تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

الواقع في كلماتهم في السنخي ، واتّحاد طريق المسألة فيندرج فيه الشخصي أيضا ، ويظهر الثمرة في الأمر بأكل الميتة في المخمصة ، والأمر بالتداوي بالخمر في حال الحاجة أو الاضطرار ، والأمر بلبس الحرير في حال الحرب أو للبرد أو الحرّ ، فعلى الثاني يكون من محلّ الخلاف دون الأوّل.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلام غير واحد منهم بناء الخلاف على القول بوضع الصيغة للوجوب ، وكونه واقعا بين أصحاب هذا القول.

وأنت خبير بإمكان جريانه على سائر الأقوال أيضا ، فيحرّر حينئذ : بأنّ الأمر إذا ورد عقيب الحظر فهل يفيد معناه الحقيقي من الندب أو الطلب أو غيره من المعاني المشتركة لفظا أو معنى ، حسبما كان يفيده الأمر الابتدائي في كلّ من المذكورات أو يفيد الإباحة مطلقا؟

نعم على القول بكونها للإباحة لا يجري النزاع ، لأنّها إذا أفادت الإباحة بالوضع ابتداء فتكون مع سبق الحظر الّذي هو مظنّة إرادتها على تقدير الوضع لغيرها من المعاني أولى بالإفادة كما لا يخفى ، فلا يعقل إنكارها من أصحاب هذا القول على التقدير المذكور.

ثمّ إنّ الأصل في المقام هو الوقف ، أو الحمل على الوجوب ، أو الإباحة ، وجوه : من أنّ عدم القرينة شرط أو جزء لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي والشكّ فيهما شكّ في المقتضي ، فلا يجري أصل فيجب التوقّف لأصالة التوقيف في اللغات.

وأنّ وجودها مانع فيندفع عند الشكّ بالأصل ، فيحمل على الوجوب لوجود المقتضي ـ وهو الوضع ـ مع فقد المانع بحكم الأصل.

وأنّ القرينة موجودة وهو سبق الحظر فلا حكم للمقتضي ، سواء جعلنا وجودها مانعا أو عدمها شرطا أو جزءا ، وقضيّة ذلك الحمل على الإباحة لوجود مقتضيها.

ولكن خيرها أوسطها من غير فرق فيه بين شرطيّة أو جزئيّة عدم القرينة ومانعيّة وجودها ، لجريان الأصل على كليهما.

أمّا على الثاني : فواضح.

وأمّا على الأوّل : فلأنّ المقتضي إذا كان ممّا اعتبر فيه قيد عدمي شرطا أو جزءا يجري فيه أصالة العدم لو نشأ شكّه عن قيده العدمي ، وهو في المقام كذلك ، ولا يضرّه وجود ما ذكر من القرينة ، لأنّ القرينة المانعة أو الموجبة لانتفاء المقتضي ما علم فيه أو ظنّ بالتفات طرفي الخطاب إليه ، فهو إذا كان محلاّ للشكّ يجري الأصل كما لو كان وجودها

١٤١

محلاّ له ، ضرورة عدم كفاية مجرّد وجودها في صرف اللفظ عن معناه الحقيقي وإلاّ لانسدّ باب المخاطبات بالمرّة ، أو نسخت القاعدة القاضية بوجوب الحمل على المعنى الحقيقي على سبيل الكلّيّة ، إذ ما من لفظ إلاّ وهو مقرون عند التخاطب بقرينة.

وإذا تمهّدت هذه كلّها فنقول : الّذي يقتضيه ظاهر النظر ، أنّ المتبادر من هذا الأمر بملاحظة سبق الحظر عليه تبادرا أوّليا ـ على ما يشهد به الأوامر العرفيّة المتعلّقة بالأموال وما يتبعها الواردة أكثرها عقيب الحظر ـ إنّما هو رفع الحظر الملازم للإباحة المطلقة المنصرفة إلى الوجوب إن تعلّقت بمصالح الآمر إلاّ ما دلّ خارج على إرادة الندب أو الإباحة أو الكراهة ، وإلى الإباحة الخاصّة إن تعلّقت بمصالح المأمور إلاّ ما دلّ خارج على إرادة غيرها.

وأمّا الندب والكراهة فلا تنصرف إليهما إلاّ بمعونة القرائن الجزئيّة الّتي لا يكون ضبطها من شأن الاصولي ، ولمّا كانت أوامر الشرع إنّما تتعلّق بمصالح العباد جميعا فينبغي تبديل صورة التفصيل بالمنافع العائدة إلى المكلّف في الآجل أو العاجل.

ولا ينافي ما ادّعيناه من أوّليّة التبادر كون المجاز من لوازمه تبادر المعنى الحقيقي أوّلا ثمّ انصراف اللفظ فيه بملاحظة القرينة إلى خلافه ، كما هو التحقيق من أنّ قرينة المجاز لا تصادم الدلالة على المعنى الحقيقي ، فقضيّة ذلك كون المتبادر أوّلا هو الوجوب لأنّه المعنى الحقيقي.

لأنّ ذلك إنّما يستقيم فيما لم يسبق الالتفات إلى القرينة على التفات اللفظ ، والمفروض في المقام خلاف ذلك ، كما في المجاز المشهور الّذي يلزمه سبق الذهن ابتداء إلى المعنى المجازي.

كما لا ضير فيما التزمنا به من قضيّة انصراف الإباحة المطلقة إلى الوجوب بملاحظة تعلّق الصيغة بمصالح الآمر ، نظرا إلى أنّه لكونه المعنى الحقيقي أولى بالتبادر من تبادر خلافه المنصرف إليه ، لأنّ سبق الحظر من القرائن اللازمة لمجازيّ هو أعمّ من الحقيقي وهو الرخصة في الفعل ، فيقضي بانفهامه بمجرّد الالتفات إليه قضيّة للّزوم ، ومن لوازم المعنى العامّ ـ ولو مجازيّا ـ إنصرافه إلى بعض خصوصيّاته إن قام هناك ما يقضي بإرادته في ضمنه ، ولا يفرق حينئذ بين كون تلك الخصوصيّة هو المعنى الحقيقي أو غيره ، كما هو من لوازم استعمال اللفظ في عموم المجاز في بعض تقاديره.

ومن هذا الباب انصرافها إلى بعض خصوصيّاتها بملاحظة سبقه على الحظر إن كانت

١٤٢

الواقعة ممّا ثبت لها حكم قبل الحظر من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة على سبيل الإطلاق أو العموم بالنسبة إلى الأفراد والأحوال ، لا بنحو يكون مخصوصا بفرد خاصّ أو حالة مخصوصة ، إلاّ أن يكون المأمور به بعد الحظر هو هذا الفرد على تقدير وجوبه قبله ، من غير فرق في ذلك بين كون الصيغة قد تعلّقت بمصالح الآمر أو المأمور.

غاية الأمر قيام قرينتين متعاضدتين على التقدير المذكور ، وقرينتين متعارضتين على سائر التقادير ، نظرا إلى أنّ القرائن الظنّيّة قد تتعارض بعضها لبعض فتترجّح إحداهما على الاخرى على حسبما يساعده الطريقة الجارية عند العرف ، والظاهر أنّ سبق الحكم كائنا ما كان راجح في نظر العرف على ما يقتضي انفهام الوجوب خاصّة في تقدير أو الإباحة الخاصّة في آخر كما لا يخفى.

فبملاحظة ما قرّرناه يتبيّن عدم ابتناء استفادة الحكم المذكور على ما قيل من عدم جواز الانتقال من الحرمة إلى الوجوب لكونهما متضادّين ، حتّى يرد عليه تارة النقض بالإباحة أيضا ، بدعوى : أنّ الأحكام بأسرها متضادّة.

واخرى : بنفي الاستبعاد عن ذلك تنظيرا له بجواز التصريح بايجاب شيء بعد تحريمه ، التفاتا إلى أنّه لم يتوّهم أحد مانعا عن ذلك ، مع أنّه لو سلّم بناؤها على ذلك لأمكن التقصّي عن الإيراد بأنّ نظر المستدلّ إلى شدّة التضادّ بين الوجوب والحرمة لتبائنهما جنسا وفصلا ، وليس التضادّ بينه وبين سائر الأحكام بهذه المثابة ـ كما لا يخفى ـ فلا وجه للنقض ، كما أنّه لا وجه للقياس على التصريح بالإيجاب بعد التحريم ، لأنّ مبنى الاستدلال حينئذ على بعد انتقال الذهن من التحريم إلى الوجوب بعد ملاحظة ما بينهما من شدّة التضادّ بمجرّد الصيغة الّتي دلالتها على الوجوب من باب الظهور الّذي يضعف في مقابلة احتمال آخر أقرب منه ، بخلاف التصريح الّذي لا يزاحمه إحتمال آخر فيوجب انتقال الذهن من دون تحيّر.

وبما ذكر يتبيّن أيضا فساد الاحتجاج على إفادة الوجوب مطلقا بوجود المقتضي ـ وهو الصيغة الموضوعة له ـ مع فقد المانع ، فإنّ فقد المانع إن اريد به فقد ذاته ، ففيه : منع واضح إن سلم عن نوع مصادرة.

وإن اريد به انتفاء وصف المانعيّة عنه مع تسليم وجوده ، بدعوى : أنّ مجرّد وقوعها عقيب الحظر لا يصلح صارفا لها عن ذلك ، كما في بعض العبائر.

ففيه : أنّ ذلك مبنيّ على الظهور ، وهو أمر عرفي غير موكول إلى الاستبعادات الذوقيّة ،

١٤٣

ولقد عرفت شهادة العرف بخلافه ، كما يساعده ملاحظة الاستعمالات العرفيّة.

ولعلّه شبهة نشأت عن ملاحظة الانصراف الثانوي في كثير من موارد استعمالها ـ على ما عرفت بيانه ـ غفلة عن عدم منافاته تبادر ما ذكر من الإباحة بالمعنى الأعمّ أوّلا بملاحظة سبق الحظر ، كفساد الاحتجاج على إفادته أيضا بأمر الحائض والنفساء بالصلاة والصيام بعد النهي عنهما ، نظرا إلى أنّه لم يحمله أحد على غير الوجوب ، مضافا إلى قوله تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(١) وكذا قول المولى لعبده : « اخرج من المحبس إلى المكتب » بعد نهيه عن الخروج ، حيث لا يستفاد منه عرفا إلاّ الوجوب ، لعدم منافاة شيء من ذلك لما ذكر ، من حيث استناده إلى قرينة ما ذكر من سبق الوجوب على الحظر ، مضافا إلى تعلّقه بالمنافع الآجلة أو إلى قرينة منفصلة من اجماع ونحوه ، مع أنّ الجميع منقوض بقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(٢) وقوله : ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ )(٣) وقوله : ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ )(٤).

وأمّا ما يقال في الجواب عن الأخير من خروجه عن محلّ الكلام ، تعليلا بعدم تعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي ، ففيه : ما تقدّم في تحرير المسألة.

وإلى ذلك ينظر ما قيل في ردّه : بأنّه إذا تعلّق النهي بالخروج عن المحبس شمل ذلك لجميع أفراد الخروج ومن جملتها الخروج إلى المكتب ، وإذا كان ذلك ممّا تعلّق الأمر به يندرج في موضع النزاع.

واعترض عليه : بأنّه إنّما تعلّق النهي به من حيث كونه خروجا لا من حيث كونه ذهابا إلى المكتب وهما متغايران بالذات ، وإن كان أحدهما ملازما للآخر ، والمأمور به إنّما هو الثاني دون الأوّل.

نعم لو عمّم النزاع بحيث يشمل الأمر المتعلّق بأحد المتلازمين بعد تعلّق النهي بالآخر لتمّ ما ذكر ، إلاّ أنّه غير ظاهر الاندراج في موضع النزاع ، وفهم العرف غير مساعد هنا حسبما ادّعوه ثمّة.

ويدفعه : أنّه إن اريد به منع كونه من مصاديق الخروج الّذي تعلّق به النهي ، ففيه : منع واضح.

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) المائدة : ٢.

(٣) البقرة : ٢٢٢.

(٤) الجمعة : ١٠.

١٤٤

وإن أريد به أنّه مع ذلك من مصاديق الذهاب ، فهو المانع من جريان النزاع فيه.

ففيه : جواز وقوع شيء واحد شخصي مصداقا لمفهومين تعلّق به الأمر والنهي باعتبارين ، فيصدق عليه أنّه ما أمر به بعد ما حظر عنه بعينه ، فيندرج في ظاهر العنوان كما لا يخفى.

واستدلّ على إفادته الوجوب أيضا : بأنّ الأمر بعد الحظر اللفظي ليس بأكثر من الأمر بعد الحظر العقلي.

ألا ترى أنّ الصلاة ورمي الجمار وغير ذلك من الشرعيّات قبيح بالعقل فعلها ومع ذلك لمّا ورد الأمر بها يحمل على الوجوب أو الندب على الخلاف.

وقد يقرّر ذلك : بأنّه لا كلام عند القائل بكونها للوجوب أنّ ورودها بعد الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب ، ولذا يحمل أوامر العبادات على الوجوب إلى أن يتبيّن المخرج عنه ، مع أنّها قبل الأمر كانت محرّمة من جهة البدعة فيكون الحال كذلك في الحظر الشرعي.

واجيب عن الأوّل : بخروج ما ذكر من المحظور العقلي عن المتنازع فيه ، فإنّ الّذي تعلّق به النزاع ما إذا تعلّق الأمر بشيء بعد ما تعلّق به النهي ، فيدّعي القائل بالإباحة حينئذ إفادته الرخصة في فعله ، وليس الأمر في قضيّة الحظر العقلي كذلك لأنّ المحظور عند العقل هو ما لا يدرك العقل فيه حسنا ولا منفعة واحتمل فيه مضرّة وقبحا ، وهذا ليس ممّا تعلّق به أمر الشارع ليكون من موضوع المسألة ، فما أمر به الشارع لا يكون من موضوع حكم العقل ، وما حظره العقل لم يأمر به الشارع حتّى أنّ المحظور عقلا محرّم شرعي بعد ، فاختلف الموضوعات ، بخلاف ما يتّفق في الحظر اللفظي والأمر اللفظي ، فإنّ الموضوع فيهما واحد ولم يتحقّق فيه اختلاف إلاّ بالترتّب في الحكم بتقدّم النهي وتأخّر الأمر ، وذلك صار عرفا صارفا عن فهم الوجوب من الأمر ، فعلى هذا يقال في الجواب : إنّ هذا قياس ومع الفارق.

وعن الثاني : بالفرق الظاهر بين الحظر العقلي من جهة البدعيّة وغيرها والحظر المصرّح به في كلام الشارع ، فإنّ المنع هناك إنّما يجيء بعدم أمر الشارع به وإذنه في الإتيان به فلا يزاحمه الأمر بالفعل بعد ذلك بوجه من الوجوه ، بخلاف محلّ الكلام لوضوح غاية المبائنة بين الحكم بتحريم الإتيان بالشيء والحكم بوجوبه ، فلا يلتزم به إلاّ مع قيام دليل واضح عليه.

١٤٥

وأمّا مجرّد الأمر به فلا يكفي في الدلالة عليه ، لكثرة إطلاق الأمر في غير مقام الإيجاب فيكون الاستبعاد المذكور قرينة على حمله على الوجوب.

ويشكل الأوّل : بعدم وروده على الاستدلال المذكور ، فإنّ ما ذكره المستدلّ مثالا لما تعلّق به الحظر العقلي من الصلاة ورمي الجمار مندرج فيما سلّم المجيب فيه الحظر العقلي من العنوان الكلّي ، ضرورة كونهما لو لا كشف الشرع عن حسنهما ممّا لا يدرك فيه العقل حسنا ولا منفعة ، مع احتماله فيهما القبح والمضرّة ، فمع ذلك كيف يجاب عن استدلاله بإبداء تعدّد الموضوعين ، وعدم ورود أمر الشارع بما تعلّق به الحظر العقلي ، وتعلّق ذلك الحظر بما لم يأمر به الشارع بعد.

وكيف يدّعي كون محظوره محظورا شرعيّا ، إلاّ أن يراد بذلك إبداء الفرق بين الموضوعين بحسب الإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص ، نظرا إلى أنّ موضوع حكم العقل عنوان كلّي غير ملحوظ فيه الخصوصيّات بخلاف موضوع أمر الشارع لكونه أخصّ من ذلك العنوان.

ففيه : ما تقدّم من أنّ اعتبار الاتّحاد في محلّ النزاع من جميع الجهات حتّى الإطلاق والتقييد ليس على ما ينبغي ، بل لا أصل له ولا أثر.

فالأولى في الجواب عن ذلك : إرجاع الفرق بين المقامين إلى العرف ، فإنّ ميزان المسألة إذا كان هو العرف فلابدّ من المراجعة إليه في كلّ مورد يبتلى به ، فتحقّق بعد المراجعة إليه أنّه لا يفهم الإباحة إلاّ من الأوامر الواقعة بعد الحظر الشرعي ، ولعلّه من جهة أنّ الحظر العقلي في موارده ربّما لا يطابق الواقع لابتنائه على الظاهر ، فإذا جاء الأمر يكشف عن أنّه لم يكن هناك حظر من الشارع ، فلا يكون من الأمر الواقع بعد الحظر ، ليكون مقرونا بما يصرفه عن فهم الوجوب أو الندب على الخلاف ، بخلاف الحظر الشرعي فإنّه ثابت محقّق في مورده في الظاهر والواقع ، فإذا جاء الأمر يكون واقعا بعد الحظر حقيقة.

وقد تقرّر أنّ ذلك ممّا يعدّ في نظر العرف من القرائن الصارفة له عن معناه الحقيقي.

وكأنّ الجواب عن التقرير الثاني راجع إلى ذلك ، فإن كان فهو ، وإلاّ فيجاب عن هذا التقرير أيضا بمثل ذلك.

وربّما يستدلّ على المختار بالاستقراء ، وغلبة استعماله فيها في محاورات الشارع فيلحق به مواضع الشكّ ، وليسا بثابتين سواء اريد بالأوّل ما هو في خطابات الشرع أو العرف.

١٤٦

وقد يحكى الاستدلال عليه أيضا : بأنّ ضدّية الإباحة للحرمة توجب تبادرها من الأمر المسبوق بالحظر.

واجيب : بأنّه ليس بشيء ، تعليلا بأنّ الأحكام الخمسة كلّها متشاركة في الضدّيّة.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان مراد المستدلّ بالإباحة الّتي ذكرها في الاستدلال الإباحة الخاصّة ، وليس بشيء ، لرجوع حاصل استدلاله إلى أنّ أحكام الشرع خمسة ، منها الحرمة الّتي أفادها الحظر ، فإذا وقع عقيبها الأمر فلابدّ وأن يفيد ما يضادّها ، ضرورة امتناع إفادته لها وامتناع كونه لغوا ، ولا مضادّ لها إلاّ الإباحة بمعنى الرخصة في الفعل ، لكونها ناقضة لما يلزمها من المنع عنه من دون تعيين لها في ضمن الوجوب أو الندب أو الكراهة أو الإباحة بالمعنى الأخصّ حتّى يرد عليه ما تقدّم.

ثمّ إنّ الأقوال الباقية لم ينقل لجملة منها سندا كما لم يعرف قائل كثير منها ، فينبغي الإشارة إلى احتجاجات ما نقل منها له سند ، فعن الأوّل والثالث الاحتجاج بأنّ زوال الحكم السابق إنّما كان من جهة دلالة الحظر عليه ، فبعد ارتفاعه يعود الأوّل لزوال المانع من ثبوته ، أخذا بمقتضى الدليل القاضي بثبوته.

واجيب عنه : بأنّ زوال الحكم السابق يمكن استناده إلى رفع شرط أو وجود مانع أو غيرهما ، فلا يستلزم رفع الحظر رجوعه ، وكأنّ مراده أنّ زوال الحكم السابق ربّما يكون لأجل انتفاء شرط ثبوته أو وجود مانع عنه غير النهي أو غير ذلك.

غاية الأمر أنّ الحرمة المستفادة من هذا النهي قد قارنت هذه العلّة الباعثة على زواله ، فإذا ارتفع ذلك النهي الموجب لارتفاع الحرمة لا يلزم رجوع الحكم السابق ، لجواز بقاء العلّة الباعثة على زواله.

وعن الثاني : الاحتجاج بلزوم الحمل على أقرب المجازات.

واجيب عنه : بأنّه يتمّ إذا لم يتعيّن المجاز وهنا قد تعيّن بالعرف.

والأولى أن يجاب : بمنع الأقربيّة إن اريد به العرفيّة ، لكون القرب العرفي في جانب خلافه وهو الإباحة المطلقة ، ومنع اعتبارها إن اريد بها الاعتباريّة لما قرّرناه مرارا.

وعن السادس الاحتجاج بغلبة الاستعمال في الإباحة شرعا.

واجيب : بأنّه ظاهر الفساد حيث لا فرق هنا بين الشرع والعرف ، وكأنّ المراد به أنّه كما غلب استعماله فيها شرعا فكذلك عرفا فلا مرجّح في البين.

١٤٧

وعن الثامن : بالتعادل بين ما يقتضي حمله على الوجوب وما يفيد حمله على غيره.

ومن المقرّر أنّ قرينة المجاز قد تقاوم الظنّ الحاصل من الوضع فيتردّد الذهن بين المعنى الحقيقي والمجازي ، فلا يصحّ الرجوع إلى أصالة تقديم الحقيقة على المجاز ، لأنّ مبنى الأصل المذكور على الظنّ دون التعبّد الصرف.

وبالتأمّل فيما قرّرناه في الاستدلال على المختار يظهر الجواب عن ذلك.

كما يظهر به الجواب عن احتجاج القول الأخير بمساعدة العرف والاستعمال عليه ، كما يظهر بالرجوع إلى ما يتّفق من موارده في العرف ، مضافا إلى أنّ ذلك هو الغالب في الأوامر الشرعيّة الواردة عقيب الحظر ، كما يشهد به الفحص والاختبار فيتعيّن حمل مواضع الشكّ من الموارد النادرة ـ على تقدير ثبوتها ـ عليه.

والظاهر أنّ حجج الأقوال الّتي لم يذكر لها حجّة ترجع إلى الظهورات العرفيّة كما نبّه عليه بعض الأفاضل.

« خاتمة »

صرّح في الهداية ـ كما هو ظاهر بعض الأعاظم ـ بجريان هذا الخلاف في ورود النهي عن الشيء عقيب وجوبه ـ بالتقريب المتقدّم ـ من أنّه هل يراد به ما يراد بالنهي الابتدائي ، أو يكون ذلك قرينة على إرادة رفع الوجوب ، أو يتوقّف بين الأمرين؟

كما أنّ الظاهر من الثاني اختيار الثاني (١) حسبما اختاره في الأوّل ، مع احتمال كونه مختارا للأوّل أيضا ، إلاّ أنّ الثاني أسند إلى القوم هنا قولا آخر وهو الحرمة استنادا إلى ما سيأتي ، كما أنّ الأوّل نقله بقوله : « ويحكى عن البعض الفرق بين الأمر الوارد عقيب الحظر والنهي الوارد عقيب الإيجاب ، فقال : بأنّ الثاني يفيد التحريم بخلاف الأوّل فإنّه لا يستفاد منه الوجوب ، واستند في الفرق بين الأمرين إلى وجهين واهيين :

أحدهما : أنّ النهي إنّما يقتضي الترك وهو موافق للأصل ، بخلاف الأمر لقضائه بالإتيان

__________________

(١) والمراد بأوّل الثانيين بعض الأعاظم ، وبثانيهما ثاني الاحتمالات ، وهو احتمال كون المراد بالنهي مجرّد رفع الوجوب اعتمادا على القرينة المذكورة.

والمراد بأوّل الأوّلين البحث المتقدّم في الأمر المتعقّب للحظر ، حيث اختار فيه القول بإرادة رفع الحظر في الأمر المتعقّب له ، وبثانيهما صاحب الهداية لأنّه لم يصرّح بأنّ له مختارا في ذلك ( منه عفي عنه ).

١٤٨

بالفعل وهو خلاف الأصل ، فحمل الأوّل على التحريم لايجابه ما يوافق الأصل لا يقضي بحمل الثاني على الوجوب مع إيجابه ما يخالفه.

والآخر : أنّ النواهي إنّما تتعلّق بالمكلّف لدفع المفاسد بخلاف الأوامر فإنّها لجلب المنافع ، واعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من جلب المنافع ، فممّا يكتفى به في صرف غير الأهمّ لا يلزم أن يكتفى به في صرف الأهمّ. انتهى.

ولا يخفى ما فيهما من كمال وضوح الضعف ، فإنّ الاعتبارات العقليّة والاستحسانات الذوقيّة لا تنوط بهما الدلالات اللفظيّة الدائرة على المفاهيم العرفيّة ، وإنّما الكلام في دلالة اللفظ بما هو لفظ ، فلا مدخليّة فيها لمخالفة الأصل ولا موافقته ، ولا لاستلزام المدلول بها في خطابات الشرع لما هو أهمّ في نظر الشارع أو غيره ، وإنّما المدار فيها على ما يساعده الفهم العرفي ، فلا يبعد أن يدّعي هنا مثل ما تقدّم في الأمر تعويلا على الظهور العرفي المستند إلى القرينة المذكورة ، فيحمل النهي بما هو نهي على مجرّد رفع الوجوب المجامع بما عدا الوجوب من الأحكام الباقية ، إلاّ إذا قام قرينة راجحة على ما ذكر ، قاضية بإرادة بعض الخصوصيّات بعينها.

* * *

١٤٩

ـ تعليقة ـ

ربّما يحكى عن القوم خلاف في كون الأمر بالأمر أمرا وعدمه منحصر في قولين ، ومن متأخّري الأصحاب الّذين عاصرناهم من ذهب إلى الأوّل ، ومن ذهب إلى الثاني كبعض الأعاظم ، وربّما يعزى ذلك إلى الأكثرين كما في الكواكب الضيائيّة (١).

وتنقيح المسألة يستدعي النظر في موضوع القضيّة وما تعلّق به ومحمولها ، من جهة ورود الكلّ بلفظ واحد ، ليتحرّر به ما هو موضع الخلاف ، ويتشخّص ما هو مجرى أدلّة الباب.

فنقول : إنّ موضوع القضيّة ليس المراد به معناه العرفي الّذي قد تقدّم البحث عنه وبيان الخلاف في كثير من قيوده ، للجزم بعدم مدخليّة لصدوره من العالي أو المستعلي أو العالي المستعلي بالخصوص في ذلك الخلاف ، بل المراد به معناه الاصطلاحي الّذي توهّمه جماعة كونه معنى عرفيّا وهو الصيغة ، لانطباق أمثلة الباب عليها وغير ذلك من الشواهد الّتي لا تكاد تخفى على المتأمّل.

نعم المراد بما يتعلّق بالموضوع ما يعمّ مادّة « الأمر » وصيغته ، لوجود الأمثلة في كلامهم من كلتا القبيلتين ، فمن الاولى قوله : « مرّ فلانا بكذا » ومن الثانية : « قل لفلان افعل كذا » إلاّ أنّ المعنى واحد ، لوضوح كون « قل لفلان افعل كذا » في معنى « مر فلانا بفعل كذا » وأمّا المحمول فيحتمل وجهين :

أحدهما : كونه أمرا بالقياس إلى متعلّقه وعدمه ، فتكون القضيّة في قوّة أن يقال : أنّ الصيغة المتعلّقة بالأمر بالشيء هل يراد منها ما يراد من الصيغة المطلقة ـ حسبما يقتضيه وضعها اللغوي من معانيها ـ أو لا؟ بل ينهض ذلك قرينة على إرادة خلافه من مجازاتها

__________________

(١) في الأصل : كما في كب ضه.

١٥٠

كالإرشاد ونحوه ممّا يناسبه المقام ، فيكون النزاع في المسألة نظيره في المسألة السابقة ، ووجه هذا الاحتمال ورود بعض الأمثلة في كلامهم على المعنى الأوّل كقول الأمير لوزيره : « قل لفلان : افعل كذا » وبعضها على المعنى الثاني كقوله : « مر عبدك بأن يتّجر ».

وأنت خبير بأنّ هذا الخلاف مع سخافته في نفسه ينافيه التصريحات ، مضافا إلى الأدلّة والثمرات.

وثانيهما : كونه أمرا بالقياس إلى متعلّق متعلّقه وعدمه ، فيكون معنى القضيّة حينئذ هل الأمر بالصيغة بالأمر بشيء يفيد مفاد الأمر بذلك الشيء أو لا؟ وهذا هو الموافق للذوق والاعتبار ، الصالح لكونه محلاّ للخلاف بين اولي الأفهام والأنظار ، مع انطباق الامور المذكورة بأجمعها عليه.

ولكن ينبغي أن لا يراد بالإفادة ما هو من مقتضي الوضع ، لبداهة أنّ قولنا : « مر » أو « قل » لا يفيد باعتبار الوضع إلاّ الطلب المتعلّق بالحدث المدلول عليه بمادّة الأمر أو القول حتما أو مطلقا على الخلاف ، وإنّما المراد بها ما هو بطريق الدلالة بالالتزام لدخول المطابقة والتضمّن في الوضع المنفيّ هنا.

فيحرّر النزاع حينئذ بأنّه لو أمره بأن يأمر زيدا بقتل عمرو فهل يدلّ ذلك على أنّه قد طلب من زيد قتل عمرو طلبا حتميّا مطلقا ، بحيث يكون زيد مأمورا بذلك الأمر ومكلّفا بما تعلّق به الأمر المأمور به دلالة التزاميّة أو لا دلالة له على ذلك أصلا؟ مع احتمال كون النزاع في وضع هذه الهيئة التركيبيّة الكلاميّة المشتملة على الأمر بالأمر وليس ببعيد ، ولا سيّما بملاحظة تمسّك أصحاب القول بكونه أمرا بالتبادر على الإطلاق ، مع اعتراض الخصم عليه : بأنّه لو اريد به التبادر بلا قرينة فغير مسلّم ومعها فغير نافع.

وبما ظهر من التقرير ينقدح أنّ النزاع جار على جميع الأقوال في وضع الصيغة ، إلاّ أنّ الظاهر ممّن تعرّض لعنوانه والبحث عنه ممّن تقدّم الإشارة إليه اختصاصه بالقول بكونها للوجوب.

وعليه يمكن تعدية النزاع عن معناها الحقيقي وهو الوجوب إلى معناها المجازي من ندب وغيره ، بمعنى أنّه إذا قامت قرينة على عدم إرادة الوجوب منها فهل إرادة المعنى المجازي الخاصّ منها بالقياس إلى متعلّقها يلزمها إرادة ذلك المعنى المجازي منها بالقياس إلى متعلّق متعلّقها أو لا؟

ويرشدك إلى ذلك ما ذكروه من ثمرات المسألة من قوله : « مروهم بالصلاة وهم أبناء

١٥١

سبع » القاضي بكون عمل الصبيّ شرعيّا على القول الأوّل وتمرينيّا على القول الآخر ، للقطع بعدم الوجوب على الأولياء كما صرّح به بعض الأعاظم ، فعليه يشكل الحكم بخروج مثل قوله ، « مر عبدك أن يتّجر » عن محلّ النزاع ، تعليلا بأنّه ليس من باب الأمر بالأمر اتّفاقا كما عن بعض الأجلّة.

فإنّ غايته أنّ المراد بقوله : « مر » إنّما هو الإرشاد ، فيجري الكلام فيه بأنّ هذا الإرشاد هل يراد بالنسبة إلى العبد أيضا في اتّجاره أو لا؟

ولكنّا نفرض الكلام فيها على تقدير كون المراد بها معناها الحقيقي ، فنقول : إنّها إذا تعلّقت بالأمر بشيء فتدلّ على الأمر بذلك الشيء دلالة التزاميّة عرفيّة ، فإنّ الطلب الحتمي للأمر بقتل زيد عمرا يلزمه كون قتل عمرو مطلوبا من زيد على سبيل الحتم لزوما عرفيّا ، كما يساعده الفهم العرفي ، ويشهد به الاستعمالات الجارية في العرف.

وأقوى ما يشهد بذلك أنّ القاصد للترك العالم بالأمر من الخارج لا من تبليغ الواسطة لا يكاد يعتذر بما يكون مسموعا إلاّ بعدم العلم به والعثور عليه ، فلو اعتذر بعدم بلوغ الخبر إليه من الواسطة مع اعترافه بالعلم به من الخارج لم يكن معذورا عند العرف ، فيستحقّ الذمّ والعقاب لو كان عبدا ، أو ممّن يجب عليه اطاعة الآمر وتتوهّن فيه الصداقة والمؤاخاة لو كان من أصدقائه وإخوته ، وإنّما جعلنا الالتزام عرفيّا للقطع بانتفاء اللزوم العقلي بجميع أنواعه بما يجوّزه العقل من كون غرض الآمر بالأمر ابتلاء الثالث وامتحانه ، أو إعلام حاله للواسطة من كونه بالنسبة إلى الآمر في غاية الإطاعة والانقياد ، أو أعلى مرتبة الصداقة والمؤاخاة ، أو كونه في كمال المخالفة والعصيان ، أو نهاية النفاق والعدوان ، أو غير ذلك من مقاصد العقلاء كما يتّفق كثيرا.

وأمّا من يستدلّ من المنكرين بعدم الدلالة بجميع أنواعها ، أمّا غير الالتزام فظاهر ، وأمّا الالتزام فلعدم الملازمة ، فإن أراد بها الملازمة العقليّة فعدمها مسلّم ، إلاّ أنّه لا يوجب ثبوت دعواه ، وإن أراد الملازمة العرفيّة فيردّه ما ذكر.

وأمّا استدلالهم أيضا بالنبويّ المعروف « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع » بتقريب : أنّه لا وجوب على الصبيان اتّفاقا (١).

__________________

(١) وربّما يقرّر الدليل : بأنّه لو كان كذلك لزم تكليف الصبيان والتالي باطل إجماعا ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتّى يبلغ ، وعن النائم حتّى يستيقظ وعن المجنون حتّى يفيق » فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر البالغين أن يأمروا الصبيان بالصلاة بقوله : « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ».

١٥٢

ففيه : أنّ الوجوب عليهم مبنيّ على وجوب الأمر على الأولياء وهو مفروض الانتفاء اتّفاقا ، فهو على التقدير المذكور خارج عن محلّ البحث ، فلذا لو عمّمنا النزاع بالنسبة إلى الأمر الندبي أيضا لكان ذلك من أمثلة الباب ، لثبوت الندب بالنسبة إلى الأولياء في الأمر ، فالاستدلال به حينئذ على النفي يكون مصادرة وهو باطل.

وممّا ذكر ظهر فساد الاستدلال عليه : بأنّه لولاه لعدّ القائل : « مر عبدك بأن يتّجر » متعدّيا ، ولعدّ قول القائل : « مر فلانا بكذا » مع نهيه عن طاعته تناقضا ، ولعدّ قول القائل « وكّل فلانا » توكيلا ، فإنّ الأوّل خارج عن المتنازع فيه بعدم إرادة الوجوب عن الأمر بالأمر ليكون تعديّا بالنسبة إلى العبد ، باستلزامه الأمر عليه بالاتّجار من غير التسلّط عليه ، وعلى فرض إرادة الوجوب لا يلزم التعدّي ، إذ هو لازم لو لم يرض المالك بتصرّفه ، وأمّا لو علم برضاه ولو من شاهد وقرائن الأحوال فلا ، ولو سلّم التعدّي فتحريمه ممنوع ، كيف مع أنّ مجرّد ذلك الأمر لا يستلزم تصرّفا في العبد ولو تعلّق به.

إلاّ أن يقال : إنّ جعل ذمّته مشغولا بالمأمور به ـ كما هو المفروض ـ نوع تصرّف فيه وهو مشكل ، وكذلك الثاني فإنّ النهي السابق أو المقارن أو اللاحق ينهض قرينة على عدم إرادة المدلول الالتزامي من اللفظ ، فإنّها ممّا ينفي إرادة المدلول المطابقي الّذي هو الموضوع له فضلا عن المدلول الالتزامي ، بل ويكشف ذلك في المقام عن عدم إرادة الطلب أو الوجوب من الأمر الّذي هو مدلول المطابقي فلا تناقض أصلا ، وكذلك الثالث فإنّه ليس

__________________

وأجاب عنه بعض الأجلّة : بأنّ الممتنع هو تعلّق التكليف على سبيل الوجوب بالصبيان لا مطلقا ، بل يمكن كونهم مأمورين بشيء على سبيل الاستحباب ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الأمر المتوجّه إلى البالغين هو الأمر الاستحبابي لا الوجوبي ولا محذور في تعلّقه بالصبيان ، بل التحقيق أنّه ليس بتكليف حقيقة.

فمحصّل الجواب : منع الملازمة إن اريد من التكليف الوجوبي ، ومنع بطلان التالي إن اريد الأعمّ ، سلمّنا الامتناع مطلقا لكن عدم البلوغ هنا مانع من التعلّق ، ومن عدم تعلّقه بالمأمور الثاني في محلّ خاصّ لسبب المانع لا يلزم عدم تعلّقه مطلقا وإن لم يكن هناك مانع.

واستدلّو أيضا : بأنّه يلزم على هذا التقدير صحّة كون الشخص آمرا لنفسه إذا أمر غيره أن يأمره بفعل ، والتالي باطل والملازمة ظاهرة.

وأجاب عنه بعض الأجلّة : بأنّ المقصود ـ بعد تسليم الاستحالة ـ التذكّر لا الأمر غالبا ، والإرشاد إلى بعض المصالح المتعلّقة بالمأمور توطئة أحيانا ، على أنّ عدم التعلق في محلّ لمانع ـ وهو هنا استحالة كون الشخص آمرا لنفسه ـ لا يقدح في إثبات القاعدة كما مرّ ( منه ).

١٥٣

من باب الأمر بالأمر في شيء بل هو أمر بالتوكيل ، وهو عقد مشتمل على إيجاب وقبول فيكون الأمر به نظير الأمر بسائر الأفعال الخارجيّة.

واستدلّ على المدّعى بالتبادر ، فإنّ المتبادر كون المأمور به مطلوبا من الثالث من جانب الآمر الأوّل ، وكون أمر الواسطة من باب التبليغ.

وفيه : إن اريد به ما ذكرنا من الدلالة بالالتزام فهو ، وإلاّ فيردّه أنّ الصيغة لا وضع لها إلاّ بإزاء طلب ما يطلب من الواسطة ، إلاّ أن يراد به وضع الهيئة بالتقريب المتقدّم ، فيتوقّف ما بالنسبة إليه من الردّ والتسليم إلى زيادة تأمّل.

وبعدم صحّة السلب بدعوى : أنّه لا يصحّ أن يقال : بأنّه ما أمره بذلك بعد العلم بالواسطة ، وإن كان إطلاق لفظ « أمره » ينصرف إلى صورة عدم الواسطة.

وببناء العرف على ذمّ المأمور الثالث فيما لو علم بأمر الأوّل ولم يفعله ، وإن لم يكن علمه عن إبلاغ الواسطة ، بل لو اعتذر حينئذ في ترك الامتثال بأنّ الواسطة لم يأمره لم يسمع منه عند العقلاء.

وبإطباق العقلاء على ذمّ الآمر الأوّل فيما لو عاقب الثالث الآتي بالمأمور به بعد العلم به من غير جهة إبلاغ الواسطة ، قائلا له : بأنّك لم أتيت بالمطلوب قبل أن يأمرك الواسطة.

وباتّفاق المسلمين على كون أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من جانبه تعالى ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر بواجبات كثيرة ولم يقل : إنّ الله تعالى أمركم بها ، وكذا اتّفاق الخاصّة على أنّ أوامر الأئمّة عليهم‌السلام من الله تعالى مع أوامرهم بمثابة أوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس ذلك إلاّ لأنّ الأمر بالأمر أمر.

وربّما يتأمّل في الأخير بأنّ ذلك من جهة قيام دليل خارجي عليه ، كما يشهد به قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ )(١) ومحلّ البحث دلالة نفس الأمر عليه عند فقد القرينة ، فأوامرهم صلوات الله عليهم من قبيل أن يقول : « مر زيدا من قبلي بالأمر الفلاني » وهو خارج عن محلّ النزاع لوجود القرينة وهو لفظة « من قبلي ».

وقد يجاب عنها أيضا ـ كما في كلام بعض الأعاظم ـ : بخروجها عن محلّ الكلام لظهور إرادة التبليغ فيها ، ومحلّ الكلام ما لو كان مجرّدا عن القرينة ، ومنه ما لو لم يظهر إرادة التبليغ بل يظهر عدمه ، فلذا نقول فيها (٢) بذلك ، ونجعل عبادة الصبيّ شرعيّة لا تمرينيّة لغلبة

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) هكذا كانت العبارة في الإشارات : « فلذا نقول في أوامر النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام والأولياء ونحوه ... الخ ».

١٥٤

إرادة التبليغ في أوامر الشارع.

وفيه : أنّ الاعتراف بظهور إرادة التبليغ منها كرّ على ما فرّ إن كان المراد به ظهورها عن نفس اللفظ ، ودعوى أنّ محلّ الكلام ما لم يظهر فيه إرادة التبليغ لا شاهد لها ، بل بظاهرها مقطوع بفسادها على القول بكون الأمر بالأمر أمرا ، ضرورة أنّ أمر الأوّل لا يظهر كونه أمرا بالنسبة إلى الثالث إلاّ على تقدير كون الثاني الّذي هو الواسطة مبلّغا محضا فهما متلازمان.

ومن البيّن عدم تعقّل تحقّق أحد المتلازمين بدون الآخر ، فإنّ ظهور كون الواسطة مستقلاّ في الأمر في معنى ظهور عدم كون ذلك أمرا من الأوّل ، فمع اعتراف القائل بكونه أمرا كيف يعقل منه القول بذلك.

نعم لو كان ظهور إرادة التبليغ من خارج لا من نفس الأمر فدعوى الخروج عن محلّ الكلام متّجهة.

وأمّا التمسّك بغلبة إرادة التبليغ في أوامر الشارع فإنّما يصادم الاستدلال بالنسبة إلى غير مورد الغالب ، فيقال في ردّه حينئذ : بأنّ فهم إرادة التبليغ فيه من جهة الغلبة المذكورة لا من جهة الأمر بنفسه كما هو المتنازع ، والاستدلال يتمّ بالنسبة إلى مورد الغالب الّذي ظهر فيه إرادة التبليغ ، امتناع تحقّق غلبة اخرى بالنسبة إليه كما لا يخفى.

إلاّ أن يتشبّث لدفعه فيه أيضا بدعوى قيام قرينة اخرى غير الغلبة من قرينة حال أو مقال ، كما تقدّم الإشارة إلى دعوى قيامها من جهة قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ )(١) التفاتا إلى أنّه أوجب ظهور إرادة التبليغ في أوامره تعالى المتوجّهة إلى النبيّ ، بأن يأمر العباد بالواجبات من العبادات وغيرها لا نفس تلك الأوامر.

وممّا يتفرّع على القولين ما لو قال المالك لأحد : « مر زيدا ببيع داري » فعلى الأوّل يجوز له التصرّف قبل أن يبلغه أمر الواسطة دون الثاني ، وعليه فلو تصرّف فهل ينفذ أو لا؟ مبنيّ على القولين.

ومن الفروع أيضا شرعيّة أعمال الصبيّ نظرا إلى قول النبيّ المتقدّم وعدمها.

وقد يورد عليه : بأنّها ليست متفرّعة على القول بكون الأمر بالأمر أمرا ، لثبوتها بما تقدّم الإشارة إليه من غلبة إرادة التبليغ في أوامر الشارع ، مضافا إلى كونها مقتضى ديدن الأكابر والعظماء ، ولا سيّما فيما بنيت أحكامه على العموم كالشرع ، ولدلالة أخبار كثيرة عليه.

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

١٥٥

منها : الأخبار الدالّة على وجوب الصوم على الصبيّ إذا أطاق الصوم ثلاثة أيّام متتابعة والصلاة إذا عقلها ، فإنّ أقرب مجازاتها الاستحباب.

ومنها : ما رواه الكليني والصدوق في توحيده عن طلحة بن زيد عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفّع ، فإذا بلغوا اثني عشرة سنة كانت لهم الحسنات ، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيّئات » ولا قائل بالفصل ، وللزوم الظلم عليه تعالى لو خلّى عمله عن الثواب ، ولا ينفع الاعتياد فيما بعد فإنّه ربّما لا يحتاج إليه.

ولفحوى ما دلّ على الثواب للوليّ نظرا إلى أنّ مشقّة الفاعل أكثر بكثير ، على أنّه لا يحرم عليهم قصد الشرعيّة وفاقا ويحتمل الطلب منهم فيستحبّ ، مضافا إلى شمول أخبار التسامح لهم ، مع مؤيّدات اخر تظهر من تتبّع الأخبار ، كالحكم بصحّة حجّهم إذا أدركوا الموقف كاملين وإجزائه عن حجّة الإسلام ، وصحّة أذانهم وغير ذلك.

ولا ينافيه حديث رفع القلم عنهم لظهوره في المؤاخذة ، وإن اشتمل على من لا يصحّ منه الفعل ندبا لعدم المنافاة ، كما لا ينافيه أمر الأولياء بأمرهم غالبا لأنّهم أولى بذلك وأحرى.

وفيه : أنّ المراد بكونها متفرّعة على هذا القول من حيث هي مع قطع النظر عن ورود دليل عليها ، فيقدّر حينئذ بأنّه لولا دليل عليها لكان في القول المذكور كفاية في ثبوتها ، فوجود الدليل لا ينافي تفريعها على غيره أيضا.

وممّا يتفرّع على شرعيّة أعماله وتمرينيّتها دخوله في الوقف على من صام أو صلّى صوما وصلاة شرعيّا وعدمه ، وكون إعطائه مبرئا لذمّة الناذر بدرهم لمن صام أو صلّى كذلك وعدمه ، وصحّة دخوله في الصلاة بعد البلوغ بالوضوء الّذي أتى به قبله وعدمه ، وكون ما أتى به من الصلاة أوّل الوقت قبل البلوغ مع بقاء الوقت بعده مجزيا لأصالة البراءة ، لأنّه أتى بالصلاة الشرعيّة فالأصل براءة ذمّته عن صلاة اخرى وعدمه.

وقيل أيضا : بأنّ عباداتهم لو كانت شرعيّة لكانت فردا من العبادة الّتي امر بها أو ندب إليها حقيقة ، بمعنى كون إطلاق الاسم عليها حقيقة فيشملها كلّ نصّ ورد لبيان الشرائط والموانع فيثبت لها ذلك ، ولو كانت تمرينيّة لم يكن إطلاق الاسم عليها إلاّ مجازا فيحتاج التزام الصبيّ بما هو خارج عن حقيقة العبادة من الشروط وترك المنافيات إلى دليل آخر.

وأورد عليه : بأنّ الأمر التمريني على تقديره إنّما هو بالعبادة الجامعة للشرائط أيضا فلا ثمرة.

* * *

١٥٦

أصل

الحقّ أنّ صيغة الأمر بمجرّدها ، لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار * ،

__________________

* كما نسب إلى جماعة من المحقّقين ، وربّما يقال : إنّه مذهب المحقّقين كالسيّد المرتضى وأبي الحسين البصري وفخر الدين الرازي ، واختاره العلاّمة في التهذيب بل النهاية على ما حكي عنه.

ونبّه بقوله : « بمجرّدها » على أنّ النزاع إنّما هو في وضع الصيغة لغة ، وأصرح منه ما في كلام السيّد في المنية من التعبير بـ « الأمر المجرّد عن القرائن » وهو ظاهر الأكثر بل وصريحهم في مطاوي كلامهم ، لما يقع منهم تارة من تصدير المعنى المتنازع فيه على حسب الأقوال الآتية بـ « اللاّم » المنبئ عن دعوى الحقيقة كما تقرّر في محلّه ، واخرى من التعبير بالحقيقة ، وثالثة من التعبير بالوضع ، بل هو لازم القول بالاشتراك الّذي هو أحد الأقوال ، وهو صريح الاستدلال على كونها لطلب الماهيّة من حيث هي بكونه خيرا من الاشتراك والمجاز كما في التهذيب ، وبصحّة تقييده تارة بالوحدة واخرى بالتكرار من غير لزوم تكرار ولا تناقض كما في كلام الأكثر.

فما في كلام بعض الأفاضل من إمكان كون النزاع فيما يستفاد من الصيغة حين الإطلاق سواء كان من جهة الوضع له بخصوصه أو انصراف الإطلاق إليه ، مذيّلا له : « بأنّه الّذي يساعده ملاحظة الاستعمالات » ليس على ما ينبغي ، كيف وما أشرنا إليه من الشواهد القطعيّة يأبى عنه تكذيبا ، فلا أثر لما علّل الدعوى به من : « أنّ القول بوضع الصيغة لحصول المرّة حتّى يكون الأمر بالفعل مرّتين أو ما يزيد عليه مجازا في غاية البعد بل لا يبعد القطع بفساده ، وكذا لو علّق الفعل بالمرّة بناء على القول بوضعه للتكرار ، بل قد لا يكون المادّة قابلة للتكرار ، فينبغي أن يكون تلك الصيغة مجازا دائما » فإنّ الاستبعادات الذوقيّة لا تنفي الخلافات الواقعة ولا سيّما مع معارضتها لشواهد قطعيّة.

فيحرّر موضع النزاع حينئذ بأنّ صيغة الأمر هل هي موضوعة لطلب الماهيّة من حيث هي ، أو لطلبها مقيّدة بالمرّة أو التكرار؟ وهل القيد على الاحتمالين الأخيرين داخل في الموضوع له كالتقييد أو الداخل فيه إنّما هو التقييد وحده؟ وجهان.

وممّا قرّرنا يتّضح أنّ النزاع هو في وضع الأمر بالصيغة باعتبار الهيئة لا باعتبار المادّة.

فما في كلام جماعة من الأجلّة من الاستدلال على الاحتمال الأوّل بأنّ الأوامر مأخوذة

١٥٧

وإنّما تدلّ على طلب الماهيّة *.

__________________

من المصادر الخالية عن اللام والتنوين ، وهي حقيقة في الطبيعة لا بشرط شيء اتّفاقا ـ كما صرّح به السكّاكي ـ مبنيّ على اشتباه موضع النزاع ، أو الخلط بين وضعي المادّة والهيئة ، إذ لا ضير في كون المادّة باعتبار ما لها من الوضع الشخصي موضوعة بإزاء الطبيعة لا بشرط شيء ، ثمّ عرض لها باعتبار ما للهيئة العارضة لها من الوضع النوعي بعض القيود الخارجة عنها ، كما هو الحال في وضع الصيغة للوجوب أو الندب أو غير ذلك ممّا تقدّم ، من حيث إنّ مدلول المادّة لا مدخليّة فيه لشيء من تلك المذكورات وإنّما هي من مقتضيات وضع الهيئة ، فلو صحّ الاستدلال المذكور لقضى بانتفاء الوجوب ـ بل الطلب رأسا ـ عن الأوامر ، وهو مناف لمذاهبهم جزما.

والظاهر إمكان جريان الاحتمالات المذكورة في الأمر بالمادّة بجميع مشتقّاته ، وإن كان لا يساعده صريح العنوانات وظهور الاستدلالات.

* والمراد بها الحقيقة الكلّيّة القابلة للمرّة والتكرار المعرّاة عن اعتبارهما فيها بحسب الوضع شطرا وشرطا ، فلا ينافيه لو قام من العقل ونحوه ما يقضي بدخول أحدهما في الإرادة ولو بحكم العادة ، كما في قوله : « اشتر اللحم » ونظائره ، و « احفظ دابّتي » وأمثاله من حيث جريان العادة بعدم تعلّق غرض في الأوّل إلاّ بالمرّة وفي الثاني إلاّ بالتكرار.

ومن البيّن أنّ هذا المعنى من حيث رجوعه إلى الوضع واللغة لا تلازم بينه وبين تعلّق الأوامر بالطبائع ليتوجّه إلى المصنّف تدافع بين مذهبه هنا واختياره تعلّق الأوامر بالأفراد فيما سيأتي تحقيق القول فيه إن شاء الله ، إذ القول بذلك إنّما نشأ عن توهّم قيام قرينة عقليّة قاضية بأنّ الطلب من الشارع لابدّ وأن يتعلّق بما يمكن وجوده لئلاّ يلزم التكليف بالمحال المستحيل على الحكيم على فرض تعلّقه بما لا يمكن وجوده ، والماهيّة ممّا لا وجود له في الأعيان ، فيتعيّن أن يكون الطلب قد تعلّق بالفرد ، ولا منافاة في كون متعلّق الطلب باعتبار تعلّق الوضع هو الماهيّة وباعتبار تعلّق أمر الشارع هو الفرد ، لأنّ ذلك من جهة قرينة توجب الإنصراف عن مقتضى الوضع ، ولا يلزم كونه من باب التجوّز حتّى يتوجّه لزوم المجاز في غالب الخطابات ، لجواز كونه من باب تعدّد الدالّ والمدلول الملازم لكون اللفظ مرادا منه معناه الحقيقي ، على أنّ القائل بتعلّق الأمر بالفرد لم يظهر منه دعوى كون الفرد مرادا باللفظ ، ولا سيّما على تفسير الأمر بالطلب ـ كما هو الأقوى ـ لا اللفظ الدالّ عليه ونحوه.

فما قد يتخيّل في المقام من أنّ القائل بكون الأمر للمرّة أو التكرار قائل بكون

١٥٨

وخالف في ذلك قوم فقالوا : بإفادتها التكرار * ، ونزّلوها منزلة أن يقال : « إفعل أبدا » ، وآخرون فجعلوها للمرّة من غير زيادة عليها ** ،

__________________

المطلوب بالأمر هو الفرد ، والنافي لدلالته عليهما قائل بتعلّقه بالطبائع حيث يقول بدلالته على مجرّد طلب مطلق الحدث من غير دلالة على مرّة ولا تكرار ليس بشيء ، فإنّ المرّة والتكرار ـ على ما ستعرف تفسيريهما ـ حالتان في الماهيّة لا ملازمة بينهما وبين تعلّق الحكم بالفرد نفيا وإثباتا ، فيجتمع القول به مع القول بهما كاجتماعه مع القول بخلافهما ، فيقال حينئذ : أنّ الصيغة وإن كانت بحسب الوضع لطلب الماهيّة المطلقة أو المقيّدة بالمرّة أو التكرار إلاّ أنّ القرينة الخارجيّة قد دلّت على أنّ متعلّق الحكم المستفاد منها هو الفرد لا الماهيّة المطلقة أو المقيّدة بالمرّة أو التكرار من حيث هي.

غاية الأمر أنّ الأخيرين يستدعيان اتّحاد الفرد المأمور به وتعدّده ، كما أنّ الأوّل يستلزم كون الفرد ملحوظا لا بشرط الوحدة والتعدّد ، ضرورة أنّ الفرد هو الماهيّة المتشخّصة بالوجود ولوازمه فيعتبر فيه ما اعتبر في الماهيّة المتحقّقة في ضمنه من الإطلاق والتقييد بالقياس إلى المرّة والتكرار المستلزمين للوحدة والتعدّد ، كما أنّ القول بتعلّق الحكم بالطبيعة يجتمع كلاّ من الوجوه ، فيعبّر حينئذ بالطبيعة المطلقة أو المقيّدة بالمرّة أو التكرار.

* المتبادر منه في العرف فعل الشيء مرّة بعد اخرى ، ولكنّ المراد به هاهنا الاستمرار بفعل المأمور به من الطبيعة أو الفرد على حسبما يقتضيه الإمكان عقلا وشرعا ، كما يومئ إليه قول المصنّف ، فنزّلوها منزلة « افعل أبدا » نظرا إلى أنّ الدوام مقيّد عندهم بما ذكر من الإمكان حسبما يتبيّن فيما بعد ذلك ، وصرّح به السيّد في المنية ، والقول به محكيّ عن أبي إسحاق الاسفرائني وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين كما في المنية ، وربّما يحكى حكايته عن أبي حنيفة والمعتزلة.

والّذي يظهر من مطاوي كلماتهم أنّ المراد بالتكرار ما كان استقلاليّا ، بأن لا يتوقّف الامتثال بالسابق على الإتيان باللاحق.

غاية الأمر أنّه يأثم بترك اللاحق ، فكأنّ الأمر الواحد ينحلّ إلى أوامر متعدّدة على حسب تعدّد الإتيانات ، مع احتمال كونه ارتباطيّا بأن يكون الجميع امتثالا واحدا فكأنّ كلاّ جزء من المأمور به فلا يحصل الامتثال بالأوّل إلاّ مع انضمام الباقي إليه ، ولا يخفى بعده وإن ذكره بعض الأجلّة متساويا للأوّل.

** قيل : بأنّه محكيّ عن جمع كثير ، وعن أبي الحسين أيضا ، وكذا عن ظاهر الشافعي ،

١٥٩

وربّما يستفاد عن جماعة من الأجلّة للمرّة تفسيران :

أحدهما : الفرد الواحد.

وثانيهما : الدفعة الواحدة.

فيكون التكرار عبارة عن الأفراد أو الدفعات بقرينة المقابلة ، ويظهر عن بعض الفضلاء التردّد فيهما.

والأظهر عندي كون المراد بالمرّة هو الدفعة ، كما يومئ إليه ما في كلام شارح الشرح من التعبير عن الماهيّة بالحقيقة المتحقّقة في ضمن كلّ من المرّة والتكرار ، وعن المرّة والتكرار بالحقيقة المقيّدة بالمرّة أو التكرار ، نظرا إلى أنّ الماهيّة لا تتقيّد بالمرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد ، لكون الفرد هو الماهيّة المقيّدة بالوجود مع لوازمه ، وجزء الشيء لا يتقيّد بذلك الشيء ، بل الّذي يليق تقيّدها به إنّما هو المرّة والتكرار بمعنى الدفعة والدفعات كتقيّدها بالوحدة والكثرة ، والفرق بينها وبين الفرد أنّ الفرد يلزمه وحدة الوجود والزمان ، والدفعة يلزمها وحدة الزمان دون الوجود ، إذ لا ينافي وحدة الزمان تعدّد الوجود كما لو قال لعبيده في زمان واحد : « أنتم أحرار لوجه الله الكريم » فإنّ زمان العتق متّحد مع تعدّد وجوده بتعدّد محالّه ، فيقال : إنّه أعتق دفعة واحدة ، ولا يقال : أعتق فردا واحدا.

وربّما يستند بعض الفضلاء في إبطال كون العبرة في المرّة بالفرديّة بأنّهم لو أرادوا بالمرّة الفرد لكان الأنسب ـ بل اللازم ـ أن يجعل هذا المبحث تتمّة للبحث الآتي عن الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك : وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه.

وأمّا على ما اخترناه فلا علقة بين المسألتين ، فإنّ للقائل بأنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة أن يقول بأنّه للمرّة أو التكرار ، بمعنى أنّه يقتضي وجوب إيجادها مرّة واحدة أو مرارا ـ بالمعنى الّذي سبق ـ وأن لا يقول بذلك ، وكذا القائل بأنّه يتعلّق بالفرد دون الطبيعة ، إذ ليس المراد به الفرد الواحد بل مطلق الفرد.

وأنت خبير بوهن ذلك من حيث عدم صلوحه سندا لمنع التوهّم لجواز أن يعتذر الخصم لتتميم ما توهّمه بأنّ للقائل بأنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة أن يقول بأنّه للطبيعة المطلقة أو المتحقّقة في ضمن الفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة ، وللقائل بأنّه يتعلّق بالفرد أن يقول بأنّه للفرد لا بشرط الوحدة ولا التعدّد ، أو الفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة ، على أنّ الفرد

١٦٠