تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

على خلوّ المقام عن العلوّ بالمرّة ، لجواز كون ذلك الخطاب من فرعون إنّما سيق إلى من هو أعلى رتبة منه من ملائه ، بأن يكون مخاطبوه أهل العلم أو الحكمة من قومه كما هو الحال في سائر العلماء في سائر الأعصار والأمصار بالقياس إلى سلاطينهم حيث يرتفعون على السلاطين ، مع أنّ الاحتجاج بعد الغضّ عمّا ذكر إنّما يستقيم إذا قدّر المفعول ضميرا للمتكلم ، وأمّا إذا قدّرناه ضميرا للمخاطبين مستترا في الفعل على جهة النيابة عن الفاعل بدعوى : أنّ الفعل مبنيّ للمفعول ، فلا ، كما لا يخفى.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فليس في الآية إلاّ إطلاق مجرّد ، وهو بنفسه لا يصلح دليلا على الحقيقة جزما ، كما أنّه على تقدير صلوحه لذلك لا يصلح معارضا لما تقدّم من الوجوه القاضية باعتبار العلوّ لا محالة ، مع إمكان أن يقال : بكونه مناط الإطلاق هاهنا ، بدعوى : أنّه نزّلهم منزلة العالي فأطلق عليهم ما هو من خصائصه.

وبمثل ذلك يجاب عن الوجهين الأخيرين ، مضافا إلى ما سبقه من منع دلالة الإطلاق على ما هو المقصود ، مع إمكان أن يستكشف كونه في خصوص المقام على وجه المجاز عن توصيف « الأمر » بالجزم ، نظرا إلى أنّ الأمر الحقيقي لا يوصف به وإنّما يوصف به عرفا ما ليس بأمر حقيقة تنبيها على كونه يفيد مفاد « الأمر » في إرادة الحتم وقصد الإلزام كما لا يخفى.

فممّا قرّرنا جميعا تقرّر أنّ حقّ الأقوال هو القول الثاني ، فلا بدّ في صدق « الأمر » عرفا وكذلك لغة بضميمة أصالة عدم النقل من اعتبار العلوّ ، لدوران الصدق معه في الوجود والعدم ، وصحّة السلب مع خلوّه ، ولكن لا بدّ مع ذلك من اعتبار الحتم والإلزام مع الطلب ، والمراد به جعل الشيء لازما أو طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك ، فلو صدر لا على سبيل الحتم والإلزام ليس من « الأمر » لغة ولا عرفا ولا شرعا لصحّة السلب عنه على الإطلاق ، مضافا إلى عدم إطلاقه عليه في شيء من الموارد وخصوص قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لو لا أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك » (١) وقوله الآخر لبريدة حينما طلب عنها المراجعة إلى زوجها : « لا بل أنا شافع » (٢) بعد قولها : « أتأمرني يا رسول الله؟ » مع ثبوت الطلب الندبي في كلا المقامين.

أمّا في الأوّل : فلما دلّ على استحباب السواك بنفسه من النصوص الكثيرة البالغة حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا الثاني فلقضاء قوله : « بل أنا شافع » نظرا إلى أنّ الشفاعة عرفا مرادفة للندب أو

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٥ ب ٥ من أبواب السواك ، ح ٣.

(٢) الكافي ٥ : ٤٨٥.

٢١

قريبة منه.

وبذلك يسقط القول باشتراكه بينه وبين الندب كما عن ثاني الشهيدين ، فإنّ الطلب الندبي لا يصدق عليه « الأمر » جدّا مع انفهامه بل وانفهام غيره عرفا عند الإطلاق كما عرفت ، فما عنه من الاحتجاج عليه تارة : بانقسام « الأمر » إلى الواجب والندب ، واخرى : بأنّ المندوب طاعة والطاعة فعل المأمور به ، فمردود عليه.

أمّا في وجهه الأوّل : بأنّه لا يستلزم كونه حقيقة فيهما ، إذ لو اريد أنّ الأمر الحقيقي ينقسم إليهما فغير مسلّم ، وإن اريد الأعمّ فغير نافع ، مع أنّه ينقسم إلى ما ليس بحقيقة فيه بالاتّفاق كالتسخير والتعجيز ونحوهما.

والأولى أن يقال : بأنّ صحّة التقسيم إنّما تصلح دليلا على الحقيقة في القدر المشترك مع عدم نهوض ما يقضي بالتجوّز في أحد القسمين ، وقد عرفت نهوضه من وجوه شتّى ، فلابدّ حينئذ من صرف اللفظ عن ظاهره بحمله على إرادة التقسيم اللفظي كما لا يخفى.

وأمّا في وجهه الثاني بمنع كلّية الكبرى إن اريد الأمر الحقيقي ، فإنّ الطاعة إمّا فعل المندوب أو فعل المأمور به ، ومنع فائدة أصل الاحتجاج إن اريد الأعمّ من الأمر الحقيقي.

فرجع الأمر بجميع ما حقّقناه من البداية إلى النهاية إلى أن يقال في تحديد الأمر : « بأنّه طلب العالي من الداني فعلا على جهة الإلزام ».

ثمّ إنّ من الفضلاء من يظهر منه توهّم اللزوم بين العلوّ والاستعلاء بعد ما عرّف « الأمر » بما كان خاليا عن قيد « الاستعلاء » حيث قال :

« والحقّ أنّ اختصاص « الأمر » وضعا بالطلب الصادر عن العالي حقيقة أو ادّعاء يوجب إظهار المستعمل وإفادته لعلوّ من يسنده إليه على المأمور ، كما أنّ اختصاص الدعاء بطلب السافل من العالي يوجب عكس ذلك ، واختصاص الالتماس بطلب أحد المتساويين في الرتبة من الآخر يوجب [ إفادة ] تساويهما في الرتبة ، وعلى هذا فاختصاص « الأمر » بالعالي اختصاص وضعي » (١).

وكأنّه ذهول عن أنّ « الأمر » كثيرا مّا يسنده العالي إلى نفسه أو غيره إليه مع ذهوله عن علوّه.

ولا ريب أنّ إظهار العلوّ وإفادته على المأمور ممّا لا يتعقّل في تلك الصورة مع عدم كونه مصادما لصدقه العرفي أصلا كما مرّ غير مرّة.

__________________

(١) الفصول : ٦٣.

٢٢

والفرق بين ما ذكره مع القول باعتبار العلوّ والاستعلاء معا في مفهوم « الأمر » أنّ دلالة « الأمر » على الاستعلاء التزاميّة على الأوّل لاختصاص وضعه بطلب العالي وهو ملزوم للاستعلاء ، وتضمّنيّة على الثاني ، وعلى هذا يكون ذلك قولا آخر مغاير للأقوال المتقدّمة.

والإنصاف : أنّ الاستعلاء ليس بمدلول من « الأمر » تضمّنا ولا التزاما ، أخذا بقضيّة صدقه على ما لم يلاحظ معه إظهار العلوّ وإفادته أصلا.

وفي كون الإلزام ملزوما للعلوّ فيكون أخذه في الحدّ كافيا عن اعتباره أوّلا وعدمه فيجب أخذهما معا وجهان ، من تفسير الإلزام بجعل الشيء لازما فلا يكون إلاّ من شأن العالي ، أو بطلب الفعل مع عدم الرضا بتركه فيعمّ المساوي والداني أيضا ، ولكن أجودهما الثاني لصدق الإلزام مع طلبهما عرفا دون جعل الشيء لازما.

وربّما يقال : بمنع اختصاص الإلزام بالمعنى الأوّل بالعالي ، لجواز صدوره من المساوي والداني أيضا ، كما لو التزم السيّد بانجاح حاجة عبده ولو بعهده وشبهه ، أو واعده على وجه يلزمه الوفاء به عقلا ، فإنّ الإلزام يتحقّق منه شرعا أو عقلا مع أنّه لا يصدق عليه « الآمر ».

وفيه : ما لا يخفى من ابتنائه على اشتباه الالتزام بالإلزام. ولا ريب أنّه التزام جاء من قبل المولى لا أنّه إلزام نشأ عن العبد ، إذ لا يقال : إنّ العبد قد الزمه بذلك.

فإن قلت : أنّ الالتزام بدون الإلزام ممّا لا يكاد يتعقّل ، لأنّه انفعال.

قلت : إنّما ينشأ الالتزام عن إلزام السيّد نفسه بعهده ومواعدته ، فالاعتماد على هذا الوجه إن كان ولابدّ لكان التمثيل له بالشروط المأخوذة في ضمن العقود ـ كأن يقول أحد المتعاقدين لصاحبه : « شرطت عليك كذا » ـ وما أشبه ذلك أولى ، لكونه في العرف عبارة عن الإلزام بذلك المعنى ، إلاّ أنّه غير مجد في دفع توهّم كفاية قيد الإلزام عن اعتبار العلوّ ، لعدم تحقّق تلك الإلزامات في حيّز الطلب ، والإشكال وارد على هذا التقدير ، لاختصاص الإلزام الناشئ عن الطلب بالعالي وبمثل ذلك يقال أيضا في مثال عهد السيّد لعبده وشبهه بناء على كونه إلزاما من العبد ، لعدم كونه ناشئا عن الطلب.

فيتوجّه إلى المنع المذكور حينئذ أنّ هذه الإلزامات إنّما خرجت بقيد « الطلب » فيبقى المناقشة بحالها لاختصاص الإلزام الطلبي بالعالي ، وإنّما يدفعها ما ذكرناه من منع تفسير الإلزام بما يوجب توجّهها ، ولذلك تراهم فرّقوا بين الإلزام واللزوم تفرقتهم بين الإيجاب والوجوب ، وهو كون الثاني خاصّا بطلب العالي دون الأوّل ، ولا يتمّ ذلك إلاّ على تفسيره

٢٣

بعدم الرضا بالترك مع أنّه مصرّح به في كثير من العبائر.

ومن الأعلام من يظهر منه توهّم كون الإلزام من لوازم « الاستعلاء » مدّعيا لظهور « الاستعلاء » فيه ، تعليلا بأنّه لا معنى لاظهار العلوّ في المندوب وادّعائه كما لا يخفى.

ولذا ترك في تحديد الأمر قيد « الإلزام » اكتفاء بما هو ملزوم له ، وهو بظاهره غير سديد ، لأنّ « الاستعلاء » لو اريد به ما يقارن العلوّ فهو قد ينفكّ عن الإلزام مع حصوله المقارن للعلوّ الموجب لصدق « الأمر » حقيقة كما تقدّم فرضه في صورة الذهول ، فيلزم بناء على الاكتفاء بقيد « الاستعلاء » فقط خروج الحدّ غير منعكس ، ولو اريد به ما يعمّ ذلك وغيره فلا يعقل كون الإلزام لازما له إن اريد به جعل الشيء لازما ، لأنّه من خصائص العالي فيكون أخصّ من « الاستعلاء » والشيء إنّما يصلح لازما لآخر إذا كان مساويا له أو أعمّ منه.

فلا نسلّم كونه لازما أيضا ، لأنّ العالي قد يطلب شيئا عن استعلاء برفع الصوت أو تغليظ الكلام أو إطلاق صيغ الجمع على نفسه ، وهو راض بالترك لمجرّد إرادة إظهار علوّه وارتفاعه لغير المخاطب ممّن لا يعرفه كما هو حقّه ولم يطّلع بشأنه ، كما يظهر لمن تأمّل قليلا أو يراجع إلى وجدانه.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر ـ مع ملاحظة ما سبق ـ يتّضح أنّ الإلزام أيضا لا يستلزم الاستعلاء ولا العلوّ ، فلا ملازمة من الطرفين ، لحصوله في السؤال والدعاء كما عرفت ، بل « الأمر » إذا لم يكن الآمر مريدا لإظهار علوّ النفس مع إرادة الإلزام الموجب لصدق « الأمر » حقيقة ، كما لو طلب إلزاما وهو متخاضع بالقياس إلى المأمور ويخاطبه مع لينة لسانه وبشاشة وجهه إظهارا للعطف والشفقة عليه ، كما نشاهده كثيرا في أوامرنا وأوامر غيرنا من الموالي والسادات.

ثمّ إنّ المراد بالعلوّ الّذي اعتبرناه في مفهوم « الأمر » ارتفاع انسان يوجب لزوم طاعته على من هو دونه عقلا أو عرفا ما لم يقم من قبله ما يقضي بعدم إرادة الحتم ، وهو قد يكون في ثبوته شرعيّا كما في الأنبياء وأوصيائهم ، وقد يكون عقليّا كما في الموالي ، وقد يكون عاديّا كما في السلاطين وولاة الجور ، وقد يكون اعتباريّا كما في المتواطئ غيره بعقد إجارة ونحوها ، وهل يصدق مع الادّعاء أيضا؟ فيه إشكال وإن زعمه بعض الفضلاء كما عرفت.

ولك أن تقول : فيه وجهان ، من كون العبرة فيه بما يفهم من المقال في ظاهر الحال عند الجهل بها ، وبما يتحقّق في الواقع ونفس الأمر.

٢٤

والتحقيق : ما أشرنا إليه سابقا من أنّه إن صادف الواقع فمناط الصدق عند إرادة الإلزام إنّما هو العلوّ وإلاّ فلا صدق جزما ولو مع إرادة الإلزام.

وبقي في المقام امور لا بأس بالإشارة إليها :

[ الأمر الأوّل : في الطلب والإرادة ]

منها : اختلفوا في أنّ الطلب المأخوذ في مفهوم « الأمر » هل هو نفس الإرادة أو غيرها على قولين :

وقد حكي أوّلهما عن المعتزلة ، ووافقهم عليه العلاّمة في النهاية والتهذيب والسيّد في شرحه.

والثاني محكيّ عن الأشاعرة وصار إليه بعض الأفاضل ، وكلام اللغويّين وإن كان بظاهره يعطي كونهما مترادفين إلاّ أنّ القطع بملاحظة شهادة العرف وموارد إطلاقات اللفظين حاصل بابتناء ذلك على خلاف التحقيق والتنقيح.

وتحقيق المقام يستدعي رسم مقدّمات :

الاولى : أنّ الإرادة حسبما يساعد عليه العرف يطلق على معان :

أوّلها : ما يرادف الاستعمال وهو استفعال من العمل ، ومعناه أن يطلب من الشيء إفادة ما في الضمير وإفهامه ، فإرادة المعنى من اللفظ عبارة عن استعماله فيه ، بمعنى أن يطلب منه إفادته وإفهامه ، وهي بهذا المعنى مسبوقة بها بالمعنى الآتي ، كما أنّها من الأمور الإضافيّة الّتي لابدّ في تحقّقها من تحقّق شرائط الإضافة من الطالب والمطلوب والمطلوب منه.

وثانيها : ما يقابل الكراهة ، وهي عبارة عن عدم الرضا بالفعل لأجل مفسدة فيه ويعبّر عنه في الفارسيّة بـ « بد داشتن » فالإرادة عبارة عن الرضا بالفعل لأجل مصلحة فيه ويعبّر عنه في الفارسيّة بـ « خوش داشتن » وهي بهذا المعنى ملزومة لها بالمعنى الآتي مسبّبة عنه ، وليست من الامور الإضافيّة بل هي معنى نفسي يحدث بحدوث منشائه.

وبما ذكر من التقرير تبيّن أنّ هذا المعنى لا يتحقّق إلاّ بتصوّر الفعل وتصوّر المصلحة الكامنة فيه الّتي تعدّ من الغايات ، كما تبيّن أنّ الفعل لابدّ من اشتماله على تلك المصلحة ، ومن هنا صار العدليّة بتبعيّة الأحكام للصفات الكامنة.

وثالثها : ما يرادف القصد والنيّة ، والمراد به تصوّر أصل الفعل قبل الإقدام على إيجاده

٢٥

أو الحمل على إيجاده ، وهي بهذا المعنى تستلزم إرادة اخرى وهي تصوّر ما يكون غاية للفعل ، ويعبّر عن المجموع المركّب بـ « الدّاعي » وكأنّ الأوّل منه بمنزلة الجنس حيث لا ينفكّ عن شيء من الأفعال الاختياريّة ، والثاني منه بمنزلة الفصل ولذا يقبل التبادل ويعرضه التناوب ويختلف باختلاف الغايات والأغراض ، وهو الّذي يختلف بتبادل أفراده العنوانات فيندرج الفعل تارة فيما لا حرج فيه واخرى في خلافه ، كاتّخاذ العنب لغرض التخليل أو التخمير ، وبه يمتاز عمل المخلصين عن عمل المشركين فيتفرّد المرائي عن غيره ، فإنّ الغاية المتصوّرة إن كانت تحصيل الامتثال أو إدراك المثوبات أو الفرار عن العقوبات كان خلوصا ، وإن كانت إعلام الغير أو غيره من الأغراض الدنيويّة كان رياء وشركا ، ولمّا كان ذلك يتعدّد على سبيل البدليّة كان اشتراط بعضها في امتثال الواجبات على جهة التعيين يحتاج إلى دليل ، بخلاف الأوّل لانحصاره في الفرد وكونه بعينه لازما لكلّ فعل وجوديّ.

ولذا صار المحقّق عندنا ـ فيما يأتي تحقيقه ـ من كون الأصل في الواجبات التوصّليّة ، وعدم اشتراط الامتثال بها بقصد الإخلاص إلاّ ما أخرجه الدليل ، مع اشتراط قصد أصل الفعل الموجب لعدم كون الصادر عن الغافل والنائم ونحوهما امتثالا.

الثانية : أنّ الفعل الاختياري ـ ولو بالواسطة ـ لابدّ فيه من المباشرة ، وهي قد تتحقّق ممّن ظهر له صفة الفعل سواء كانت عائدة إليه أو إلى غيره.

وقد تتحقّق من غيره مع عود الصفة إليه أو إلى من ظهرت له ، فهي على كلا التقديرين لابدّ فيها من حامل ، وهو في الأوّل منحصر في ظهور الصفة المذكورة المتضمّن لتصوّر أصل الفعل وتصوّر تلك الصفة كما في مباشرة الإنسان بالأكل والشرب والنوم وغيره من أفعاله الاختياريّة ولو بالواسطة ، وفي الثاني امور تختلف باختلاف المقامات ، ففي مقام التكليف وإن كان الحامل ما تقدّم في المقدّمة الثالثة (١) ممّا عبّرنا عنه بـ « الداعي » إلاّ أنّ إيجاد هذا الداعي أيضا لابدّ فيه من حامل عليه وهو من ظهر له صفة الفعل ، فإنّه بطلبه تحمل المكلّف على إيجاد « الداعي » المستلزم لإيجاد الفعل ، فيكون حاملا له على إيجاد الفعل بالواسطة ، كما أنّه في إيجاد الطلب لابدّ له من حامل وهو ظهور صفة الفعل المتضمّن لتصوّرين ، فقد تقرّر ممّا ذكر أنّ هذا الحامل قد يدعو الإنسان إلى مباشرته بالفعل بنفسه كما في القسم الأوّل ، وقد يدعوه إلى حمل الغير على المباشرة كما في القسم الثاني ، وفي غير مقام

__________________

(١) الصواب : المقدّمة الاولى ، لأنّ بيان مفهوم « الداعي » قد تقدّم في ضمن المعنى الثالث من معاني الإرادة في تلك المقدّمة.

٢٦

التكليف قد يكون الحامل على الفعل إكراه الغير له بتوعيد ونحوه ، وقد يكون عقد إجارة ونحوه ، وقد يكون الالتزام بعهد وشبهه ، وقد يكون غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدبّر.

الثالثة : قضيّة ما قرّرناه في المقدّمتين كون الطلب كائنا ما كان عبارة عن الحمل ، وهو المنساق منه عرفا ، فالطالب هو الحامل والمطلوب هو المحمول والمطلوب منه هو المحمول عليه ، والأوّل في مقام الاستعمال هو المتكلّم ومن يقوم مقامه كالكاتب والمشير ونحوه وفي مقام التكليف هو الآمر ، والثاني في مقام الاستعمال إفادة المعنى وإفهامه وفي مقام التكليف الفعل المأمور به ، والثالث في مقام الاستعمال هو اللفظ وما يقوم مقامه ممّا ذكر وفي مقام التكليف هو المكلّف المأمور.

وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرناه في المقدّمات عرفت ما هو الصحيح من القولين عمّا هو سقيمهما ، فإنّه لا ينعقد تكليف إلاّ ويتحقّق معه إرادة بالمعنى الثاني وإرادة بالمعنى الثالث سابقة عليها بالمعنى الأوّل منشأ لحدوثها ، وطلب بالمعنى المذكور ، غير أنّ الموضوع له للفظ « الأمر » وصيغه هو الطلب خاصّة والإرادتان لازمتان له سابقتان عليه.

ولا ريب في مغايرته لهما كيف وهو أمر نسبيّ لابدّ في تحقّقه من تحقّق منتسبيه ، بخلاف الإرادة بكلا المعنيين.

وممّا يشهد بمغايرته لها أيضا أنّه معنى إنشائي ولا يتأتّى إلاّ بآلة ، ولذا يضاف إليه الإنشاء ويقال : « إنشاء الطلب » بخلاف الإرادة إذ لا يصحّ أن يقال : « إنشاء الإرادة » وهو كما ترى معنى ظاهر واضح لا خفاء فيه أصلا ، ومن شأنه أن يوضع له لفظ بالخصوص ، بل هو من الواجبات الّتي ليس للواضع الحكيم أن يهمل فيها ، كما هو الحال في سائر المعاني الواضحة الّتي يتداولها عامّة أهل اللسان.

فلا وقع لما احتجّ به العلاّمة ـ بل ولا ينبغي الالتفات إليه ـ من : أنّا لا نجد في « الأمر » أمرا آخر يغاير الإرادة ، بدعوى : أنّ المفهوم ليس إلاّ إرادة الفعل فلو كان هناك أمرا آخر يغايرها فلا يجوز كون اللفظ وضعا بإزائه ، لعدم جواز وضع الألفاظ المتداولة عند عموم أهل اللسان للامور الخفيّة الّتي لا يعقلها إلاّ الخواصّ منهم ، والمفروض منها لكونه في الخفاء بمثابة لا يدركه إلاّ الخواصّ.

ولا لما قيل أيضا من أنّ المتبادر من « الأمر » هو إرادة الفعل من المأمور فيكون حقيقة فيه ، وقضيّة ذلك اتّحادها مع الطلب ، إذ لا قائل بالتغاير بينهما مع القول بدلالة « الأمر » عليها وضعا.

٢٧

فإنّ تبادر الإرادة من « الأمر » غير مسلّم ، وعلى فرض صحّته فهو تبادر ثانويّ نظير تبادر المداليل الالتزاميّة ، فلا اعتداد به في إثبات الوضع.

فصار المحقّق إنّ ما ذهب إليه الأشاعرة هو الأقرب إلى الصواب بل هو عين الصواب ، وإن كانوا قد أخطأوا أيضا في توهّم جواز التفكيك بين الإرادة والطلب على ما يرشد إليه احتجاجهم ، لما عرفت من أنّ رتبة الطلب متأخّرة عن رتبة الإرادة ، وهي مسبّبة عنها فلا يعقل انفكاكه عنها.

والمحكّي من احتجاجهم وجوه :

منها : أنّ الله تبارك وتعالى أمر الكافر بالإيمان ، ولم يرد منه.

أمّا المقدّمة الاولى فإجماعيّة ، وأمّا المقدّمة الثانية فلأنّه تعالى عالم بأنّه لا يؤمن فيستحيل صدور الإيمان منه ، وإلاّ لزم انقلاب علمه تعالى جهلا وهو محال ، وإذا استحال صدور الإيمان منه استحال أن يريد منه لكونه تكليفا بالمحال كما في التهذيب ، أو لأنّ الإرادة لا تتعلّق بالمحال كما في النهاية.

وأيضا وقوع الكفر منه لابدّ أن يستند إلى سبب ، وذلك السبب لابدّ من أن ينتهي إلى الواجب لئلاّ يلزم التسلسل ، وإيجاده تعالى ذلك السبب مع العلم بسببيّته يستلزم إرادة المسبّب فلا يجوز مع ذلك إرادة ضدّه لاستحالة إرادة الضدّين كاجتماعهما.

واجيب عنه : بمنع عدم إرادة الإيمان من الكافر ، وما ذكر من الوجهين لا يصلح سندا لذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ العلم تابع (١) والاستحالة نشأت من فرض العلم كما تنشأ من فرض

__________________

(١) ومحصّله : أنّ العلم في تعلّقه بمعلومه تابع لوقوع المعلوم أو كونه في معرض الوقوع لا أنّه مؤثّر فيه ، وشبهة استحالة الإيمان نشأت من فرض تعلّق علمه تعالى بعدم الايمان كما أنّها أيضا تنشأ من فرض وقوع نقيضه وهو عدم الإيمان في المحلّ ، إذ لا فرق في الاستحالة بين تعلّق علمه تعالى بعدم الإيمان وبين المعلوم وهو نفس عدم الإيمان ، فإنّ الإيمان مستحيل على كلا الفرضين.

لكن لمّا كان العلم تابعا للمعلوم تبيّن عدم دخل لعلمه تعالى فى تلك الاستحالة ، لاستنادها حينئذ إلى وقوع نفس المعلوم ، بناء على التمانع بين الأضداد الوجوديّة أو [ لعدم قابليّة المحلّ باشتماله على الشاغل ].

وهذا كما ترى لا يجدي نفعا في حسم مادّة الاستدلال لبقاء مجال السؤال بنحو ما تقدّم.

نعم لو قدّر التوجيه بأنّه لمّا كان العلم تابعا للمعلوم وهو تابع للإرادة الاختياريّة تبيّن عدم دخل علمه تعالى فى تلك الاستحالة ، وعدم كونها مانعة عن تعلّق الإرادة ولا عن صحّة التكليف ، لا ندفع السؤال أيضا لكن لا خفاء في قصور العبارة عن إفادة ذلك.

٢٨

النقيض إذ لا فرق بين العلم والمعلوم ، هذا على ما في النهاية.

وملخّصه : أنّ العلم لا يؤثّر في المعلوم وجودا ولا عدما بل هو تابع له ، بمعنى أنّ المعلوم لمّا كان في وقته في معرض الحصول بتحقّق أسبابه ومقتضياته فتعلّق العلم به ، فهو باق على إمكانه ومقدوريّته ، والاستحالة الملحوظة بالنسبة إلى خلافه إنّما نشأت على تقدير تعلّق العلم وهو لا يقضي بالاستحالة أيضا على تقدير آخر ، كما أنّ استحالة وقوع أحد النقيضين إنّما ينشأ عن وقوع النقيض الآخر لا مطلقا ، ولذا لا استحالة في وقوعه على تقدير عدم وقوع ذلك النقيض.

فمرجع الجواب إلى منع المقدّمة الاولى وهي استحالة وقوع الإيمان من الكافر ، لا منع المقدّمة الثانية وهو عدم جواز تعلّق الإرادة بالمحال.

ويشكل ذلك : بأنّ عدم استحالة وقوع خلاف المعلوم وهو الإيمان حينئذ معلّق على أحد الأمرين من ارتفاعه وانقلابه جهلا مركّبا ، وكلاهما بالقياس إليه تعالى محال.

وظاهر أنّ المعلّق على المحال محال ، فالمحذور بحاله إلاّ أن يوجّه الاستدلال بحمله على إرادة الامتناع الذاتي فيبطل بالوجه المذكور ، نظرا إلى أنّ ما يتراءى في حقّ الكفّار امتناع عرضي ناش عن الغير فلا ينافيه الإمكان الذاتي ، ولكنّه غير مطابق لظاهر الاستدلال ، كما لا يخفى على من تأمّل جيّدا.

والأولى أن يوجّه الجواب ويقال : إنّ معنى كون العلم تابعا أنّ الكافر لو لا اختياره عدم الإيمان لما علم الله تعالى بعدم وقوع الإيمان منه ، ولما وجب عليه الكفر ولما امتنع عليه الإيمان فكما أنّ الوجوب والامتناع لا ينافيان الاختيار بل يؤكّدانه ويحقّقانه ، فكذلك علمه تعالى لا ينافيه بل يؤكّده ويحقّقه.

وقضيّة ذلك كون العلم مع الوجوب والامتناع متلازم الوجود كما أنّهما متلازمان في الوجود لا أنّ الامتناع مترتّب عليه ، وأن يثبت له التبعيّة في الإطلاق والتقييد ثبوتها لهما ، فلو فرض اختياره عدم الإيمان ثابتا إلى الأبد يتعلّق به علمه تعالى كذلك ، ولو فرض كونه مغيّى إلى غاية متناهية يتعلّق به علمه تعالى كذلك ، فلا يلزم من وقوع الإيمان في زمان منه بعد ما اختار عدمه إلى ذلك الزمان انقلاب علمه تعالى جهلا ولا ارتفاعه.

أمّا الأوّل : فلأنّه فرع بقاء العلم بعد انقلاب الاختيار والمفروض خلافه.

وأمّا الثاني : فلأنّه فرع ثبوته من بدو الأمر على الإطلاق ثمّ ارتفاعه في الأثناء

٢٩

والمفروض خلافه أيضا ، لفرض كونه تابعا في عدم إطلاق المعلوم واستمراره.

وبالجملة علمه تعالى بعدم وقوع الإيمان منه ليس إلاّ نظير علمنا به ، فكما أنّ علمنا لا دخل له في اختياره ولا أنّه موجب لوجوب المعلوم ولا امتناع خلافه فكذلك علمه تعالى.

غاية الفرق بينهما أنّ علمنا غالبا متأخّر بحسب الزمان عن اختياره ، وعلمه تعالى سابق على حدوثه لأنّه أزليّ وهو غير مناف لكونه تابعا ، إذ ليس المراد بالتابع ما يلزمه التأخّر بل ما يعمّه وما كان منشؤه الاختيار وإن كان حاصلا قبله ، ولمّا كان مختارا بالنسبة إلى كلّ من الكفر والإيمان فأمره تعالى بالإيمان ونهاه عن الكفر أمرا متضمّنا للطلب والإرادة معا ، إن كان مرادهم بالإرادة ما تقدّم من المعنيين ، وإلاّ فلا يعقل إرادة اخرى غيرها بأحد المعنيين حتّى يقال بانتفائها وانفكاكها عن الطلب.

فإن قلت : مع سبق علمه تعالى بأنّه لا يؤمن كيف يصحّ منه تعالى إرادة الإيمان وطلبه حقيقة لأنّه يعدّ سفها في نظر العقل ، وهو قبيح على العاقل الحكيم.

قلت : الحكيم قد يأمر ويطلب وغرضه الأصلي حصول الامتثال ويكون ترتّب العقاب على تقدير خلافه مقصودا له بالتبع كما في أوامره بالنسبة إلى المطيعين ، وقد يأمر ويطلب وغرضه الأصلي قطع العذر على المكلّف ليفيد في مقام توجيه العقاب كما في حقّ العاصين ، ولا قبح فيه أصلا بل هو من طريقة العقلاء وممّا يجوّزه العقل ويحسّنه.

واعترض بعض الأفاضل على ما نقلناه من الجواب أيضا : بأنّ تابعيّة العلم للمعلوم إنّما تقضي بعدم استناد وقوع المعلوم إلى العلم ، بل لمّا كان المعلوم حاصلا في وقته بحسب الواقع نظرا إلى حصول أسبابه تعلّق به العلم على ما هو عليه ، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام ، إذ المقصود إثبات استحالة وقوع خلاف المعلوم مستندة إلى العلم.

فأجاب عن الاستدلال بما سنذكره منه.

وفيه : أنّ عدم استناد وقوع المعلوم إلى العلم يستدعي عدم استناد استحالة وقوع خلافه إليه ، لأنّ وقوع المعلوم لابدّ له من مستند وهو بعينه مستند لاستحالة وقوع خلافه ، كما هو قضيّة المقابلة القائمة بطرفي الإيجاب والسلب ، واللازم من الجواب أنّ ذلك المستند ليس هو العلم في جانب المعلوم فكذلك في جانب استحالة خلافه ، فاندفع بذلك ما هو المقصود بالاستدلال.

ويمكن أن يقال في توجيه الجواب : إنّه توطئة لمنع المقدّمة الثانية قصدا به إلى إحراز

٣٠

كون الامتناع عرضيّا ناشئا عن الاختيار صغرى للقياس لكبرى مطويّة مناقضة لتلك المقدّمة.

فيرجع حينئذ إلى ما أفاده الفاضل المشار إليه من أنّ استناد استحالة وقوع الإيمان إلى علمه تعالى إن اريد به ما هو بحسب الواقع فممنوع ، بل استحالة وقوعه في الواقع إنّما هو بالنظر إلى انتفاء أسبابه والعلم به تابع لذلك.

وإن اريد به ما هو بحسب علمنا فلا مانع منه بل لا مجال لإنكاره ، لوضوح المقدّمتين (١) وتفرّع العلم بالنتيجة عليهما ، إلاّ أنّه لا يلزم من ذلك سلب القدرة عن المكلّف ، فإنّ السبب الباعث على استحالة صدور الفعل منه عدم إقدامه عليه وعدم مشيئته للفعل مع اجتماع أسباب القدرة.

ومن البيّن أنّ المستحيل بالاختيار لا ينافي القدرة والاختيار ، واستحالة وقوع المشيئة منه ـ لعدم قيام الداعي إليها ـ لا تنفي القدرة على الفعل ، إذ ليس مفاد القدرة إلاّ كون الفاعل بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك.

ومن البيّن صدق الشرطيّة (٢) مع كذب المقدّمتين.

ومن هنا نقول بقدرته تعالى على فعل القبيح وإن استحال وقوعه منه نظرا إلى استحالة إرادته له ، انتهى (٣).

ويشكل ذلك : بأنّ الإمكان لا يرفع الاستحالة العرضيّة وإن كان السبب الباعث عليها هو المكلّف ، ومعه يتمّ الاستدلال لاستحالة تعلّق الإرادة بالمستحيل مع العلم بوصفه العنواني ولو كان عرضيّا كما يحكم به ضرورة الوجدان ، بعد الإغماض عمّا قرّرناه في تصحيح الجواب المتقدّم ، وإلاّ فنمنع الاستحالة مطلقا للقدرة على الفعل بسبب القدرة على إيجاد داعيه وهو الإرادة ، وهي في كونها شرطا لتعلّق التكليف أعمّ منها بالواسطة.

ولقائل أن يقول في الجواب أيضا ـ على تقدير تسليم الاستحالة ـ : بمنع كون أمر

__________________

(١) إشارة إلى القياس الّذي يرتّب لإثبات ما رامه المستدلّ من استحالة وقوع الإيمان من الكافر ، وهو أن يقال : إنّ الإيمان من الكافر ما علم الله تعالى بعدم وقوعه ، وكلّما كان كذلك يستحيل وقوعه ، فالإيمان من الكافر مستحيل وقوعه ( منه عفي عنه ).

(٢) والمراد بالشرطيّة ما يستفاد من قولنا : « القادر من لو شاء فعل ولو شاء ترك » وهذه القضيّة صادقة على الكافر وإن كذبت مقدّمها لأنّه لا يشاء الإيمان فلا يكون قادرا على إيقاعه ( منه عفي عنه ).

(٣) هداية المسترشدين ١ : ٥٨٤.

٣١

الكافر بالإيمان على ظاهره ، وإنّما هو نظير الأوامر الامتحانيّة الّتي احتجّت الأشاعرة بها أيضا على مطلوبهم وستعرف ضعفه ، مضافا إلى فساد أصل الدعوى لمنافاته الإجماع والضرورة وبداهة العقل.

وعليه ـ بناء على صحّة الدعوى ـ لا يتمّ الاستدلال لجواز كون الإرادة المنتفية هاهنا ـ على ما اعترفوا به ـ نفس الطلب الّذي يقطع بانتفائه أيضا ، فلا يثبت التغاير لعدم دلالة للأعمّ على الأخصّ كما لا يخفى.

هذا كلّه على ما في النهاية من تتميم الاستدلال باستحالة تعلّق الإرادة بالمستحيل.

وأمّا على ما في التهذيب من تتميمه بلزوم التكليف بالمحال لو أراد منه الفعل فاجيب عنه ـ على ما حكاه الفاضل المتقدّم ذكره ـ : بالمنع من عدم جواز التكليف بهذا المحال نظرا إلى تجويزهم.

وأنت خبير بوهن ذلك ، لابتنائه على ما تقدّم ذكره من كون الامتناع بالاختيار ممّا لا ينافي الاختيار ، وهذه القضيّة في مقام التكاليف وإن كانت مختلف فيها ـ على ما يأتي في محلّه من الأقوال ـ ولكنّ الراجح عندنا منافاته خطابا وعقابا ، عملا بما يقتضيه القوّة العاقلة من امتناع كلا الأمرين عن الحكيم العدل لاستلزامهما ما يستلزمه التكليف مع الامتناع الاضطراري من القبح والاستقباح من غير فرق كما لا يخفى.

نعم لا مضائقة عن العقاب في فرض المقام على إيجاد سبب الامتناع المفضي إلى فوات التكليف لكونه اختياريّا من جميع الوجوه ، وهو الّذي يجوّزه العقول ، فالصواب من الجواب عن هذا التقرير أيضا ما قدّمناه من منع الصغرى ، وإلاّ فعلى فرض تسليمها لا يمكن منع الكبرى أصلا.

وقد يعترض على تقرير الاستدلال بذلك الوجه ـ مضافا إلى ما ذكر ـ بما في كلام الفاضل المشار إليه من الحكم بفساد ذلك التقرير ووهنه تعليلا : « بأنّ من البيّن أنّ الأشاعرة يجوّزون التكليف بالمحال بل يحكمون بوقوعه في أمثال ذلك ضرورة وقوع التكاليف المذكورة ، مضافا إلى ما فيه من التهافت من حيث إنّ المأخوذ في هذا الاحتجاج أوّلا هو ثبوت التكليف بالإيمان ودعوى الإجماع عليه ، فكيف يجعل التالي لزوم التكليف بالمحال ويحكم ببطلانه من جهة استحالة صدوره؟ ».

وفيه : أنّه اعتراض في غير محلّه ، لإمكان التوفيق بحمل ما يجوّزه الأشاعرة من التكليف

٣٢

بالمحال على مجرّد الطلب الخالي عن الإرادة ، نظرا إلى ما زعموه من الفرق بينهما بناء على زعمهم أيضا جواز انفكاك كلّ عن الآخر ، وكون المراد بالتالي ما يلزمه الإرادة أيضا لزعمهم استحالة تعلّق الإرادة بالمحال كما تقدّم على ما هو الحقّ أيضا ، فإنّ الإرادة في امتناع تعلّقها بالمحال لا يفترق حالها بالنسبة إلى كونها تكليفيّة أو لا.

ومن هنا ظهر ما في توهّم التهافت ، فإنّ الواقع في الاستدلال إنّما هو لفظ « الأمر » والمفروض أنّهم يجعلونه بمعنى الطلب ويفرّقون بينه وبين الإرادة ، فهو لا يستلزمها على ما زعموه من جواز الانفكاك ، فلم لا يجوز أن يراد بالتالي ما يستلزمها وهو محال بالتقريب المتقدّم ، وب « الأمر » الواقع في الاستدلال ما تجرّد عنها ولا يكون محالا.

والأولى في الجواب عن الاحتجاج ـ بعد الاغماض عمّا ذكرناه من منع الصغرى ـ أن يقال بما أشرنا إليه أيضا : من أنّ الاستدلال إنّما يتمّ إذا جاز التفكيك بين الإرادة والطلب وهو بمكان من المنع ، فإنّ مفهوم « الأمر » وإن كان هو الطلب والإرادة غير داخلة إلاّ أنّها لازمة للطلب لما قرّرنا من تأخّر رتبته عنها ، فالالتزام بانتفاء الإرادة في محلّ الفرض يستلزم الالتزام بانتفاء الطلب أيضا ، كيف وأنّ عدم إرادة وقوع الإيمان من الكافر بحسب الواقع مع اقتضاء إيقاعه عنه بحسب الخارج كما ترى ، ولا سيّما مع العلم باستحالته كما هو لازم قولهم ، فلابدّ من صرف « الأمر » عن ظاهره بحمله على إرادة شيء آخر ومعه لا يثبت المطلوب ، لجواز أن يقول الخصم بأنّ الظاهر الّذي فرض عدم إرادته من « الأمر » إنّما هو الإرادة لا ما يغايرها بتوهّم الاتّحاد بينهما فيجب لإثبات التغاير دليل آخر.

هذا كلّه في الوجه الأوّل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الداعي من فعل العبد لا من خلقه تعالى حتّى يستدعي إرادة لازمه وهو الكفر.

وأورد عليه : بأنّ خلق الداعي وإن كان من فعل العبد والعبد هو السبب فيه لكنّ العبد من فعل الله ومسبّب عنه.

وغاية الأمر أن يكون خلق السبب البعيد منه تعالى وهو كاف في إتمام المقصود ، إذ لا فرق فيما ذكر بين السبب القريب والبعيد ، ولم يؤخذ في الاحتجاج خصوص السبب القريب حتّى يجاب بما ذكر.

فيجاب عن الاستدلال بمنع المقدّمة الأخيرة ، فإنّ إرادة الكفر نظرا إلى إرادة سببه

٣٣

البعيد إرادة تبعيّة تكوينيّة ، حيث إنّها تابعة لإرادة إيجاد ذاته التكوينيّة ، وإرادة الإيمان منه إرادة تكليفيّة أصليّة نظرا إلى ثبوت قدرته على الفعل واختياره فيه ، لما عرفت من كون سببيّته للكفر اختياريّة إن كان ثبوت الكفر لازما بعد اختياره ، فلا مانع حينئذ من تعلّق الإرادتين المفروضتين بالضدّين نظرا إلى اختلافهما بما ذكر ، وبما تقدّم في الوجه الأوّل يظهر الوهن في ذلك.

والأولى في الجواب : المنع عن استلزام إيجاد السبب إرادة المسبّب ، وإنّما هو مستلزم للعلم بترتّبه عليه.

ومن البيّن أنّ العلم بشيء لا يستلزم إرادته.

لا يقال : بأنّ ذلك كاف في إثبات المقصود ، لصيرورة خلاف المسبّب حينئذ محالا فيستحيل تعلّق الإرادة بالمحال ، لأنّ ذلك رجوع إلى الوجه الأوّل الّذي تقدّم ضعفه ، فلا يكون وجها آخر كما هو المقصود.

ومنها : أنّه يصحّ أن يقول القائل لغيره : « اريد منك الفعل ولا آمرك به » من دون تناقضين القولين.

وأجاب عنه في النهاية : بأنّ الإرادة الاولى لم تكن خالصة ، ويمكن أن تحصل للإنسان إرادة مشوبة بعارض فلا يتعقّبها الفعل ، فكذلك هنا.

وفيه : أنّ المقصود بالدليل إبداء الفرق بين الإرادة والطلب بعدم وقوع تعارض بين القولين ، وكون الإرادة الاولى مشوبة لا يجدي في دفع الاستدلال نفعا ، إذا كان المنفيّ في القول الثاني هو تلك الإرادة ، لأنّ قضيّة ذلك وروده مناقضا للقول الأوّل وهو خلاف ما يساعده الفهم والعرف ، فالاستدلال على حاله.

اللهمّ إلاّ أن يرجع هذا الجواب إلى ما ذكره في التهذيب من أنّ نفي « الأمر » هاهنا معناه نفي الإلزام وإن كان مريدا لإيقاع الفعل اختيارا.

وتوضيحه : أنّ نفي الشيء قد يكون بانتفاء جنسه وقد يكون بانتفاء فصل من فصوله ، فإذا كان المنفيّ في « الأمر » هو الإلزام لم يلزم المقصود بفرض عدم التناقض ، لجواز أن يكون جنسه هو الإرادة المثبتة لا ما يغائرها ، ومن البيّن أنّ وجود الجنس يصادق انتفاء كلّ من فصوله على البدل.

فعلى هذا لا وقع لما أورد عليه بعض الأفاضل : بأنّا نرى صحّة ذلك مع كون إرادته في

٣٤

كمال الخلوص تقول : « اريد الإحسان من السلطان ولا أطلبه منه » من دون تناقض أصلا ، فالمانع هناك إنّما يمنع من إظهار الإرادة لا من نفسها لتكون غير خالصة.

ومنها : صحّة صدور « الأمر » امتحانا فيما لو توعّد السلطان من ضرب عبده انتقاما ، فاعتذر إليه بأن العبد يخالفه في أوامره ، وطلب السلطان منه إظهار صدقه بأن يكلّفه في نظره ، فإنّه يأمر ولا يريد الفعل إظهارا لتمرّده.

واجيب عنه ـ كما في النهاية والتهذيب والمنية ـ : بأنّ الأوامر الامتحانيّة ليست واردة على الحقيقة وإنّما هي صورة أمر يراد إظهار العذر ، فكما أنّ العاقل لا يريد الفعل في هذا المقام فكذلك لا يطلبه ، فإذا كان الطلب منتفيا ها هنا لا يحصل المقصود ، لجواز كونه نفس الإرادة الّتي يقول الخصم بمغايرتها له.

ومنها : جواز نسخ الشيء قبل مضيّ الامتثال ، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة كان الله سبحانه مريدا وكارها للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد ، وهو باطل إجماعا.

واجيب : بمنع جواز النسخ قبل حضور وقت العمل على ما يأتي تحقيقه ، فكما استحال أن يكون مريدا أو كارها فكذا استحال أن يكون طالبا للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد.

فانقدح من جميع ما قرّرناه أنّ الأشاعرة وإن كانوا أصابوا في دعواهم الفرق بين الطلب والإرادة إلاّ أنّهم أخطأوا في الاعتماد على الوجوه المذكورة ، لما عرفت من عدم نهوضها على إثباتها.

ولنا على ذلك ـ مضافا إلى قضاء الوجدان ـ تبادر الذهن إليهما معا عن كون ما يساق في مقام إنشاء الطلب قولا أو فعلا على طريق الترتّب كما هو الشأن في الانتقال إلى الملزومات بالقياس إلى لوازمها ، فإنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن بمجرّد سماع لفظة « الأمر » أو صيغة من الصيغ المتداولة في باب الإنشاء أو الاطّلاع بما يستعمل مكان هذه الألفاظ من الأفعال إنّما هو إنشاء طلب إيقاع الفعل في الخارج عن المكلّف كما هو الشأن في المداليل المطابقيّة ، ثمّ ينتقل بعد ذلك إلى أنّ ذلك الفعل ممّا أراد الطالب وقوعه بحسب الواقع كما هو الشأن في المداليل الالتزاميّة ، فيكون ذلك دليلا على كون ما عدا الأفعال حقيقة في نفس الطلب وكاشفا عن كون الإرادة من الطلب بمنزلة اللازم من ملزومه.

٣٥

وقضيّة ذلك كون الاستعمال في غير ذلك مجازا وكون انتفاء الإرادة مستلزما لانتفاء الطلب ، ضرورة استلزام انتفاء اللازم انتفاء ملزومه.

فقد تقرّر تحقّق اللزوم بينهما بكلا قسميه العرفي والعقلي.

فما أفاده بعض الأفاضل ـ بعد ما صار إلى ما اخترناه من أنّ الطلب بمعنى اقتضاء إيقاع الفعل في الخارج لا يستلزم الإرادة ، وإن كان الظاهر صدور الاقتضاء على طبق الإرادة الواقعيّة ، لظهور إلزام المأمور بالفعل مثلا في كون ذلك الفعل محبوبا للآمر مرادا له بحسب الواقع ، إلاّ أنّه مع العلم بالتخلّف لا يخرج الاقتضاء عن حقيقته ، ليس بسديد جزما فإنّ تخلّف الإرادة عن الطلب ممّا يأباه العرف كما اعترف به ذلك الفاضل والعقل أيضا كما يظهر بأدنى تأمّل.

وما ذكره من العلم بالتخلّف فلعلّ نظره في ذلك إلى الأوامر الابتلائيّة كما توهّمه الأشاعرة فيها.

ففيه : أنّ انتفاء الإرادة في هذه الموارد وما شابهها كاشف عن انتفاء الطلب رأسا ، ولا يكون ذلك من باب التخلّف ، وظهور اللفظ في الطلب قبل انكشاف انتفاء الإرادة لا ينافيه انتفاءه بعد انكشاف انتفائها كما هو الحال في سائر الحقائق بالنظر إلى ملاحظة ما قبل قيام القرينة فيها وما بعده.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ ما ذكره الأصحاب في ردّ الأشاعرة القائلة بكون كلامه تعالى نفسيّا مغائرا للعلم والإرادة والكراهة ، من عدم كونه بهذا المعنى معقولا مبنيّ على ما بنوا عليه مذهبهم في تلك المسألة من عدم مغايرة الطلب للإرادة والكراهة.

فبما قرّرناه ظهر سقوط حجّتهم ذلك لثبوت مغايرته لهما ، ولكن لا يرد علينا أنّ الالتزام بها التزام بما يذكره الأشاعرة من كون كلامه تعالى نفسيّا لأنّهم يجعلونه مدلولا للكلام اللفظي قائما بالنفس ويزعمونه قديما ـ على ما حكي عنهم ـ مع موافقتهم للباقين في حدوث الكلام اللفظي.

فيردّهم : أنّ الطلب بالمعنى المذكور وإن كان مدلولا مغايرا للإرادة والكراهة إلاّ أنّه ملزوم لما يكشف عنه من قول أو فعل أو نحوهما ، فيلزم من قدم الطلب قدم هذه الامور أو من حدوثها حدوث الطلب ، وكلّ ذلك كما ترى لا يقولون به والتفكيك بينهما بكون الطلب قديما مع حدوث هذه الامور لا يتمّ إلاّ على تجويز التفكيك بين الملزوم ولازمه ، وتخلّف

٣٦

الشرط عن مشروط ، أو إرجاع الطلب إلى الإرادة والكراهة ، والأوّل غير معقول ، والثاني مناف لمذهبهم ، فالكلام النفسي الّذي يقولون به ، غير معقول من تلك الجهة ، لا لما ذكره الأصحاب من أنّ الكلام إذا كان إنشائيّا لابدّ فيه من عبارة صادرة وإرادة مضمون تلك العبارة أو كراهته ولا يعقل شيء آخر مغاير لهما.

[ الأمر ] الثاني

بعد اتّفاقهم على أنّ للوضع مدخليّة في دلالة الصيغة على الطلب كما هو الحال في سائر الألفاظ ـ اختلفوا في مدخليّة الإرادة أيضا فيها وعدمها.

فالعلاّمة في التهذيب والنهاية إلى أنّها تدلّ على الطلب من غير حاجة إلى إرادة اخرى.

وهو ظاهر العميدي والمحكيّ عن أصحابنا ، وقاطبة الأشاعرة ، والكعبي من المعتزلة.

وعن أبي عليّ وأبي هاشم الجبّائيين المصير إلى أنّه لابدّ مع ذلك الوضع من إرادة اخرى ، احتجاجا بأنّا نميّز بين الصيغة إذا كانت أمرا وبينها إذا كانت تهديدا ولا مميّز بينهما إلاّ الإرادة.

وتوضيحه : أنّا نميّز قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) عن قوله تعالى ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ )(٢) بكون الأوّل طلبا والثاني تهديدا ولم يحصل ذلك إلاّ من جهة الإرادة ، إذ لو لا إرادته الطلب من الأوّل والتهديد من الثاني لما حكمنا به.

وأجيب : بأنّ الصيغة إنّما يفتقر في دلالتها على الطلب إلى أمر آخر غير الوضع من إرادة أو غيرها لو كانت حقيقة في غيره كالتهديد ونحوه.

وأمّا إذا كانت حقيقة في الطلب خاصّة مجازا في غيره كانت مفيدة له عند إطلاقها مجرّدة عن القرائن كغيرها من الألفاظ الموضوعة.

وبمثل ذلك احتجّ العلاّمة في النهاية على نفي اعتبار الإرادة وهو : أنّها موضوعة للطلب فلا يتوقّف دلالتها عليه إلى إرادة كسائر الألفاظ ، مضافا إلى أنّ الطلب النفساني أمر باطني فلابدّ من الاستدلال عليه بأمر ظاهر ، والإرادة أمر باطني فتفتقر إلى معرّف كافتقار الطلب ، فلو توقّفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة لم يمكن الاستدلال بالصيغة على الطلب.

أقول : وكأنّ النزاع بين الفريقين صغرويّ مبنيّ على تفسير « الدلالة » بفهم المعنى من اللفظ على الإطلاق كما عليه المعظم ، أو على أنّه مراد المتكلّم كما عليه بعض الأعلام ،

__________________

(١) الأنعام : ٧٢.

(٢) فصّلت : ٤٠.

٣٧

والفرق بينهما كما بين المطلق والمقيّد.

ومنشأ الخلاف في ذلك جعل الانتقال إلى مراد المتكلّم خارجا عن الدلالة ومرتّبا عليها أو داخلا فيها ومقوّما لها.

ولعلّه من أصحاب هذا القول غفلة نشأت عن الخلط بين حكمة الوضع وغايته ، فزعموا أنّ ما ذكروه حكمة للوضع وهو حصول إفادة المعاني واستفادتها من غير تجشّم القرائن هو الّذي أخذوه غاية له في حدّه : « بأنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه » نظرا إلى مدخليّة الإرادة في مقام الإفادة والاستفادة ، من دون تفطّن إلى ما بينهما من التغاير مفهوما ومصداقا وشروطا.

فإنّ الأوّل عبارة عن الحكمة الداعية إلى فتح باب الوضع فلا يعتبر فيها الاطّراد.

والثاني عبارة عن الأثر المترتّب على الوضع فيعتبر فيه الاطّراد ، استحالة تخلّف المعلول عن العلّة.

والثاني ينفكّ عن الأوّل في المشتركات والمجازات بالإضافة إلى معانيها الحقيقيّة ، ولا يشترط في الثاني إلاّ العلم بالوضع ، وفي الأوّل مع ذلك تجرّد اللفظ عن قرينة المجاز وانتفاء الاشتراك أو ثبوته مقترنا بما يوجب تعيين المراد ، فلذا استقرّ بناء المحقّقين في المشتركات عند تجرّدها عن ذلك على حصول الدلالة دون الإفادة والاستفادة.

فما اعتبروه في تفسير الدلالة : « بأنّها فهم المعنى من اللفظ على أنّه مراد للمتكلّم » من القيد إمّا أن يريدوا به ما هو بحسب الظاهر أو ما هو بحسب الواقع.

وعلى الثاني فإمّا أن لا يعتبروا فيه العلم أو يعتبروه.

وبعبارة أخرى : فإمّا أن يجعلوا هذا القيد في الدلالة شرطا علميّا فقط ، أو واقعيّا كذلك ، أو علميّا [ و ] واقعيّا معا ، احتمالات لا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأوّل : فلأنّ الانتقال إلى كون المعنى مرادا للمتكلّم أثر من آثار الدلالة متأخّر عنها في الوجود ، ضرورة أنّ أوّل ما يحصل عند العقل بملاحظة الوضع ـ ولو إجمالا ـ إنّما هو فهم المعنى من حيث هو ، ثمّ ينتقل بضميمة مقدّمة عقليّة إجماليّة يبتنى عليها أصالة الحقيقة إلى كونه مرادا ، فكيف يعقل كونه شرطا لها مقدّما عليها في الوجود ، فإنّ الشرط لا يتأخّر عن المشروط كما أنّ الأثر لا يتقدّم على المؤثّر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الدلالة من الامور القائمة بذهن السامع والإرادة الواقعيّة من الامور

٣٨

القائمة بنفس المتكلّم فلا ربط بينهما ، فكيف يجعل أحدهما شرطا للآخر ، نظرا إلى وجوب كون الشرط ممّا يجامع المشروط في محلّ واحد ، وهو غير ممكن ها هنا لمكان التضادّ بين محلّيهما كما لا يخفى. فينسدّ بذلك باب الإفادة والاستفادة بالمرّة وهو كما ترى.

وأمّا الثالث : فلأنّ العلم بالإرادة الواقعيّة إن كان من دلالة ذلك اللفظ لزم الدور ، إذ الدلالة على هذا التقدير موقوفة على العلم المذكور.

والمفروض أنّه أيضا في اللفظ المجرّد موقوف على الدلالة ، وإن كان من دلالة غيره لزم عراء الوضع واستعمال اللفظ عن الفائدة أو منافاة حكمته ، مضافا إلى لزوم [ الدور ] أو التسلسل إن كان ذلك الغير لفظا والوجه واضح (١).

فإذا تمهّد ذلك عرفت أنّ الحقّ في محلّ الخلاف ما ذهب إليه الأوّلون من عدم افتقار [ دلالة ] الصيغة على الطلب إلى إرادة الطلب ولا إلى العلم بها ، لكفاية الوضع الثابت فيها مع العلم به في حصولها لكونه سببا تامّا ، كما هو الحال في سائر الحقائق ، على أنّ مصادفة الدلالة للإرادة في الواقع غير معتبرة في وضع شيء من الألفاظ حسبما عرفت تفصيله.

ولا يذهب عليك ، أنّ البحث في تلك إنّما كان من فروع المطلب الثاني الّذي وضعناه للبحث عن الصيغة ، أوردناه ها هنا تبعا للقوم حيث أوردوه في مباحث لفظ « الأمر » ولك إجراء هذا النزاع في لفظ « الأمر » من حيث إنّه وضع للطلب بل كلّ ما كان وضعا (٢) له ، وإن كان كلام الأكثرين لا يساعد ذلك حيث إنّ الواقع في عناوينهم إنّما هو الصيغة دون ما يعمّ لفظ « الأمر » أيضا ، إلاّ على احتمال زعم الترادف بينهما كما سبق إلى بعض الأوهام وسيأتي ضعفه ، ومن هنا ترى بعض الأفاضل (٣) بدّل الصيغة في العنوان بلفظ « الأمر ».

[ الأمر ] الثالث

ذكرها العلاّمة في النهاية ، أشهرها ما عن الجبّائيين كما في التهذيب ، ومحقّقي المعتزلة ، والسيّد ـ كما في النهاية ـ من أنّها تصير

__________________

(١) ووجه ذلك يظهر فيما لو قال المتكلّم بعد قوله : « رأيت أسدا » ـ مثلا ـ بأنّى أردت من « الأسد » الحيوان المفترس ، أو يقول : « يفترس » قيدا للأسد ، فإنّ هذا اللفظ أيضا موضوع بازاء معناه والمفروض أنّ دلالته على هذا المعنى موقوفة على العلم بالإرادة في الواقع ونفس الأمر ، فهذا العلم أيضا إن كان من دلالة هذا اللفظ لزم الدور والاّ فالتسلسل أو الدور أيضا وهكذا ( منه عفي عنه ).

(٢) كذا في الأصل.

(٣) هداية المسترشدين ١ : ٥٩٠.

٣٩

أمرا بإرادة المأمور به.

وما عن الأشاعرة كما في النهاية ، والمحقّقين كما في المنية ، من أنّها تصير أمرا بالوضع من دون تأثير لإرادة المأمور به في صيرورتها أمرا ، واختاره العلاّمة في التهذيب والنهاية.

حجّة الأوّلين : أنّ الصيغة قد ترد أمرا وقد ترد غيره كالتهديد والإباحة ولا مخصّص لها إلاّ الإرادة ، كما أنّ في قولنا : « ضرب عيسى موسى » يصير « عيسى » فاعلا و « موسى » مفعولا بقصدنا.

واحتجّ العلاّمة على ما اختاره : بأنّ الصيغة موضوعة لتلك الإرادة ودالّة عليها كغيرها من الألفاظ الموضوعة لمعانيها ، فلا تكون مفيدة لها صفة « الأمريّة » كسائر المسمّيات بالقياس إلى الأسماء.

وفيه : ما لا يخفى من أنّ الصيغة ما لم يكن مرادا منها إرادة المأمور به ولو بحسب ظاهر اللفظ وظهور دلالته عليها فمن أين يحكم بكونها أمرا ، مع كثرة ورودها لغير « الأمر » كما عرفت.

ألا ترى أنّ لفظة « على » ترد فعلا وحرفا وكذلك كلمة « في » ولا سبيل إلى تخصيصهما بالفعليّة أو الحرفيّة إلاّ الإرادة ، ولو كان ثبوتها بحسب ظاهر اللفظ أو معونة القرائن.

وقد يقال : بأنّ مدّعي تأثير الإرادة في كون الصيغة أمرا إن أراد أنّها مؤثرة في وضع الواضع إيّاها بإزاء « الأمر » كان ظاهر الاستحالة ، وإن أراد أنّ الصيغة المجرّدة عن تلك الإرادة ليست أمرا حقيقيّا فهو حقّ ، بل يكون اللافظ حينئذ مستعملا لها في غير موضوعها كاستعماله إيّاها في الخبر وغيره ، ولا يخفى أنّ هذا جيّد.

وقد يعترض على أصل هذا النزاع : بأنّه إمّا لفظيّ أو راجع إلى النزاع المتقدّم في الأمر الأوّل ، لأنّه لو اريد بذلك توقّف كونها أمرا على إرادة الطلب فلا يكون أمرا بدونها ، فهو من الامور الظاهرة ولا مجال لإنكاره ولا يظنّ أحدا يخالف فيه كما هو الشأن في سائر الألفاظ ، لكون الإرادة هي المخصّصة لها بمعانيها حقيقيّة كانت أو مجازيّة ، وإن كان الوضع كافيا في حملها على معانيها الحقيقيّة والحكم بإرادتها من غير حاجة إلى قيام دليل آخر عليها فيعود النزاع إذن لفظيّا. فيحمل كلام الأشاعرة حينئذ على الاكتفاء بظاهر اللفظ.

وإن اريد توقّفه على إرادة المطلوب ، بمعنى أنّ الصيغة إنّما تكون أمرا إذا اريد بها من المأمور إيقاع الفعل دون ما إذا لم يرد ذلك.

٤٠