تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

المجازيّة أنّ إرادة الخصوصيّة تتضمّن نفي صلاحيّة اللفظ في ذلك الاستعمال للدلالة على غير الفرد المخصوص من أفراد الماهيّة ، وظاهر أنّ النفي معنى زائد على ما وضع له اللفظ ، وقد اريد معه فيكون مجازا.

وحكي الإيراد (١) عليه من وجوه :

منها : أنّ ذلك من عوارض الاستعمال لا أنّه جزء من المستعمل فيه.

واجيب : بأنّ مقصوده بذلك أنّ الخصوصيّة المتّحدة مع الطبيعة الكلّيّة النافية لصلاحيّة ذلك المعنى للصدق على الغير أمر زائد على الموضوع له ، وقد لوحظت في الاستعمال حيث بعثت على عدم صدق ذلك المعنى على غير ذلك الفرد الخاصّ ، وإلاّ فمن الواضح أنّ نفي صلاحيّة اللفظ للغير ليس ممّا استعمل اللفظ فيه ، فكيف يتعقّل اندراجه في المستعمل فيه.

أقول : لا يخفى بعد هذا التوجيه عن ظاهر العبارة ، بل الأولى أن يقال ـ في دفع الايراد ـ : إنّ معنى كون النفي الّذي هو أمر زائد على ما وضع اللفظ له مرادا معه أنّ الفرد الخارجي الّذي اريد من اللفظ معنى غير صالح للصدق على غيره كما هو مناط جزئيّته ، وقد اريد من اللفظ الّذي قد وضع لمعنى صالح للصدق عليه وعلى غيره وهما متغايران بالضرورة ، فإرادة أحدهما عن لفظ الآخر توجب التجوّز لاستعماله حينئذ في غير ما وضع له.

ومنها : أنّه لا فرق في كون إطلاق الكلّي حقيقة أو مجازا بين القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج وعدمه ، للاتّفاق على اتّحاده مع الفرد نحوا من الاتّحاد وكذا مغايرتهما في الجملة ، فالاستعمال فيه بملاحظة الاولى حقيقة وبالثانية مجاز ، سواء قيل بوجود الطبيعي أو لا (٢).

__________________

وهو أنّ الفرد المراد من اللفظ حينئذ عين الطبيعة الموضوع لها ، فكيف يصير الاستعمال فيه مجازا ، فأجاب عنه بما ذكر في المتن ، وأمّا ما نقلناه في المتن من تضمّنه للإشكال المذكور فهو على ما حكاه عنه ابنه كما أشرنا إليه ( منه عفي عنه ).

(١) المورد هو الفاضل المدقّق الشيرواني.

(٢) نعم يصير الاتّحاد على القول بنفي الكلّي الطبيعي بين الفرد والماهيّة مجازيّا ، كما في سائر العرضيّات وهو لا يستلزم كون الاستعمال في الفرد مجازا ، لما عرفت أنّ استعمال اللفظ الموضوع بإزاء الماهيّة في الفرد من حيث اتّحاد معناه تعليق الحكم على الكلّي ، بحيث يسري إلى الفرد ويكون المقصود في الضمير هو إثبات الحكم للفرد لا أنّ المقصود من اللفظ وما استعمل فيه هو الخاصّ ، ولا مجال للمنازعة في سراية الحكم المعلّق بالطبيعة إلى الأفراد لو كان اتّحادهما مجازيّا انتهى.

هذه عبارته نقلناها بعد ما عثرنا عليها ( منه ). ـ لاحظ حاشية المدقّق الشيروانيّ ـ المعالم : ٤٥.

١٢١

واجيب : بعدم إباء ما ذكره المصنّف عن ذلك ، إلاّ أنّه لمّا كان وجه المجازيّة على الفرض الأوّل ظاهرا وعلى الثاني خفيّا من جهة ما ذكره من الإشكال ، فقد يتوهّم الفرق بين الصورتين ، أراد بذلك تصوير المجازيّة على الفرض الثاني أيضا بما قرّره.

ومنها : أنّ ما ذكر في وجه التجوّز إنّما يتمّ لو كانت الوحدة مندرجة فيما استعمل اللفظ [ فيه ] وإلاّ فلا مدخليّة لنفي صلاحية اللفظ في ذلك الاستعمال لغير المصداق المذكور فيما استعمل اللفظ فيه ، وقد عرفت فساده عند تعرّض المصنّف لاعتبار الوحدة في معان المفردات.

واجيب : بأنّ عدم صلاحية المعنى إذن لغير ذلك المصداق ليس من جهة اعتبار الوحدة في المستعمل فيه ، ضرورة عدمها مع عدمه أيضا.

وأنت خبير بعدم ارتباط ذلك بما ذكره المورد ، فإنّ مبناه ليس على توهّم ابتناء عدم الصلاحيّة على اعتبار الوحدة في المستعمل فيه حتّى يجاب عنه بمنع الابتناء ، بل على ظهور ما ذكره المصنّف من أنّ نفي الصلاحية معنى زائد على ما وضع اللفظ له ، وقد اريد معه فيكون مجازا فيتوجّه إليه حينئذ ما ذكر في الإيراد ، ومحصّله : أنّ كون إرادة ذلك المعنى الزائد على ما وضع له اللفظ معه من اللفظ موجبة لكونه مجازا مبنيّ على دخول الوحدة فيما وضع له اللفظ ، فيكون إرادة غيره معه موجبة لانتفاء قيد « الوحدة » فيلزم المجاز ، لكون اللفظ حينئذ مستعملا في جزء ما وضع له.

فالأولى في دفعه أن يقال : إنّ ما فرضه المصنّف من المجاز ليس من قبيل ما يلزم من جهة انتفاء قيد « الوحدة » عمّا استعمل فيه اللفظ ، وإن كان يوهمه ظاهر العبارة ، بل غرضه بذلك ما تقدّم من أنّ المعنى الغير الصالح للصدق على غير الفرد المخصوص أيضا مغاير للمعنى الصالح له ، فإرادة الأوّل عمّا وضع للثاني توجب المجاز.

ومنها : أنّه لا مدخل لوجود الكلّي الطبيعي وعدمه بالمقام ، على ما سيحقّقه المصنّف من كون الوضع في « الأمر » وغيره من الأفعال عامّا والموضوع له خاصّا ، فليس الموضوع له كلّيّا حتّى يكون فيه مجال للكلام المذكور.

أقول : لا يذهب عليك إنّه يتوجّه من هنا إشكال إلى ما ذكره المصنّف في ردّ الاستدلال من كون المجاز لازما على تقدير الوضع للقدر المشترك عند إرادة كلّ من المعنيين بقيد الخصوصيّة ، وذلك إنّ الموضوع له في « الأمر » إذا كان هو الخصوصيّات والجزئيّات كما هو قضيّة القول المذكور الّذي ذهب إليه المصنّف ، فكيف يحكم بكون

١٢٢

الاستعمال في الخصوصيّتين مجازا ، بل ليس ذلك إلاّ تدافع واضح ، وكذلك يتوجّه نظير ذلك إلى المستدلّ لو كان في الأفعال وما يضاهيها ممّا يستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه من أصحاب هذا القول ، ضرورة تنافي المصير هاهنا إلى الوضع للقدر المشترك له في بادئ النظر.

والتوفيق أنّ الخصوصيّات المندرجة تحت كلّ أمر عامّ متصوّر قبل الوضع فيما كان من الألفاظ من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ الواقعة موضوعا لها لابدّ وأن تؤخذ منسوبة بحسب المرتبة إلى ذلك الأمر العامّ ، فإن كان ذلك من مقولة الأجناس فخصوصيّاته الواقعة متعلّقة للوضع إنّما هي الأنواع المندرجة تحتها ، وإن كان من قبيل الأنواع فالخصوصيّات المنسوبة إليه إنّما هي الأشخاص والجزئيّات ، فلا يجوز التخطّي عمّا كان من الخصوصيّات من قبيل القسم الأوّل في الحكم بتحقّق الوضع لها إلى ما كان منها من قبيل القسم الثاني.

ألا ترى أنّ الخصوصيّات الّتي وضعت بإزائها هيئة « فاعل » ونحوها من المشتقّات عند من يراها من هذا الباب ليست إلاّ الذوات المتّصفة بـ « الضرب » و « القتل » و « العلم » و « الجهل » وغيره ، مع أنّها بالإضافة إلى الذات المتّصفة بالمبدأ الّتي أخذها الواضع آلة للملاحظة أنواع كما لا يخفى.

فخصوصيّة الموضوع له ـ فيما كان من الألفاظ من هذا القبيل ـ بالإضافة إلى العنوان الّذي لاحظه قبل الوضع لا تنافي كونه كلّيّا بالإضافة إلى حدّ ذاته ، فالذات المتّصفة بالضرب خاصّ لو اضيفت إلى الذات المتّصفة بالمبدأ أو الحدث ، وهي كلّي في حدّ ذاتها لو اضيفت إلى الذوات المتّصفات بهذا الضرب وذاك الضرب ، وذلك الضرب (١) ومن هذا الباب « الطلب » الّذي هو مادّة الإشكال ، فإنّه إذا كان قد لاحظه الواضع قبل الوضع من حيث هو مع قطع النظر عن قيديه الحتميّة واللاحتميّة جنس ، كالحيوان إذا لوحظ مع قطع

__________________

(١) والحاصل : أنّ الواضع فإمّا أن يتصوّر الطلب الحتمي عنوانا ، فخصوصيّاته المندرجة تحته الطلبات الحتميّة الصادرة عن آحاد المتكلّمين الموضوع لها على القول بكونها للوجوب ، أو يتصوّر الطلب الغير الحتمي فخصوصيّاته حينئذ المندرجة تحته الطلبات الغير الحتميّة الصادرة عن آحاد المتكلّمين فيكون هي الموضوع لها على القول بالندب ، أو يتصوّر الطلب بدون ملاحظة القيدين فخصوصيّاته حينئذ هو الطلبات المطلقة المضافة إلى المتكلّمين لا الطلبات الحتميّة وغيرها. ( منه ).

١٢٣

وربّما توهّم تساويهما * ، باعتبار أنّ استعماله في القدر المشترك على الأوّل مجاز ، فيكون مقابلا لاستعماله في المعنى الآخر على الثاني ، فيتساويان.

__________________

النظر عن قيوده الّتي هي فصول لأنواعه ، فيندرج تحته بهذا الاعتبار أنواع ، وهي الطلبات القائمة بأنفس الطالبين شأنا ، فهذه هي الخصوصيّات الّتي تعلّق الوضع بها على تقدير صحّة القول بالوضع للطلب ، ولا شبهة في كون كلّ من تلك الخصوصيّات بالنظر إلى الاتّصاف بالحتميّة وعدمها ذا وجهين ، فيكون كلّيّا بالنسبة إليهما قدرا مشتركا بينهما.

وقضيّة ذلك خروج الاستعمال عند إرادة كلّ من الخصوصيّتين مجازيّا لخروجها عن الموضوع له جزما ، فلا تدافع ولا اعتراض كما لا يخفى (١).

لا يقال : كيف يفرض الطلب عن كلّ طالب كلّيّا مع أنّه في الواقع غير منفكّ عن إحدى الخصوصيّتين ، لأنّه ـ مع أنّه يصحّ فرضه ، بل وقوعه من الغافل ـ غير قادح في ذلك ، لكون كلّ منهما حينئذ من لوازم الوجود الخارجي فلا يلزم كونها معتبرة فيما تعلّق به الوضع ، كما في سائر الماهيّات الّتي لها لوازم بحسب وجودها الخارجي وليست بداخلة فيها باعتبار عروض الوضع لها.

نعم يبقى الإشكال في أنّ الطلب ـ بناء على التحقيق السابق من كونه في الأفعال الطلبيّة حالة في الغير وآلة لملاحظته ـ تابع للنسبة ، وهي في كونها موضوعة لها لا كلّيّة لها جزما فكيف يعقل الكليّة في تابعها.

ولكن يدفعه : إنّه إنّما يتوجّه لو كان حالة في النسبة وليس كذلك ، بل هو حالة في الحدث المنسوب ، كما أنّ النسبة حالة فيه ، فإنّ هيئة « افعل » إنّما وضعت لنسبة الحدث إلى فاعل معيّن من حيث كونه مطلوبا للمتكلّم ، بمعنى أنّ الموضوع له نسبة الحدث المطلوب للمتكلّم إلى فاعله ، كما أنّ هيئة « فعل » موضوعة لنسبة الحدث من حيث وقوعه في الزمن الماضي إلى فاعله فيكون تابعا للحدث ، فلا ينافيه كونه كلّيّا بالضرورة.

* وملخّص ذلك : أنّه على تقدير كون « الأمر » حقيقة في الوجوب مجازا في الندب لو اتّفق استعماله شرعا في القدر المشترك كان مجازا ، فيحصل معنيان مجازيّان تساوى

__________________

(١) إشارة إلى اندفاع الإيراد المذكور بما حقّقناه ، كاندفاع التنافي المتوهّم عن كلامه والتدافع الموهوم عن كلام المستدلّ على تقديريه. ( منه ).

١٢٤

وليس كما توهّم ، لأنّ الاستعمال في القدر المشترك ، إن وقع ، فعلى غاية الندرة والشذوذ ، فأين هو من اشتهار الاستعمال في كلّ من المعنيين وانتشاره.

وإذا ثبت أنّ التجوّز اللازم على التقدير الأوّل أقلّ ، كان بالترجيح ـ لو لم يقم عليه الدليل ـ أحقّ.

__________________

نسبتهما اليهما على تقدير وضعه للقدر المشترك حقيقة واستعمل في كلّ واحد من الوجوب والندب مجازا.

والجواب : ما أشار إليه من أنّ الاستعمال في القدر المشترك إن وقع فعلى غاية الندرة والشذوذ.

وتوضيحه : ما نقل عنه في الحاشية من بعد الوقوع ، حيث أنّ الطالب للشيء إذا لم يكن غافلا عن تركه فإمّا أن لا يريد المنع منه أو يريده ، والأوّل هو الندب والثاني هو الوجوب ، وإنّما يتصوّر إرادة الطلب المجرّد عند الغفلة عن الترك ، وحيث إنّ العمدة في مباحث « الأمر » على أوامر الشارع ففرض الاستعمال في القدر المشترك غير معقول ، وربّما يعزى إليه إنّه عقّبه بقوله : « فتأمّل ».

فقيل في وجهه : إنّه فرق بين إرادة المنع وعدمه في الضمير ، وبين إرادة إفادته من اللفظ ، واللازم لغير الغافل هو الأوّل وملزوم الاستعمال هو الثاني ، والاشتباه إنّما من الخلط بين الإرادتين.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ المنشئ للطلب إنّما ينشئ الطلب الخاصّ الواقع منه بالصيغة الخاصّة ، فإنشاؤه الوجوب أو الندب إنّما يكون بالصيغة المذكورة ، إذ مجرّد الإرادة النفسيّة لا تقضي بإنشاء المعنى في الخارج.

كيف ومن البيّن أنّ الطالب للشيء إنّما يوقع طلبه غالبا على أحد الوجهين إلاّ أن يكون غافلا ، فالطلب الخاصّ مراد من اللفظ قطعا.

أقول : وكأنّ ما أفاده الفاضل الشيرواني راجع إلى ما قرّرناه من كون الحتميّة وخلافها على القول بالوضع للقدر المشترك من لوازم الطلب بحسب وجوده ، فلا يلزم من دخولهما في الإرادة دخولهما في الوضع ، فلا يتوجّه إليه حينئذ ما تصدّى بإيراده الفاضل المشار إليه كما لا يخفى.

١٢٥

احتجّ السيّد المرتضى رضى الله عنه على أنّها مشتركة لغة بأنّه لا شبهة في استعمال صيغة الأمر في الايجاب والندب معا في اللغة ، والتعارف ، والقرآن ، والسنّة ، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة * ، وإنّما يعدل عنها بدليل.

قال : « وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلاّ كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة ».

واحتجّ على كونها حقيقة في الوجوب بالنسبة إلى العرف الشرعيّ ** :

__________________

* وقد ظهر في غير واحد من مواضع الجزء الأوّل من الكتاب وفي بعض مواضع هذا الجزء أيضا تزييف هذا الاحتجاج ، فإنّ الاستعمال من الحقيقة إذا كان بمنزلة الجنس أو الفصل ـ الّذي هو أيضا في معنى الجنس في العموم ـ فالضرورة قاضية بعدم صلوحه دليلا عليها بخصوصها ، كيف وقضيّة قولهم : « العامّ لا يدلّ على الخاصّ » قد صارت من القضايا الّتي قياساتها معها.

نعم لو انضمّ إليه غيره ممّا أوجب القطع بالمطلوب أو الظنّ المعتبر به في المقام ـ ممّا تقدّم تفصيل ذكره في محلّه ـ لا منع عن المصير إليه حينئذ ، والمقام ليس منه كيف والأدلّة قد انتهضت على اختصاصها بالوجوب ، فلا يبقى تعويل على الاستعمال لو قلنا به.

فمن هنا تبيّن ما في قوله : « وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلاّ كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة » فإنّ الدلالة على الحقيقة في الشيء الواحد ليست هو الاستعمال ليتمّ القياس ـ كما تقدّم في محلّه أيضا ـ مضافا إلى وضوح الفرق بين المقامين بكون منع الحقيقة في أحدهما يستلزم المجاز بلا حقيقة دون الآخر.

** واعلم أنّ إطلاق هذه النسبة في كلام الجماعة يقضي بأنّه يجعل عرف الشرع في الصيغة مقابلا للّغة ، نظير ما هو الحال في المخترعات الشرعيّة على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وهو وإن كان يساعده احتجاجه لحمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن والسنّة على الوجوب ، التفاتا إلى احتمال كونه احتجاجا بفهمهم والتبادر الثابت لديهم الكاشف عمّا أوجبه على هذه الدعوى ، ولكنّه لا يلائمه عدّة امور في كلامه المنقول هاهنا ، قاضية بكونه بصدد إقامة قرينة معيّنة على إرادة الوجوب خاصّة عن الأوامر الواردة في الشريعة مع بقائه على ما هي عليه بحسب اللغة.

١٢٦

بحمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب ، وكان يناظر بعضهم بعضا في مسائل مختلفة ، ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من الله سبحانه أو من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يقل صاحبه هذا أمر ، والأمر يقتضي الندب ، أو الوقف بين الوجوب والنّدب ، بل اكتفوا في اللّزوم والوجوب بالظاهر. وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم ومعلوم أيضا : أنّ ذلك من شأن التابعين لهم ، وتابعي التابعين. فطال ما اختلفوا وتناظروا ، فلم يخرجوا عن القانون الّذي ذكرناه. وهذا يدلّ على قيام الحجّة عليهم بذلك حتّى جرت عادتهم ، وخرجوا عمّا يقتضيه مجرّد وضع اللّغة في هذا الباب.

قال رحمه‌الله : « وأمّا أصحابنا ، معشر الاماميّة ، فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه ، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللّغة ، ولم يحملوا قطّ ظواهر هذه الألفاظ إلاّ على ما بيّناه ، ولم يتوقّفوا على الأدلّة. وقد بيّنا في مواضع من كتبنا : أنّ إجماع أصحابنا حجّة ».

__________________

منها : جعله استعمال صيغة الأمر في الإيجاب والندب معا في اللغة والتعارف والقرآن والسنّة ممّا لا شبهة فيه ، فإنّ مراده من التعارف إنّما هو عرفه المتأخّر عن عرف الشرع المتأخّر عن اللغة ، فلا يتصوّر مخالفة الشرع لهما إلاّ على احتمال سخيف يبعد المصير إليه من جاهل فضلا عن عالم فاضل ، وهو هجر أحد معنيي المشترك في زمان الشرع إلى العرف المتأخّر عنه فعوده إلى ما كان عليه أوّلا.

ومنها : جعله الاستعمال فيهما ثابتا في القرآن والسنّة ، وقضيّة ذلك مع انضمام ظهور الاستعمال عنده في الحقيقة اعتقاده بالاشتراك في عرف الشرع ، فكيف يتصوّر معه المصير إلى ما ذكر إلاّ ممّن ليس له حظّ من الفهم.

ومنها : قوله في بيان كيفيّة مناظرة الصحابة بعضهم بعضا : « ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من الله سبحانه أو من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل صاحبه : هذا الأمر يقتضي الندب أو الوقف بين الوجوب والندب » فإنّه لو لا ما ذكرناه لكان عليه أن يقول مكان قوله : « هذا الأمر » « صيغة الأمر » كما لا يخفى على الفطن العارف الذكيّ.

١٢٧

والجواب عن احتجاجه الأوّل : أنّا قد بيّنا أنّ الوجوب هو المتبادر من إطلاق الأمر عرفا ، ثمّ إنّ مجرّد استعمالها في الندب لا يقتضي كونه حقيقة ايضا ، بل يكون مجازا ؛ لوجود أماراته ، وكونه خيرا من الاشتراك ، وقوله : « إنّ استعمال اللّفظة الواحدة في الشيئين او الأشياء كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة » ، إنّما يصحّ إذا تساوت نسبة اللفظة إلى الشيئين أو الاشياء في الاستعمال ، أمّا مع التفاوت بالتبادر وعدمه او بما أشبه هذا من علامات الحقيقة والمجاز ، فلا. وقد بيّنا ثبوت التفاوت.

__________________

ومنها : قوله : « وهذا يدلّ على قيام الحجّة عليهم بذلك ، حتّى جرت عادتهم » فإنّ مراده بالحجّة إنّما هو القرينة المعيّنة للمراد ، وإلاّ لكان منافيا لما ادّعاه أوّلا من التبادر لو نزّلنا كلامه إليه ، لأنّ التبادر مع ضميمة حجّة خارجيّة لا يقضي بالمطلوب ، مضافا إلى عدم افتقاره بعد دعوى التبادر إلى بيان تلك المقدّمة ، فيكون ذلك قرينة واضحة على أنّه ليس بصدد دعوى التبادر ، بل غرضه عن مجموع كلامه أنّ من حمل الصحابة وعملهم يستكشف عن بلوغ قرينة إليهم دلّتهم على تعيين الوجوب في إرادة الشارع ، وأقوى ما يقضي بذلك أيضا قوله ـ بعد ما ذكر ـ : « وخرجوا عمّا يقتضيه مجرّد وضع اللغة في هذا الباب » فإنّ مقتضى وضع اللغة مع التجرّد عن القرينة إنّما هو الوقف كما هو الحال في سائر المشتركات ، فيكون حملهم المنافي للوقف دليلا واضحا على وجود قرينة معيّنة للوجوب لديهم قد اختفت علينا لأجل الحوادث والعوارض.

وبالجملة : لا نفهم من السيّد قولا آخر في الصيغة بحسب عرف الشرع ، وإنّما يقول بالوجوب فيه نظير ما يقوله كافّة الأصحاب وأرباب سائر الأقوال من دعوى قيام الدليل على وجوب حمل الأوامر في كلام الشارع على الوجوب ، وإن لم يكن ممّا يقتضيه أصل اللغة ، غاية الفرق بينه وبين غيره أنّه يجعله بحسب اللغة مشتركا لفظيّا بينه وبين الندب ، وغيره بين من يجعله مشتركا معنويّا ومن يجعله حقيقة خاصّة في الأوّل ، ومن يجعله حقيقة خاصّة في الندب وهكذا إلى سائر الأقوال.

هذا بناء على استفادة هذا المذهب منه عن الاحتجاج المذكور لو كان عين عبارته ،

١٢٨

وأمّا احتجاجه على أنّه في العرف الشرعيّ للوجوب ، فيحقّق ما ادّعيناه ، إذ الظاهر أنّ حملهم له على الوجوب إنّما هو لكونه له لغة ، ولأنّ تخصيص ذلك بعرفهم يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه اللغوي ، وهو مخالف للأصل. هذا ، ولا يذهب عليك أنّ ما ادّعاه في أوّل الحجّة ، [ من ] استعمال الصيغة للوجوب والندب في القرآن والسنّة ، مناف لما ذكره من حمل الصحابة كلّ امر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب ، فتأمّل!.

احتجّ الذاهبون إلى التوقّف : بأنّه لو ثبت كونه موضوعا لشيء من المعاني ، لثبت بدليل ، واللازم منتف ؛ لأنّ الدليل إمّا العقل ، ولا مدخل له ، وإمّا النقل ، وهو إمّا الآحاد ، ولا يفيد العلم ، أو التواتر ، والعادة تقتضي بامتناع عدم الاطّلاع على التواتر ممّن يبحث ويجتهد في الطلب. فكان الواجب أن لا يختلف فيه.

__________________

وأمّا لو استفادوه عن موضع آخر من كلامه الصريح فيه فلابدّ من أن ينظر فيه.

فعلى ما ذكر لا يرد عليه ما أورده المصنّف في آخر كلامه من منافاة ما ادّعاه أوّلا من استعمال الصيغة في الوجوب والندب في القرآن والسنّة لما ذكر ثانيا من حمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن والسنّة على الوجوب ، ولا ما اورد أيضا من أنّه بعد فرض الاستعمال في الندب بالنسبة إلى عرف الشرع مجازا لا فائدة تترتّب على أخذه في الاحتجاج ، ولا ما أجابوا عن احتجاجه الثاني تارة : بأنّ الإجماع المذكور إنّما يفيد حملهم أوامر الشرع عليه وهو أعمّ من كونها موضوعة لمطلق الطلب ، أو كونها مشتركة بين المعنيين كما اختاره في وضعها بحسب اللغة.

واخرى : بأنّه لا دلالة في الإجماع المذكور على استناد الفهم المشار إليه إلى نفس اللفظ ، بل قد يكون من جهة ظهور الطلب في الوجوب كما هو معلوم من فهم العرف أيضا بعد الرجوع إلى المخاطبات العرفيّة.

وثالثة : بأنّه إذا دلّ الإجماع على كونه حقيقة في عرف الشرع في الوجوب خاصّة ، فقضيّة أصالة عدم تعدّد الاصطلاح وعدم تحقّق الهجر أن يكون كذلك بحسب اللغة أيضا.

١٢٩

والجواب : منع الحصر * ؛ فانّ ههنا قسما آخر ، وهو ثبوته بالأدلّة الّتي قدّمناها ، ومرجعها الى تتّبع مظانّ استعمال اللفظ والأمارات الدالّة على المقصود به عند الاطلاق.

حجّة من قال بالاشتراك بين ثلاثة أشياء : استعماله فيها ، على حذو ما سبق في احتجاج السيد رحمه‌الله على الاشتراك بين الشيئين. والجواب ، الجواب.

وحجّة القائل بأنّه للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الإذن ، كحجّة من قال بأنّه لمطلق الطلب : وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وجوابها كجوابها.

واحتجّ من زعم أنّها مشتركة بين الأمور الأربعة بنحو ما تقدّم في احتجاج من قال بالاشتراك ، وجوابه مثل جوابه.

فائدة

يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة ** : أنّ استعمال

__________________

* والأولى أن يقال : إنّ العقل إن اريد به ما كان مستقلاّ في إثبات المطلوب فمنع مدخليّته مسلّم ، ولكنّ الحصر المستفاد من الاحتجاج غير مسلّم لوجود قسم آخر في المقام وهو ثبوته بما تقدّم من الأدلّة من الآيات وغيرها ، وإن اريد به الأعمّ حتّى لو كان العقل جزءا من الدليل لا يكون عليه تعويل.

ففيه : منع واضح ، كيف وعدّهم ما يتركّب من النقل والعقل من أدلّة اللغة لا خفاء فيه على أحد ، مع أنّه لا يتمّ دليل إلاّ وللعقل مدخل فيه كما لا يخفى على من لاحظ التبادرات وغيرها من الأمارات ، وأقلّ ذلك كون النظر في الدليل من قبله ، هذا مضافا إلى منع لزوم القطع في اللغات حتّى يمنع عن الاكتفاء بالآحاد ، ومنع لزوم الاختلاف عدم وقوع التواتر في الواقع ، فإنّ المتواتر إنّما يفيد القطع مع قابليّة المحلّ له بعدم سبق الشبهة إليه ، وعدم مسارعة التشكيكات القادحة إلى ذهنه.

** واجيب عنه (١) تارة : بأنّ شيوع الاستعمال في الندب مع القرينة لا يستلزم تساوي

__________________

(١) المجيب هو السلطان ( منه ).

١٣٠

صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوى احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجيّ ؛ فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم‌السلام.

__________________

الاحتمالين في المجرّد عن القرينة.

نعم ، إن ثبت شيوع الاستعمال بدون القرينة المقارنة بأن يكون استعمالهم فيه مطلقا ، فعلم بدليل منفصل أنّ مرادهم الندب فلا بعد لما ذكره ، وكأنّه مراده ولكن إثبات مثل هذا الشيوع لا يخلو من إشكال.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ شيوع استعمال اللفظ في معناه المجازي قاض برجحان المجاز على ما كان عليه قبل الشيوع ، سواء كان استعماله فيه على الوجه الأوّل أو الثاني أو الملفّق منهما ، وكلّما زاد الشيوع قوي المجاز إلى أن يبلغ حدّ المساواة مع الحقيقة أو الرجحان عليه في صورة الإطلاق أيضا ، حملا له على الأعمّ الأغلب ، وذلك أمر ظاهر بعد الرجوع إلى العرف.

واخرى (١) : بأنّ حمل « الأمر » على الندب في أحاديثنا المرويّة إمّا لقرينة دالّة عليه فمن البيّن أنّه لا يستلزم كونه مساويا للحقيقة ، فإنّ أكثر الألفاظ في كلام العرب شاع استعمالها في المعاني المجازيّة ، وعليه معتمد الشعراء والخطّاب ، وإمّا لعارض أو ضعف في السند وذلك لا يستلزم الاستعمال في الواقع ، بل ذلك مقتضى الجمع بين الأدلّة أو العمل بدليل خاصّ دلّ على رجحان العمل بمقتضى الرواية الضعيفة.

والظاهر أنّ مراده بذلك عمومات « من بلغ ».

وأورد عليه الفاضل المذكور : بأنّه مع البناء على ذلك يلزم امتناع حصول المجاز المشهور ، بل النقل الحاصل من الغلبة ، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي إنّما يكون مع القرينة المتّصلة أو المنفصلة [ إذ ] بدونها لا يحمل اللفظ إلاّ على معناه الحقيقي. والمفروض أنّ الغلبة الحاصلة بأيّ من الوجهين المذكورين هذا (٢).

__________________

(١) هذا مستفاد من كلام الشيرواني.

(٢) والظاهر وقوع سقط في هذه العبارة فلابدّ من النظر في نسخة اخرى من نسخ هداية المسترشدين. ( منه ).

أقول : الساقط من نسخة المؤلف قدس‌سره ما يلي : لا يقضي بمساواة المجاز للحقيقة أو ترجيحه عليها ولو بملاحظة تلك الشهرة ، فكيف يحصل المجاز المشهور أو النقل على الوجه المذكور؟

١٣١

وأمّا البناء على الاستحباب من جهة ضعف الرواية وقصورها عن إثبات الوجوب للتسامح في أدلّة السنن فممّا لا ربط له بالمقام ، وكذا حمل الرواية على الندب عند التعارض بمجرّد ترجيح إعمال الدليلين على طرح أحدهما من غير أن يحصل هناك فهم عرفي يقضي بذلك [ كما ذهب إليه البعض ] فذكر ذلك في المقام ليس على ما ينبغي ، لوضوح خروجه عن محلّ الكلام ، إذ ليس شيء من ذلك قرينة متّصلة ولا منفصلة على إرادة الندب من اللفظ.

والمفروض في كلام المصنّف شيوع استعمال الأوامر في الندب ، وأين ذلك ممّا ذكر.

فأجاب عنه (١) ذلك الفاضل أوّلا : بأنّ المعتبر في الغلبة الباعثة على الوقف أو الصرف هو ما إذا كانت قاضية بفهم المعنى المجازي مع الإطلاق ، وكونه في درجة الظهور مكافئا للمعنى الحقيقي حتّى يتردّد الذهن بينهما أو يكون راجحا على معناه الحقيقي ، وحصول ذلك في أخبارهم [ عليهم‌السلام ] غير ظاهر ، بل من الظاهر خلافه ، إذ الظاهر أنّ الأوامر الواردة عنهم على نحو سائر الأوامر الواقعة في العرف والعادة ، والمفهوم منها في كلامهم هو المفهوم منها في العرف.

ويشهد له ملاحظة الإجماع المذكور في كلام السيّد وغيره ، فإنّه يشمل كلام الأئمّة عليهم‌السلام ، وملاحظة طريقة العلماء في حمل الأوامر على الوجوب كافية في ذلك ، ولم نجد الدعوى المذكورة في كلام أحد من متقدّمي الأصحاب مع قرب عهدهم ووفور اطّلاعهم (٢).

ومع الغضّ عن ذلك ، فالشهرة المدّعاة إمّا بالنسبة إلى أعصارهم عليهم‌السلام ليكون اللفظ مجازا مشهورا في الندب عند أهل العرف في تلك الأزمنة ، أو بالنسبة إلى خصوص الأوامر الواردة عنهم عليهم‌السلام فيكون مجازا مشهورا في خصوص ألسنتهم عليهم‌السلام دون غيرهم.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون الشهرة حاصلة بملاحظة مجموع أخبارهم المأثورة عنهم عليهم‌السلام ، أو بملاحظة الأخبار المرويّة عن بعضهم ، أو بالنسبة إلى كلام كلّ واحد منهم ليكون الاشتهار حاصلا في كلام كلّ واحد منهم استقلالا.

__________________

(١) أي عن دعوى المصنّف رحمه‌الله.

(٢) هكذا عقيب تلك العبارة في هداية المسترشدين : « بل لم نجد ذلك في كلام أحد ممّن تقدّم على المصنّف ، ولو تحقّقت الغلبة المذكورة لكان أولئك أولى بمعرفتها. فاتّفاقهم على حملها على الوجوب كاشف عن فساد تلك الدعوى ، بل في بعض الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام دلالة على خلاف ذلك حسب ما مرّت الإشارة إليه » ولعلّ المصنّف رحمه‌الله أسقطها تلخيصا والله العالم.

١٣٢

فإن تمّ الوجه الأوّل وظهر حصول الاشتهار على ذلك الوجه في عهد أيّ منهم عليهم‌السلام تفرّع عليه الثمرة المذكورة في الأخبار الواردة بعد تحقّق الشهرة ، إلاّ أنّ دعوى الشهرة المذكورة بعيدة جدّا ، ولم يدّعه المصنّف أيضا ، ومع ذلك فليس التاريخ فيه معلوما.

وعلى الوجه الثاني فالشهرة المدّعاة لا تثمر شيئا بالنسبة إلى أخبارهم عليهم‌السلام ، إذ من البيّن أنّ ذلك لو أثّر فإنّما يؤثّر بالنسبة إلى ما بعد حصول الاشتهار وأمّا بالنسبة إلى تلك الأخبار الباعثة على الاشتهار فلا.

وعلى الوجه الثالث لا إشكال في الأوامر الواردة عمّن تقدّم على من حصل الاشتهار في كلامه ، بل وكذا بالنسبة إلى من تأخّر عنه ، إذ المفروض عدم تحقّق الشهرة العرفيّة ، وإنّما الشهرة المفروضة شهرة خاصّة بمتكلّم مخصوص.

ومن البيّن أنّ الشهرة الحاصلة في كلام شخص خاصّ لا تقضي بجري حكمها في كلام غيره مع تحقّقها بالنسبة إليه.

وكونهم : بمنزلة شخص واحد وأنّ كلام آخرهم بمنزلة كلام أوّلهم ممّا لا ربط له بالمقام ، فإنّ ذلك إنّما هو في بيان الشرائع والأحكام دون مباحث الألفاظ وخصوصيّات الاستعمالات ، بل وكذا بالنسبة إلى الأوامر الصادرة عمّن حصل الاشتهار في كلامه إذا استند الشهرة إلى مجموع الاستعمالات الحاصلة منه ، إذ لا توقّف حينئذ في نفس تلك الاستعمالات الّتي يتحقّق بها الاشتهار حسبما عرفت.

نعم ، يثمر [ ذلك ] في كلامه لو صدر بعد تحقّق الاشتهار المفروض إن يتبيّن تاريخ الغلبة.

وقد يسري الإشكال في جميع الأخبار المأثورة عنه عليه‌السلام مع جهالة التاريخ أيضا ، إلاّ أن يقال : بأصالة تأخير الشهرة إلى آخر أزمنته عليه‌السلام مع الظنّ بورود معظم الأخبار المرويّة عنه قبل ذلك ، فيلحق المشكوك بالغالب.

ويجري التفصيل المذكور أخيرا على الوجه الرابع أيضا ، ودعوى الشهرة على هذا الوجه غير ظاهرة عن عبارة المصنّف ولا من الأخبار المأثورة حسبما استند إليها ، فإنّ أقصى ما يستظهر في المقام حصول الشهرة في الجملة بملاحظة مجموع الأخبار المأثورة.

فظهر بما قرّرناه أنّ ما ادّعاه من الشهرة على فرض صحّته لا يتفرّع عليه ما ذكره من الإشكال ، إلاّ على بعض الوجوه الضعيفة ، هذا.

١٣٣

ـ تعليقة ـ

قد أشرنا سابقا في صدر بحث الصيغة إلى عدم دخول الجمل الخبريّة المستعملة في الإنشاء في عنوان هذا البحث ، تنبيها على فساد ما توهّمه بعضهم من دخولها في عبارة المصنّف بقوله : « صيغة افعل وما في معناها » فلا يشملها النزاع المتقدّم.

نعم فيها نزاع آخر فيما لو قام من القرائن ما يقضي بعدم إرادة الإخبار منها الموجب لحملها على الطلب ، كما في نحو « يغتسل » و « يتوضّأ » و « يعيد » و « المؤمنون عند شروطهم » و « المؤمن إذا وعد وفى » ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ )(١) وغير ذلك ممّا لا يحصى ، من حيث دلالتها حينئذ على الوجوب خاصّة إذا كانت موجبة وعدمها ، فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّها بعد تعذّر الحقيقة دليل على الوجوب.

وعن جماعة كالبهائي والخوانساري في المشارق ، والسبزواري في الذخيرة ، وثاني الشهيدين في كفّارات المسالك ، والسيّد في المدارك المنع عن الدلالة عليه.

فعن الأوّل أنّه قال في موضع : « دلالتها على الوجوب محلّ توقّف استنادا إلى عدم انحصار سبب العدول فيما يفضي إلى الوجوب » وعنه ايضا أنّه نفى خلوّه عن إشكال في محلّ آخر ، مع أنّه أذعن بها في ثالث.

وعن الثاني : أنّه منع كون التحريم أقرب المجازات إلى النفي ، وهو يعطي منع دلالة الجملة الموجبة على الوجوب.

وربّما يعزى إليه صريحا المصير إلى الحمل على الطلب الندبي.

وعن الثالث : أنّه تأمّل فيه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

١٣٤

وعن الرابع : أنّه نفى دلالتها عليه في مواضع ، وفي التمهيد جعله أصرح.

وعن الخامس : أنّه نظر في الحمل عليه ، هذا على ما في كلام بعض الأعاظم.

قال بعض الأفاضل عن جماعة من الأصحاب : المنع من دلالتها على ذلك ، نظرا إلى كونها موضوعة للإخبار وقد تعذّر حملها عليه فتعيّن استعمالها في الإنشاء مجازا ، وكما يصحّ استعمالها في إنشاء الوجوب فكذلك يصحّ استعمالها في إنشاء الندب أو مطلق الطلب ، فإذا تعذّرت الحقيقة وتعدّدت المجازات لزم الوقف بينها.

وقضيّة ذلك ثبوت المعنى المشترك وهو مطلق الرجحان ، والثابت به هو الاستحباب بعد ضمّ الأصل إليه ، فلا يصحّ الاستناد إليها في إثبات الوجوب إلاّ بعد قيام قرينة دالّة عليه ، هذا فيما يجري فيه أصل البراءة.

وأمّا إذا كان ذلك في مقام جريان أصل الاحتياط فلابدّ من البناء على الوجوب انتهى.

وربّما يقال ـ في مثل « المؤمنون عند شروطهم » و « المؤمن إذا وعد وفى » ـ بأنّ الداعي إلى صرفها عن الحقيقة والباعث على حملها على الإنشاء إنّما هو صون كلام الحكيم عن الكذب ومخالفة الإجماع ، فإنّ المراد به إمّا أنّ المؤمن إذا وعد وفى بوعده ولا يتخلّف عنه أبدا ، أو أنّه هو الّذي إذا وعد وفى فالذي لا يفي فليس بمؤمن ، ولا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه الكذب ولا إلى الثاني للإجماع على أنّ الوفاء بالوعد ليس من شرائط الإيمان ، فتعيّن الحمل حينئذ على الإنشاء ، وهو أنّ المؤمن إذا وعد يجب عليه الوفاء.

ويشكل أنّ المحذورين إنّما يلزمان إذا اريد من القضيّة الضروريّة أو الدائمة ، ومن الاشتراط بيان شرط الإيمان.

وأمّا لو اريد بها المطلقة العامّة ـ ولا سيّما في المثال المذكور من حيث اشتماله على أداة الإهمال ـ ومن الاشتراط شرط الكمال فلا ، كما لا يخفى.

فالأولى إيكال الوجه في كلّ مثال إلى قرائن المقام ونحوها ، ولو إجماعا على عدم إرادة الحقيقة.

وتحقيق القول في ذلك : أنّها بعد تعذّر الحقيقة تحمل على الوجوب مطلقا إلى أن يتبيّن من الخارج خلافه ، لا لما قيل من أنّها إذن مستعملة في الطلب الّذي هو ظاهر مع الإطلاق في الوجوب منصرف إليه ، لمنع الظهور ، بل لقربه إلى المعنى الحقيقي عرفا واعتبارا ، فإنّ لزوم الوقف إنّما يتوجّه عند تكافؤ الاحتمالين أو الاحتمالات مع فقد المرجّحات الخارجة.

١٣٥

ولا ريب أنّ المنساق منها في الصورة المفروضة في العرف والعادة هو الطلب الحتمي ، كما أنّه المنساق عن الهيئات الإنشائيّة.

ألا ترى أنّ « الأسد » في قول القائل : « رأيت أسدا في الحمّام » لا يحمل إلاّ على الرجل الشجاع مع احتمال الأبخر والصورة المنقوشة من المعنى الحقيقي حينئذ في الجدار ، والظاهر هو الحجّة في أمثال المقام ، مضافا إلى أنّه ممّا استقرّ عليه طريقة العرف والعقلاء ، فلذا ترى العبد أنّه لو بادر إلى ترك الامتثال فيما لو قال له السيّد : « يا عبدي تروح إلى السوق وتشتري اللحم » أو « تركب وتأتي من البستان بالفاكهة » ونحو ذلك لأطبق العقلاء على ذمّه ، وصحّ من المولى عقابه من دون أن يكون له عند ذلك عذر.

ويؤيّده كونه أقرب إلى الحقيقة اعتبارا من حيث إنّ الجملة الخبريّة للثبوت إن كانت اسميّة ، والوقوع إن كانت فعليّة ولو في آن الاستقبال ، والوجوب في الإنشاءات أقرب إلى الثبوت والوقوع لما في الندب من الرخصة في الترك الباعثة غالبا أو كثيرا على عدم الثبوت والوقوع ، وقاعدة الوقف إنّما يعمل بها إذا لم يكن هناك قرب ، أو كان اعتبارا فقط نظرا إلى أنّه لا عبرة بالاعتبارات في باب اللغات أصلا ما لم يكتنفها ظهور عرفي.

ومن هنا يتّضح عدم صلوحه للمعارضة إذا وجد في طرف المقابل لما وجد فيه القرب العرفي من الطرف الآخر.

وبذلك ينقدح ضعف الاحتجاج : بأنّ الوجوب أقرب إلى الثبوت الّذي هو مدلول الإخبار ، وإذا تعذّرت الحقيقة قدّم أقرب المجازات ، كضعف ما قيل من النكتة الباعثة على إيثارها في مقام إنشاء الطلب على « الأمر » من أنّ دلالتها على الاهتمام بالطلب آكد من دلالة « الأمر » عليه.

وعن علماء المعاني أنّ البلغاء يقيمونها مقام الإنشاء ليحملوا المخاطب بآكد وجه على أداء مطلوبهم ، كما إذا قلت ـ لصاحبك الّذي لا يريد تكذيبك ـ : « تأتيني غدا » لتحمل على الالتزام بالإتيان لئلاّ يوهم تركه له تكذيبك فيما ذكرت حيث أتيت بصورة الإخبار ، فإنّها غير مطّردة ، ولو سلّم فجريانها في الخطابات الشرعيّة متّضح المنع ، على أنّها بمجرّدها لا توجب ظهورا وبدونه لا تعويل.

ومن جميع ما قرّر يظهر الكلام في الجمل الخبريّة السلبيّة ، فإنّها بعد تعذّر الحقيقة ظاهرة في التحريم ، فيجب البناء عليه إلى أن يتبيّن من الخارج ما يقضي بخلافه.

* * *

١٣٦

ـ تعليقة ـ

اختلفوا في مفاد « الأمر » إذا وقع عقيب الحظر ، فقيل : بأنّه الوجوب كالأمر الابتدائي ، صار إليه العلاّمة في التهذيب ، وعزاه بعض الأعاظم إلى الذريعة والعدّة والغنية ، ونقل حكايته بعض الأفاضل عن الشيخ والمحقّق والشهيد الثاني وجماعة من العامّة منهم الرازي والبيضاوي ، وعن الإحكام أنّه عزاه إلى المعتزلة.

وقيل : بأنّه الإباحة مطلقة كما في بعض العبائر ، أو مفسّرة بالرخصة كما في بعضها الآخر.

وقد نسب تارة إلى الجمهور واخرى إلى الأكثر ، واختاره من فحول المتأخّرين جماعة من الأجلاّء ، والّذي يظهر ـ والله أعلم ـ انحصار القول بين القدماء في هذين وقد أحدث المتأخّرون أقوالا اخر :

فمنها : كونه تابعا لما قبل الحظر إذا علّق « الأمر » بزوال علّة النهي ، كقوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(١) و ( إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(٢) وقد حكى ذلك في الهداية والقوانين والإشارات والضوابط.

ومنها : الندب ، المحكيّ فيما عدا الثاني.

ومنها : رجوع الحكم السابق من وجوب أو ندب أو غيرهما ، فيكون تابعا لما قبل الحظر ، حكاه فيما عدا الثاني والرابع إلاّ أنّ الأوّل نقله حكاية عن الوافية.

ومنها : الإباحة الخاصّة ، وقد نقل في الأخير.

ومنها : كونه حقيقة شرعيّة في الإباحة ، حكاه في الثاني والثالث مسندا له إلى ظاهر الحاجبي.

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) المائدة : ٢.

١٣٧

ومنها : التفصيل بين ما إذا علّق الأمر بزوال علّة عروض النهي فيكون للإباحة ، وما لم يعلّق به فيكون للوجوب ، حكاه في الأوّل ووافقه في ذلك أخوه في الفصول.

ومنها : الوقف ، وقد حكى أيضا فيما عدا الثاني.

ومنها : ما اختاره في الفصول من التفصيل بين كون حكم الشيء قبل الحظر وجوبا أو ندبا وبين غيره ، فعلى الأوّل كان « الأمر » الوارد بعده ظاهرا فيه فيدّل على عود الحكم السابق ، تعليلا بأنّ إباحة العبادة غير معقولة ، وعلى الثاني كان ظاهرا في الإباحة مطلقا.

ثمّ إنّ ظاهرهم تمثيلا ودليلا وتعبيرا بالصيغة في كلام جماعة في طيّ البحث اختصاص النزاع بالأمر بالصيغة ، مضافا إلى تفريع جماعة منهم الخلاف على القول بكونها للوجوب ، وهو كذلك إذ لا ينبغي أن يرتاب أحد في كون الأمر بالمادّة مفيدا للوجوب في جميع أحواله ، كما أنّ ظاهرهم بل صريح كثير منهم عدم كون النزاع في وضع الصيغة ، لأنّه في كلّ محلّ ثبت فلا يختلف باختلاف أحوال الموضوع استحالة الوضع بالشرط ، والمفروض أنّ نزاعهم في وضع الصيغة قد تقدمّ في البحث السابق ، فيرجع نزاعهم ذلك إلى صلاحيّة سبق الحظر على « الأمر » أو تعقّب « الأمر » للحظر لكونه قرينة صارفة لها عن حقيقتها إلى غيرها ممّا ذكر وعدمها ، كما يساعد عليه الأوّل من أدلّة القائلين بإفادتها الوجوب مع الأوّل من أدلّة أصحاب القول بالإباحة ـ بمعنى الرخصة ـ على ما سيأتي ، حيث إنّ الأوّلين يتمسّكون بوجود المقتضي وهو الصيغة مع عدم المانع ، نافين لصلاحيّة ما ذكر لكونه موجبا للصرف ، والآخرين يتمسّكون بظهور المقام وكون ما ذكر موجبا لرجحان الإباحة بالمعنى المذكور ، ومثل هذا النزاع ليس بعادم النظير في ذلك الفنّ ، لوقوعه في المجاز المشهور من حيث تقدّمه على الحقيقة المرجوحة أو رجحانها عليه أو تكافؤهما الموجب للوقف ، على ما تقدّم في محلّه من رجوعه إلى أمر صغروي وهو صلوح الشهرة لكونها قرينة صارفة وعدمه.

ومثله النزاع في كون اختصاص الضمير ببعض أفراد العامّ موجبا لتخصيص ذلك العامّ بهذا الفرد وعدمه في وجه (١).

ومثلهما النزاع في كون المخصّص المتعقّب لعمومات عديدة موجبا لتخصيص الكلّ وعدمه في وجه أيضا.

__________________

(١) والتقييد بذلك إشارة إلى كونه مبنيّا على القول بكون العامّ المخصّص مجازا في الباقي ، فتأمّل. ( منه ).

١٣٨

وإنّما أفردوا تلك المذكورات بالخلاف دون سائر القرائن ـ حاليّة ومقاليّة ، مع أنّ وقوع التعارض بينهما وبين ظاهر اللفظ باعتبار الوضع من لوازم الكلّ ـ لانضباطها وما فيها من الجهة الكلّيّة دون غيرها ، لكونها امورا جزئيّة غير منضبطة فلا تقع مبحوثا عنها في شأن أهل النظر ، كذا قيل.

ثمّ إنّهم صرّحوا بعدم الفرق بين كون الحظر متيقّنا أو مظنونا أو مشكوكا فيه أو موهوما ، وإلى ذلك يشير ما في المنية من التعبير عن العنوان « بالأمر الوارد عقيب الحظر أو الإستئذان ».

فعلى هذا يكون جميع الأوامر الواردة في معرض السؤال ـ محقّقا أو مقدّرا ـ عمّا يرجع إلى جواز التصرّفات بجميع أنحائها أكلا وشربا واستعمالا ونحوها من هذا الباب ، فيدخل فيه حينئذ قول السائل : « الماء يمرّ عليه الجيف والكلاب فهل أشرب منه وأتوضّأ؟ فقال : إذا تغيّر الماء فلا تشرب منه ولا تتوضّأ ، وإذا لم يتغيّر فاشرب منه وتوضّأ » (١) كما أنّ ظاهرهم ـ بل صريحهم ـ أنّ المراد بالحظر هو الشرعي ، فالحظر العقلي ليس بداخل في النزاع كما يساعد عليه ـ بل يصرّح به ـ استدلال أصحاب القول بإفادة الوجوب بأنّه لا كلام عند القائل بكونها للوجوب أنّ ورودها [ عقيب ] الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب ، ولذا يحمل أوامر العبادات على الوجوب إلى أن يتبيّن المخرج عنه ، مع أنّها قبل « الأمر » كانت محرّمة من جهة البدعة ، فيكون الحال كذلك في الحظر الشرعي ، ولا يخفى أنّ ذلك يقتضي كون الحمل على الوجوب عند الحظر العقلي متّفقا عليه بين الفريقين.

وهل المراد به النهي النفسي أو أعمّ منه ومن النهي الغيري؟ ظاهرهم على ما يستفاد عن الأمثلة المذكورة في الباب هو الأوّل ، كما استظهره بعض الفضلاء عن كلامهم نافيا لبعد إلحاقه به ، بمعنى أنّه وإن كان خارجا عن مقصودهم إلاّ أنّه يلحق به نظرا إلى وحدة المناط.

ويمكن استفاد [ ة ] التعميم عن استدلالهم بقول المولى لعبده : « اخرج من المحبس إلى المكتب » بعد النهي عنه ، التفاتا إلى احتمالي كون الخروج عن المحبس محظورا لنفسه أو لغيره باعتبار كونه مقدّمة لمحظور آخر. فليتأمّل.

ولا ريب أنّ ظاهره النهي التحريمي أخذا بما هو حقيقة لفظ « الحظر » كما تنبّه عليه الفاضل المشار إليه ، إلاّ أنّه حكم بإلحاق النهي التنزيهي به أيضا في الحكم كما صرّح به أخوه في الهداية ، ومثله في كلام بعض الأعاظم أيضا.

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، ح ٤ ( مع اختلاف يسير في العبارة ).

١٣٩

ثمّ إنّ من الأعلام من اعتبر في محلّ البحث اتّحاد مورد « الأمر » والنهي إطلاقا وتقييدا ، ففرّع عليه الحكم بخروج المثال المذكور عن محلّ البحث تعليلا بكون متعلّق النهي فيه مطلق الخروج ومتعلّق الأمر مقيّدا بالذهاب إلى المكتب.

واعترض عليه : بأنّ اشتراط اتّحاد المورد من حيث الإطلاق والتقييد يوجب خروج أكثر أمثلة الباب ، إذ كلّها منه كما لا يخفى.

والأولى أن يقال في ردّه : إن كان المراد أنّ الأمر بالمقيّد وارد على ما ليس بمحظور.

ففيه : أنّ حظر الطبيعة يستدعي حظر جميع أفرادها ، كما هو المصرّح به في غير واحد من مواضع كتابه.

وإن كان المراد أنّ النهي هنا ضمنيّ ، ففيه : منع واضح ، حيث لم يظهر منهم اشتراط صراحة النهي إن لم يكن الظاهر خلافه ، على أنّ العبرة في محلّ البحث ـ على ما يشهد به ملاحظة عبائرهم ـ بسبق الحظر سواء استفيد ذلك من نهي صريح أو ضمني ، فلو سأله عن التوضّي بسؤر الحيوان فأمره عليه‌السلام بالتوضّي بسؤر ما اكل لحمه من الحيوان يكون من محلّ الخلاف ، كما أنّه لو سأله عن شرب سؤر السنّور فأمره بشرب سؤر ما ليس بنجس العين من الحيوان يكون منه ، بل لو سأله عن استعمال قليل لاقاه النجاسة فأمره باستعمال الجاري الّذي لاقاه النجاسة يكون منه ، والفرق بين الأمثلة أنّ النسبة بين مورد الحظر والأمر في الأوّلين عموم مطلق مع وضوح الفرق بينهما ، وفي الأخير عموم من وجه.

وقضيّة ذلك بقاء مادّة الافتراق من جانب الحظر وهو القليل الراكد في المثال تحت الحظر.

وينبغي القطع أيضا بعدم الفرق بين كون الحظر والأمر مستفادين من منطوق الكلام أو فحواه ، فلو سأله عن شرب سؤر الجلاّل ، فأمره بالتوضّي بسؤره يكون من محلّ البحث ، لدلالة السؤال على الحظر في التوضّي والاغتسال بالفحوى ، كدلالة الجواب على الأمر بالشرب بالفحوى.

وينبغي القطع أيضا بأنّ المراد من « الأمر » في محلّ البحث ما كان واردا في سياق التنبيه على رفع الحظر على حسب تحقّقه في المقام ، باعتبار اليقين أو الظنّ أو الاحتمال ولو مرجوحا ، فلو قال : « صلّ » بعد ما نهى عن الغصب لا يكون من محلّ البحث في شيء ، بناء على جعل العامّين من وجه من أفراده كما تقدّم.

فهل المراد بالرفع ما يكون سنخيّا أو أعمّ منه ومن الشخصي؟ وجهان من ظهور الرفع

١٤٠