تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

قلت : ما اعتبرت من الانضمام إن كان له مدخليّة في متعلّق الوجوب بحيث لو انتفى انتفى الوجوب فالمحذور باق على حاله ، لكون مفاده بالأخرة دعوى وجوب العلّة التامّة خاصّة دون الشرط بما هو شرط وإن لم يكن له مدخليّة فاعتبار الانضمام حينئذ غير مجد فيما هو مطلوبك بعد فرض كون الواجب هو الشرط من غير مدخليّة لانضمام الغير إليه في اتّصافه بالوجوب.

فإن قلت : إنّما نأخذ الشرط في محلّ الوجوب لا بشرط وهو لا ينافي شرط الانضمام إليه فيكون معه موصلا فحصل المطلوب.

قلت : إنّ الشرط لا بشرط الانضمام كما أنّه لا ينافيه الانضمام فكذلك لا ينافيه عدم الانضمام أيضا ، فمتعلّق الوجوب إمّا أن يكون الشرط على كلا تقديري الانضمام وعدمه فهو اعتراف بضدّ المطلوب ، أو الشرط على تقدير الانضمام خاصّة فهو التزام بالمحذور ، لكون مفاد العبارة حينئذ تقييد الواجب من الشرط بانضمام سائر الشروط إليه وهو تخصيص للوجوب بالعلّة التامّة ، مع أنّا نرى أنّه ليس في المقام إلاّ المقدّمة ووجوبها والوصول بها إلى الواجب ، فإمّا أن يقال حينئذ : يجب المقدّمة للوصول ، أو يقال : يجب الوصول بالمقدّمة ، أو يجب المقدّمة والوصول أو يجب المقدّمة بشرط الوصول. وعليه فإمّا أن يؤخذ اشتراط الوصول قيدا للوجوب أو قيدا للواجب.

والأوّل ما نذهب إليه ممّا هو تحقيق المقام من كون الوصول إلى الواجب علّة غائيّة لإيجاب المقدّمة وحكمة باعثة على طلبها حتما كما هو من مقتضى ضرورة الوجدان مع بداهة العقول والأذهان ، وظاهر أنّ العلّة الغائيّة ما يلاحظ لتصحيح الفعل لئلاّ يخرج على الفاعل لغوا وعبثا من غير أن يعتبر فيها ترتّبها عليه فعلا ، فهي بحيث قد تترتّب عليه في الخارج وقد لا تترتّب ولا يقدح في صحّته إذا كانت ملحوظة عنده ، فالوصول إلى الواجب بالنسبة إلى الإيجاب المقدّمة من هذا الباب ، إذ غاية ما في الباب كون وجوبها معلّلا به حاصلا لأجله وأمّا اعتبار ترتّبها فعلا فلا.

وأمّا الاحتمالات الاخر فكلّها جار فيما ذهب إليه الفاضل المذكور على سبيل البدليّة وإن كان بعضها خلاف ظاهر عبارته.

وعلى أيّ تقدير فلا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأوّل منها : فلأنّه مفاد إيجاب أصل الفعل فيبقى مقدّمته غير ثابت الحكم فإن كان

٥٨١

ذلك هو المراد من وجوب المقدّمة لكان قولا بنفي الوجوب لا إثباته كما لا يخفى على المتدبّر.

وأمّا الثاني : فلأنّه ما لا ينكره القائل بعدم اعتبار وصف الإيصال في المقدّمة ، فإنّ الجزء الأوّل مفاد وجوب المقدّمة على الإطلاق.

وأمّا الجزء الثاني فلأنّه مفاد وجوب أصل الفعل كما عرفت ، ولكن أخذه في مفهوم وجوب المقدّمة كما ترى ممّا يكذّبه السليقة ويرمى زاعمه باعوجاج الذوق والفطنة.

وأمّا الثالث : فلاستحالته من جهة أدائه إلى اشتراط إيجاب الشيء بحصوله نظرا إلى أنّ الوصول إلى الواجب يستلزم حصول المقدّمة واشتراط الوجوب به اشتراط له بحصولها ، مضافا إلى كونه من باب الإقدام على الفعل بعد حصول الغاية المطلوبة فيكون تحصيلا للحاصل.

وأمّا الرابع : فلاستلزامه انقلاب العلّة التعليليّة علّة تقييديّة أو كون الشيء علّة تعليليّة وتقييديّة معا ، والأوّل خلاف الفرض لما عرفت من أنّ المفروض كون الوصول علّة غائيّة للطلب فكيف ينقلب قيدا في المطلوب ، والثاني محال لأدائه إلى اجتماع النقيضين ، فإنّ مقتضى تعليليّة العلّة إطلاق المطلوب ومقتضى تقييديّتها كونه مقيّدا وهما نقيضان.

وأمّا الأدلّة الّتي تمسّك بها الفاضل المذكور ففسادها أوضح من فساد أصل دعواه.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ كون وجوب المقدّمة من جهة الملازمة العقليّة مسلّم غير أنّها ملازمة بين الوجوبين لا الوجودين ، فإنّ وجود الواجب لما كان متوقّفا على وجود مقدّمته فالعقل يحكم بأنّ إيجابه يستلزم إيجابها ولكن دخول وصف الإيصال إليه فيها يتبع ثبوت الملازمة بين الوجودين ، فإن كانت بحيث يستلزم وجودها لوجوده كما أنّ وجوده يستلزم وجودها كالعلّة والجزء الأخير منها كان متعلّق الوجوب هو المقدّمة مع وصف الإيصال ، فعدم ترتّبه معه يكشف عن أنّ المأتيّ به من المقدّمة ليس بهذا النوع من المقدّمة الواجبة لا أنّه ليس من مطلق المقدّمة الواجبة ، وإن كانت بحيث لا يستلزم وجودها لوجوده كالشرط ونحوه لكون الاستلزام من طرف واحد كان متعلّق الوجوب هو هذه المقدّمة لا مع وصف الإيصال ، كيف (١) ولو لا ذلك لزم أن لا يجب شرط أصلا ، أو يعتبر فيه عند الوجوب انضمامه

__________________

(١) مع أنّا نقول : إنّ وجه مناط وجوب المقدّمة إنّما هو كون تركها مفضيا إلى ترك ذيها كما تبيّن عمّا قدّمناه من تقرير الاستدلال ، وهذا معنى يشمل المقدّمات الغير الموصلة في حدّ ذاتها بحسب الوجود إليه كالشروط وما هو بحكمها والمقدّمات الموصلة كالعلل والجزء الأخير منها. ( منه عفي عنه ).

٥٨٢

إلى سائر أجزاء العلّة التامّة وهو مع أنّه خروج عن إطلاق القول بوجوب المقدّمة إلى ما اتّفق الآراء على نفيه ممّا ينكره الوجدان كيف ونحن نجد من أنفسنا أنّ الطلب بالنسبة إلى المقدّمة ولو شأنا يتعدّد بحسب تعدّد أجزاء العلّة من جهة كون كلّ جزء منها مقدّمة مع عدم استلزامه الوصول جزما.

وبناء كلام هذا الفاضل إنّما هو على دعوى اتّحاد الطلب وإن لم يصرّح بها في عبارته ، لكون نفس الإيصال لازما لواحدة من المقدّمات أو الهيئة الاجتماعيّة الحاصلة من انضمام بعض إلى آخر.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ العقل الصريح قاض بأن ليس للآمر الحكيم أن يقول : « اريد الحجّ واريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ دون ما لا يتوصّل به إليه » لأنّ ذلك جمع بين الشيء وبين ما يناقضه ويضادّه ، فإنّ المسير بما هو هو من جملة الشروط والشرط بما هو هو ليس من شأنه التوصّل به إلى المشروط كما يرشد إليه تعريفه : « بما لا يلزم من وجوده الوجود » فتوصيفه بما ذكر من إرادة التوصّل به إليه توصيف له بما يناقضه ، وأنّه نظير أن يقال : « اريد منك الأبيض الّذي يجمع البصر ولا اريد ما لا يجمعه » أو « اريد منك الأسود الّذي يفرّق البصر دون ما لا يفرّقه ».

نعم لو اريد بعبارة الموصول مع صلته بيان اشتراط انضمام هذا الشرط إلى سائر الشروط اللازمة لارتفع الحزازة المذكورة غير أنّه تصريح في إيجاب المقدّمة بعدم وجوب الشرط بما هو شرط ، وأنّ الواجب فيها منحصر في العلّة التامّة أو ما يعامل معاملته وهو كما ترى ، ولا أظنّ أنّ هذا الفاضل يلتزم بذلك وإنّما تمسّك بذلك الوجه غفلة عمّا هو حقيقة مفاده ومقتضاه.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ قوله : « وحيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب فلا جرم يكون التوصّل بها إليه معتبرا في مطلوبيّتها » مصادرة بالمطلوب.

ومع الغضّ عن ذلك فهو فاسد الوضع من جهة أنّ التوصّل على البيان المذكور علّة غائيّة لطلب المقدّمة وحكمة داعية إلى إيجابها ، والضرورة قاضية بأنّ علّة الحكم لا تؤخذ قيدا في موضوعه ، وإلاّ لخرج عن كونه علّة إلى كونه معروضا للحكم ، وهو محال من جهة أنّ علّة العارض لا يصلح معروضا له.

وقوله : « وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا بمجرّد حصول شيء لا يريده إذا

٥٨٣

وقع مجرّدا عنه » مسلّم ولكنّه غير مجد له أصلا ، إذ فرق بيّن بين إرادة شيء لحصول شيء آخر على الإطلاق وبين إرادته لذلك بشرط عدمه ، وصريح الوجدان قاض بنفي الثاني وهو ممّا لا يقول به أحد.

وأمّا الأوّل فهو صحيح ولا يلزم منه دخول ما بعد « اللام » الّذي هو علّة للإرادة في المراد على جهة القيديّة ، بل صريح الوجدان قاض بخلافه كما عرفت.

وبالجملة ها هنا صور ثلاث :

إحداها : إيجاب المقدّمة للإيصال لا بشرط الإيصال ، بمعنى عدم كونه قيدا في الواجب.

وثانيتها : إيجابها للإيصال بشرط الإيصال على جهة القيديّة.

وثالثتها : إيجابها للإيصال بشرط عدم الإيصال على جهة القيديّة أيضا.

والّذي نجوّزه هو الأوّل والوجدان غير قاض بنفيه بل يساعده.

والّذي ينفيه الوجدان هو الثالث ولا نقول به بل لا يجوّزه أحد.

وبقي الثاني بلا حكم من الوجدان بنفيه ولا ثبوته إن لم نقل بقضائه بالنفي في بعض التقادير كما عرفت فلا دليل فلا ثبوت للمطلوب.

الأمر الرابع

اختلفوا في جواز تعلّق الوجوب بالمقدّمة قبل دخول وقت ذيها وعدمه على أقوال.

فعن ظاهر الأكثر كما في كلام بعض الأعاظم ، والمحكّي عن ظاهر الجمهور كما في عبارة بعض الأفاضل البناء على المنع مطلقا ، وهو لازم من يرى الغسل للصوم الواجب على المحدث بالأكبر قبل الفجر واجبا لنفسه ، ومن يراه مندوبا أو مجزيا بنيّة الندب كما حكي عن الحلّي ، ومن رآه واجبا من جهة أنّه إذا بقي لطلوع الفجر بقدر ما يغتسل فيه فهذا الزمان ينزّل منزلة حضور الوقت ، وهو لازم كلّ من يراه مضيّقا كما صار إليه جماعة كالشرائع والقواعد والدروس والتذكرة ونهاية الإحكام وغيرها ، ومن يراه واجبا للتوطين على إدراك الفجر طاهرا إلاّ فيما لو كان الشرط راجعا إلى المكلّف منوّعا له كالاستطاعة.

ومن الأعاظم من صرّح بالجواز مطلقا ، واختاره بعض مشايخنا أيضا كما اختاره البهائي في الحبل المتين.

وهو صريح من جعل وجوب الغسل قبل الفجر غيريّا ، قائلا : بأنّ مقدّمة الواجب يصحّ

٥٨٤

أن يتّصف بالوجوب الغيري قبل أن يتّصف ما وجبت له به ، على ما حكاه بعض الفضلاء عن بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين ، بل هو ظاهر العلاّمة حيث شنّع على الحلّي في حكمه بكون غسل الجنابة قبل الفجر مندوبا في صوم شهر رمضان مع اعترافه بتوقّف الصوم عليه وتصريحه بوجوب المقدّمة على ما حكاه بعض الأعاظم.

ولعلّه وجده في بعض كتبه وإلاّ فالمنقول عنه في أكثر كتبه القول بوجوب الغسل لنفسه وفاقا للمعتبر ، ولذا اعترض عليه جماعة بالتنافي بين قوله هذا وقوله بكون الغسل لصوم رمضان مضيّقا مخصوصا وجوبه بآخر الوقت ، وإن كان قد يحكى عنه الاعتذار بأنّ المراد تضييق الوجوب آخر الوقت لا اختصاص الوجوب به ، قال : ومعناه أنّ الصوم ليس موجبا للغسل بل يتضيّق الوجوب بسببه. وأمّا الموجب له الجنابة.

وهو كما ترى لا يجدي نفعا ، إذ الصوم لو لم يكن له مدخل في وجوب الغسل على ما هو مناط الغيريّة فلا وجه لتضيّقه بسببه إلاّ أن يرجع إلى القول بوجوبه لغيره مع وجوبه لنفسه ، وإن كان لا يساعد عليه ظاهر عبارته في الاعتذار.

وعن جماعة منهم صاحب الذخيرة والمحقّق الخوانساري ـ على ما عزاه بعض الأفاضل ـ تخصيص الجواز بما لو كان وجوب الغاية في وقتها معلوما أو مظنونا.

وقضيّة ذلك على حسب ظاهر الحكاية المنع في غير ذلك فيكون تفصيلا غير ما هو المعروف.

وعن بعضهم أنّه خصّ الجواز بمقدّمات الواجب المضيّق أو الموسّع الّذي لم يسع وقته لأدائه وأداء مقدّمته كما في الحجّ.

وربّما يجعل ذلك قولا بالتفصيل فيما بين المضيّق والموسّع على الإطلاق ، ولعلّه لا تنافي بين الحكايتين كما يظهر بأدنى تأمّل ، ولا سيّما بملاحظة أنّ المضيّق أعمّ عندهم ممّا كان كذلك رخصة فقط لا إجزاء فيكون الحجّ حينئذ نوعا من المضيّق وإن كان موسّعا من جهة الإجزاء.

وبعض الفضلاء وفاقا لأخيه بعض الأفاضل خصّ الجواز بما لو كان الوقت المشروط به شرطا للواجب فعبّر عنه بالواجب المعلّق ، دون ما لو كان شرطا للوجوب فعبّر عنه بالواجب المشروط ، بعد ما فرّق بينهما بجعله الثاني طرفا مقابلا للواجب المطلق والأوّل طرفا مقابلا للواجب المنجّز ، حيث صرّح بعد ما قسّم الواجب إلى المطلق والمشروط ،

٥٨٥

بانقسام الواجب باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسمّ منجزّا ، وإلى ما يتعلّق وجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له وليسمّ معلّقا ، كالحجّ نظرا إلى أنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له.

فقال : والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل ، إلى أن قال : ففرق إذن بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وبين قوله : « افعل كذا في وقت كذا » فإنّ الاولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت ، والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي.

ثمّ قال : وحاصل الكلام أنّه ينشئ في الأوّل طلبا مشروطا حصوله بمجيء وقت كذا ، وفي الثاني ينشئ طلبا حاليّا والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا.

ثمّ إنّ ظاهرهم عنوانا ودليلا وتمثيلا بل صريح بعضهم وقوع هذا النزاع في الواجب المشروط ، غير أنّهم اختلفوا في تحرير العنوان فالأكثرون جعلوه فيما لو كان الشرط من الأوقات والأزمان ، وبعضهم جعله فيما يعمّها والامور الاعتباريّة كقدوم زيد ونحوه.

ثمّ إنّه لا ريب أنّ الأصل عملا واعتبارا في جانب القول بالمنع مطلقا.

أمّا الأوّل : فلأنّ العدم الأزلي لا ينقطع إلاّ مع الجزم ولا جزم إلاّ مع دخول وقت الغاية.

وأمّا الثاني : فلأنّ المقدّمة في وجوبها فرع لذيها فكيف تتّصف به قبل اتّصافه ، ولكن ظنّي أنّ هذا الخلاف أمر نشأ عن الاشتباه في أمر صغروي بحيث لولاه لاتّفقت الآراء بالنسبة إلى الكبرى.

وتوضيح ذلك يتوقّف على رسم مقدّمات :

المقدّمة الاولى :

في أنّه قد عرفت أنّ المقدّمات عندهم تنقسم إلى ما هو مقدّمة الوجوب وما هو مقدّمة الوجود وما هو مقدّمة الصحّة وما هو مقدّمة العلم وهذا كما ترى اصطلاح لهم مبنيّ على الاعتبار وملاحظة أقرب المناسبات ، وإلاّ فقد عرفت أنّ مرجع مقدّمة العلم إلى مقدّمة الوجود كما أنّ مقدّمة الصحّة مرجعها إلى مقدّمة الوجود ، من جهة أنّ التوقّف مأخوذ في وجود الواجب إمّا باعتبار ذاته من حيث هي أو باعتبار وصفه العنواني ، فعلى الموقوف عليه يصدق أنّه مقدّمة الوجود على كلا الاعتبارين.

٥٨٦

بل نقول هنا : إنّ مقدّمة الوجوب أيضا ترجع إلى مقدّمة الوجود ، فإنّ توقّف الواجب على شيء باعتبار وصفه العنواني إمّا من جهة كونه ممّا يتوقّف عليه الأمر بذلك الواجب أو موافقة الأمر به ، فمقدّمة الوجود حينئذ ما يتوقّف عليه وجود الواجب في ذاته أو في وصفه باعتبار ذلك الوصف به ، أو حصوله في الخارج موصوفا بذلك الوصف.

وإن شئت فلاحظ امتناع حصول الواجب من الحجّ عن المستطيع التارك لقطع المسافة والخروج مع الرفقة ، وعن الغير المستطيع الغير الملتزم بشيء من موجباته وعن المستطيع الآتي بقطع المسافة المرائي في مناسكه ، فيصدق على كلّ واحد أنّه مقدّمة الوجود كما يصدق على الأوّل خاصّة مقدّمة الوجود ، وعلى الثاني مقدّمة الوجوب ، وعلى الثالث مقدّمة الصحّة.

بل نقول : إنّه يصحّ إرجاع الكلّ إلى مقدّمة الصحّة ، نظرا إلى أنّها عبارة عن موافقة الأمر فلابدّ فيها من أمر وموافقة لذلك الأمر وما قام به تلك الموافقة ، فما يتوقّف عليه الأوّل مقدّمة للوجوب ، وما يتوقّف عليه الثاني مقدّمة للصحّة ، وما يتوقّف عليه الثالث مقدّمة للوجود ، فيصدق على كلّ أنّه مقدّمة للصحّة.

فلذا ترى أنّه يمتنع الحجّ الواجب عن الغير المستطيع إذ لا أمر ، وعن المرائي إذ لا موافقة للأمر ، وعن تارك الخروج مع الرفقة إذ لا موافق للأمر أي لا عمل منه ليوافق الأمر.

بل يصحّ إرجاع الكلّ إلى مقدّمة الوجوب أيضا ، فكما أنّ الاستطاعة مقدّمة للوجوب فكذلك الطهارة للصلاة إذ لا وجوب لما خلت عنها ، وكذلك الإرادة لها وقطع المسافة للحجّ إذ لا وجوب لما يترتّب عليهما من العدم والترك.

وبالجملة يصحّ التعبير عن الكلّ باسم واحد وعن كلّ واحد باسم منفرد ، غير أنّه على الأوّل يعتبر ذلك الاسم بمعناه الأعمّ وعلى الثاني يعتبر بمعناه الأخصّ.

ولو اطلق اسم واحد على كلّ اثنين كمقدّمة الصحّة مثلا على الاستطاعة والطهارة فيعتبر ذلك الاسم بمعناه الأعمّ من الثاني والأخصّ من الأوّل كما لا يخفى.

المقدّمة الثانية :

في أنّه إن شئت ملاك الفرق بين مقدّمة الوجوب ومقدّمة الصحّة بمعناهما الأخصّ بحسب اللبّ والواقع ـ على ما يساعد عليه النظر ـ فاعلم :

أنّ كلّ شرط أو سبب ينوط به حسن المأمور به مع قطع النظر عن الأمر به ويتوقّف

٥٨٧

عليه رجحانه بالذات بحيث لولاه لما كان فيه حسن ولا رجحان أصلا فهو مقدّمة للصحّة ، ويعبّر عنه بمقدّمة الواجب أيضا ، وكذلك قيد الفعل لأنّه يشخّصه وينوّعه كالطهارة والاستقبال للصلاة وقصد الإخلاص لجميع العبادات ، فإنّ الأمر لا قبح فيه بالذات غير أنّ ما خلا عنها لا حسن فيه في نظر الشارع.

وكلّ شرط أو سبب ينوط به الأمر بذلك المأمور به وإن كان في حدّ ذاته راجحا بحيث لولاه لكان أصل الأمر قبيحا عند العقل [ فهو مقدّمة للوجوب ] كالعلم والقدرة والعقل والبلوغ والاستطاعة وبلوغ النصاب ونحو ذلك ، لاستقلال العقول بقبح أصل الأمر والإلزام بالفعل بالنسبة إلى من لا يعلم أو لا يقدر أو لا يعقل أو لا يبلغ في الجملة ، أو لا يملك الزاد والراحلة أو لا يملك النصاب في الجملة أيضا.

وأمّا أصل الفعل فربّما يمكن رجحانه في الجميع إن أمكن صدوره عن البعض.

ثمّ إنّ من الشروط ما يكون من الأوقات كعشرة أيّام الحجّ وشهر الصيام وأوقات الصلاة ، وما يكون من الأمكنة كمحلّ الطواف والسعي والوقوفين والرمي والذبح ونحو ذلك في مناسك الحجّ ، وما يكون من الامور الاعتباريّة كقدوم الحاجّ ومجيء زيد وما أشبه ذلك فيما علّق عليها ، وقد جرت عادة الجمهور بتسمية الواجب بالنسبة إلى النوع الأوّل والثالث مشروطا والتعبير عنهما بمقدّمة الوجوب ، وهو على ظاهره بضابطة ما قرّرناه من الميزان غير سديد ، لقضاء الوجدان والقوّة العاقلة بكون الزمان كالمكان من مشخّصات الفعل فيكون قيدا له ، كما أنّ الامور الاعتباريّة أيضا كذلك فإنّها كالأوّلين إنّما تلاحظ وجها لرجحان الفعل وحسنه بحيث لولاه لما كان الفعل حسنا لا أنّ الأمر به قبيح بالذات ، وإن كان يقبح بالعرض لفرض عدم الحسن في الفعل.

وقضيّة ذلك كونها من مقدّمات الصحّة كالطهارة ونحوها.

المقدّمة الثالثة :

قد عرفت في مبادئ المبحث أنّهم عرّفوا الواجب المشروط بما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، وسمعت مرارا إطلاقه بهذا المعنى على الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة ، والزكاة بالنسبة إلى النصاب ، وسائر الواجبات بالنسبة إلى الشرائط الأربع المذكورة ، وعلى الحجّ بالإضافة إلى حضور أوقاته ، والصوم بالإضافة إلى الفجر ، والصلاة بالنسبة إلى الزوال وهو في غاية الإشكال ، كما أنّ التحديد بما ذكر لا يخلو عن نوع غموض وإجمال.

٥٨٨

وذلك لأنّ الطلب الحتمي المأخوذ في ماهيّة الوجوب له باعتبار الصدور والتعلّق جهتان متلازمان وجودا وعدما فلا يعقل تحقّق إحداهما بدون الاخرى كجهتي الضرب ، ومعنى توقّفه على شيء توقّف ذلك الطلب في كلتا جهتيه ، فلا صدور له مع عدم الموقوف عليه كما لا تعلّق له بل إنّما يصدر ويتعلّق بعد حصوله ، والخطاب المشتمل على مثل ذلك الطلب لا ينشأ إلاّ عن الجهل في الحال بوقوع الموقوف عليه في المستقبل والتشكيك في حصوله فيه ، ضرورة ابتناء الطلب الفعلي الحالي على الجزم بالرجحان وهو فرع الجزم بأنّ ما يوجبه واقع أو سيقع فيكون منافيا للجهل والتشكيك وهما ممتنعان على الحكيم العالم بالعواقب ، بل على غيره فيما لو كان الموقوف عليه من الأوقات المتعيّنة لذاتها كالأمثلة المذكورة ، فلذا صار المحقّقون إلى امتناع التعليق من العالم بالعواقب والتزموا بتأويل القضايا المشتملة على التعليق الصادرة من الله عزّ وجلّ إلى ما لا ينافي علمه بالعواقب ، وهو حملها على إرادة حكمين مطلقين يكون أحدهما إيجابيّا والآخر سلبيّا ، فهو لعلمه بالعاقبة إمّا طالب للفعل فعلا ليصدر في زمانه المضروب ولو بالاعتبار ، أو غير طالب أصلا فإنّه يعلم أنّ المكلف إمّا قادر أو غير قادر وإمّا عالم أو غير عالم ، وإمّا عاقل أو غير عاقل ، وإمّا بالغ أو غير بالغ ، وإمّا أنّه مدرك للوقت المعيّن أو غير مدرك ، وإمّا أنّه يستطيع أو لا يستطيع ، وإمّا أنّه يملك النصاب أو لا يملك ، وإمّا أنّه يتّفق له الأمر الاعتباري أو لا يتّفق ، فعلى الأوّل في الكلّ يريد ويطلب مطلقا وعلى الثاني لا يريد ولا يطلب مطلقا.

ألا ترى أنّا لو قلنا لعبدنا إذا دخل الليل : « افعل كذا » أو « افعل كذا في يوم الجمعة » أو « إذا قدم زيد إذبح له شاة » مع علمنا بأنّه يقدم لا نجد من أنفسنا إلاّ إرادة فعليّة وطلبا حاليّا متعلّقا بالفعل الصادر بعد دخول الغاية ، بل لو صدر مثل ذلك الخطاب من كلّ متكلّم حكيم إلى كلّ مخاطب فهو لا يجد في نفسه إلاّ الطلب الفعلي ، ولا أنّ المخاطب يفهم إلاّ الطلب الحالي مع انفهام اشتراط وقوع المطلوب في الغاية المعيّنة.

نعم لو كان الخطاب بلفظة « إن » المنبئة عن الشكّ فمدلوله من غير العالم بالعواقب يصير وجوبا مشروطا وطلبا معلّقا ، وأمّا عن العالم بها فمتنع ذلك ولو فرض صدور مثل ذلك منه فلابدّ من تأويله لئلاّ ينافي الفرض.

فلو كان مرادهم في تحديد الواجب المشروط بما ذكر كونه كذلك في نظر الآمر الموجب ، أو في نظره ونظر المكلّف لزم أن لا يكون له مصداق في الشرعيّات ، وأن

٥٨٩

لا يكون إطلاقه بهذا المعنى على الامور المذكورة واردا على وجه الصحّة.

ولو اريد كونه كذلك في نظر المكلّف فقط يندفع به الحزازة المذكورة ، غير أنّه لا يلائم مفهوم الحدّ ، لأنّ الوقت المضروب أو غيره ممّا اعتبر شرطا حينئذ لا يصير مقدّمة للوجوب بل يصير مقدّمة للعلم بتحقّقه وتعلّقه ، والمناسب لذلك أن يقال في التحديد : ما يتوقّف العلم بوجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده.

نعم يتحقّق له في العرفيّات مصاديق ، ولكن تخصيصه بها ـ مع أنّ محطّ نظر الاصولي ليس إلاّ الشرعيّات ، ولا سيّما منافاته لما يذكرونه من التمثيلات ـ دونه أصعب من خرط القتاد.

إلاّ أن يقال : بأنّه يعمّ العرفيّات والشرعيّات ، ولكنّ القضيّة بالقياس إلى الشرعيّات فرضيّة وظاهر أنّ فرض المحال ليس بمحال ، كما أنّ المفهوم الّذي يكون التحديد باعتباره لا يستلزم المصداق ، فيبقى الإشكال حينئذ بالنسبة إلى إطلاقه على الأمثلة المذكورة كما عرفت.

أو يقال بكون الخطابات الواردة في تلك المقامات كقوله : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(١) و ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(٢) و ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٣) ونحو ذلك وضعيّة مقصودا بها جعل هذه الامور أسبابا وعلامات لانعقاد الوجوب صدورا وتعلّقا عند تحقّقها ، فيستقيم الحدّ حينئذ ويصدق مفهومه على كلّ واحد من الأمثلة ، لأنّ امتناع التعليق في الطلب من العالم بالعواقب إنّما هو في الخطاب التكليفي.

وفيه : مع أنّه تأويل لا يساعد عليه الطبع ، أنّه لا يدفع المحذور لأنّ النظر في حقيقة الأمر بحسب اللبّ ، ومعلوم أنّ مثل هذا الخطاب من العالم بالعواقب يستلزم الطلب الحالي ، والمطلوب أمر جعل ما ذكر علامة لوقوعه عند تحقّقه.

فقد تبيّن ممّا ذكر منشأ ما أشرنا إليه من الاشتباه الموجب للخلاف من حيث إنّ الجمهور لانسهم بما هو مفهوم الحدّ الملازم لعدم جواز تقديم المقدّمة في وصف الوجوب على دخول وقت الغاية وزعمهم اندراج الأمثلة المذكورة تحته أنكروا جواز ذلك ، فأشكل عليهم الأمر في بعضها كالغسل في صيام رمضان وقطع مسافة الحجّ ، والتزموا للتفصّي عنه بتكلّفات ركيكة لا يساعد عليها الطبع السليم.

فتحقيق المقام أن يقال : لو اريد بالواجب المشروط الّذي نوزع في وجوب مقدّماته

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الإسراء : ٧٨.

(٣) آل عمران : ٩٧.

٥٩٠

قبل دخول وقته ما كان الخطاب الوارد به مشتملا على أحد القيود المذكورة من زمان أو مكان أو اعتبار مع ظهور حصوله عنده لا محالة ، فلا ينبغي التأمّل في اتّصاف مقدّماته بالوجوب قبل حصول ما اعتبر معه من القيود.

ولنا على ذلك : ما تقدّم في الاستدلال على وجوب أصل المقدّمة من قضاء الوجدان مع القوّة العاقلة بأنّ إيجاب شيء له مقدّمات يوجب أن يحصل بين الواجب وتلك المقدّمات نسبة باعثة على أن لا يحدث منه بالنسبة إليها لو شعر بها إلاّ إرادتها فعلا وطلبها حتما والمنع عن تركها صريحا.

ولا ريب أنّ إيجاب الشيء بشرط حصول أمر هو في معرض الحصول في المستقبل يوجب في مقدّماته الطلب الحتمي الشأني الّذي يصدق معه الوجوب صدقا حقيقيّا في الحال حسبما تقدّم تحقيقه ، فهو بحيث لو سألته عن حالها واستفسرت منه حكمها لما أجاب إلاّ بكونها مطلوبة له في الحال ، بل لا يسوغ له غير ذلك لا لأنّ ذلك إيجاب للمقدّمة قبل إيجاب ذيها كما هو مفروض العنوان ، بل هو إيجاب لها حين إيجابه حسبما قرّرناه من أنّ اشتراط الطلب من العالم بالعواقب مع كون الشرط في معرض الحصول غير معقول ، من غير فرق في ذلك بين أن يذكر الشرط بعبارة التعليق كما لو قال : « إذا كان وقت كذا فافعل كذا » أو بعبارة التقييد كما لو قال : « افعل كذا في وقت كذا » ولا بين أن يكون ذلك الشرط وقتا معيّنا كالليل ويوم الجمعة أو أمرا اعتباريّا كقدوم زيد ، ولا في المشروط بين كونه مضيّقا بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو موسّعا كذلك ، إتّسع زمانه لأدائه مع أداء مقدّماته فيه أو لم يتسّع ، صادفه العذر عن أدائها فيه على تقدير الاتّساع أو لم يصادف.

ومن هنا يتّضح الوجه في وجوب تقديم غسل الصوم على الفجر ، ووجوب مقدّمات الحجّ قبل حضور أيّامه ، فإنّه ليس إيجابا للمقدّمة قبل وجوب ذيها ليكون منشأ للإشكال.

نعم يبقى الإشكال بالنسبة إلى مقدّمات الحجّ قبل الاستطاعة ، ومقدّمات الصلاة قبل دخول أوقاتها ، لعدم وجوب شيء من ذلك إجماعا ولو علم بمصادفة العذر بعد حصول الشرط مع أنّ مقتضى ما قرّرناه من القاعدة هو الوجوب.

ويمكن دفعه في الأوّل : بأنّ وجوب المقدّمة إنّما هو بحكم العقل ، فإنّه بعد ملاحظة النسبة الحاصلة بينها وبين طالب ذيها الموجبة فيها القضيّة الشأنيّة يحكم به ، بمعنى إدراكه لتلك القضيّة الّتي هي حقيقة الوجوب ، وهو لا يجوز التكليف في شيء من موارده إلاّ مع

٥٩١

القدرة ، فيكون القدرة عنده من شرائط تعلّق التكليف ، وتعلّق التكليف بمقدّمات الواجب كنفس الواجب مشروط بالقدرة ، غير أنّه بالنسبة إلى نفس الواجب لا يعتبر إلاّ القدرة الحاصلة عليه في زمانه المضروب له المتعيّن بالذات أو بالاعتبار.

فلذا لو زالت عند دخول ذلك الزمان أو بعده قبل مضيّ مدّة يتمكّن عن أدائه فيها لا حرج على المكلّف ولا يستحقّ عقابا إن لم يكن زوال القدرة ناشئا عن اختياره وإن كانت حاصلة قبل ذلك ، وأمّا بالنسبة إلى المقدّمات فلابدّ لمعرفة كيفيّة القدرة المعتبرة فيها عند العقل من المراجعة إليه وملاحظة أنّه أيّ شيء يعتبره ويقسّمه إلى القادر وغيره ، فيجوز التكليف على الأوّل دون الثاني.

فنقول : إنّه قد يأخذ المقسم ذات الموضوع من دون اعتبار وصف عنواني فيه كما في الصوم ونحوه ، حيث إنّه يقسّم الناس اليهما فحينئذ لا شبهة في كون القدرة المعتبرة عنده مطلقة غير مقيّدة بحصولها في زمن الفعل ، كما أنّها بالنسبة إلى الفعل مقيّدة بذلك ، بمعنى أنّه في الإلزام بها يكتفي بالقدرة مطلقا وإن حصلت قبل زمن الفعل وانحصرت فيه أو لم ينحصر ، فلذا لا يأبى عن توجّه الذمّ والعقاب إلى تارك تحصيلها قبل زمن الفعل مع تمكّنه عنه حتّى صادفه العجز عند حضور ذلك الزمان ، من جهة أداء تركه أي ترك الواجب عليه فيكون في حكم تاركه الّذي يستحقّ العقاب لذلك.

ألا ترى أنّه لو اعتذر حينئذ بعدم قدرته عليه بواسطة عدم قدرته على مقدّماته صحّ ردّه بأنّك كنت قادرا عليها قبل ذلك الزمان فلم تركتها أو أخّرتها مع أنّك كنت عالما بمصادفة العجز والعذر؟ وليس له حينئذ أن يعتذر بعدم كونه طالبا لها من جهة عدم تصريحه بطلبها مقدّمة على دخول زمن الفعل ، لجواز ردّه بما هو ملزوم بذلك وهو طلب الفعل بشرط وقوعه في ذلك الزمان ، نظرا إلى أنّ الردّ بالملزوم ردّ باللازم ، فكأنّه في ذلك الردّ يؤاخذه بثبوت الملازمة بين طلب ذي المقدّمة وطلب المقدّمات الّتي لا حاجة معها إلى التصريح بطلبها بالخصوص ، لضرورة ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم.

وقد يأخذ المقسم ذات الموضوع مع اعتبار وصف عنواني فيه ممّا اعتبره الشارع من الشروط الراجعة إلى أحوال المكلّف المنوّعة له كالاستطاعة الّتي اعتبرها الشارع شرطا ، وهي تنوّع الناس إلى المستطيع والغير المستطيع ، بخلاف ما يرجع منها إلى المكلّف به وتشخّصه كالزمان والمكان ونحوهما ، وما لا يرجع إليهما كما لو كان أمرا اعتباريّا ، فإنّ

٥٩٢

العقل في مثل ذلك يقسّم المستطيع إلى القادر وغيره ، وحينئذ لا شبهة في أنّ القدرة المعتبرة في التكليف بالمقدّمات ما كانت حاصلة عند الاستطاعة ولا عبرة بما كانت حاصلة قبلها ولو مع العلم بزوالها بعد ذلك ، فلو ترك تحصيل المقدّمات والحال هذه لا يكون آثما ولا يستحقّ ذمّا ولا عقابا ، وكأنّ العقل إنّما استفاد هذا المعنى من الخطاب الوارد في خصوص المقام من حيث إنّه خصّ التكليف به بالمستطيع فلابدّ وأن يكون القادر على المكلّف به ومقدّماته أيضا هو المستطيع بوصف أنّه مستطيع.

نعم لمّا كان قد اعتبر في صحّته أمرا غير حاصل بمجرّد حصول الاستطاعة مع عدم القدرة على تحصيله بالاعتبار فلا جرم يخصّص القدرة بالنسبة إليه بما كان حاصلا عند حصول ذلك الأمر ، فلا عبرة بما كان قبله ولو بعد الاستطاعة ، بخلاف القدرة على المقدّمات من حيث إنّه لا مخصّص لها فيبقى بعد حصول الاستطاعة على إطلاقها إلى مجيء زمان الفعل فيكتفى بها مطلقا ولو مع عدم إصابة العذر في الزمن المتأخّر لو أخّرت عن أوّل زمن الاستطاعة ومع العلم بذلك أيضا.

ومن هنا يندفع الإشكال بالنسبة إلى مقدّمات الصلاة أيضا.

وتوضيحه : ما عرفت من أنّ اعتبار القدرة من جانب العقل ، ولكن حكمه بذلك من باب الكشف عمّا اعتبره المولى فهو في ذلك يراجع الخطاب الصادر عنه ويلاحظه فإن ظهر من ذلك أنّ القدرة المعتبرة في المقدّمة إنّما هي الحاصلة في زمن الفعل يتبعه ولا يرى عبرة بحصولها قبله فلا يحكم بوجوب تحصيلها حينئذ إلاّ في ذلك الزمان ، وإن كانت ممّا يحصل العجز عنها قبله ، وإن لم يظهر ذلك من الخطاب استكشف عن إطلاق القدرة ويكتفى بها مطلقة ولو حاصلة قبل زمن الفعل.

ولا ريب أنّ الطهارة من شرائط الصلاة من القبيل الأوّل ، من جهة أنّ الدليل الدالّ على كونها مقدّمة للصلاة دلّ على اعتبار القدرة عليها بعد دخول وقت الصلاة كتابا وسنّة.

أمّا الأوّل : ففي قوله عزّ من قائل : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) ـ إلى قوله : ـ ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً )(١) حيث جعل العبرة بوجدان الماء الموجب للطهارة المائيّة وفقدانه المجوّز للطهارة الترابيّة بما بعد دخول وقت الصلاة ، لمكان قوله : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) ضرورة أنّ القيام إلى الصلاة لا يكون إلاّ بعد

__________________

(١) المائدة : ٦.

٥٩٣

دخول الوقت ، فيكون المعتبر من فقدان الماء الموجب لتعذّر الطهارة المائيّة ما يتحقّق في الوقت دون ما قبله ، وهو يستلزم كون القدرة المعتبرة في الطهارة المائيّة ما تحصل في الوقت دون غيره ، فحينئذ لا عقاب على تارك الوضوء أو الغسل قبل الوقت الواجد فيه ماء يكفيه في ذلك الّذي لحقه العذر عنه بعد ذلك لا في الوقت ولا ما قبله.

أمّا الأوّل : فلعدم القدرة على المقدّمة.

وأمّا الثاني : فلعدم اعتبار القدرة الحاصلة فيه ، فإنّ وجود ما لا عبرة به بمنزلة عدمه.

ولا يذهب عليك أنّ ذلك يقضي باختصاص الوجوب في المقدّمة بما بعد الوقت في هذا النوع ، ضرورة قضاء اختصاص اللازم باختصاص الملزوم ولا بأس به ، لأنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة من باب الإدراك فهو بملاحظة القضيّة الشأنيّة يحكم بالوجوب الفعلي على الإطلاق ، إلاّ أن يظهر من أدلّة المقام ما يخالفه فيخصّص الوجوب حينئذ بالقدر الّذي اقتضاه الدليل ، وليس ذلك من باب التخصيص في حكم العقل ليكون من مظانّ الإشكال بل من باب التخصّص كما يظهر بأدنى تأمّل.

وأمّا أدلّة سائر الأقوال :

فاحتجّ الجمهور ـ على ما حكاه بعض الأفاضل ـ بما أشرنا إليه إجمالا من أنّ السبب في وجوب ما يجب لغيره إنّما هو وجوب ذلك الغير ، ولذا يسقط وجوبه عند سقوط وجوب ذلك الغير ولا يعقل تقدّم وجوبه على وجوبه ، إذ لا يتقدّم المعلول على علّته.

وقد اتّضح جوابه ممّا قرّرناه في طيّ الاستدلال على المختار ، وحاصله : أنّ ذلك مسلّم لو فرض عدم العلم بالعاقبة ، وهو من الشارع وغيره ممّن يعلم بالعواقب ممتنع ، فوجوب المقدّمة حينئذ قبل حضور العاقبة ليس وجوبا لها قبل وجوب ذيها ، وتوهّم كونه كذلك اشتباه قد تبيّن وجهه.

واجيب عنه أيضا : بمنع انحصار علّة وجوب المقدّمة في وجوب ذيها ، لجواز كون العلّة فيه أحد الأمرين من ذلك ومن العلم أو الظنّ بوجوبه في المستقبل مع مطابقته للواقع ، فلا مانع حينئذ من وجوبها قبل وجوب الغاية ، نظرا إلى حصول العلّة الثانية. وضعفه ظاهر من جهة أنّ العلم أو الظنّ بوجوب ذي المقدّمة في المستقبل إن اريد كونه علّة مثبتة لوجوب المقدّمة كما أنّ وجوب ذيها ـ على زعم الخصم ـ علّة مثبتة له ، فيبطله : أنّ الوجوب أمر واقعي يجيء من قبل الشارع ولا ربط بينه وبين علم المكلّف أو ظنّه بوجوب

٥٩٤

ذي المقدّمة في المستقبل ليكون أحدهما علّة للآخر ، وإن اريد كونه علّة كاشفة عن وجوبها وكونها مطلوبة للشارع فيعود المحذور ، لأنّه حينئذ لابدّ له من علّة مثبتة وليست على ما هو المفروض إلاّ وجوب ذي المقدّمة وهو غير حاصل قبل دخول الوقت ، فكيف يستكشف عن معلوله مع أنّ المعلول يستحيل انفكاكه عن علّته.

ولو اريد بوجوب المقدّمة الّذي يكشف عنه العلم أو الظنّ المذكور ما يثبت بالطلب الشأني ـ على حسبما بيّنّاه ، ـ فيردّه : أنّ ذلك فرع كون شأنيّة الطلب محرزة لها ولا يكون ذلك إلاّ مع إحراز الطلب في ذيها فعلا أو شأنا وهو باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض عدم كون طلبه حاصلا بالفعل.

وأمّا الثاني : فلأنّ شأنيّة الطلب إنّما تحصل له بعد حضور وقته المضروب له لأنّه من موجبات حسنه.

وقضيّة ذلك حصولها للمقدّمة أيضا بعد ذلك لأنّ المعلول لا يفارق العلّة.

وأمّا ما يعترض عليه أيضا : بأنّ المراد من العلم أو الظنّ بوجوب الغير في وقته إمّا أن يكون وجوبه مطلقا ولو مع ترك مقدّمته قبل وجوبه ، فيكون ترك المقدّمة باعثا على ترك الواجب في ذلك الوقت لعدم التمكّن منه ، أو يكون وجوبه على فرض وجود مقدّمته لا مع عدمها.

فعلى الأوّل يتمّ ما ذكر من الوجه لكن تحقّق الوجوب على النحو المذكور غير معقول ، إذ لا يصحّ إيجاب الفعل مع عدم القدرة على مقدّمته.

وعلى الثاني لا وجه لتعلّق الوجوب بالمقدّمة مع أنّ المفروض كون وجودها شرطا لوجوب الغاية ، فمع انتفاء وجودها لا يتحقّق وجوب الغاية في الخارج حتّى يجب المقدّمة لأجله ، فلا يعقل هنا علم أو ظنّ بوجوبها مع ترك مقدّمتها ، فليس (١) ممّا ينبغي الالتفات إليه ، لوضوح دفعه مع أنّه لو استقام لجرى فيما لا يقع مقدّمته إلاّ قبل حضور وقته كصيام رمضان ، أو لا يسع وقته لأدائه وأداء مقدّمته أو كانت المقدّمة ممّا يصادفها عذر بعد ذلك ، فيبقى الجواب في غير تلك الصور سليما عن الاعتراض.

واحتجّ بعض الأعاظم على ما اختاره من إطلاق القول بجواز وجوب المقدّمة قبل دخول وقت الغاية باستقرار العرف والعادة على لزوم تقديم المقدّمات على الأوقات ـ إلى أن قال ـ وهذا أمر مركوز في النفوس لا سيّما إذا كان وجوب الغاية مضيّقا أو موسّعا

__________________

(١) جواب لقوله : وأمّا ما يعترض عليه الخ.

٥٩٥

لا يسع وقته المقدّمة ، فإنّه لا يتعقّل غير التقدّم فإنّه لولاه لزم التناقض ، فإنّه إن أخّر المقدّمة إلى وقت الغاية يفضي إلى ترك الواجب إن قدّمها عليه ، وإن أخّرها عنه يخرج عن كون المقدّمة مقدّمة ، فيتردّد بين عدم كون المقدّمة مقدّمة أو الواجب مضيّقا وكلاهما خلاف الفرض ، انتهى.

وفي أكثر تلك الوجوه نظر ولا سيّما الوجه الأوّل ، فإنّ بناء العرف على تقديم المقدّمات على الأوقات وإن كان مسلّما غير أنّه مجمل لا يجدي الناظر فيه ، وإنّما ينهض ذلك دليلا على المطلوب لو ظهر منهم أنّهم يقدّمون المقدّمات على اعتقاد الوجوب وهو في حيّز المنع ، إذ غايته التقديم ولعلّه لمراعاة الاحتياط الّذي هو حسن في كلّ حال ، لمخافة اتّفاق العذر وعدم التمكّن عنها مع التأخير ، أو لتسهيل الأمر في زمان الفعل ليؤتى به على أكمل وجه وأتمّ غرض ، أو نحو ذلك من الاعتبارات الموجبة لرجحان التقديم نظرا إلى أنّه غير منهيّ عنه ، إذ غاية الأمر تردّده بين الوجوب والجواز وظاهر أنّ مجرّد الرجحان لا يلازم الوجوب لكونه أعمّ.

حجّة القول الثالث : على ما قرّره بعض الأفاضل ، إطلاق ما دلّ على وجوب مقدّمة الواجب ، ولا مانع من كون الفعل واجبا لغيره ومع ذلك يكون واجبا قبل دخول وقت الغير ، إذا كان وجوب الغاية في وقتها معلوما أو مظنونا.

ألا ترى أنّ قطع المسافة ليس واجبا لنفسه بل واجب للحجّ ومع ذلك لم يجب إيقاعه إلاّ قبل زمان الحجّ ، وكذلك صحّة الصوم مشروطة بالاغتسال من الجنابة قبل الفجر عند الأكثر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب فيكون الغسل واجبا للصوم قبل دخول وقته ، وهو أيضا في غاية الوهن ويظهر وجهه ممّا مرّ.

وأمّا القول الرابع : فلم يذكر له مستند ، ولعلّ وجهه : أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو بحكم العقل لا لنفسها بل لإفضاء تركها إلى ترك ذيها ، فمحلّ الوجوب ما يفضي تركه من المقدّمات إلى تركه دون غيره ، ومعلوم أنّ المقدّمة في الواجب المضيّق لو أخّرت إلى دخول وقته لكان تركا لها مفضيا إلى ترك الواجب ، بخلاف ما لو اخرّت مقدّمة الواجب الموسّع إلى دخول وقته فإنّه لا يفضي إلى ترك الواجب لإمكان أدائها بعد دخول الوقت أيضا ، وقضيّة ذلك أن يكون التقديم واجبا في الأوّل وغير واجب في الثاني.

وفيه أوّلا : أنّه لو تمّ لقضى في مقدّمة الواجب الموسّع أيضا بوجوبها في جزء من

٥٩٦

الوقت لولا وقوعها فيه لصار الواجب بعده مضيّقا فامتنع أداؤه مع أداء مقدّمته ، لكون المقدّمة الّتي يفضي تركها إلى ترك الواجب هي الّتي تقع في هذا الجزء من الأجزاء المتدرّجة دون ما يقع في الجزء السابق عليه إلى أوّل أجزاء الوقت ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ولا أنّ المستدلّ راض به.

وثانيا : أنّ ذلك إنّما ينفي الوجوب العيني عمّا يقع في الموسّع من المقدّمة قبل دخول وقته ، وهو ليس مرادا للقائل بجواز التقديم بل غرضه الوجوب التخييري بين الأفراد المتدرّجة من المقدّمة المتعدّدة بحسب تعدّد أجزاء الزمان ممّا قبل دخول الوقت إلى ما بعده.

ولا ريب أنّ محلّ الوجوب حينئذ هو القدر المشترك بين تلك الأفراد المتدرّجة المتعاقبة لقيام مصلحة الوجوب وهو إفضاء الترك إلى الترك به ، كما هو الحال في الأفراد المتدرّجة المتعاقبة الواقعة في الموسّع عند دخول وقته إلى أن يبقى منه ما لا يسع إلاّ أداء نفس الواجب ، بل وهو الحال فيما لو كانت الأفراد المتعدّدة من المقدّمة مجتمعة غير مرتّبة ولا متدرّجة كما في نصب السلّم للصعود على السطح إذا تعدّد أفراده وتمكّن المكلّف عن الإتيان بكلّ واحد شاء وأراد.

ولا ريب أنّ الواجب حينئذ ليس كلّ واحد بل القدر المشترك بينها لكونه الّذي يفضي تركه إلى الترك ، وقضيّة ذلك كون الوجوب تخييريّا.

وأمّا القول الخامس : فمستنده واضح ممّا قرّرناه في المقدّمات ، وإن كان الذاهب إليه لم يذكر مستندا.

ولكن يرد عليه : أنّ مناط الفرق بين قسمي الواجب إنّما هو بجعل الزمان قيدا للوجوب ، أو الواجب ، فعلى الأوّل يكون مشروطا وعلى الثاني معلّقا ، فيقال على الأوّل : « إذا زالت الشمس يجب الصلاة » وعلى الثاني « يجب الصلاة الواقعة بعد زوال الشمس » وهذان المعنيان كما ترى بحسب التعبير بينهما فرق واضح يدركه جميع الأذهان.

ولا ريب أنّ الاختلاف في التعبير لا يصلح موردا للحكم وإنّما العبرة بما حصل من الاختلاف في اللبّ والمعنى ، فلابدّ من ملاحظة اللبّ الّذي هو عبارة عمّا في ضمير المتكلّم ليستعلم كونه كالعبارة أمرين مختلفين حتّى يترتّب عليهما ما ذكر من الثمرة أو أمر واحد حتّى يبطل الثمرة ، ويكون الحكم إمّا جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل دخول وقت ذيها مطلقا أو عدم جوازه كذلك ، فالّذي يترجّح في النظر ويشهد به الوجدان أنّ

٥٩٧

التعبيرين مرجعهما بحسب اللبّ القائم في ضمير المتكلّم إلى أمر واحد.

وبيان ذلك : أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للصفات الكامنة في الفعل.

ومن البيّن أنّ محلّ الصفة الكامنة من الفعل ما لوحظ بجميع مشخّصاته ، كما أنّه من البيّن الّذي ليس لأحد إنكاره كون الزمان كالمكان من جملة المشخصّات فالحسن من الفعل والمحبوب منه في نظر الشارع ما يقع منه في الزمان الّذي لاحظه معه وأخذه مشخّصا له بلا حسن في غير ما يقع في ذلك الزمان ، كصلاة الظهر فإنّها حسن بعد زوال الشمس وما لم تزل الشمس لا حسن فيها أصلا ، ومثله أكل البرد في العرفيّات فإنّه حسن ومطلوب في الصيف دون غيره ، وذلك هو الأمر الواحد اللبّي القائم بضمير الآمر المتكلّم ، ولا يتفاوت فيه الحال حينئذ بين أن يأتي عند الخطاب بعبارة الواجب المعلّق فيطلب الفعل مقيّدا بالزمان الّذي لاحظه معه ، فيقول : « اريد الصلاة الواقعة بعد الزوال » و « أكل البرد في الصيف » أو بعبارة الواجب المشروط فيجعل طلبه مقيّدا بذلك الزمان ويقول : « اريد الصلاة بعد الزوال » و « أكل البرد في الصيف » فإنّ مفادهما أمر واحد ، وهو كون المحبوب والمطلوب من حين الخطاب هو الفعل الواقع في وقته الملحوظ معه.

ونظير ذلك ما في كلام النحاة في الفرق بين الحال والصفة في قولنا : « جاء زيد راكبا » و « جاء زيد الراكب » من أنّ الأوّل قيد للعامل وهو الفعل والثاني قيد للمعمول الّذي هو المفعول وهو كما ترى فرق لفظي وإلاّ فاللبّ والمعنى واحد ، وهو إفادة صدور ذلك الفعل الخاصّ عن زيد في زمن ركوبه ، وذلك واضح لا يشوبه الشكّ.

وقضيّة ذلك بطلان الثمرة المذكورة وكون الحكم في عبارة الواجب المشروط مثل ما في عبارة الواجب المعلّق من جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل دخول وقت ذيها ، لا لأنّه اتّصاف لها قبل اتّصافه به وهو جائز ليكون خلاف البديهة ، بل لأنّه اتّصاف بها حين اتّصافه.

وبالجملة لا إشكال في أنّ الثمرة تابعة لما في الضمير من الأمر اللبّي فإن ظهر من عبارة الواجب المشروط أنّه يغاير ما يفيده عبارة التعليق تكون الثمرة في محلّها وإلاّ فلا.

ومن الظاهر أنّ عبارة الاشتراط وإن كانت توهم في بادئ النظر عدم فعليّة الإرادة وعدم حصول الطلب حتّى يحصل الشرط بخلاف عبارة التعليق الدالّة على فعليّة حصولهما وعدم توقّفهما على حصول الشرط ، إلاّ أنّ القطع الوجداني حاصل بما يخالف ذلك ، لبداهة أنّ الإرادة والطلب كما أنّهما فعليّتان في صورة التعليق فكذلك في صورة

٥٩٨

الاشتراط ، إذ يصدق فيمن أراد فعلا مخصوصا في زمان يكون حسنه عنده مخصوصا بذلك الزمان أنّه مريد له وطالبه ممّا قبل ذلك الزمان حينما لاحظه مقيّدا به فعلا بشرط وقوعه في ذلك الزمان.

وقضيّة ذلك بحكم العقل والوجدان أن يكون مريدا لمقدّمات وجوده من ذلك الحين ، غير راض بترك شيء منها ولو لم يصرّح بها أو لم يلتفت إليها ليصرّح بإرادتها وطلبها.

ولا يفترق الحال حينئذ بين الواجب المضيّق والواجب الموسّع ، لأنّ القدرة الّتي هي مناط للتكليف لا يشترط عند العقل كونها بالنسبة إلى المقدّمات حاصلة في زمان الفعل ووقت حسنه ، بل لو كانت حاصلة قبله أيضا لكان كافيا في صحّة التكليف بها من حيث إنّها مطلوبة لا لنفسها بل للتوصّل إلى غيرها ، وافضاء تركها إلى ترك ذلك الغير ، وهذا المطلوب كما أنّه حاصل مع القدرة الحاصلة في زمان الفعل فكذلك يحصل مع القدرة الحاصلة فيما قبله ، إلاّ إذا ظهر من الأدلّة أنّ المعتبر منها عند المولى ما يحصل في زمان الفعل خاصّة كما تقدّم بيانه ، فحينئذ يكشف عن أنّ المقدّمة في نفسها أيضا شيء آخر غير جهة التوصّل إلى الغير هو أوجب أن يكون العبرة فيها بالقدرة الحاصلة في زمان الفعل.

وممّا قرّرنا تبيّن أنّ المقدّمة فيما جاز وجوبها قبل دخول وقت ذيها من الواجبات الموسّعة سواء كان الواجب موسّعا أو مضيّقا ، إذ ليس مناط الحكم بذلك الفرار عن التكليف بما لا يطاق ، كما عرفت خلافا لما يستفاد عن بعض الفضلاء حيث جعل مطلوبيّة الصوم قبل الفجر بحسب الزمان بقدر ما يغتسل فيه وأمّا ما زاد عليه فلا لاندفاع التكليف بالمحال به.

ثمّ إنّ الواجب إذا كان موسّعا بما يسعه ومقدّماته لا يستحقّ المكلّف بتأخير أداء المقدّمات إلى دخول وقته عقابا ولا ذمّا.

نعم يستحقّهما لو أخّرها إلى أن ضاق الوقت فتعذّر الإتيان بها مع الفعل في الوقت عمدا بلا عذر ، وأمّا في الواجب المضيّق فليس له التأخير إلى دخول الوقت ولو أخّرها إليه استحقّ العقاب على نفس الواجب ، لكون ذلك التأخير في حكم تركه ، وإقداما على المعصية بعدم الإتيان به في وقته وإن كان هو بنفسه ممتنعا بسبب امتناع مقدّماته ومرتفعا عنه الخطاب لاشتراطه بالقدرة حدوثا وبقاء ، غير أنّ العقاب يترتّب على الترك الحكمي لكونه بمنزلة الترك الحقيقي في العرف والعادة حسبما تقدّم تحقيقه في بيان صور الامتناع بالاختيار.

فمن هنا ظهر أنّ مسألتنا هذه بالنسبة إلى مقدّمات الواجب لو أخّرت إلى زمان من

٥٩٩

جملة أفراد الامتناع بالاختيار ولقد تقدّم حكمه في جميع صوره وأفراده.

ثمّ إنّ الفرق الّذي ذكره الفاضلان المذكوران بالنسبة إلى المسألة المبحوث عنها بين قسمي الواجب ضابطه الكلّي الّذي يستعلم به كون الواجب من أيّ القسمين ، هو أن يراجع أوّلا إلى الأوامر الواردة فيه والأدلّة الآمرة به ، فإن ظهر منها كون الوقت قيدا للطلب أو المطلوب أخذ به ورتّب عليه الثمرة وجودا وعدما ، وإلاّ فلو حصل الاشتباه والدوران يراجع إلى القاعدة المتقدّم إليها الإشارة في مباحث الواجب المطلق والمقيّد ، فيحكم بالإطلاق وكون الوقت قيدا للواجب ظرفا لوقوعه إن ثبت وجوبه من الأدلّة اللفظيّة ، وإلاّ فيؤخذ بمقتضى الاصول العمليّة إن ثبت الوجوب من الأدلّة اللبّية.

هذا كلّه إذا لم يظهر من الشارع إيجاب تقديم المقدّمات على زمان أداء ذيها أو المنع عنه ، وإلاّ فعلى الأوّل يستكشف عن كونه معلّقا كما في صيام نهار رمضان بالنسبة إلى الاغتسال ليلا ، وعلى الثاني يستكشف عن كونه مشروطا كما في الصلوات اليوميّة بالقياس إلى تحصيل الطهارة مثلا.

الأمر الخامس

في مقدّمة الحرام

والنظر تارة فيما يكون مقدّمة لترك الحرام فهل هي واجبة نظرا إلى وجوب ترك الحرام أو لا؟

واخرى فيما يكون مقدّمة لفعل الحرام فهل هي محرّمة نظرا إلى حرمة الفعل أو لا؟ فها هنا مقامان :

المقام الأوّل : والظاهر أنّه لا خلاف بين القائلين بوجوب مقدّمة الواجب في وجوب مقدّمة ترك الحرام ، وإن اختصّ عناوينهم وتمثيلاتهم المذكورة بما يكون الواجب من مقولة الأفعال ، للقطع بعدم إرادتهم الاختصاص مع جريان أدلّتهم الناهضة حرفا بحرف ، بل هو ممّا يجري فيه الوجوه الّتي اعتمدنا عليها ممّا تقدّم ، كيف وأنّ القوّة العاقلة قاضية بأنّ من أوجب ترك شيء وطلبه حتما ليس له تجويز ترك مقدّمته الّتي لا طريق إليه سواها وإلاّ لأدّى إلى التناقض ، وأنّها بحيث ليس من شأنها إلاّ أن يلزم بها ويريدها حتما.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ولا حاجة له إلى تجشّم الاستدلال والإطناب في المقال بعد

٦٠٠