تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

يوقع نفسه في التكليف بما لا يطاق ، والمطلوب لا يثبت إلاّ على التقدير الأوّل ، والنتيجة أعمّ منه والأعمّ لا يدلّ على الأخصّ.

وأمّا الثاني : فلمنع بطلان التكليف بما لا يطاق على إطلاقه إن اريد به التكليف بالممتنع ، لما سنقرّره من جوازه في الجملة بالنسبة على بعض الصور.

ومنع لزومه على إطلاقه لو اريد به التكليف بغير المقدور ، بل ربّما لا يلزم ذلك مع بقاء الوجوب وترك المقدّمة كما سنقرّره أيضا ، فيرجع ذلك أيضا إلى منع الملازمة كما لا يخفى.

وإن اخترنا الثاني دفعنا الاستدلال أيضا تارة بمنع الملازمة واخرى بمنع بطلان اللازم.

وسنده على الأوّل أوّلا : النقض بما لو انقضى وقت الواجب وقد تركه المكلّف مع إتيانه بجميع مقدّماته ، فإنّه يوجب خروج الواجب عن كونه واجبا.

وثانيا : الحلّ بأنّه بعد عروض عدم التمكّن بانتفاء مقدّمة وجوده لا وجوب حتّى يلزم من فرض عدم بقائه خروج الواجب عن وجوبه ، كما أنّه فيما بعد انقضاء وقته لا وجوب له حتّى يلزم المحذور من الفرض المذكور ، وذلك لأنّ التكليف كما أنّه مشروط في حدوثه بالقدرة فكذلك في بقائه أيضا بحكم العقل وبناء العرف ، فعروض عدم التمكّن يوجب ارتفاعه ومعه لا وجوب حتّى يلزم المحذور.

وعلى الثاني : أنّه لا داعي إلى دعوى بطلان اللازم إلاّ توهّم انحصار ما يوجب خروج الواجب عن الوجوب في الامتثال أو قيام المسقط مقامه ، ومحلّ البحث خال عنهما ، وهو في حيّز المنع لثبوت سبب آخر وهو انقضاء الوقت كما أشرنا إليه لئلاّ يلزم خلاف قضيّة التوقيت ، فلم لا يجوز أن يكون عروض عدم التمكّن عن الامتثال أيضا من جملة الأسباب ، كما هو من مقتضى التحقيق من اشتراط التكليف بالقدرة حدوثا وبقاءا.

هذا بناءا على كون المراد من اللازم خروج الواجب المطلق عن وجوبه.

وأمّا لو كان المراد خروجه عن إطلاقه وانقلابه مقيّدا كما فهمه بعضهم ، حيث علّل بطلان اللازم على هذا التقدير : « بأنّ وجوبه إذا زال بزوال مقدّمته لزم أن يكون مقيّدا بالنسبة إليها ، والمفروض أنّه مطلق ».

فدفعه أوضح ، لأنّ إطلاق الوجوب على كلّ حال مشروط بالقدرة ، وانتفاء المقدّمة يوجب زوال القدرة وهو قاض بزوال الوجوب فهو مقيّد بالنسبة إلى القدرة لا إلى تلك المقدّمة.

٥٢١

وأيضا ، فإنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ تارك المقدّمة مطلقا. وهو دليل الوجوب *.

والجواب عن الأوّل ، بعد القطع ببقاء الوجوب : أنّ المقدور كيف يكون ممتنعا **؟ والبحث إنّما هو في المقدور ، وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول. والحكم بجواز الترك هنا عقليّ لا شرعيّ ؛ لأنّ الخطاب به عبث ، فلا يقع من الحكيم. وإطلاق القول فيه يوهم إرادة المعنى الشرعيّ فينكر. وجواز تحقّق الحكم العقليّ هنا دون الشرعيّ يظهر بالتأمّل.

وعن الثاني : منع كون الذمّ على ترك المقدّمة ، وإنّما هو على ترك الفعل المأمور به ، حيث لا ينفك عن تركها.

__________________

* ولمّا كان المصلحة الكامنة في المقدّمة غيريّة ناشئة عن كونها موصلة إلى الغير ومفضيا تركها إلى ترك ذلك الغير فلا جرم يكون الذمّ الوارد على ذلك الترك وارد عليه من حيث إفضائه لا لذاته ، وهذا هو المقصود من الاستدلال وإن قصرت عبارته عن إفادته.

فالاعتراض عليه : بأنّه لو صحّ ذلك لقضى بالوجوب النفسي دون الغيري ليس في محلّه ، كما أنّ ما في كلام المصنّف من منع كون الذمّ على ترك المقدّمة وإنّما هو على ترك الفعل المأمور به ليس على ما ينبغي ، كيف ولا يستريب ذو مسكة أنّ الذمّ إنّما يتعلّق بترك المقدّمة نفسها ، تقدّم زمان فعلها على زمان الفعل المأمور به أو قارنه.

وممّا يفصح عن ذلك أنّه لو اعتذر التارك للمقدّمة عند توجّه الذمّ إليه بعدم تمكّنه من الفعل بدون مقدّمته لاعترضوا عليه بقولهم : « لم تركت المقدّمة حتّى لا تتمكّن من الفعل؟ » وهو توبيخ لا موقع له إلاّ مواضع الذمّ ، مع أنّ القوّة العاقلة مستقلّة باستحقاق التارك للمقدّمة للذمّ كاستقلالها باستحقاق الآتي بها للمدح ومعه لا مجال إلى إنكار ذلك.

نعم يرد عليه : أنّ الذمّ ربّما يترتّب على الشيء من جهة تفويت ما له من الخاصيّة وإن لم يكن واجبا ، كما أنّ ترتّب المدح ربّما يتعلّق به من جهة تحصيل الخاصيّة وإن كان مباحا كما لا يخفى على المتدبّر ، فليس في كلّ ذمّ دلالة على الوجوب.

نعم الذمّ البالغ إلى حدّ يكشف عن استحقاق العقاب ملزوم للوجوب ، وهو في المقام ليس بهذه المثابة ولا سيّما بملاحظة ما قدّمنا تحقيقه مرارا.

** قد عرفت بما ذكرناه من الوجوه الثلاث في توجيه تلك العبارة أنّها مسوقة لمنع الملازمة.

٥٢٢

وبالتأمّل فيما قرّرناه من الجواب مع ملاحظة ما ذكرناه من أنّ المصنّف فهم من الاحتمالات الثلاث الجارية في لفظة « حينئذ » الاحتمال الأوّل تعرف أنّه على هذا التقدير كلام جيّد ، ضرورة أنّ جواز الترك لا يستلزم الترك حتّى يترتّب عليه لزوم التكليف ، كما أنّه لا يستلزم سلب القدرة عن المقدّمة أو عن الواجب ، لأنّ تأثير إيجابها في القدرة عليها أو على الواجب غير معقول ، فعلى هذا يكون قوله : « وتأثير الإيجاب » إلى آخره ، من تتمّة الجواب لا أنّه جواب آخر نقضي كما توهّمه بعضهم ، بدعوى : أنّه نقض بصورة الوجوب لو تركها عصيانا ، إذ لو عصى بتركها فإمّا أن يكون الوجوب باقيا فيلزم التكليف بما لا يطاق ، أو مرتفعا فيلزم خروج الواجب عن الوجوب.

وإنّما يستقيم ذلك النقض ممّن يجعل الجواب على تقدير الاحتمال الثاني من الاحتمالات المذكورة كما هو ظاهر الاستدلال على ما عرفت آنفا ، ولكن ذلك حينئذ من جهة أنّه على هذا التقدير يصير جوابا ثانيا فيبقى الجواب الأوّل وهو منع لزوم التكليف بما لا يطاق بمجرّد ترك المقدّمة محلاّ للمناقشة ، لأنّ لزوم ذلك في بعض الصور ممّا لا مجال لإنكاره كما يتّفق ذلك في ترك الخروج مع القافلة الأخيرة بالنسبة إلى الحجّ.

وربّما يقال في توجيه العبارة المسوقة لبيان منع الملازمة : « بأنّ المقدور لا يخرج عن المقدوريّة الأصليّة بسبب ترك اختياري ، وإن عرض له الامتناع بالغير بسبب اختياره ، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، كما يقال : إنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، والكلام إنّما هو فيما هو مقدور بالنظر إلى ذات المكلّف والزمان والمكان وسائر الامور الخارجة سواء أراده المكلّف واختاره أو لا ، فكيف يصير ممتنعا امتناعا مانعا عن تعلّق التكليف بمجرّد إرادته واختياره ، كيف ولو كان كذلك لم يتحقّق عاص بترك الواجبات مثلا ، إذ الفعل ممتنع عنه بالنظر إلى إرادته واختياره عدمه » انتهى.

وأنت خبير ببعد هذا المعنى عن العبارة كمال البعد ، وإنّما يلائم ذلك لو اريد الجواب بمنع بطلان اللازم ، فلذا ترى جماعة أنّهم استشهدوا بالقضيّة المذكورة المشهورة عند منع بطلان اللازم بعد تسليم الملازمة ، فقالوا : « بأنّ التكليف بما لا يطاق إنّما يقبح على الحكيم إذا لم يكن الامتناع ناشئا عن اختيار المكلّف ، وأمّا معه فلا قبح فيه ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

ويشكل ذلك : بأنّ امتناع التكليف بالممتنع إنّما هو من جهة أمر راجع إلى المكلّف

٥٢٣

الحكيم وهو القبح العقلي الغير الجائز عليه لدلالة الأدلّة القاطعة من العقل والنقل عليه على ما هو من مقتضى القواعد العدليّة الخارجة في ردّ الأشاعرة القائلة بجواز التكليف بالممتنع.

فإنّ أدلّتهم الناهضة على ذلك عامّة تشمل كلاّ من الامتناع الذاتي والامتناع العرضي الناشئ عن اختيار المكلّف أو غيره ، كما لا يخفى على من لاحظ وتأمّل فيها جيّدا.

وإن شئت حقيقة ذلك فلاحظ العقلاء في ذمّهم من يخاطب المشلول ويأمره بالقيام أو المشي فيضربه لأجل عدم امتثاله ، فإنّهم لا يزالون يذمّونه على كلّ من الخطاب والضرب ، ولا يتأمّلون في توبيخه حتّى يستفصلوا عن سبب صيرورته مشلولا فيتركوه على شأنه إن كان ذلك بسبب من قبله اختيارا ، وإلاّ فبادروا على ذمّه وتوبيخه إن كان بسبب من الله أو من غيره اضطرارا ، بل يبادرون ابتداء على ذمّه ورميه بالسفاهة وقلّة العقل من غير استفصال.

فلذلك ترى بعض المحقّقين (١) حيث التزم في توجيه عبارة المصنّف بما ذكر مستشهدا بالقضيّة المذكورة ـ حسبما تقدّم كلامه ـ تنبّه على ذلك في قوله : « لا يقال : بعد تحقّق الامتناع عليه بأيّ جهة كانت يقبح على الحكيم طلب حصول الفعل وإيجاده منه » فأشكل عليه الأمر ولكنّه تفصّى عنه بما لا يكاد ينضبط حيث قال : « بأنّ أوامر الشارع للمكلّفين ليس على قياس أوامر الملوك والحكّام الذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه عبثا وسفها ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض بأنّ اللائق بحاله كذا ، وإن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل خلافه كان أثره خلافه ، وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل ، إذ بعد ذلك أيضا يصحّ أن يقال : إنّه فات عنه ما هو اللائق بحاله ويترتّب على ذلك الفوت فوت الأثر الّذي كان أثره ، وليس معنى كونه مكلّفا حينئذ إلاّ هذا » انتهى. ولا يخفى ما فيه من الوهن.

أمّا أوّلا : فلبطلان قياس أوامر الشارع على أوامر الطبيب ، لما هو المحقّق في محلّه من أنّ أوامره ليست من باب أوامر الطبيب لتكون إرشاديّة صرفة وبيانا لمصلحة المأمور وخاصيّة المأمور به الّتي هي مصلحة للمأمور ولا من باب أوامر الملوك والموالي بالنسبة إلى خدّامهم وعبيدهم لتكون مولويّة صرفة وطلبا لتحصيل المصلحة العائدة إليهم خاصّة دون المأمورين ، بل هي مشتملة على كلّ من تلك الجهتين معا ، وعلى ذلك فلا وجه

__________________

(١) سلطان العلماء.

٥٢٤

لدعوى كون غرض الشارع من الأمر بذي المقدّمة بيانا لفوات خاصيّة المأمور به عن المأمور غير مقصود به حصول الفعل نظرا إلى امتناعه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون غرض الشارع من الأمر بذي المقدّمة بيان خاصيّة المأمور به الفائتة عن المكلّف إن كان مع الطلب والإرادة الحتميّين فهو كرّ على ما فرّ.

وإن كان بلا طلب وإرادة بأن يكون لمجرّد الإخبار بتلك الخاصيّة فهو خروج عن موضع البحث ، لأنّ فرض الكلام إنّما هو على تقدير بقاء وجوب ذي المقدّمة على تقدير ترك المقدّمة الّذي لا يراد منه إلاّ الطلب الحتمي الإلزامي ، وإلاّ فينقلب المقدّمة الاولى المذكورة في تقرير الاستدلال بالمقدّمة الثانية وهي خروج الواجب عن وجوبه ، ضرورة أنّ مفاد أمر الطبيب ليس هو الواجب المصطلح الّذي يستحقّ العقاب بمخالفته ، والكلام إنّما هو في ذلك دون غيره.

وأمّا التمسّك على جواز التكليف بالممتنع العرضي الناشئ امتناعه عن اختيار المكلّف بالقضيّة المتقدّمة ، فمبنيّ إمّا على كون المراد بثاني الاختيارين كون الفعل اختياريّا في ثاني حال الامتناع أو كونه في حكم الاختياري في تعلّق الخطاب به وترتّب العقاب على مخالفته ، والأوّل بإطلاقه غير صحيح لما سنقرّره والثاني أيضا غير سديد لما عرفت.

وربّما يعترض عليه أيضا : بأنّ ذلك مبنيّ على توهّم كون المراد بالاختيار الثاني هو الاختيار في ثاني زمان الامتناع ، بمعنى كونه مختارا في الفعل فعلا بعد ما صار ممتنعا ، فحينئذ يجوز التكليف به فعلا لأنّه تكليف بالفعل الّذي فاعله مختار فيه وإن كان هو بنفسه ممتنعا.

وهو كما ترى توهّم فاسد واشتباه فاحش ناش عن عدم التدبّر في فهم تلك القضيّة وعدم فهم المراد منها ، فإنّها قضيّة كلاميّة ذكرها علماء الكلام قبالا للجبر الّذي صار إليه الأشاعرة ـ بدعوى : أنّ العباد مجبورون في أفعالهم غير مختارين ، لأنّ المختار كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك ، فالعبد إذا أراد ترك فعل من أفعاله إرادة جزميّة فهو بعد الترك لا يقدر على فعله فكيف يقال بأنّه بحيث إن شاء فعل ، فيكون مختارا ـ لتكون ردّا عليهم في ذلك المذهب الفاسد والاعتقاد الكاسد.

ومحصّل مرادهم بها : أنّ الامتناع صفة للفعل والاختيار صفة للفاعل ، ومعنى ذلك أنّ صيرورة الفعل ممتنعا بسبب اختيار المكلّف امتناعه باعتبار إرادته لتركه لا ينافي اختياره فيه وكونه مختارا بالنسبة إليه في آن اختيار الترك وحصول الامتناع ، من جهة أنّه إنّما امتنع لأجل تركه الاختياري.

٥٢٥

وهذا بعينه نظير ما يقولون في القضيّة الاخرى من أنّ الوجوب بالاختيار ، لا ينافي الاختيار ردّا على الأشاعرة أيضا القائلة بالجبر ، لأنّ العبد إذا أراد إيجاد فعل بإرادة جزميّة يوجده ويصير ذلك الفعل واجبا عليه غير ممكن تركه فكيف يقال : إنّه مختار بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك ، وإنّما راموا بذلك أنّ وجوب الفعل حينئذ مسبّب عن اختيار الفاعل وإرادته الاختياريّة ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بمعنى أنّه حين صيّره واجبا كان مختارا في فعله وتركه ، فإذا اختار الفعل صار واجبا فهو لا ينافي كونه مختارا بل يؤكّده ويحقّقه ، وكذا الحال في صورة الامتناع فإنّه لكونه ناشئا عن الاختيار لا ينافيه بل يؤكّده ويحقّقه.

وممّا يشهد بأنّ ذلك هو المراد من القضيّة لا الاختيار بعد الامتناع إطلاقهم إيّاها في حقّ الكافر في ردّ من أنكر كونه مكلّفا بالفروع ، تعليلا بعدم تمكّنه في حال الكفر منها وامتناعها عليه حينئذ ، ضرورة أنّه ليس المراد بالاختيار الثاني هنا هو الاختيار في ثاني زمان الامتناع لعدم صيرورته بالنسبة إلى ذلك ممتنعا ، بل المراد به الاختيار حين الامتناع بمعنى أنّ ما امتنع عليه من العمل الصحيح كان مقدورا له باعتبار قدرته على إزالة الكفر ، فهو من جهة اختياره ترك الإزالة صيّره غير مقدور في حقّه.

فالحاصل الامتناع بالاختيار بالمعنى الّذي فهمه المشهور ينافي الاختيار ، ومعه يقبح التكليف لكونه تكليفا بالممتنع.

فمن هنا ظهر فساد القول بعدم المنافاة مطلقا ، كما يظهر فساد القول بالتفصيل فيما بين الخطاب والعقاب فينافي على الأوّل دون الثاني ، لأنّه إذا كان الخطاب بغير المقدور محالا فالعقاب عليه أيضا قبيح ، كما يشهد به المثال العرفي المتضمّن لذمّ العقلاء آمر المشلول بالقيام وضاربه ، مع أنّ العقاب فرع الخطاب والمفروض انتفاؤه فكذلك العقاب.

نعم لو اريد بالعقاب ما يترتّب على التكليف السابق الّذي سقط عنه لأجل الامتناع فلا ضير فيه ، وأمّا العقاب على ما بعد الامتناع الّذي لا تكليف بالنسبة إليه أصلا فمحال ، إلاّ أن يراد به العقاب المترتّب على تفويت التكاليف عن نفسه ، ولكنّه ليس من العقاب على ما لا خطاب فيه أصلا بل هو أيضا عقاب على ما تعلّق به الخطاب سابقا على التفويت ، وهو تكليفه بأن لا يفوّت التكاليف الآتية عن نفسه عقلا والمفروض تفويته فصار معاقبا.

وأمّا التفصيل الآخر في القضيّة فيما بين بقاء الاختيار وسلبه فلا منافاة على الأوّل خاصّة ، ففاسد أيضا لأنّ عدم المنافاة في الصورة الاولى لو اريد به عدمها في حال امتناع

٥٢٦

الفعل فلا شكّ في أنّه ينافي الاختيار ، لعدم اختياره على الفعل في تلك الحالة كامتناع العبادة الصحيحة من الكافر في حال الكفر ، وإن اريد به عدمها بالنسبة إلى ما بعد حال الامتناع فالسالبة بانتفاء الموضوع لعدم صيرورته ممتنعا حينئذ. انتهى.

وأنت خبير بضعف هذه الكلمات من البداية إلى النهاية ، ومنع إطلاق القول بالمنافاة لما ستعرفه ، ومنع منافاة كون القضيّة كلاميّة واردة في ردّ الأشاعرة القائلة بالجبر ، لكون المراد بالاختيار الثاني هو الاختيار فيما بعد الامتناع نظرا إلى أنّه امتناع نشأ عن إرادة الترك ، وهو مع ذلك فعل اختياري لقدرته على صرف الإرادة عن الترك إلى الفعل ، فلكون صرف الإرادة اختياريّا يكون الفعل في ثاني زمان الامتناع أيضا اختياريّا.

هذا كلّه كلام في القضيّة المذكورة بالنسبة إلى الاستدلال المتقدّم ودفعه.

وقد عرفت ممّا ذكر إجمالا أنّ الأقوال فيها أربع ، ولمّا صارت من مزالّ الأقدام حيث اختلفت فيها آراء الأعلام فلا بأس بأن نشير إلى ما يجري فيها من المعاني المحتملة.

ثمّ النظر إلى ما ينطبق عليه الأقوال المذكورة من تلك المعاني ، ثمّ صرف الهمّة إلى تحقيق القول في حكمها على حسبما يساعده النظر.

فنقول : لا ريب أنّ الامتناع وصف للفعل ككون أوّل الاختيارين وصفا للفاعل ، وأمّا ثانيهما فيجوز كونه وصفا للفاعل أيضا على معنى كونه مختارا في ذلك الفعل ، كما يجوز كونه وصفا للفعل على معنى كونه فعلا اختياريّا والفرق بينهما بعد وحدة المعنى لفظي.

وعلى التقديرين فإمّا أن يراد به الاختيار بعنوان الحقيقة مطلقا ، فيكون المعنى : أنّ امتناع الفعل باختيار الفاعل لا ينافي كونه اختياريّا حقيقة ، فهو بعد الامتناع أيضا اختياري بعنوان الحقيقة مطلقا ، أو يراد به الاختيار بعنوان الحقيقة بالذات لئلاّ ينافيه الامتناع بالعرض ، فيكون المعنى : أنّ صيرورة الفعل ممتنعا لعارض الاختيار لا تنافي كونه اختياريّا لذاته.

والفرق بين المعنيين يظهر بأدنى تأمّل (١).

أو يراد به الاختيار بعنوان المجاز على معنى الاختيار الحكمي وهو كون الفعل بحيث يترتّب عليه خواصّ الاختيار ، من تعلّق الخطاب به وتحقّق استحقاق العقاب بالنسبة إليه

__________________

(١) فإنّ الأوّل لا يصحّ فرضه إلاّ بالقياس إلى ثاني زمان الامتناع لئلاّ يلزم اجتماع النقيضين ، كما أنّ الثاني لا يمكن فرضه إلاّ بالنسبة إلى حال الامتناع لئلاّ يلزم خلاف الفرض ، لعدم عروض الامتناع لما بعد تلك الحال بعد والمقصود من المعنى كون الفعل بحيث يتّصف بالاختيار والامتناع في آن واحد باعتبار اختلاف الجهتين. ( منه عفي عنه ).

٥٢٧

وإن لم يكن فعلا اختياريّا فعلا اختياريّا بعنوان الحقيقة.

فالّذي يزعم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بقول مطلق إن كان ممّن تمسّك به لمنع الملازمة في الدليل المتقدّم أو غيره من موارد الامتناع الاختياري الّتي يمنع فيها التكليف بما لا يطاق موضوعا لا يناسبه إلاّ إرادة المعنى الأوّل ، كما هو مرادنا فيما سيأتي من إطلاق القول بالقضيّة بالنسبة إليه من الصور الآتية ، أو إرادة المعنى الثاني ـ كما فهمه المحقّق السابق ذكره في عبارته الّتي حكيناها آنفا ، وإن كان ممّن تمسّك به لمنع بطلان اللازم في الدليل المذكور كما في كلام الأكثر ـ فلا يلائمه إلاّ المعنى الأخير.

كما أنّ الذاهب إلى المنافاة بقول مطلق ليس نظره إلاّ إلى هذا المعنى على ما يشهد به تعليله في تلك الدعوى ، كما أنّ أوّل القولين المفصّلين لا يرتبط إلاّ بهذا المعنى ، وأمّا ثانيهما فهو من حيث الشرط فرض لكلّ من المعنيين الأوّل والثالث ومن حيث المشروط مصيرا إلى كلّ من القولين في الجملة الأوّل والثاني.

ثمّ إنّ الامتناع الناشئ عن الاختيار إمّا أن يكون مسبّبا عن اختيار العدم ، أو اختيار سبب العدم بإعدام مقدّمة الوجود ، أو ايجاد مانعه ، أو عدم الإتيان بمقدّمته ، وعلى جميع التقادير فإمّا أن يكون الامتناع مقدورا على رفعه أو لا ، فهذه ثمانية صور.

وإن شئت تصويرها جيّدا فلاحظ الأمثلة من إرادة ترك المأمور به الموسّع وتركه الموجب لامتناع حصوله ما دامت الإرادة باقية ، وتعمّد الإفطار في نهار رمضان من غير عذر ، ونقض طهارته الحدثيّة الموجبة لامتناع المشروط بها مع تمكّنه من تحصيلها ثانيا ، وقطع اليدين وغيرهما من أعضاء الوضوء الموجب لامتناع حصوله ، وإحداث الجنابة الموجب لامتناع حصول المشروط بالطهارة ما دامت الجنابة باقية في غير الصيام لنهار رمضان ، ومنه اختيار الكفر على الإيمان الموجب لعدم صحّة الفروع ما دام الكفر باقيا في غير المرتدّ الفطري ، وإحداث الجنابة في نهار الصيام مقارنا لطلوع الفجر أو قبله بلا فاصلة زمان.

ومنه الكفر في المرتدّ عن فطرة ، وعدم الخروج مع القافلة الاولى في سفر الحجّ ، فإنّه يوجب الامتناع ما دام باقيا على تلك الحال إلى زمان خروج القافلة الاخرى ، ومنه ترك السعي في تحصيل الماء عند وجوب الوضوء مع تمكّنه منه ما دام الوقت باقيا ، كما أنّ منه ترك الجاهل بالعبادات السعي في تحصيل العلم مع علمه الإجمالي أو لا معه أيضا مع تقصيره ، وترك الخروج مع القافلة الأخيرة في سفر الحجّ ، فإنّه يوجب الامتناع الغير المقدور

٥٢٨

على رفعه ، ومنه عدم الإتيان بالغسل للجنابة الحاصلة ليلا في ليلة الصيام حتّى مطلع الفجر.

وأمّا أحكام تلك الصور فالامتناع في بعضها لا ينافي الاختيار في الفعل فلا ينافيه توجّه الخطاب وترتّب العقاب ، وفي بعضها ينافيه في الجميع بالنسبة إلى ما بعد الامتناع ، وأمّا العقاب على ما قبله فلا ينافيه على تقدير وينافيه على آخر.

والضابط : أنّ الامتناع إن كان مقدورا على رفعه فلا ينافي الاختيار في الفعل ، لأنّ القدرة على رفع الامتناع الحاصل قدرة على الفعل ، فيترتّب عليه لوازم الاختيار من تعلّق الخطاب واستحقاق العقاب ونحوه.

وإن لم يكن مقدورا على رفعه فينافي الاختيار في الفعل بالنظر إلى ما بعد الامتناع ، ولازمه عدم تعلّق الخطاب لامتناع التكليف بالممتنع ولو كان امتناعه عرضيّا ناشئا عن الاختيار ، الموجب لاشتراطه بالقدرة حدوثا وبقاءا ، ولا ترتّب العقاب لقبحه عقلا مضافا إلى كونه فرعا للخطاب.

وأمّا قبله فصحّة العقاب تدور على سبق دخول الوقت أو تعلّق التكليف قبل مجيء الوقت وجودا وعدما.

فعلى الأوّل يصحّ ذلك لأنّه فرع الخطاب وهو سابق على الامتناع ، وهو لاحق بالقدرة.

وعلى الثاني يقبح ذلك إذ لا عصيان حيث لا خطاب.

نعم لا نضائق استحقاق العقاب على تفويت القدرة ولوازمها وسلب الاختيار وفروعه ، والّذي أطلق في القول بالمنافاة أو عدمها أو فصّل بأحد ما تقدّم من الوجهين إن كان نظره في كلّ منهما إلى ما ذكرناه فمرحبا بالوفاق ، فيلزم أن يكون النزاع لفظيّا وإلاّ فكلامه واه فاسد مردود عليه لكونه مخالفا للقواعد المتقنة. هذا كلّه في كبرى القضيّة.

وبقي الكلام في بعض صغرياتها بالنظر إلى الصور المتقدّمة.

فمن جملة ذلك : الفروع من الكافر في حال الكفر فهل هي ممتنعة عليه أو لا؟ ويظهر الثمرة في تكليفه بها فإنّه ممّا اختلف فيه كلمتهم ، والمحكيّ عن أصحابنا اتّفاقهم على ذلك والخلاف منسوب إلى بعض أهل الخلاف.

قال في المنية : « اتّفق أصحابنا وأكثر المعتزلة والأشاعرة على أنّ الكفّار مأمورون بفروع الشريعة كالصلاة والزكاة والحجّ ، كما أنّهم مأمورون بالإيمان وخالف في ذلك جمهور الحنفيّة وأبو حامد الإسفرائني من فقهاء الشافعيّة ومن الناس من يقول بتناول النهي

٥٢٩

لهم دون الأمر » انتهى.

فتبيّن أنّ أقوالهم في ذلك ثلاث ، وظاهر أنّ شبهة المنكر لابدّ وأن تكون ناشئة من توهّم فقد المقتضي أو زعم وجود مانع عقلي أو شرعي بحيث أوجب تخصيصا في عمومات المقتضي على تقديره ، أو تقييدا في مطلقاته ، أو تأويلا في نصوصه على حسبما يساعد عليه أدلّتهم الآتية.

والّذي يظهر من أكثر العناوين بل هو صريح جماعة من العامّة وبعض الأعاظم ، أنّ هذه المسألة وإن كانت مفروضة في تكليف الكفّار بفروع الإسلام إلاّ أنّها أعمّ موضوعا من ذلك ، لبنائها على أنّ الشروط المعتبرة في الصحّة شرعا الّتي منها الإسلام هل هي شروط في التكليف فبدونها لا تكليف حتّى الطهارة بالقياس إلى الصلاة ، أو شروط في صحّة الفعل خاصّة وإن ثبت التكليف بدونها؟

وقد يقال : إنّ ذلك بالنسبة إلى تكليف الكفّار اختلاف لا ثمرة له في أحكام الدنيا للاتفاق على أنّهم ما دام الكفر يمتنع منهم الإقدام على الصلاة وإذا أسلموا لم يجب عليهم قضاؤها.

بل يظهر ثمرته في الآخرة وهي أنّهم يعذّبون على ترك هذه الفروع كما يعذّبون على ترك الإيمان أو لا؟

ثمّ إنّ الّذي يظهر عن بعضهم أنّ معنى كونهم مكلّفين بالفروع أنّهم يخاطبون بها كما يخاطب المؤمنون فيعاقبون على المخالفة.

ويظهر من غير واحد من العامّة أنّ معنى ذلك : أنّهم يعاقبون عقاب المخاطب وإن لم يكونوا مخاطبين ، والأوّل أسدّ وأنسب بالأدلّة المقامة من الطرفين لقضاء الجميع بتعلّق الخطاب على طريق المطابقة أو الالتزام كما يظهر بأدنى تأمّل فيها ، مضافا إلى أنّ العقاب فرع المعصية وهي تابعة للخطاب فلا ينبغي لعاقل تجويز تحقّق الفرع بدون تعلّق الأصل أو تخيّل تعلّق التابع من دون تحقّق المتبوع.

ثمّ إنّ محصّل النزاع بالنظر إلى الصور المتقدّمة في الامتناع بالاختيار يرجع إلى أنّ الكفّار بعد اختيار عدم الإيمان الموجب لامتناع الفروع منهم صحيحة قادرون على إزالة الكفر حتّى يكون الإيمان من شرائط الصحّة المحضة ، أو غير قادرين عليها حتّى يكون من شرائط التكليف؟

فعلى الأوّل يتعيّن تكليفهم كما أنّه على الثاني يتعيّن عدمه إلاّ على مذهب من يجوّز التكليف بالمحال كالأشاعرة ، وكأنّهم يخالفون أصحابنا في المسألة من هذه الجهة ، فإنّ

٥٣٠

أصحابنا على ثبوت التكليف لبقاء القدرة وهم يقولون به مع عدم بقائها ، بل هو مبنى كلامهم حيث نراهم في البحث عن أحكام التكليف يجوّزون التكليف بغير المقدور معلّلين بوجوه ، منها تكليف الكفّار بالفروع الثابت بالإجماع ، وأيضا قد أسلفنا في مباحث الأمر عند الكلام في مغايرة الطلب للإرادة عنهم ما يكفيك شاهدا بذلك ، فارجع ولا حظ.

وإذا تمهّد هذا كلّه فالّذي نراه الآن حقّا هو مذهب أصحابنا المدّعى عليه الإجماع متكرّرا ، وإن كنّا قدّمنا في المباحث المتقدّمة ما يقضي بخلافه ، إلاّ أنّه ما ترجّح عندنا ثمّة بحسب بادئ النظر.

والّذي نختاره هنا مبنيّ على العدول ، لظهور بطلان المعدول عنه على حسب دقّة النظر.

ولنا على ذلك ، أوّلا : الأصل المتقدّم تقريره في مباحث الواجب المطلق والمقيّد عند البحث عن دوران الأمر بين تقييد الوجوب أو تقييد الواجب ، غير أنّه مخصوص بما ثبت وجوبه باللفظ على ما قدّمنا تفصيل القول فيه ، فمن أطلق في التمسّك به ـ كبعض الأعاظم ـ إن أراد به هذا المعنى فلا بحث ، وإلاّ يردّه : أنّ الأصل فيما ثبت باللبّ قاض بخلاف المطلوب ، فإنّ مرجع الدوران حينئذ إلى ثبوت التكليف بدون الإيمان وعدمه ، وهو من مجاري أصالة البراءة ومقتضاها كونه شرطا للتكليف لا للمكلّف به.

وثانيا : وجود المقتضي وفقد المانع فوجب المصير إليه ، أمّا الثاني فلعدم صلاحيّة ما توهّمه الخصم مانعا للمنع على ما نقرّره.

وأمّا الأوّل : فمنه ما يقتضي الحكم لكون الكافر أحد أفراد موضوعه ، ومنه ما يقتضيه لكونه موردا له بالخصوص.

أمّا الأوّل : فقوله عزّ من قائل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ )(١)( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(٢) و ( وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ )(٣)

والمناقشة في الأولى : باحتمال كون « العبادة » المأمور بها عبارة عن الإيمان ، لصدقها عليه من جهة كونها مأخوذة من التعبّد وهو التذلّل والخضوع الموجودين فيه ، وفي الأخيرين بعدم بقائهما في عمومهما لخروج العبد والصبيّ المتمكّنين من الحجّ ومن لم يتحقّق فيه شرائط الزكاة عنهما ، فلا يبقى فيهما حجّة على المطلوب. يدفعها : أنّ الاحتمال

__________________

(١) البقرة : ٢١.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) فصلّت : ٦ ، ٧.

٥٣١

في الأدلّة اللفظيّة غير قادح ، والأصل حمل « العبادة » على ما يعمّ الإيمان وفروعه ، أو على ما يخصّ الفروع على ما هو المتبادر منها في عرف المتشرّعة كما يظهر بأدنى تأمّل في إطلاقاتها بجميع ما يشتقّ منها من الصيغ المعهودة على ما هو الأصل في الحقائق الشرعيّة ، بناء على ثبوتها كما هو الحقّ حتّى في تلك اللفظة كما هو الظاهر.

ولو سلّم فالتذلّل والخضوع إذا كانا جهتين جامعتين بين الإيمان وفروعه وهما الموضوع لهما فأيّ شيء يدعو إلى توهّم الاختصاص ، فهل هو تخصيص بلا دليل أو تقييد بلا شاهد؟ مع ظهورها عرفا في غير الإيمان وإن كان إطلاقيّا من جهة الانصراف ونحوه.

وأقصى ما في خروج من ذكر من الآيتين ورود تخصيص عليهما وهو لا يوجب القدح فيهما بالقياس إلى الباقي ، لظهور حجّية العامّ المخصّص ـ على ما يأتي تحقيقه في محلّه ـ كيف ولو بنى على ما ذكر يلزم سقوط التمسّك بهما حتّى في حقّ غير الكفّار ، وهو كما ترى مخالف للإجماع والضرورة.

وأمّا الثاني : فقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) وما فيها من الاختصاص من وجهين لا يوجب القدح في تمام المدّعى بعد ما انضمّ إليها الإجماع المركّب مع القول بعدم الفصل ، ولا يضرّ كونها في شأن أهل الكتاب لأنّه على تقدير كونها في مقام الحكاية عنهم في دينهم وهو في حيّز المنع.

ولو سلّم فقوله : « وذلك دين القيّمة » إشارة إلى جميع ما تقدّم ، فيكون الجميع هو الإسلام المأمور به نصّا وفتوى وضرورة من الدين والمذهب لقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ )(٢).

واستدلّ أيضا : بأنّه لولا الفروع واجبة عليهم لما عاقبهم الله تعالى على تركها والتالي باطل وكذا المقدّم.

وبيان الشرطيّة : أنّه لا معنى للواجب إلاّ ما يعاقب أو يذمّ على تركه.

وأمّا بطلان التالي : فلقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ )(٣) وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ )(٤) وقوله تعالى : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ

__________________

(١) البيّنة : ٥. (٢) آل عمران : ١٩.

(٣) المدّثّر : ٤٢ ـ ٤٦. (٤) الفرقان : ٦٨ ، ٦٩.

٥٣٢

وَتَوَلَّى )(١) فإنّهم علّلوا كونهم في سقر ـ في الآية الاولى ـ بالأشياء المذكورة الّتي من جملتها ترك الصلاة وإطعام المسكين الّذي لا يراد منه هنا إلاّ الزكاة إذ لا واجب سواها.

وأنّه تعالى في الآية الثانية جعل العذاب المضاعف جزاء لهم على الأفعال المذكورة فيها الّتي من جملتها قتل النفس والزنا.

وأنّه تعالى في الآية الثالثة ذمّة على ترك الجميع ومن جملته الصدقة والصلاة فيكون مذموما على تركهما.

واعترض على الأولى أوّلا : بأنّه حكاية حال عن قول الكفّار وليس بحجّة لجواز كذبهم في ذلك القول ، كما ثبت في قوله تعالى حكاية عنهم ( ما كُنَّا مُشْرِكِينَ )(٢)( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ )(٣)( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً )(٤)( فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ )(٥).

وثانيا : بجواز كون المراد من « المصلّين » المسلمين ، نظرا إلى أنّه قد يطلق المصلّي على المسلم كما جاء في الحديث : « نهيت عن قتل المصلّين أي المسلمين ».

وثالثا : بأنّهم علّلوا بالجميع الّذي من جملته تكذيبهم بيوم الدين ، ولا يلزم من كون الجميع علّة كون كلّ واحد من أفراده علّة.

وعلى الثانية أوّلا : بمنع رجوع « اللام » إلى الجميع بل إلى الشرك وحده ، نظرا إلى أنّ « ذلك » إنّما يشار به إلى البعيد فيكون كناية عن الأوّل دون المجموع.

وثانيا : بمنع الملازمة بين علّيّة الجميع وعلّيّة كلّ واحد من أفراده.

وعلى الثالثة : بمنع الملازمة أيضا كما تقدّم. وفي المنية : والظاهر أنّ الله تعالى أخبر عنه بنفي الإيمان ظاهرا وباطنا فعبّر عن الأوّل بقوله : « فلا صدّق » وعن الثاني بقوله : « ولا صلّى » وأخبر عن كفره باطنا وظاهرا وعبّر عن الأوّل بقوله : « ولكن كذّب » وعن الثاني « وتولّى ».

وأنت خبير بأنّه لا وقع لشيء من هذه الاعتراضات ، فإنّ احتمال الكذب منفيّ بالقطع بمطابقة قولهم لما هو في نفس الأمر ، لوضوح أنّهم ما كانوا يصلّون ولا يطعمون المسكين ، واحتمال إرادة المسلم من المصلّي لا يعارض الظاهر وأنّ الحجّة هو الظاهر ، مع منع كون المراد بالمصلّين في الحديث المسلمين بل هو إعطاء للحكم ببيّنة وبرهان ، نظرا إلى أنّ

__________________

(١) القيامة : ٣١ ، ٣٢.

(٢) الأنعام : ٢٣.

(٣) النحل : ٢٨.

(٤) و (٥) المجادلة : ١٨.

٥٣٣

التعليق على المشتقّ ممّا يشعر بعلّيّة مأخذ الاشتقاق ، فإنّ الصلاة من فوائدها محقونيّة الدم ، نعم هي ملزومة للإسلام ولا يلزم منه كونه مرادا من اللفظ.

ولولا كلّ واحد له مدخليّة في العلّيّة لما كان لذكره فائدة ولا يترتّب على ضمّه إلى العلّة أثر ، بل كان من باب الحجر الموضوع على جنب الإنسان ، للجزم بكفاية التكذيب بيوم الدين في العلّيّة وترتّب العقاب عليه خاصّة ، فيجب أن يكون لما عدا ذلك خاصيّة اخرى غير ما يترتّب عليه.

وكون « ذلك » ممّا يشار به إلى البعيد إنّما يثمر في الامور الخارجيّة ، وأمّا المذكورة في العبارة فجميعها في حكم الواحد بحكم العرف فلا يعتبر فيها قرب ولا بعد ، مضافا إلى أنّ دعوى الاختصاص ينافيها قوله : « يضاعف له العذاب » إذ لولا انضمام قتل النفس والزنا إلى الشرك في العلّيّة والتأثير لما كان العذاب مضاعفا كما لا يخفى ، ومنع الملازمة بين علّية الجميع وعلّية كلّ واحد قد ظهر فساده.

ومن هنا يظهر فساد ذلك المنع في الأخيرة من الآيات.

نعم ربما يرد على الآية الاولى ما قدّمنا ذكره في البحث عن صيغة الأمر ، وهو أنّ السؤال إنّما وقع على المجرمين وهم المذنبين ، والذنب أعمّ ممّا يرجع إلى مخالفة الاصول أو مخالفة الفروع ، فلم لا يجوز كونهم فرقا مختلفة بأن يكون منهم من عصى في مخالفة الاصول ، ومنهم من عصى في مخالفة الفروع ، فيرجع ما عدا الفقرة الأخيرة أو هي وما قبلها جوابا من الفرقة الثانية ولا يلزمهم الكفر ، كما أنّها أو هي وما قبلها ترجع جوابا من الفرقة الاولى ولا يلزمهم التكليف بالفروع.

وقضيّة ذلك عدم نهوض الآية دليلا على المطلوب.

وعلى الثانية : أنّ أقصى ما هي دالّة عليه كون كلّ واحد من الامور المذكورة علّة مستقلّة لترتّب العقوبة والعذاب ، ولا يلزم من ذلك اعتبار الاجتماع جزما فيجوز أن يكون كلّ واحد شأنا لواحد ، فأوجب العقوبة في صاحبه ولا يلزم منه اعتبار الكلّ في واحد حتّى يترتّب عليه كون المشرك مع استحقاقه العقوبة لشركه مستحقّا لها لقتله النفس وإقدامه على الزنا كما لا يخفى.

ولا ينافيه قوله : « يضاعف له العذاب » لأنّه بيان لشدّة مبغوضيّة كلّ واحد من تلك الامور في نظره تعالى بالقياس إلى سائر المعاصي ، فيترتّب لذلك على كلّ واحد ضعف ما

٥٣٤

يترتّب على سائر المعاصي من العذاب والعقوبة وذلك واضح.

وعلى الثالثة : أنّها لا تدلّ على أنّ الكافر بوصفه العنواني كان مكلّفا بالصدقة والصلاة ، بل أقصى ما تدلّ عليه أنّ مرجع الضمائر من يتّصف بهذه الأمور ، فلم لا يجوز أن يكون ممّن سبقه الإيمان فأقدم على ترك الصدقة والصلاة ثمّ صدر منه التكذيب والتولّي ، فالذمّ حينئذ إنّما هو على مخالفة التكليف السابق على صدور الكفر منه لا على التكليف الثابت له في حال الكفر كما يقتضيه الترتيب المعتبر في الآية والاستدراك بـ « لكن » فلم يلزم منه المطلوب.

وممّا يستدلّ به أيضا : أنّ الكفّار يتناولهم النهي عن الفروع ، فوجب أن يتناولهم الأمر.

أمّا الأوّل : فللإجماع على أنّهم يحدّون على الزنا ويقطعون على السرقة ، فلو لا تناول النهي لهم لما كان لذلك وجه.

وأمّا الثاني : فلأنّ تناول النهي لهم إنّما هو ليتمكّنوا عن استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الاحتراز عن المنهيّ عنه وهذا المعنى بعينه حاصل في الأمر ، فإنّهم على تقدير تناول الأمر لهم يتمكّنون من استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الإتيان بالمأمور به.

وفيه : ما لا يخفى من منع المقدّمة الاولى ، وثبوت الحدّ والقطع بالنسبة إليهم في السرقة والزنا لعلّه من جهة التسبيب ، كما في إتلافاتهم الموجبة للضمان وتصرّفاتهم الموجبة للتمليك والتملّك ولا يلزم من ذلك تعلّق النهي بهم بحيث يترتّب على مخالفته العقوبة الاخرويّة (١).

مضافا إلى بطلان القياس ومنع المساواة بين المقيس والمقيس عليه ، ولعلّ بين النهي والأمر فرقا أوجب ذلك الفرق في الحكم ، كما زعمه أصحاب القول بالتفصيل وثبوت المساواة بينهما فيما ذكر لا يقضي بالمساواة في سائر الجهات.

واحتجّ النافون لتكليف الكفّار بوجوه :

أوّلها : لو كلّف الكافر لصحّ منه والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

وفيه أوّلا : النقض بالمحدث إذ لو كلّف بالصلاة لصحّت منه ، والتالي باطل فكذا المقدّم.

وثانيا : أنّ الصحّة كما أنّها قد تنتفي بانتفاء الأمر ، فكذلك قد تنتفي بانتفاء ما هو من شرائط المأمور به.

__________________

(١) إلاّ أن يتشبّث بعدم القول بالفصل بين القضايا الوضعيّة والتكليفيّة ولكنّه غير ثابت كيف ولم يظهر من أصحاب القول ينفي تكليف الكفّار إنكار تعلّق الوضعيّات بهم. ( منه عفي عنه ).

٥٣٥

ومفروض المسألة من هذا الباب ، لأنّ الكلام في كون الإيمان من شرائط صحّة الفعل وهو منتف.

وثانيها : أنّه لو كلّف بالعبادات لوجب قضاؤها ، والتالي باطل بالإجماع فكذا المقدّم.

والجواب أوّلا : النقض بصلاتي الجمعة والعيدين.

وثانيا : بمنع الملازمة ، فإنّ القضاء ـ بناءا على التحقيق ـ إنّما هو بالفرض الجديد فلذا ترى ما فيه من الاختلاف والتخلّف ، فقد يثبت مع عدم ثبوت التكليف كما في صلاة النائم وصوم الحائض ، وقد لا يثبت مع ثبوت التكليف كما في الجمعة والعيدين ، فتأمّل (١).

ولو فرض كونه بالأمر الأوّل أيضا لمنعت الملازمة بقيام الإجماع على سقوطه هنا ، كسقوطه فيما ذكر من المثالين ، فإنّ الله تبارك وتعالى من جهة خروجه عن حضيض الكفر بملازمة الإسلام الّذي هو الغاية الأصليّة يسقط عنه كلفة القضاء جريا على رحمته الربّانيّة ورأفته الصمدانيّة.

وثالثها : لو كان الكافر مكلّفا بالفروع فإمّا حال الكفر فيمتنع ، أو بعده فيسقط.

وجوابه : اختيار الشقّ الأوّل ودفع الإشكال أوّلا : بالنقض بتكليف العصاة بالفروع مع امتناعها في حال المعصية ، وتكليف المحدث بالجنابة ونحوها مع امتناعه في حال الحدث ، إذ لا فرق بينه وبين الثاني من حيث إنّ سبب الامتناع في كلّ منهما إنّما هو إيجاد المانع اختيارا ، ولا بينه وبين الأوّل إلاّ في أنّ السبب فيه إيجاد المانع وفي الأوّل البناء على المعصية وترك المأمور به اختيارا ، وقد تقدّم أنّه فرق لا يوجب فرقا في الحكم.

فإن قلت : بأنّ المانع هنا علمه تعالى بأنّه لا يؤمن فيمتنع الفروع لئلاّ ينقلب علمه تعالى جهلا فهو الفارق.

قلنا : إنّه بعينه موجود في العصاة لعلمه تعالى بأنّهم لا يطيعون.

فإن قلت : بأنّ التكليف هنا لو صحّ لكان عبثا وفعلا سفهيّا لعلمه تعالى بعدم الامتثال.

قلنا أوّلا : بالنقض بتكليفه بالإيمان مع علمه تعالى بعدم الامتثال.

وثانيا : بمثله ثمّة بلا فرق.

__________________

(١) وجهه : أنّ هذا المنع بالنسبة إلى الكافر في مواضع ثبوت القضاء لغيره غير وجيه لكفاية ما ورد فيه من العموم في إثبات القضاء في حقّه ، فإنّكم كما تتمسّكون في إثبات تكليفهم بالأداء بعمومات الأداء فتمسّكوا في إثبات تكليفهم بالقضاء أيضا بعمومات القضاء والفرق تحكّم. ( منه عفي عنه ).

٥٣٦

فإن قلت : التكليف ثمّة ابتلائي ، والمقصود به قطع العذر وإتمام الحجّة لصحّة توجيه العقوبة.

قلنا : بمثله هنا ، إذ لا فرق بين التكليف الحقيقي والتكليف الابتلائي ، إلاّ في أنّ المقصود بالأصالة في الأوّل إنّما هو الامتثال وتوجيه العقوبة على تقدير المخالفة مقصود بالتبع وفي الثاني إنّما هو توجيه العقوبة من غير قصد للامتثال لامتناعه من العالم بالعواقب ، والّذي يرى التكليف ثابتا للكفّار يراه بهذا المعنى لامتناع القسم الآخر من العالم بالعواقب في حقّهم.

فإن قلت : فعلى هذا يحصل الفرق بينه وبين المحدث لكون التكليف ثمّة حقيقيّا فبطل النقض.

قلنا : مناط التكليف إنّما هو تعلّق الخطاب وهو موجود في كلا المقامين وما ذكر من الفرق اختلاف بينهما في الغاية المطلوبة من الخطاب وهو لا يوجب فرقا في الحكم الّذي نحن بصدده ، لأنّ الّذي يراه غير ثابت في حقّهم يزعم عدم تعلّق الخطاب بهم لا أنّه ينكر كون المقصود منه الامتثال مع اعترافه بتعلّقه.

وثانيا : بالحلّ بمنع امتناع الفروع بمجرّد الكفر ، لأنّ منشأه إمّا إرادة عدم الإيمان أو علمه تعالى بعدم وقوع الإيمان منه ، وأيّا مّا كان فلا يصلح للمنع.

أمّا الأوّل : فلأنّ الامتناع إنّما هو ما دامت الإرادة باقية وهي اختياريّة جزما والانصراف عنها إلى إرادة الخلاف مقدور قطعا ، كما في العصاة بالقياس إلى الطاعات ، فيكون الفروع مقدورة إذ المقدور بالواسطة كالمقدور بلا واسطة ضرورة ، كما في المحدث ما دام محدثا.

وأمّا الثاني : فلأنّ العلم تابع للمعلوم تعلّقا ومطابق له كمّا ولا تأثير له في ذلك الامتناع ، بل هو معه من المقارنات الاتّفاقيّة ناشئان عن الاختيار ، فلا ينافيانه بل يؤكّدانه ويحقّقانه ، إذ لو لا وقوع المعلوم لما تعلّق به العلم ولما امتنع العمل الصحيح.

فإن قلت : المقصود استناد استحالة وقوع خلاف الكفر إلى علمه تعالى لئلاّ ينقلب جهلا لا استناد وقوع الكفر إليه ، ومعه يمتنع الفروع امتناعا غير مقدور على إزالته.

قلت : ليس كذلك ، إذ كما أنّ العلم تابع للمعلوم في أصل تعلّقه فكذا مطابق له في جميع جهاته وموافق له في سائر خصوصيّاته ، فإن كان المعلوم أبديّا في وقوعه (١) فكذلك العلم في تعلّقه ، وإن كان المعلوم أحيانيّا فكذلك العلم ، فليس العلم بحيث قد تعلّق به على جهة

__________________

(١) تحقّقه. ( خ ل ).

٥٣٧

الدوام وهو ليس كذلك ، والمحذور يلزم على هذا التقدير ، بل تحقّق الكفر منه ما دام العمر كشف عن تعلّق العلم به كذلك ، ولو تحقّق منه إلى غاية منقضية كشف عن تعلّق العلم به كذلك ، فلا يكون بحيث لو انصرف عن الكفر انقلب العلم جهلا مركّبا ، كيف وعلمه تعالى ليس إلاّ على حدّ علمنا بمعلوماتنا كما أنّه منّا لا مدخل له في تحقّق المعلومات أصلا كذلك علمه تعالى.

نعم بينهما فرق في التقدّم والمقارنة أو التأخّر ولكنّه لا ينافي التبعيّة ، إذ ليس المراد بها ما يلزمه التأخّر ، بل المراد بها أنّه لولا تحقّق المعلوم ولو لاحقا لما تعلّق به العلم ولو سابقا ، نظير علمنا سابقا بما يقع لاحقا.

نعم ربّما يتخيّل في بادئ النظر كون امتناع تكليف الكافر بالفروع من جهة كونه سفهيّا من جهة علمه بعدم الامتثال.

ولكن يدفعه : منع انحصار فائدة التكليف في إرادة الامتثال ، بل ربّما يصحّ التكليف من الحكيم لترتّب فائدة قطع العذر وإتمام الحجّة ، فإنّه ممّا يشهد بجوازه القوّة العاقلة وعليه بناء العقلاء في جميع الأعصار الحديثة والقديمة ، وهذا كلّه هو مرادنا في الاستدلال من دعوى فقد المانع عن التكليف بعد وجود المقتضي.

نعم ربّما يشكل ذلك في المرتدّ الفطري من حيث إنّ الامتناع الناشئ عن اختياره في حقّه غير مقدور على إزالته لعدم مقبوليّة توبته ، فيمتنع حينئذ خطابه وعقابه لمكان القبح العقلي على ما تقدّم تفصيله ، فلا جرم حينئذ لابدّ من نفي التكليف بالفروع عنه كما أنّه لا تكليف له بالإيمان على ما هو مفاد عدم مقبوليّة توبته.

إلاّ أن يقال : بمنع الملازمة بين عدم التكليف وعدم المقبوليّة كما قيل في منع الملازمة بين الصحّة والمقبوليّة ، ولكن لا نضائق عقابه على سدّ باب التكاليف على نفسه وسلب الاختيار عن نفسه باختياره ، فإنّه ممّا لا قبح فيه عقلا ولا عرفا كما عرفت مرارا.

وللقول الثالث : أنّ الامتثال بالمأمور به غير ممكن في حال الكفر لافتقاره إلى النيّة الممتنع حصولها من الكافر بخلاف المنهيّات ، فإنّ الاجتناب عنها ممكن لعدم افتقارها إلى النيّة.

والجواب : إن اريد بالنيّة قصد أصل الفعل أو عنوانه فامتناعها من الكافر واضح المنع.

وإن اريد به قصد الامتثال فإن كان اعتباره لأجل إدراك الثواب فهو غير مختصّ بالأوامر.

وإن كان لأجل توقّف الصحّة فهو في الأوامر غير مطّرد بل الأصل فيها عدم الاعتبار

٥٣٨

كما قرّرناه آنفا ، مع أنّ امتناع النيّة منهم لا يزيد على امتناع أصل الفعل فإن صحّ التكليف به صحّ بها وإلاّ فلا ، والمانع ليس من جهتها.

وعن المرتضى رحمه‌الله دفعه : بكونه خرقا للإجماع المركّب لافتراق الناس على القولين الأوّلين فيكون باطلا.

والأكثرون دفعوه : بأنّ هذا الفرق باطل لإمكان الإتيان بالمأمور به إن أريد من امكان اجتناب المنهيّات الاجتناب عنها من غير اعتبار امتثال خطاب الشرع ، وعدم إمكانه في المنهيّات أيضا إن اريد الاجتناب عنها على جهة الامتثال ، وفيه نظر يظهر بأدنى تأمّل.

وثالثها بل رابعها : ما تمسّك به الفاضل الأسترابادي في رسالته ـ على ما حكي ـ من أنّ مقدّمة الواجب لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقّا للعقاب أصلا ، لكنّ التالي باطل فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة : فلأنّا نقول : إذا كلّف الشارع بالحجّ مثلا ولم يصرّح بإيجاب المقدّمات فرضا ، فتارك الحجّ بترك قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي إلى مكّة عند التضيّق أو في زمان ترك الحجّ في موسمه أو لا ، لا سبيل إلى الأوّل لأنّه لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة والمفروض أنّه غير واجب عليه فلا يكون مرتكبا للقبيح ، فلا يكون مستحقّا للعقاب.

ولا إلى الثاني لأنّ إتيان أفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع بالنسبة إليه فكيف يكون مستحقّا للعقاب بترك ما يمتنع صدوره عنه ، إذ لا يتّصف بالحسن والقبح إلاّ المقدور وأفعال الحجّ في ذي الحجّة للجالس في البلد النائي عن مكّة غير مقدورة.

ألا يرى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر عنه إلى الآن فعل قبيح يستحقّ به التعذيب لكن القبيح أنّه لا يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ الضرب إلاّ على الاستحقاق السابق قطعا.

ثمّ نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل فإمّا أن يكون مستحقّا للعقاب أم لا ، لا وجه للثاني لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا فيثبت الأوّل ، فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أم حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل لأنّ

٥٣٩

استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ، ولا وجه للثاني لأنّ السابق على النوم لم يكن إلاّ ترك المقدّمات للفعل مع أنّ المفروض عدم وجوبها.

إلى أن قال : بقي ها هنا إشكالان آخران :

أحدهما : أنّ هذا الدليل لو تمّ لدلّ على أنّ تارك الحجّ بترك المقدّمات لا يكون معاقبا بترك الحجّ ، بل بترك مقدّماته فلم يكن الحجّ واجبا مطلقا مع أنّ المفروض خلاف ذلك.

وثانيهما : أنّ بطلان التالي ممنوع ، كيف وقد ذهب السيّد المرتضى إلى خلاف ذلك كلّه كما حكى عنه سابقا ، فإثباته يحتاج إلى دليل.

والجواب عن الأوّل ، أنّا نقول : تارك الحجّ بترك الحركة إلى مكّة إنّما يستحقّ العقاب بسبب ما يفضي إلى ترك الحجّ من حيث إنّه يفضي إليه ، لا أنّه يستحقّ بعد الاستحقاق المذكور استحقاقا ثانيا في زمان الحجّ ولم يثبت ذلك ليحتاج بيانه إلى دليل.

وبالجملة كونه واجبا مطلقا يقتضي أن يكون استحقاق العقاب ناشئا من جهة تركه ، سواء كان العلّة في حصوله نفس الترك أم سببه من حيث إنّه يفضي إليه. تدبّر.

وعن الثاني : أنّا نعلم أنّ السيّد إذا قال لعبده : « اسقني الماء » إذا كان الماء على مسافة بعيدة فترك العبد قطع المسافة والسعي كان عاصيا مستحقّا للّوم. انتهى.

وجوابه أوّلا : اختيار الشقّ الأوّل من الفرض الأوّل ، قوله : « لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة ».

قلنا : الإقدام على ترك المقدّمات مع العلم بإفضائه إلى ترك الحجّ في موسمه بناء على تركه في ذلك الموسم فيستحقّ العقاب من ذلك الحين لثبوت التكليف عنده ، وارتفاعه بعده بسبب امتناع الفعل المنافي للاختيار خطابا وعقابا حسبما قرّرناه ، فيكون ذلك هو زمان المعصية حقيقة تنزيلا للترك الحكمي منزلة الحقيقي ، كيف ولولا لارتفع استحقاق العقاب لأنّه فرع المعصية وهي فرع الخطاب وحيث لا خطاب لا معصية والمفروض ارتفاعه بمجرّد طروّ الامتناع ، فإذا كانت الحال في ترتّب الاستحقاق هذه فلا يفترق الحال بين فرض المقدّمة واجبة أو غير واجبة ، إذ المفروض ـ بناءا على التحقيق السابق ـ أنّ وجوبها فرضا غير مؤثّر في ذلك الاستحقاق ، كيف ولا يتوهّم عاقل أنّ تركها على تقدير الوجوب يوجب استحقاق العقاب على ترك الواجب من حينه ، وعلى تقدير عدمه لا يوجبه مع كونه

٥٤٠