إلى الآية والرواية اللتين بينهما عموم من وجه ، فإنّ الرواية على فرض إفادتها الفوريّة إذا كانت حاكمة في حكم العقل على الآية ـ كما هو المفروض ـ

٦٧٦

فكيف يرجع إلى قواعد الترجيح والتعادل ليكون ردّا على من فرّع الفساد على أحد القولين المذكورين.

والأولى في ردّه منع إحدى الملازمات المذكورة سابقا لابتنائه على ثبوتها كما عرفت ، مع إشكال فيه أيضا ممّا أشرنا إليه في دفع الإيراد الأوّل من أنّ قضيّة التفريع واردة مورد الشرطيّة الّتي صدقها لا ينافي كذب شرطها ، فالاعتراض عليه بتكذيب الشرط غير متوجّه إليه في دعوى الشرطيّة الصادقة.

نعم لو وردت القضيّة مورد القضايا الحمليّة الّتي يراد منها الحكم التنجيزي مثل ما لو ذكرها الفقيه في مقام الفتوى لاتّجه الإيراد عليه كما صدر عن المحقّق الثاني ـ على ما حكي عنه ـ حيث أورد على العلاّمة في دعوى فساد العبادة مع مطالبة الدائن : « بأنّ ذلك إنّما يتمّ على القول بكون النهي عن العبادات موجبا للفساد ، وكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه الخاصّ ، والأوّل وإن كان مسلّما غير أنّ الثاني غير مسلّم ، فلا يمكن الحكم بفساد العبادات لعدم تعلّق النهي بها حين الأمر بأضدادها الحقيقيّة ، وإنّما تعلّق النهي بالضدّ العامّ وهو الترك ولا مدخل له في الأضداد الخاصّة حتّى يقال بفساد العبادة » إلى آخره.

فلا وقع لما أورد عليه أيضا : من أنّ النسبة بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه ، لأنّ المأمور به هو « الإزالة » مثلا سواء اتّفق الأمر بها في وقت العبادة أو غيره والمنهيّ عنه هو المخالف لها سواء كان عبادة أو غيرها ، فالصلاة مكان الإزالة مصداق له وغاية ما يلزم على تقدير الأمر بها والنهي عنها للأمر بالإزالة اجتماع الأمر والنهي وهو جايز فلا فساد فلا وجه للثمرة المذكورة ، فإنّها مذكورة على فرض جواز الاجتماع ، مضافا إلى فساده في أصله لمنع كون متعلّق النهي ما يخالف المأمور به بمفهومه الكلّي ، بل ولو سلّم كونه ملحوظا حين الأمر فإنّما لوحظ عنوانا وإلاّ فالمنهيّ عنه هو الخصوصيّات المندرجة تحته ، فيكون الصلاة نفس ما تعلّق به النهي لا مصداقه ، فلا يكون المقام من أفراد موضوع اجتماع الأمر والنهي الّذي يزعمه المورد جائزا حسبما يظهر من تقرير إيراده.

ومنها : ما حكاه بعض الأفاضل من أنّا إذا قلنا بدلالة الأمر على النهي عن ضدّه لا يلزمنا القول بفساد الضدّ ، إذ المطلوب هو ترك الضدّ الموصل إلى الواجب دون غيره ، والإتيان بالضدّ إنّما يكون مع حصول الصارف عن المأمور به فلا يكون تركه موصلا حتّى يحرم فعله ويتفرّع عليه فساده.

٦٧٧

فأجاب عنه : بما أبطلنا به مأخذ هذا الكلام من كون العبرة في وجوب المقدّمة بالمقدّمة الموصلة ، من حيث إنّ المطلوب في المقام ترك الضدّ من حيث كونه موصلا إلى الواجب لا خصوص ترك الضدّ الموصل ، وفرق ظاهر بين الوجهين وقضيّة الوجه الأوّل هو تحريم فعل الضدّ وإن لم يوصل.

ومنها : ما أورده ذلك الفاضل : من عدم إفادة النهي المذكور فساد الضدّ ، نظرا إلى عدم اقتضاء النهي الغيري المتعلّق بالعبادات الفساد مطلقا بل فيه تفصيل ، إلى آخره.

ومحصّل ذلك التفصيل ـ حسبما يستفاد عن ذيل كلامه ـ : الفرق بين ما لو كان الصارف عن المأمور به إرادة الضدّ وما لو كان الصارف أمرا آخر غير الإرادة.

فعلى الأوّل يتمّ تفريع الفساد على القول باقتضاء النهي ، تعليلا بلزوم اجتماع الوجوب والحرمة حينئذ في الإرادة المتعلّقة بالضدّ ، فإنّها محرّمة من جهة صرفه عن المأمور به الأهمّ وواجبة من جهة توقّف الواجب عليها وهو الضدّ الغير الأهمّ ، ولا يمكن القول بكونها مقدّمة للوجوب لأدائه إلى توقّف وجوب الشيء على وجوده ، فإنّ الإرادة المذكورة من حيث إنّ المراد بها الإجماع على الفعل إمّا سبب قاض بحصول الفعل أو جزء أخير من علّته التامّة ، وكائنا ما كان فاشتراط الوجوب بها يستلزم المحذور.

وعلى الثاني يبطل التفريع ويتّجه القول بالصحّة ، تعليلا بأنّ النهي إنّما يدلّ على الفساد بالالتزام لا من جهة وضعه له حيث إنّه لم يوضع إلاّ للتحريم أو طلب الترك مطلقا ، ودلالته عليه التزاما إمّا من جهة إفادته المرجوحيّة المنافية للرجحان المعتبر في حقيقة العبادة ، أو من جهة امتناع طلب الفعل مع فرض طلب الترك لكونه من التكليف بالمحال ولا يجري في المقام شيء من الوجهين.

أمّا الأوّل : فلأنّ الرجحان المعتبر في حقيقة العبادة هو رجحان الفعل على الترك لا رجحانه على سائر الأفعال ، ورجحان الفعل على الوجه المذكور حاصل في المقام لكونه عبادة راجحة بملاحظة ذاته ، وما تعلّق به من النهي غيريّ لمطلوبيّة تركه لأجل الاشتغال بما هو أهمّ منه ، فيدلّ على مرجوحيّة الفعل بالنسبة إلى فعل آخر لا مرجوحيّته بالنظر إلى تركه.

ومن البيّن أنّه لا منافاة بين رجحان الفعل على تركه ومرجوحيّته بالنسبة إلى فعل آخر غيره.

وأمّا الثاني : فلأنّ النهي المفروض لكونه غيريّا لا مانع من اجتماعه مع الوجوب ، لأنّ حرمة الشيء لتوقّف الواجب الأهمّ على تركه لا ينافي وجوبه ـ على فرض ترك ذلك

٦٧٨

الأهمّ ـ بكون تركه شرطا في وجوبه ، فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد من غير تمانع بينهما ، فلا مجال حينئذ لتوهّم دلالة النهي المفروض على الفساد.

وبذلك ظهر أنّه لا مانع من تعلّق التكليف بالمتضادّين على الوجه المذكور وليس من قبيل التكليف بالمحال ، لأنّه إنّما يكون كذلك إذا كانا في مرتبة واحدة بأن يكون المطلوب إيقاعهما معا ، وأمّا إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب بأن يكون المطلوب أوّلا إيقاع الأهمّ ويكون الثاني مطلوبا على فرض عصيانه للأوّل بعدم إيقاعه فلا ، لكون تكليفه بالثاني منوطا بعصيانه للأوّل ولا يعقل هناك مانع من إناطة التكليف بالعصيان فلا منافاة بين التكليفين لاختلافهما في الترتيب وعدم اجتماعهما في مرتبة واحدة ، لوضوح عدم تحقّق الثاني في مرتبة الأوّل ، وتحقّق الأوّل في مرتبة الثاني لا مانع منه بعد كون حصوله مبنيّا على عصيان الأوّل ، ولا بين الفعلين إذ وقوع كلّ منهما على فرض إخلاء الزمان عن الآخر.

ومن البيّن أنّه على فرض خلوّ الزمان عن الآخر لا مانع من وقوع ضدّه فيه. هذا محصّل كلامه نقلناه بالمعنى.

وأنت خبير بوضوح وهنه ووروده على خلاف التحقيق ، إذ فرق واضح بين مرجوحيّة الشيء بالإضافة إلى الغير ومرجوحيّته للغير ، فإنّ الأوّل ليس وصفا خارجا عن صفة الشيء طارئا عليه بالعرض بل هو أمر ينتزع عن ضعف صفته الكامنة فيه بالقياس إلى صفة غيره وكونها فيه أقلّ منها في غيره ، وهو لا يقتضي نهيا لعدم كونه مرجوحيّة في الفعل بالقياس إلى تركه وإلاّ لكان جميع العبادات الّتي أقلّ رجحانا بالقياس إلى غيرها محرّمة وهو بديهي البطلان ، بخلاف الثاني فإنّه وصف خارج عن صفة الشيء طار عليه بالعرض موجب لرجحان الترك على الفعل ولو للغير ، كما أنّ رجحان الفعل على الترك للغير يوجب مرجوحيّة الترك بالنسبة إلى الفعل للغير كما في مقدّمات الواجب ، فيكون ممّا يقتضي النهي عن الفعل.

ولا ريب أنّ المرجوحيّة المفروضة في المقام من هذا القبيل وإلاّ لما كان منهيّا عنه وهو خلاف الفرض ، كما لا ريب في أنّ النهي الغيري كالنهي النفسي ممّا يقتضي الامتثال بالترك ، فالأمر المفروض معه المقتضي للصحّة إمّا أمر مطلق فعلي أو أمر مشروط تعليقي ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه أمر نفسي اجتمع مع النهي الغيري وكلّ منهما يقتضي الامتثال مطلقا في زمان واحد وهو ممتنع جزما ، فيقبح في حكم العقل على الحكيم العدل أن يحمل

٦٧٩

المكلّف عليه ، فلابدّ من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر ، فلو فرض الثاني ثابتا كان عدولا عن القول باقتضاء الأمر للنهي ، ولو فرض الأوّل ثابتا كانت الثمرة حاصلة.

ولو قيل : بأنّه امتناع بالاختيار ، قلنا : بأنّه كالامتناع بغير الاختيار ينافي الاختيار عقلا في كلّ من الخطاب والعقاب ، والقول بعدم منافاته للاختيار فيهما أو في أحدهما خلاف التحقيق. كما قدّمنا تحقيقه في بحث المقدّمة ، بل كون ذلك الأمر مطلقا ممّا لا يرضى به الفاضل المعترض أيضا ، كما صرّح به في تعليل انتفاء ثاني الوجهين اللذين ذكرهما في توجيه دلالة النهي على الفساد التزاما.

فإن قلت : إنّما يلزم المحذور على تقدير افتقار الضدّ إلى أمر مخصوص موقوف على تصوّره بالخصوص ، وهو على تقدير كون النزاع في الضدّ الموسّع والمأمور به المضيّق ممنوع ، لأنّ الضدّ المأمور به حينئذ إنّما هو الكلّي والأمر به كاف في الأمر بأفراده بالخصوص. ولا يفتقر كلّ فرد حينئذ إلى أمر بالخصوص.

ولا ريب أنّ الّذي يضادّ المأمور به المضيّق فرد من ذلك الكلّي لا نفس الكلّي وهو لا يفتقر إلى أمر آخر غير الأمر بالكلّي ليلزم المحذور ، نظير ما ذكرته في المضيّقين المتزاحمين إذا كان الأمر بكلّ منهما ضمنيّا.

قلت : إنّما ينفع ذلك إذا كنّا بصدد إحراز المقتضي ، ومقصودنا دعوى المانع عن شمول الأمر بالكلّي لذلك الفرد ، إذ المفروض تعلّق الأمر الصريح به فيجب في حكم العقل على الحكيم العدل أن يريد من خطابه امتثال الأمر بالكلّي في ضمن غير هذا الفرد ليتمكّن عن امتثال النهي المتعلّق به ، وهذا ليس نظير ما ذكرناه في المضيّقين إذ لا نهي هنا ليكون مانعا عن امتثال الأمر بكلّ منهما.

نعم امتثال أمر كلّ وإن كان مانعا عن امتثال أمر الآخر ، غير أنّه لا يوجب إلاّ ثبوت التخيير بينهما حسبما قرّرناه ، وهو غير ممكن في محلّ البحث وإلاّ لزم التخيير بين فعل الواجب وتركه كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلأنّه يقضي بكون الخطاب مستعملا في المشروط والمطلق معا ، إذ المفروض كون الأمر بالقياس إلى غير مورد الاجتماع مطلقا.

سلّمنا أنّ المراد به حينئذ القدر المشترك بينهما والخصوصيّتان تفهمان من الخارج ولا مجاز فيه على ما يراه المعترض من كون الأمر للقدر المشترك بين المطلق والمشروط ،

٦٨٠