تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

يلزم التكليف بما لا يطاق القبيح على العدل الحكيم ، ولكنّه لا يوجب انحصار ما يحصل به الامتثال فيما كان مقدورا حين الطلب ، بحيث لو أتى المكلّف بما يكون من مصاديق ما تصوّره الآمر ممّا هو خارج عن مقدوره لم يكن ممتثلا ، بل لو أتى بالفعل حينئذ لا بقصد العنوان قاصدا فيه عنوانا آخر وإن كان ممّا لم يتعلّق به الطلب كان مجزيا وموجبا للامتثال ، لانطباقه على ما تعلّق به الطلب وكونه من مصاديق ما تصوّره الآمر من المعنى الكلّي ، فيسقط به الطلب قطعا ، نظير سقوطه فيما إذا تعلّق بالكلّي بسبب الإتيان بفرد منه مع أنّه ليس بعين المطلوب وما تعلّق به الأمر على التحقيق السابق ، وإلاّ لكان واجبا عينيّا وهو باطل لكونه أحد الأفراد الّتي حكم العقل فيها بالتخيير ، فلا وجه لكونه مفيدا للإجزاء إلاّ كونه منطبقا على ذلك الكلّي المأمور به.

وإن شئت توضيح ذلك في محلّ البحث فلاحظ نفسك عند إرادتك طلب الماء عن عبدك ، حيث إنّك لم تزل تتصوّر مطلق الماء من غير اعتبار شيء معه من القدرة وغيرها ، إلاّ أنّك عند إلقاء الصيغة إنّما تطلب ما هو مقدور له ، وهو الموجود في بلدك الحاضر لئلاّ يتوجّه إليك التقبيح وغيره ممّا ينافي حكمتك ، فلم يتعلّق طلبك بما هو موجود في البلد النائي كالهند ونحوه لأجل ذلك ، وأمّا لو اتّفق بعد ذلك وجود ذلك الغير المقدور في بلدك بشيء من الأسباب الخارقة للعادات فأتى به العبد لاجتزيت به عنه وليس لك أن تؤاخذه أصلا ، وهل هذا إلاّ لأجل انطباقه على مطلوبك واندراجه فيما تصوّرته.

فإن قلت : قياس ما كنّا بصدده على هذا المثال لعلّه مع الفارق ، لأنّ الماء المفروض في البلد النائي إذا وجد في البلد الحاضر يدخل تحت قدرة العبد ، وإذا أتى به فقد أتى بما هو مقدور له فلم يكن خارجا عمّا تعلّق به الطلب.

قلت : إذا أتى المكلّف بالفعل لا بقصد عنوانه المعتبر في المأمور به كان آتيا بما هو مقدور له ، فلم يكن ذلك خارجا عمّا تعلّق به الطلب ، إذ قصد العنوان على فرض مدخليّته في القدرة إنّما يعتبر طريقا إلى القدرة لا محقّقا لها ، فلا ضير بأن يتحقّق القدرة بغير هذا الطريق وهو قصد سائر العنوانات ، فلولا الفعل المأتيّ به المفروض مقدورا لامتنع الإتيان

__________________

باق على إطلاقه ، وقضيّة الإطلاق حصول الامتثال بالفعل بأيّ نحو اتّفق ، غاية الأمر أنّ ما لم يقصد بشيء من العنوانات كالصادر عن الغافل خرج عن موضوع الامتثال بالدليل فيبقى الباقي تحت الإطلاق لعدم ثبوت دليل آخر. ( منه عفي عنه ).

٣٢١

به والمفروض خلافه.

فإن قلت : فأيّ فائدة في اشتراط القدرة وعدم تعلّق الطلب إلاّ بما هو مقدور حينه ، فإنّ الامتثال على ما فرضته حاصل بغير ذلك أيضا إذا تجدّد عليه القدرة.

قلت : إنّما تظهر الفائدة فيما لم يتجدّد له قدرة على بعض مصاديق ما تصوّره الآمر ، فليس له حينئذ أن يؤاخذ المأمور بعدم إتيانه بذلك الغير المقدور ، لما فيه من القبح المنافي لحكمته.

ولمّ المسألة : أنّ الأحكام ـ على ما عليه بناء المذهب ـ تتبع الصفات الكامنة من حسن أو قبح ، فإن ظهر من الخارج أنّ ما تصوّره الآمر ليس إلاّ الطبيعة المطلقة يتبيّن أنّ الحسن كامن في نفس الطبيعة ، كما أنّه لو ظهر أنّه إنّما تصوّرها مقيّدة ببعض الاعتبارات يتبيّن أنّ الحسن ثابت في ذلك المقيّد دون غيره من أفراد الطبيعة ، والقدرة وعدمها ليسا ممّا يوجب اختلافا في حسن الشيء في الواقع ولا في قبحه ، بل عدم القدرة من قبيل موانع الطلب لا أنّه من روافع صفة الشيء ، فعدم القدرة على بعض أفراد الطبيعة إذا كان الحسن في نفسها لا ينافي كون ذلك الفرد ذا حصّة من الحسن ، وإنّما يمنع عن تعلّق الطلب به فعلا عينا أو تخييرا.

وقضيّة ذلك كون الإتيان به إذا حصل القدرة عليه مجزيا لوجود المقتضي وفقد المانع ، ومثله الكلام في القصد وعدمه ، فإنّ قصد العنوان على تقدير مدخليّته في القدرة ليس من مقتضيات حسن المأمور به ، بل عدمه مانع عن تعلّق الطلب فعلا ، فإذا حصل الإتيان بالفعل لا بقصد العنوان فقد حصل الإتيان بما هو من أفراد الفعل الّذي كان الحسن في طبيعته الكلّية.

وثانيها : أنّ المتبادر من قول القائل : « اضرب » إنّما هو الضرب المقصود ، فيكون القصد مأخوذا في مفهوم المادّة.

ومن البيّن أنّ الهيئة ترد على المادّة مع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط ، والقصد منها ، فيكون معتبرا في المأمور به.

والجواب : منع كون القصد مأخوذا في مفهوم المادّة بما تقدّم بيانه ، والتبادر المدّعى على فرض تسليمه إطلاقي ناش عن قرينة الطلب بملاحظة قضاء العقل باعتبار القدرة في متعلّقه ، أو عن قرينة الغلبة والشيوع نظرا إلى أنّ ما غلب وجوده في الخارج إنّما هو الضرب المقصود ، فلذا جعلنا القصد من لوازم وجود الأفعال عادة ، وظاهر أنّ مثل هذا

٣٢٢

التبادر لا عبرة به في شيء.

لا يقال : إنّما لا عبرة بذلك التبادر في إثبات الوضع ، فلم لا يجوز أن يعتبر كاشفا عن المراد وهو كاف في اعتبار القصد في المأمور به ، لأنّ الكشف عن الإرادة مبنيّ على تبيّن كون القرينة ممّا لاحظها المتكلّم وهو في المقام مقطوع بعدمها ، لما قرّرناه من العلم الوجداني بأنّ الملحوظ في نظر الآمرين ليس في أمثال المقام إلاّ الطبيعة ، ولازمه الاجتزاء بما صدق عليه تلك الطبيعة ، ولو لاحظها مقيّدة ببعض الاعتبارات فالقصد ليس منها ، ولو سلّم عدم القطع فلا أقلّ من الشكّ والأصل سليم عن المعارض.

فإن قلت : قضيّة ذلك هدم قاعدتهم المقرّرة في محلّه من اشتراط العمل بالمطلقات بتواطئ الأفراد وعدم انصرافها ، إذ ما من مطلق منصرف إلى بعض الأفراد إلاّ وهذا الكلام جار فيه وهو كما ترى.

قلت : الانصراف إنّما يؤثّر إذا نشأ عن غلبة الإطلاق ، وهو في المقام ناش عن غلبة الوجود ، وإلاّ فالغالب من حيث الإطلاق إنّما هو إرادة نفس الطبيعة معرّاة عن وصف القصد.

وثالثها : أنّ المقصود بالتكليف إنّما هو تأثير المكلّف في المكلّف به وهو إنّما يحصل إمّا يبعث المكلّف غيره على التأثير وأمره إيّاه بإيجاد المكلّف به ، كأمر السلطان بعض أمرائه بفتح بلد ، حيث إنّ تأثيره إنّما هو بإرسال العسكر لفتحه ، أو بالمباشرة النفسيّة كما في أمر السيّد عبده بالسقي ، ولمّا كانت التكاليف الشرعيّة متوجّهة إلى الإنسان الّذي يعبّر عنه بالنفس ـ أي النفس الناطقة ـ الّتي لكونها من المجرّدات الّتي لا يصدر منها ما هو من لوازم المادّيّات لا يعقل منها تأثير إلاّ بالبعث ، وظاهر أنّ المبعوث عن قبل النفس لا يكون إلاّ الأعضاء والجوارح ، فلابدّ في تأثيرها كونها باعثة لها آمرة إيّاها بإتيان المكلّف به ، ومن المعلوم أنّ البعث لا يمكن من الباعث إلاّ مع قصد ما يبعث لأن يؤتى به ، كما أنّ الأمر من الآمر لا يعقل إلاّ مع قصد المأمور به.

والجواب : أنّ خطابات الشارع المتضمّنة لأوامره ونواهيه مبنيّة على ما يساعده العرف ويقتضيه العادة لا على ما ذكر من الشبهات السوفسطائيّة ، ولقد تقدّم أنّ المنساق من الأمر عرفا ليس إلاّ طلب ذات الفعل ، وانفهام ما زاد عليها مقصور على الدلالة الخارجيّة ، مع أنّ ما ذكر في الاستدلال من كون المكلّف في الشرعيّات هو النفس الإنسانيّة الّتي تأثيرها ليس إلاّ بالبعث ليكون من باب التسبيب بمكان من المنع ، نظرا إلى حكم العرف والعادة

٣٢٣

ضرورة صحّة إسناد الفعل إليها إسنادا حقيقيّا لا يشوبه شكّ ولا ريب.

ودعوى : كون الفاعل هو الجوارح اشتباه صرف نشأ عن عدم التفطّن بكونها فيما بين الفاعل ومنفعله من باب الآلة ، وقياس ذلك على أمر السلطان بعض امرائه بفتح البلد مع الفارق ، للقطع بكونه هنا من باب التسبيب ، ضرورة أنّ الأمير المأمور بذلك سبب للفتح والمباشر هو العسكر ، والفعل إنّما يسند حقيقة إلى المباشر وإسناده إلى السبب مجازي ، ومحلّ البحث ليس من هذا الباب لكون إسناد الفعل إلى النفس إسنادا له إلى مباشره كما لا يخفى.

المرحلة الثالثة

في اشتراط الاختيار

فلو صدر عنه الفعل بإكراه الغير ففي كونه موجبا للامتثال نظر ، من أنّه حينئذ إنّما هو بمنزلة الآلة ، والمباشر للفعل هو المكره ، كما لو حرّك الغير يده بلا اختيار منه ، ومن صحّة إسناده إليه في العرف والعادة حقيقة ، كما في الآكل إذا اكره عليه.

ولا يبعد أن يقال : بأنّ بناء العرف ـ على ما يستفاد من تتبّع أوامرهم الجارية ، واستقراء خطاباتهم الدائرة ـ على اعتبار الاختيار ، حيث إنّه لا يزال الآمر عند تصوّر أطراف القضيّة لإرادة الطلب لا يتصوّر إلاّ المختار ، ولا يلقي الخطاب إلاّ إليه ، بل نرى أنّ النفوس السليمة لم تزل مشمئزّة عن فعل يؤتى به لأجلها عن إكراه ، بل العقلاء عند إرادة الطلب لو علموا بأنّ فلانا لا يأتي بمطلوبهم إلاّ بإكراه الغير لا يطلبونه منه ، وإنّما يطلبونه عمّن يأتي به مع ميله النفساني ورضائه واختياره ، فيكون ذلك ممّا يكشف عن أنّ الأمر والطلب إنّما يتعلّقان بالفعل الاختياري.

المرحلة الرابعة

في اشتراط نيّة القربة وقصد الاخلاص

في الامتثال بالمأمور به وعدمه

والأولى نظرا إلى وحدة الطريق جعل الواجب مطلقا موضوعا للبحث.

فاعلم أنّ الواجب عندهم ينقسم إلى التعبّدي والتوصّلي ، والمراد بالأوّل ما أمر به لأجل التعبّد ، بمعنى كون الباعث على إيجابه التعبّد به وإظهار العبوديّة ، وأمّا تعريفه : « بما أمر به للتقرّب والزلفى » فتعريف باللازم ولا بأس به ، غير أنّ الأوّل أنسب بلفظ المعرّف ،

٣٢٤

ولا يرد : أنّه تعريف بما يوجب الدور ، بعد ملاحظة أنّ التعبّد في المعرّف محمول على مفهومه اللغوي أو العرفي.

والمراد بالثاني ما أمر به لأجل حصوله في الخارج ، بمعنى كون الداعي إلى إيجابه مجرّد حصوله لا غير.

ومن خواصّ الأوّل اشتراطه بكون الإتيان به مقرونا بقصد الامتثال ، فبدونه لا يسقط الطلب ولا يخرج عن العهدة ولو بلغ في حصوله الخارجي ما بلغ ، لا لأنّ المطلوب حاصل ومعه لا يسقط الطلب وإلاّ يلزم طلب الحاصل وأنّه محال ، بل لأنّ المطلوب هو العمل المقرون بقصد الامتثال ، فالمطلوب فيما تجرّد عن القصد المذكور ليس بحاصل والحاصل ليس بمطلوب.

وقضيّة ذلك بقاء الطلب حتّى يحصل المطلوب.

ومن لوازم الثاني عدم افتقاره إلى مقارنته للقصد المذكور فبمجرّد حصوله في الخارج على أيّ نحو اتّفق ولو مجرّدا عن القصد يترتّب عليه الأثر المقصود منه ، وهو الّذي يعبّر عنه بالصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، ولازمه فراغ الذمّة وسقوط الطلب وعدم استحقاق العقوبة ، وإن لم يترتّب عليه استحقاق المثوبة عليه في بعض صوره كما لا يخفى.

والحاصل أنّ مجرّد حصوله في الخارج كائنا ما كان يسقط معه الطلب ، ضرورة استحالة طلب الحاصل.

غاية الأمر أنّه لا يترتّب عليه حينئذ ثواب لتوقّفه على قصد الامتثال ، فالفرق بين القسمين منحصر فيما ذكر.

وقد يقال بينهما مع ذلك فرق آخر من وجهين :

أحدهما : جواز اجتماع الثاني مع الحرام دون الأوّل.

وثانيهما : اشتراط الأوّل بالمباشرة النفسيّة دون الثاني ، وقد يقيّد الجميع بالغالب ، وكيف كان فهو ضعيف بما سنقرّره.

فإذا ورد أمر في الشريعة لطلب شيء فلو علم من دلالة خارجيّة بأنّ المراد به التعبّدي خاصّة أو التوصّلي كذلك أخذ به وعمل بموجبه ، ولو لم يعلم بذلك من جهة فقد الدلالة الموجب لحصول الاشتباه من جهة دوران الأمر بينهما ، فهل الأصل أن يحكم بالتعبّد أو التوصّل أو يجب التوقّف؟

٣٢٥

ومن البيّن بملاحظة ما قرّرناه في صدر المسألة أنّ النظر هنا إنّما هو في الأصل الثانوي ، وإلاّ فالأصل الأوّلي لا ينبغي الإرتياب في كونه مقتضيا للتوصّل ، سواء استفيد الطلب من الدليل اللفظي أو الدليل اللبّي ، لرجوع الاشتباه إلى الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة فأصل البراءة ـ مضافا إلى أصالة العدم على الثاني ـ وأصل الإطلاق المعتضد بالأصلين على الأوّل ينفيانه.

فما قيل في الاستدلال بأنّه لو لا البناء على التوصّل للزم الالتزام بأمر زائد ، لاشتراط التعبّدي بقصد الامتثال ، فحينئذ لو كان الطلب ثابتا بالأدلّة اللبّية لكان ذلك مندفعا بالأصل الّذي يجوز إجراؤه فيما يشكّ في كونه شرطا أو جزءا ، ولو كان ثابتا باللفظ لكان مندفعا بأصالة الإطلاق ، فالحكم بالتوصّلي إنّما هو من مقتضى هذين الأصلين إن اريد به تأسيس الأصل الأوّلي ، فليس به بأس وإلاّ فغير مجد لجواز انقلاب ذلك الأصل بدليل خارجي من عقل أو نقل إلى أصل آخر ثانوي كما توهّم ، فيجب الخروج منه حينئذ إلى موجب ذلك الأصل.

نعم لولا ثبوت ذلك الأصل لكان المصير إلى موجب الأصل الأوّلي متّجها ، فيؤول الأمر حينئذ إلى أنّه هل هنا قاعدة ثانويّة تقتضي كون الأصل في كلّ واجب هو التعبّد إلاّ ما أخرجه الدليل أو لا؟ بل الأصل الأوّلي باق على حاله فيحكم في كلّ واجب بالتوصّل إلاّ ما أخرجه الدليل.

ففيه خلاف بين الأصحاب ، والّذي يستفاد من بعض الأعلام هو الأوّل ، ووافقه على ذلك بعض الأعاظم وهو محكيّ عن الفاضلين العلاّمة والمحقّق في باب الوضوء من المنتهى والمعتبر تمسّكا بجملة من الآيات والروايات ، بل صرّح به العلاّمة في التهذيب ، وهو المستفاد من السيّد في شرحه.

وقد صار المحقّقون إلى خلافه فقالوا : ببقاء الأصل الأوّلي على حاله ، واختاره بعض الفضلاء وفاقا لأخيه في الهداية ، وهذا هو الراجح في النظر القاصر.

وقد عرفت سابقا ، أنّ النظر في ذلك تارة إلى حكم العقل ، واخرى إلى بناء العرف ، وثالثة إلى قضاء الشرع.

ومن البيّن أنّ العقل نفيا وإثباتا ساكت في المقام ، إذ لا مدخل له في الامور التوقيفيّة.

وأمّا العرف : فهو قاض بما رجّحناه للقطع بأنّ العبد المأمور بشراء اللحم متلا إذا أتى به مطلقا وإن لم يكن بعنوان أنّه ممّا أمر به المولى لم يعدّ عاصيا لمخالفته الأمر ، ولا يجب

٣٢٦

عليه الإتيان به ثانيا ، بل كان ما أتى به [ فهو ] نفس الواجب وعين المطلوب ، ولا ينافيه عدم ترتّب المدح والثواب على فعله إلاّ مع قصده الامتثال به ، إذ لا ملازمة بين فعل الواجب وترتّب الثواب عليه ، وإنّما يثمر في عدم لزوم المخالفة وعدم ترتّب العقاب على الإخلال بقصد الامتثال وهو كاف في ثبوت المطلوب ، إذ لا نعني بالامتثال إلاّ هذا.

لا يقال : لعلّه من باب الإسقاط لئلاّ يلزم طلب الحاصل ، فلا ملازمة بين سقوط الطلب وحصول الامتثال كما هو المطلوب ، للقطع بأنّه ليس إلاّ من جهة صدق الامتثال عرفا صدقا حقيقيّا وكونه إتيانا بعين المطلوب كما عرفت في تقرير الدليل.

فان قلت : كيف يصحّ ذلك مع أنّه لا يقال عرفا : إنّه أتى بالمأمور به من حيث إنّه مأمور به.

قلت : إن اعتبرت الحيثيّة قيدا للإتيان فكذلك ، إلاّ أنّه أعمّ من عدم كون المأتيّ به هو المأمور به ، وإن اعتبرت قيدا للمأمور به من باب التأكيد فواضح المنع ، ضرورة أنّ عدم كونه هو المأمور به فرع اعتبار القصد فيه وهو غير ثابت بل الثابت خلافه ، لما عرفت من أنّ الآمر لا يلاحظ ولا يطلب إلاّ أصل الفعل من دون التفات منه إلى القصد المذكور.

احتجّوا ـ كما في كلام بعض الأعاظم ـ بوجوه.

الأوّل : أنّ صدق الامتثال في الأوامر عرفا لا يحصل إلاّ بقصد الامتثال ، فلو أمر المولى عبده بشيء فأتى به من باب تشهّي نفسه من دون ملاحظة أمر مولاه ، أو أتى به بقصد أن يقتل مولاه ، أو بنى على مخالفته ثمّ نسي أمر مولاه وأتى به من دون أن يخطر بباله أمره ، أو طلب منه ذلك الشيء عدوّ مولاه فأتى به لذلك لا من جهة أنّ مولاه أمره به ، لا يعدّ في شيء منها ممتثلا قطعا.

والجواب : بأنّه إن اريد أنّ ما يأتي به العبد في تلك الموارد ليس بما طلبه المولى ولا مندرجا في مطلوبه وهو موجب لئلاّ يكون ممتثلا ، فهو ممّا يكذّبه الوجدان ، لأنّا نجد المولى في بناء العرف أنّه عند التصوّر لا يلاحظ إلاّ ذات الشيء ولا يطلب إلاّ حقيقته من حيث هي.

نعم قصد امتثال أمره عند الإتيان بمطلوبه محبوب آخر عنده ، ولكن لم يكن حسنه بالغا إلى حدّ يقضي بإيجابه ليكون واجبا برأسه ، وهذا هو الّذي ينشأ منه المدح والثواب على العمل لو قارنه القصد غير أنّه لا يوجب دخوله في مطلوبه الّذي لاحظه بعنوانه الخاصّ حتّى لا يكون الإتيان بما خلا منه امتثالا للأمر وإتيانا للمأمور به.

وإن اريد به أنّه لو كان ذلك امتثالا في تلك الموارد لما ترتّب عليه ذمّ ولا استحقاق

٣٢٧

عقاب ، والتالي باطل والملازمة بيّنة ، فيكون ذلك كاشفا عن عدم حصول الامتثال.

فيردّه : منع الملازمة ، ضرورة أنّ ما ذكر من الذمّ واستحقاق العقاب لا يكون مترتّبا على مخالفة الأمر ـ كما هو الغرض الأصلي على تقدير شرطيّة القصد ـ وإنّما هو مترتّب على العزم على المعصية من قصد القتل ، أو البناء على المخالفة ، أو على ما هو محرّم في نفسه ولو بمنع شأني ، فإنّ الإتيان بما طلبه عدوّ المولى لأجل ذلك ممّا هو منهيّ عند المولى ولو شأنا لكونه إهانة عليه ، فالذمّ والعقاب إنّما يترتّبان على عنوان آخر من المخالفة لا على مخالفة الأمر.

ولو سلّم فقضيّة ذلك تقيّد المأمور به بعدم اجتماعه مع الحرام ، فيكشف ذلك عن أنّ مطلوب المولى بالأمر ليس بما هو مطلوب تركه ، ولا القدر الجامع بينه وبين غيره وهو أمر آخر لا ربط له بالمدّعى ، ولا ننكره كما يأتي تفصيل القول فيه عند دفع توهّم ما قيل في الواجب التوصّلي من اجتماعه مع الحرام ، فلذلك ترى أنّه لا ذمّ ولا عقاب فيما لو خلا العمل عن العنوانات الاخر ممّا نهى عنها وعن قصدها مع خلوّه عن قصد امتثال الأمر.

الثاني : أنّ الناسي والغافل لا يكونان مأمورين ، والشاعر للأمر لو لم يعتبر في امتثاله القصد كفاه إيقاع الفعل مطلقا ولو كان مستهزئ ولا ريب في بطلانه.

بيان الملازمة : أنّ مجرّد إيقاع الفعل لو كان يكفي لما يفترق بين فرد من أفراده وهو ظاهر.

والجواب : أنّ المقصود إطلاق المأمور به بالنسبة إلى قصد الامتثال وهو غير مناف لتقيّده من جهات اخر كما عرفت ، وإيقاع الفعل استهزاء قبيح في نفسه ومطلوب تركه فلا يعقل كونه مطلوبا فعله ، فالمأمور به مقيّد بعدم ذلك كتقيّده بعدم الإهانة ولا قصد المعصية من جهة اخرى ، وهو أعمّ من تقيّده بقصد الامتثال.

الثالث : أنّ المطلوب وإن كان هو الطبيعة لكن لم يظهر كفاية الإتيان به مطلقا بل ما دام الوصف وفي تلك الحال ، ومقتضى التوقيفيّة الاكتفاء فيه بمورد اليقين ، للزوم تحصيل البراءة بعد ثبوت الاشتغال ، أو ما ذكرناه أظهر الأفراد ومتبادرها عند الإطلاق ، كتبادر النقد الرائج من إطلاق لفظ « النقد » فيلزم حمل اللفظ عليه ، وبدونه يشكّ في الامتثال.

والجواب : أنّه بعد تسليم كون المطلوب هو الطبيعة ، فدعوى عدم ظهور كفاية الإتيان به مطلقا أعجب شيء في المقام ، كيف وأصالة الإطلاق كافية في ظهور كفاية الإتيان مطلقا ، ومعها لا مجال للتمسّك بقاعدة الاشتغال كما لا يخفى.

٣٢٨

ولو سلّم أنّ المقام من مجاري القواعد العامّة العمليّة فإنّما هو من مجاري أصل البراءة ـ لما هو المقرّر في محلّه ـ ومعه يحصل العلم الشرعي بالامتثال.

أو يقال : إنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بأصل الطبيعة وهي حاصلة كما هو المفروض.

وأمّا دعوى : أنّ ما ذكر أظهر الأفراد ومتبادرها فكلام ظاهري لا يجدي ، إذ لو اريد بالظهور ما نشأ عن كمال الفرد.

ففيه : أنّه ممّا لا اعتداد به ، ولو اريد به ما نشأ عن غلبة وجوده في الشرعيّات ، فيردّه : منع الغلبة في هذا الطرف إن لم تكن في الطرف الأخير ، نظرا إلى أنّ الأمر في الشريعة قد ورد على نوعين ، فمن نوع التعبّدي الصلاة والصوم والحجّ وغيره من العبادات ، ومن نوع التوصّلي إزالة النجس عن المسجد ، وتطهير الثوب أو البدن عن النجاسة ، وأداء الدين ، وردّ الوديعة ، وردّ السلام ، وغير ذلك ممّا لا يخفى. وظاهر أنّ الغلبة لو لم تكن متحقّقة في الثاني فليست بمتحقّقة في الأوّل جزما.

أو في العرفيّات ، فيدفعه : عدم وجود مورد فيها يكون قصد الامتثال معتبرا في أداء المأمور به فضلا عن كونه الغالب.

ولو اريد به ما نشأ عن غلبة الإطلاق عليه في الشرع أو العرف.

ففيه أيضا : منع واضح بل أظهر منعا عمّا سبق كما لا يخفى ، وقياس ما نحن فيه على « النقد » المنصرف عند الإطلاق إلى الرائج مع الفارق من وجوه شتّى.

الرابع : طبائع الأفعال وإن كانت غير متوقّفة على حصول النيّة ، بل الأفعال أفعال لغة وعرفا إلاّ أنّ امتثال الأوامر يتوقّف عليه ، وإلاّ لزم عدم الفرق في الامتثال بين ما صدر من الغافل والناسي وغيرهما والكلّ واضح البطلان.

والجواب : أنّ الأفعال إذا سلّم عدم توقّفها لغة وعرفا على حصول النيّة فأيّ دليل قضى بتوقّف امتثال الأوامر على حصولها ، مع أنّ ظاهر اللفظ لغة وعرفا تعلّقها بها على طبائعها الكلّيّة.

والنقض بلزوم عدم الفرق في الامتثال بين ما صدر من الغافل والناسي وغيرهما ليس في محلّه ، إذ لو اريد بالغافل ما هو كذلك ابتداء فهو خارج عن موضع البحث ، إذ لا يتوجّه إليه خطاب حتّى ينظر في حاله.

ولو اريد به ما طرأه الغفلة بعد ما تفطّن بالتكليف.

ففيه : ما تقدّم في المرحلة الاولى من أنّ هذه الغفلة غير قادحة في صدق الامتثال ، فما

٣٢٩

صدر عن ذلك ليس بخارج عمّا تعلّق به الطلب حتّى يؤخذ موردا للنقض ، كما أنّ ما صدر عن الغافل الابتدائي ليس بداخل في العنوان حتّى ينتقل من بطلان كونه امتثالا إلى بطلان المدّعى.

ومحصّل الجواب : منع الملازمة على تقدير وبطلان اللازم على تقدير آخر ، ومثله النقض بالناسي ، فإنّ ما يصدر منه مطلوب للآمر بل عينه ، وإن كان هو ناسيا لأمره.

وأمّا الشرع : فقد استدلّوا منه على اعتبار النيّة في كلّ واجب إلاّ ما أخرجه الدليل بوجوه واهية غير ناهضة على مطلوبهم.

منها : قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(١) حكى الاستدلال به عن العلاّمة في المنتهى ، وعن المحقّق في المعتبر ، مضافا إلى قوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ )(٢) وتمسّك به العلاّمة والسيّد في التهذيب والمنية على ما رأيناه.

وكان وجه الاستدلال به : أنّه بقرينة النفي والاستثناء قصر للمأمور به العامّ المقدّر بالعبادة على وجه الإخلاص ، إمّا بزعم أنّ العبادة ما اعتبر في مفهومها عرفا ذلك ، أو جعل الدين الّذي هو الطريقة عبارة عن مجموع العقائد وفعل الواجبات ، نظرا إلى أنّ الإخلاص به لا يتأتّى إلاّ بقصد الامتثال.

والظاهر عدم الفرق بين جعل مدخول « اللام » غاية لمضمون الأمر ، بدعوى : كون « اللام » للعلّة ، ليكون التقدير : « وما أمروا بشيء ممّا أمروا به إلاّ لأجل أن يعبدوا الله » أو جعله نفس المأمور به ، بدعوى : كون « اللام » للتقوّي نظير ما في قوله تعالى : ( وَأُمِرْتُ ) لأعبد ( الَّذِي فَطَرَنِي )(٣) وقوله أيضا ( وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ )(٤) وغير ذلك ممّا وقع « اللام » عقيب الأمر أو الإرادة كقوله : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ )(٥) كما توهّم ، ولا بين أن يقدّر المأمور به على الأوّل من جنس المستثنى ليكون التقدير : « وما امروا بالعبادة » على ما حكى عن ابن هشام في المغني من القول بأنّ هذه « اللام » لو كانت للغاية فلابدّ من كون مدخولها مفعولا للفعل المتقدّم عليه ، بمعنى لزوم أن يقدّر مفعول ذلك الفعل من جنس مدخولها ، أو غيره كما يتوهّم أيضا.

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) الزمر : ٢.

(٣) كذا في الأصل ، والآية المباركة هكذا : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ( يس : ٣٦ ).

(٤) الأنعام : ٧١.

(٥) الأحزاب : ٣٣ ، وقوله أيضا : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ( منه ). ( النساء : ٤ ).

٣٣٠

نعم لمّا كان الآية واردة في شأن أهل الكتاب فلم تدلّ إلاّ على كون الأصل في كلّ واجب على أهل الكتاب أن يكون مع نيّة الإخلاص ، فلابدّ من انضمام الاستصحاب وأصالة عدم النسخ إليها ، أو إنضمام قوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) أي الثابتة ، وصفا لمقدّر اضيف إليه « الدين » كالملّة أو الشريعة ، على ما حكى عن الشيخ أبي علي في تفسير الآية ، نظرا إلى كون الاسم إشارة إلى ما وصف لأهل الكتاب ، والدّين القيّم إشارة إلى هذا الدين.

وأمّا ما يورد على الاستصحاب من أنّ جريانه فرع بقاء الموضوع وقد تغيّر جزما ، لأنّ ما أمر به أهل الكتاب من الصلاة وغيرها من عباداتهم غير ما هو ثابت في هذه الأمّة ، والمفروض أنّ المأمور به لم يكن مشتركا بين النوعين للجزم بكون ما هو ثابت لهم فاسدا ، فواضح الفساد بأنّ المراد بالموضوع الّذي يعتبر بقاؤه في مجرى الاستصحاب إنّما هو معروض الحكم الّذي اريد استصحابه ، وهو بالنسبة إلى وجوب النيّة ليس إلاّ النيّة ، وهو أمر واحد لا يختلف باختلاف الامم في عباداتهم ، والاختلاف في العبادات لا يقضي بتغيّرها جزما ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الاستدلال.

ولكن يردّه ـ على تقدير كون « اللام » للأجل والغاية ـ : أنّه لا يلائمه عطف قوله : « ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » على مدخول « اللام » بهذا المعنى كما يشهد به الذوق السليم ، نظرا إلى وجوب كون المعطوف في حكم المعطوف عليه ، فلو كان مدخول « اللام » غاية للأوامر للزم أن يكون المعطوفان أيضا من هذا القبيل ، بأن يكون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة غاية للأوامر وهو متّضح الفساد ، لعدم انحصار الغرض من الأوامر فيهما جزما ، وهو قرينة ترجّح حمل « اللام » على المعنى الآخر وهو التقوّي.

ولو حمل « اللام » في قوله : « ليعبدوا » على الغاية كما هو المفروض ، وفيهما على التقوّي الملازم لكون المأمور به هو المدخول ، للزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بعنوان الحقيقة على فرض الاشتراك أو الحقيقة والمجاز على فرضيهما ، وهو كما ترى معركة للآراء مخالف لمذهب المحقّقين ، فهو إمّا غير جائز أو مرجوح ولا يصار إلى شيء منهما.

مع أنّه على تقدير كونه للغاية مطلقا ـ بعد الغضّ عمّا ذكر ـ أيضا لا يوجب المطلوب ، لكون المعنى المراد حينئذ : أنّ الغرض من الأوامر إنّما هو حصول العبادات المأمور بها عنهم ووقوعها في الخارج ليتقرّبوا به إلى الله تعالى ، فيكون مفاد الآية حينئذ : أنّ صدور

__________________

(١) البيّنة : ٥.

٣٣١

هذه الأوامر منه تعالى إنّما هو من مقتضى اللطف الواجب عليه الّذي هو عبارة عمّا يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ، وكذلك الغرض من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإنّهما أيضا لأجل حصول القرب والزلفى كما يستفاد من قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(١).

مضافا إلى أنّ المعنى الّذي ذكروه لا يساعده عليه شيء من العرف واللغة ، إذ العبادة على ما يقتضيه الاستعمالات العرفيّة وتنصيص أهل اللغة هو التذلّل والانقياد وغاية الخضوع ، ويشهد بذلك أيضا أنّ المشركين كانوا يعبدون من دون الله ولم يكن العبادة منهم عبارة عن الإتيان بالمأمور به ، حيث لا أمر لهم في معبوداتهم ، وإنّما المراد بعبادتهم تذلّلهم لأصنامهم ، وهو المراد بقولهم : ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى )(٢) فلا مدخل للعبادة بهذا المعنى في الأعمال الّتي هي مناط الاستدلال من حيث اشتراطها واقترانها بقصد الإخلاص ، وإنّما المراد أنّهم امروا بما امروا ليحصل لهم التذلّل لله تعالى حال كونهم مخلصين له ما به التذلّل وهو الدين ، على أنّ التذلّل له قسمان :

أحدهما : كونه خالصا لوجهه الكريم من غير تشريك لغيره معه.

وثانيهما : كونه له مع تشريك غيره معه على ما هو دأب المشركين كما يدلّ عليه الآية المتقدّمة ، فيقام الآية للدلالة على أنّ مطلوبه تعالى هو القسم الأوّل خاصّة ، فيكون مفادها إرادة التوحيد في مقابلة الشرك ، على أنّ الإخلاص يكثر استعماله في التوحيد فقوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(٣) أي موحّدين إيّاه في دينهم ، ومن هنا سمّيت سورة التوحيد بكلمة الإخلاص كما لا يخفى.

ويشهد بما ذكرنا أيضا ما عن ابن عبّاس : من أنّ العبادة كلّما اطلقت في الكتاب العزيز يراد بها ما يقابل الكفر والشرك ، كما في قوله تعالى ( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي )(٤) و ( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ )(٥) ومنه قوله تعالى : ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ )(٦) الآية ، ولذلك ترى إقترانها كثيرا بذكر ما هو من أهمّ اصول الدين وفروعه ، كاقترانها في الآية المستدلّ بها بما هو من مهمّ آثار الموحّدين وهو الصلاة والزكاة ، ومن هذا الباب ما في قوله تعالى ( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) الزمر : ٢.

(٣) الأعراف : ٢٩.

(٤) الزمر : ١٤.

(٥) الزمر : ١٥.

(٦) الكافرون : ١ ـ ٣.

٣٣٢

إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(١) الآية.

فإن قلت : حمل « العبادة » في الآية على التذلّل والانقياد لا ينافي مطلوبهم ، إذ التذلّل الّذي هو الغاية المطلوبة من الأوامر لا يتأتّى على وجه مشروع إلاّ بأن يؤتى بالأعمال المأمور بها بقصد الامتثال ، ضرورة أنّ الإتيان بما لم يؤمر به تشريع محرّم ، والمفروض أنّ الإتيان بما أمر من الأعمال أيضا لا يعدّ من التذلّل إلاّ مع اقترانها بهذا القصد ، وهو المطلوب.

قلت : مع أنّه لا ينحصر في الإتيان بالواجبات ، ضرورة حصوله بالمندوبات الّتي لا إشكال في اعتبار القصد المذكور في الامتثال بها كما سنقرّره ، يدفعه : أنّ كون الغاية المطلوبة من الأوامر التذلّل لله غير كون المراد بكلّ أمر حصول التذلّل ، فإن القصر على ما عرفته إضافي بالقياس إلى التذلّل لغيره تعالى من المعبودات الباطلة ، فيكون بالنسبة إلى مناط الاستدلال قضيّة مهملة ، وهي لا توجب المحصورة الكلّيّة جزما.

وأمّا على تقدير جعل « اللام » لغير الغاية وهو التقوّي ، فاورد عليه أيضا : بأنّ النفي والاستثناء لابدّ وأن يرجعا إلى القيد الأخير من الكلام ، فيكون المعنى : « وما امروا بالعبادة إلاّ على وجه الإخلاص » وهو مع عدم دلالته على أنّ كلّ مأمور لابدّ وأن يأتي بالعبادة على هذا الوجه ـ كما هو المدّعى ـ لا يقضي بما هو مطلوب إثباته من وجوب قصد الامتثال في كلّ ما امروا به ، بل إنّما يدلّ على نفي الشرك وإثبات الإخلاص في مقابلته ، فإنّ إخلاص الدين تجريده عن شوائب الشرك ، فيكون المعنى : « أنّهم امروا بأن لا يشركوا ولا يتّخذوا في عباداتهم شركاء لله سبحانه كما هو من دأب المشركين » فعلى هذا لا ربط بين مفاد الآية والمدّعى أصلا.

ويمكن دفعه : بأنّ النفي والاستثناء يرجعان إلى مجموع المقيّد والقيد ، فإذا كان المستثنى هو العبادة المقيّدة يتمّ المطلوب ، لا باعتبار قيده حتّى يقال : بأنّ المراد به الإخلاص في مقابلة الشرك ، بل باعتبار نفس المستثنى وهو العبادة ، لا من جهة أنّ العبادة ما يعتبر في صحّته قصد القربة حتّى يقال : بأنّه أمر اصطلاحي قد ذكر في مقابلة المعاملة ولا ينوط به الخطاب الشرعي ، بل لدوران صدقها في عرف عامّة المتشرّعة ـ على ما يساعده الاستقراء في موارد الاستعمالات ـ على مواظبة فعل الواجبات والقيام بالمندوبات لا مطلقا بل إذا كانت مقرونة بنيّة الإخلاص وقصد التقرّب ، مع أنّها على ما

__________________

(١) البقرة : ٨٣.

٣٣٣

تقدّم من شهادة كلام أهل اللغة هي التذلّل وغاية الخضوع وقد عرفت أنّه لا يتحصّل إلاّ بالأعمال المأمور بها مع قصد الامتثال ، لعدم اندراج ما عدا ذلك عرفا في التذلّل ، فإذا كان المأمور به هو التذلّل بهذا المعنى يصير عبادة بالمعنى المتنازع فيه.

نعم يرد عليه ابتناء ثبوت المطلوب على هذا التقدير على كون المستثنى منه المقدّر هو الأمر العامّ ، حتّى يكون التقدير : « وما امروا بشيء ممّا امروا به إلاّ العبادة على وجه الإخلاص » ليلزم منه الدلالة على كون كلّ مأمور به هو العبادة وهو غير ظاهر من الآية ، بل الظاهر خلافه على ما يدركه الذوق السليم من ركاكة هذا المعنى وعدم ملائمة المستثنى للمستثنى منه ، وإنّما المناسب أن يقدّر المستثنى منه من جنس المستثنى كما عرفت حكايته عن ابن هشام ، فيكون المعنى : « وما امروا بالعبادة إلاّ العبادة الخالصة لله تعالى » وهذا المعنى لا ملازمة بينه وبين كون كلّ ما امروا به عبادة كما هو المطلوب.

نعم تدلّ على أنّ العبادة لابدّ وأن تقع على وجه الإخلاص وهو أمر لا ينكره أحد حتّى يحتجّ عليه بالآية.

وإن حاولوا الاستدلال على مطلوبهم بقوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) لا يتمّ أيضا ، لا لما قيل من أنّ « الدين » على ما صرّح به أهل اللغة والمفسّرون هو الطريقة الثابتة من الله سبحانه ، وهي عبارة عن أوامره تعالى وأحكامه خاصّة ، وهذا المعنى بظاهره مخالف لمطلوبهم لأنّه حينئذ لابدّ وأن يراد من « الدين » التديّن الّذي هو من مقولة الأفعال ، إذ المشار إليه حينئذ هو العبادة المفهومة عن قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللهَ )(٢) ولمّا كانت العبادة من مقولة الأفعال فلا يلائمها حمل « الدين » عليها بالمعنى المذكور من أهل اللغة ، للزوم البينونة حينئذ فيما بين الموضوع والمحمول ، نظرا إلى أنّه لا ملائمة بين الأوامر والأحكام الّتي هي الطريقة الثابتة وبين ما هو من مقولة الأفعال ، وظاهر أنّ الحمل ممّا يقتضي الاتّحاد الخارجي فلابدّ من حمله على ما كان من مقولة الأفعال وهو التديّن ، وهو كما ترى بعيد مخالف للظاهر ، فلا يصار إليه إلاّ مع دلالة معتبرة ليست موجودة في المقام.

لأنّ ذلك يندفع : بأنّ « الدين » ممّا ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة ـ على ما يساعده التحقيق ـ والمتبادر منه عند المتشرّعة إنّما هو المعنى المصدري كما لا يخفى على المتأمّل ، فلا بعد حينئذ في حمله عليه ، بل هو ممّا يقتضيه الأصل والظاهر.

__________________

(١ و ٢) البيّنة : ٥.

٣٣٤

بل لأنّه إنّما يتمّ إذا كان الحمل في قضيّة قوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) على طريق المواطاة ليفيد انحصار « الدين » في العبادة وهو خلاف ظاهر الحمل ، بل الظاهر منه في العرف والعادة ـ كما هو المصرّح به في كلام بعض الأعلام ـ هو الحمل المتعارفي ، مضافا إلى أنّ أكثر أوامر الشرع هو التوصّليّات فكيف يعقل مع ذلك إرادة حصر « الدين » في التعبّديّات ، فيكون المعنى حينئذ : « أنّ العبادة على وجه الإخلاص من جملة أفراد الدين » وهو أيضا ممّا لا ينكره أحد ، ولا يلزم منه الدلالة على أنّ كلّ ما ثبت في الدين من أنواع المأمور به فهو عبادة إلاّ ما خرج بالدليل كما هو مطلوبهم.

وأمّا ما يقال في ردّ ذلك أيضا : بأنّه ممّا يفضي إلى ارتكاب تخصيص الأكثر في الآية تعليلا بما ذكرناه من كون أكثر الأوامر التوصّليات ، فمّما لا ينبغي الالتفات إليه ، كما لا ينبغي الالتفات إلى تقريره الآخر من أنّ المأمور به في الشريعة على أقسام ثلاث :

الأوّل : ما اعتبر فيه جهة التعبّد محضا كالصلاة ونحوها.

والثاني : ما اعتبر فيه جهة التوصّل محضا.

والثالث : ما اعتبر فيه الجهتان معا ، فيخرج الأخيران عن عموم الآية والباقي بالنسبة إليهما ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء.

ولا ريب أنّ تخصيص الأكثر إمّا باطل أو مرجوح مضعّف ، فإنّ تخصيص الأكثر بناء على التحقيق جائز ، وكونه مرجوحا إنّما يسلّم إذا لم يكن الباقي في حدّ نفسه كثيرا والمقام ليس منه.

ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) لا كلام عندهم في حجّيّته وتقدّمه على الأصل الأوّلي المستفاد عن العمومات الأوّليّة ، مع أنّ خارجه من الأفراد أغلب من باقيه بمراتب شتّى ، ضرورة كثرة العقود الفاسدة نوعا بحسب الشرع ، مضافة إلى العقود الّتي تخرج فاسدة بسبب الاختلال في بعض شروط الصحّة.

ومنها : قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(٣) بتقريب : أنّ الأمر بالإطاعة ـ وهو الانقياد والإتيان بالمأمور به ـ وارد على الأوامر الشخصيّة الواردة في الشريعة الّتي يثبت بها الواجبات ، فيدلّ على أنّ تلك الأوامر الواردة مطلقة لابدّ وأن يمتثل

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) المائدة : ١.

(٣) النساء : ٥٩.

٣٣٥

بها بقصد الإطاعة والانقياد ، للقطع بأنّ العبد المأمور باشتراء اللحم ـ مثلا ـ إذا أتى به لا لداعي الأمر بل لأمر آخر غيره من احتياج نفسه إليه أو غير ذلك لا يقال : إنّه مطيع ، ولا يسمّى فعله إطاعة ، ولا نعني بالتعبّد إلاّ هذا.

واجيب عنه : بأنّ الأمر بالإطاعة مطلق فلا يتناول كلّ أمر ، والقطع بعدم (١) إرادة إيجاد الإطاعة في الجملة ولو في ضمن أمر لا يقتضي القطع بإيجادها في ضمن كلّ أمر كما هو المطلوب ، ولكنّه ليس بسديد لوروده على ما يساعده العرف في سياق العموم ، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة قوله : « يجب على العبد إطاعة مولاه ».

وقد يجاب أيضا : بأنّ ما دلّ على وجوب الطاعة يعمّ امتثال الأوامر والنواهي ». ومن البيّن أنّ جلّ النواهي بل كلّها إنّما يقصد منها ترك المنهيّ عنه من غير تقييد شيء منها بملاحظة قصد الامتثال والإطاعة ، وكذا الحال في الأوامر المتعلّقة بغير العبادات ، فلو بنى على إرادة ظاهر معنى « الطاعة » لزم تقييدها بالأكثر وهو ـ مع مرجوحيّته في ذاته ـ بعيد عن سياق تلك الأدلّة ، فإنّ المقصود وجوب طاعتهم في جميع ما يأمرون به وينهون عنه ، وكذا وجوب اعتبار ملاحظة طاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام في الإتيان بما يأمرون به ، كأنّه ممّا لم يقل به أحد.

ومن البيّن ورود الجميع على سياق واحد ، وقد ورد نحوه في إطاعة الزوجة والعبد للزوج والسيّد مع عدم وجوب اعتبار الملاحظة المذكورة ، فالأولى إذن حمل « الطاعة » على ترك المخالفة والعصيان فيما يأمرون به وينهون عنه ... إلى آخره.

والأولى أن يقال : بأنّه إن اريد أنّ أوامر الإطاعة ممّا توجب تكليفا آخر على المكلّف بالنسبة إلى قصد الامتثال مستقلاّ ، بحيث يبقى الأوامر الخاصّة على إطلاقها ، ليلزم منه حصول الامتثال بها لو أتى بمتعلّقاتها لا بقصد الامتثال مع ترتّب الإثم والعقاب على مخالفة أوامر الطاعة ، كحصول الامتثال بهما معا لو أتى بها مقرونة بالقصد المذكور كما هو الشأن في سائر الواجبات المتعدّدة.

ففيه : مع أنّه خروج عن المتنازع فيه كما لا يخفى ، أنّه ممّا لا يساعده طريقة العرف الموافقة لحكم العقل بلزوم تحصيل مطلوب الآمر على وجهه ، من حيث إنّها لا يراد منها إلاّ الإرشاد وتحذير المكلّف عمّا يوقعه في الندامة باستحقاق العقاب ، نظير ما ورد في الشرع

__________________

(١) كذا في الأصل ، وينبغي أن تكون العبارة هكذا : « والقطع بإرادة ... إلخ » ـ والله العالم ـ.

٣٣٦

من نواهي المعصية ، فلا يكون سياقها سياق إرادة الطلب فضلا عن الوجوب المستلزم لما ذكر ، فلذا تراهم غير ملتزمين في شيء منهما بتعدّد العقاب فيما لو ترك شيئا من العناوين الخاصّة المأمور بها نظرا إلى إفضائه إلى ترك « الإطاعة » المأمور بها ، بل في بعض الأخبار ما يشهد بذلك ممّا ورد في عقد المملوك إذا كان بغير إذن مولاه الحاكم بصحّته تعليلا بأنّه : « لم يعص الله بل عصى سيّده ».

فلا وجه لما التزم به بعض الأفاضل في هدم الاستدلال بتلك الأوامر من أنّها لا تقضي بتقييد المطلوب في سائر الأوامر ، تعليلا : « بأنّ غاية ما يفيده هذه الأوامر وجوب تحصيل معنى الامتثال والانقياد ، وهو أمر آخر وراء وجوب الإتيان بالمأمور به الّذي هو مدلول الأمر على الوجه المذكور ، فأقصى ما يلزم حينئذ أنّه مع إتيانه بالمأمور به لا على وجه الامتثال أن لا يكون آتيا بالمأمور به بهذه الأوامر ، ولا يستلزم ذلك عدم إتيانه بما أمر به في تلك الأوامر مع إطلاقها وعدم قيام دليل على تقييدها ... إلى آخره.

مع أنّه لو سلّم أنّ المقصود منها هو الوجوب فهو توصّلي ، وليس الغرض منه إلاّ تحصيل العنوانات الخاصّة المأمور بها بالأوامر الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة على أيّ نحو اتّفق فيكون مسقطا لأوامر الإطاعة ، لما نرى بالوجدان أنّ غرض الآمر لم يتعلّق إلاّ بمجرّد الحصول الخارجي نظير سائر التوصّليّات كغسل الثوب الواجب على المكلّف نفسه الّذي يسقط عنه بفعل الغير ، فيكون أوامر الإطاعة ثابتة ما دامت الأوامر الواردة في العنوانات الخاصّة باقية ، والمفروض أنّ الإتيان بكلّ واحد منها كيفما اتّفق يوجب سقوط الأمر به لما ذكرنا من أنّ الأمر به لا يقتضي إلاّ إيجاده في الخارج مطلقا ، وسقوط الأمر به يوجب سقوط الأمر بالإطاعة فيها ، فلا وجه للقول بأنّ أوامر الإطاعة حاكمة على الأوامر الخاصّة كما هو مناط الاستدلال ، لما عرفت من أنّ بقاءها يدور مدار بقاء تلك الأوامر فتسقط بسقوطها على ما هو من مقتضى الدوران.

وإن اريد أنّ تلك الأوامر ممّا يوجب تقييد الأوامر المطلقة كما هو المتنازع فيه.

ففيه : أنّ « الإطاعة » لا ينساق منها عرفا إلاّ موافقة المتفوّق فيما يأمر به أو ينهى عنه وملازمة مطلوبه فعلا وتركا ، ويوافقه « الانقياد » المصرّح به في كلام أهل اللغة عند شرح هذه اللفظة ، وهو المراد شرعا من إطاعة الابن والعبد والزوجة لأبيه وسيّده وزوجها ، وظاهر أنّ الهيئة إذا وردت على المادّة لا تقتضي إلاّ مطلوبيّة مدلول المادّة ، ولمّا كانت المادّة

٣٣٧

لا إشعار لها بلزوم مراعاة القصد عند القيام بالامتثال فالهيئة الواردة عليها أيضا لا توجبه جزما.

ودعوى : أنّ مجرّد الإتيان بالمأمور به لا يسمّى إطاعة بل لابدّ ـ مضافا إلى ذلك ـ من قصد الانقياد غير مسموعة ، بعد مخالفته لما نشاهده من عدم توقّف صدق « الإطاعة » على حصول هذا القصد ، وإنّما يدور وجودا وعدما على إيجاد المأمور به في الخارج ولو مع عدم حصول القصد وترك إيجاده ، فالعبد الآتي بمطلوب مولاه كيفما اتّفق مطيع والتارك له عاص ، مع أنّ المنساق عن الأوامر المتعلّقة بالإطاعة عرفا ليس إلاّ تأكيد مدلول الأوامر الخاصّة المتعلّقة بالعناوين المخصوصة مطلقة كانت أو مقيّدة ، من دون قضائها بزوال ما فيها من الإطلاق ولا إيجابها زيادة في تقييدها.

ولا يقابل ذلك بأولويّة التأسيس ـ على فرض تماميّة أصل القاعدة ـ بعد ما قام الدليل على تعيّن التأكيد الموجب لانتفاء موضوع تلك القاعدة وهو الدوران ، فيكون مفاد تلك الأوامر مفاد حكم العقل بلزوم الإتيان بكلّ عنوان مأمور به والمنع عن العصيان بتركه من غير أن يوجب زيادة فيما تضمّنه الأمر الوارد على ذلك العنوان ، فكما أنّ العقل بعد ما ظفر بتلك الأوامر ولاحظها بعناوينها المخصوصة ينتزع عنها باعتبار ما بينها وبين الآمر والمأمور من الإرتباط الراجع إلى مقام الامتثال مفهوما اعتباريّا يكون مشتركا بين جميع تلك العناوين والأوامر المتعلّقة بها ، فيلزمه على ذلك الأمر المشترك مخافة أن يصيبه بسبب العصيان والإقدام على المخالفة فتنة في الآجل والعاجل من غير أن يداخل في مداليلها بزيادة أو نقيصة ، فكذلك الشارع لكمال رأفته على المكلّف أو شدّة اهتمامه بمطلوباته بعد توجيه الأوامر الخاصّة إليه يلاحظ ذلك الأمر المشترك فيخاطبه بما يوجب إلزامه عليه تأكيدا لما اقتضاه كلّ أمر في مورده الخاصّ من دون أن يتصرّف فيه ثانيا بزيادة أو نقيصة ، فيعبّر عنه بقوله : « أطع » تنزيلا للإتيان به مطلقا منزلة التذلّل والانقياد في عدم تعقّبه الفتنة والعصيان واستحقاق الذمّ والخذلان لو سلّم مدخليّة القصد المذكور فيهما عرفا ولغة ، وإلاّ فهو جرى على حقيقة اللفظ وإطلاق له على حقيقة معناه وهو الإتيان بالمأمور به على وجهه والاجتناب عن المنهيّ عنه كذلك.

وإلى ذلك ينظر أمر الولد والعبد والزوجة بإطاعة أبيه وسيّده وزوجها ، ويرشدك إلى ذلك أيضا ملاحظة عدم الفرق إجماعا في لزوم الإطاعة بين الأوامر والنواهي ، مع أنّها لا مدخليّة في الامتثال بها لغير ترك العصيان الّذي ألزم عليه العقل من باب اللطف جزما.

٣٣٨

وإن شئت زيادة توضيح فلاحظ طريقة السلطان إذا أصدر إلى بعض خدّامه أوامر وأحكاما ، فيخاطبه عقيب ذلك أو قبله بقوله : « أطعني وأطع وزيري وولاة أمري ».

وممّا يؤيّد ما ذكرناه لزوم تخصيص الأكثر المرجوح بالقياس إلى النواهي لو كانت الأوامر المذكورة في مصبّ إفادة اشتراط القصد المذكور في متعلّق الأوامر ، الّتي ليست في مقابلة النواهي إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، ولا سيّما مع ملاحظة خروج التوصّليّات الّتي هي أكثر بمراتب ممّا هو معقد هذا الباب.

وممّا يؤيّده أيضا عطف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واولي الأمر في الآية على الله تعالى ، اللذين لم أظنّ القول بوجوب قصد الامتثال في طاعتهما الواجبة بموجب الآية ، بل ربّما يصرّح بما يومئ إلى دعوى الإجماع.

وبالجملة : لا إشكال في عدم ورود تلك الأوامر في سياق إفادة تقييد الأوامر المطلقة واعتبار قصد الامتثال في المطلوب بها كما يزعمونه ، لكونه ممّا لا يساعده العرف واللغة ولا سياق الكلام وأجزاؤه ، مع مخالفته لبعض القواعد حسبما قرّرناه.

مضافا إلى أنّ استفادة ذلك منها ممّا يفضي إلى الدور الواضح ، ضرورة أنّ الإطاعة إذا كانت عبارة عن الإتيان بالمأمور به على وجهه ـ بناء على ما يساعده العرف واللغة ـ فدلالة الأمر المتعلّق بها على وجوب قصد الامتثال في الإتيان بالمأمور به موقوفة على كون ذلك وجها من وجوهه ، والمفروض توقّف ثبوت ذلك على الدلالة المذكورة.

ومنها : ما ورد في الأخبار كالنبوي المعروف المدّعى تواتره من قوله عليه‌السلام : « لا عمل إلاّ بنيّة » ومثله : « إنّما الأعمال بالنيّات » ومثلهما : « ولكلّ امرء ما نوى » (١).

وفيه : أيضا عدم قضاء شيء من ذلك بما حاولوه في المقام.

أمّا الأوّل : فلابتناء نهوضه على تصرّف في لفظة « لا » بحملها على نفي الآثار الشرعيّة ، وتصرّف في لفظ « العمل » بحمله على ما هو المصطلح عند المتشرّعة الّذي يعبّر عنه بالخيرات والمبرّات واجبة كانت أو مندوبة ، وهو المراد بقولهم : « العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر » وتصرّف في لفظ « النيّة » بحمله على المعنى الخاصّ المصطلح المعبّر عنه بقصد الامتثال ، وكلّ ذلك مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل مفقود في المقام.

وتوضيح ذلك : أنّ [ لا ] النافية محتملة لإرادة نفي الحقيقة ، أو نفي الآثار المترتّبة على

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات.

٣٣٩

العمل ، وهو محتمل لمحامل ثلاث :

أحدها : سنخ العمل الاختياري بجميع اعتباراته وعنواناته ، منويّة كانت أو غير منويّة أو مختلفة.

وثانيها : العمل الاختياري بالجهة الّتي وقع بلا نيّة بالنسبة إلى تلك الجهة ، وإن اشتمل عليها في الجهة الاخرى ، كإكرام زيد مثلا أو ضربه إهانة أو أذيّة إذا استلزم إهانة عمرو أو تأديبه ، فهو بالنسبة إلى الإهانة والتأديب غير منويّ فلا يكون عملا اختياريّا وإن كان من جهة الإكرام والإهانة عملا اختياريّا لكونه منويّا من تلك الجهة.

وثالثها : المعنى الخاصّ المصطلح في لسان المتشرّعة واجبا كان أو مندوبا. والنيّة أيضا محتملة لأن يراد بها المعنى اللغوي المتداول في العرف وهو مطلق القصد ، أو المعنى الخاصّ المتعارف في عرف المتشرّعة المعبّر عنه بقصد القربة ، والحاصل من ضرب الأوّلين في الثلاث المتوسّطة ثمّ المرتفع في الأخيرين اثنا عشر احتمالا ، وظاهر أنّ الاستدلال لا يتمّ إلاّ بانضمام الثاني من الأوّلين إلى ثالث الثاني مع ثاني الثالث وهو كما ترى مخالف للأصل والظاهر من جهات عديدة ، والالتزام به بحمل الرواية عليه دونه أصعب من خرط القتاد ، مع عدم دلالة معتبرة.

والّذي يظهر بملاحظة أنّ الشارع ليس من شأنه إلاّ بيان ما يتعلّق بشرعه مع مراعاة سائر القواعد (١) على قدر الإمكان إنّما هو التصرّف في النافية مع إبقاء الباقيين على ما عليه بحسب الأصل ، فيكون مفاد الرواية حينئذ عدم الاعتداد بعمل الغافل والهازل والساهي والمكره في عقودهم وإيقاعاتهم بل مطلق معاملاتهم وعباداتهم ، فلا يبقى فيها دلالة حينئذ على أنّه لا يكون عملا إلاّ بنيّة التقرّب حيث لا شاهد فيها على هذا القصد ، فيبقى المتنازع فيه غير ثابت بتلك الرواية.

__________________

(١) منها : لزوم الكذب لو حمل النفي على نفي الحقيقة و « النيّة » على أحد المعنين.

ومنها : لزوم تخصيص الأكثر لو حمل النفي على نفي الآثار و « النيّة » على معناها الخاصّ ، ضرورة خروج المحرّمات والمكروهات والمباحات بل سائر العقود والإيقاعات ، لعدم اشتراط شيء من ذلك بنيّة التقرّب وليست الواجبات والمندوبات بالنسبة إليها إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، ولزوم التجوّز في لفظ « العمل » لو حمل على مصطلح المتشرّعة مع التجوّز في « النيّة » أيضا على بعض التقادير كما عرفت ، فيترجّح ما ذكرنا من جهة عدم استلزامه شيئا من ذلك ، ولزوم التجوّز في كلمة « لا » لا بأس به بعد قيام القرينة الدالّة على ذلك ، وهو صون كلام الحكيم عن الكذب واشتماله على ما لا شبهة في مرجوحيّته ولو في مقابلة المجاز النادر فضلا عن المجاز الشائع. ( منه عفي عنه ).

٣٤٠