مستمسك العروة الوثقى - ج ٩

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٥

أحوط ، بل الأحوط مراعاة الاحتياط مطلقا. إذ قد يكون‌

______________________________________________________

على خرص تمام الثمرة ، فيجوز أن يخرص المقدار المتعارف بقاؤه الى أن يصير تمراً ، واستثناء المقدار الذي يتعارف أكله أو إتلافه قبل اليبس. وقد ورد عن النبي (ص) : أنه كان إذا بعث الخارص قال : « خففوا على الناس ، فان المال مال العرية (١) ، والواطية ، والآكلة » (٢).

وثامنة : بأنه لو كانت مقصورة على التمر والزبيب لأدى ذلك إلى ضياع الزكاة ، لأنهم كانوا يحتالون بجعل العنب والرطب دبساً وخلا ، وكانوا يبيعونها كذلك ، وفيه : أن الحيل المذكورة لا تقوى على إفناء التمر مهما كثرت. مع أن في جعلهما كذلك تضييعاً لهما وانقاصاً لماليتهما ، والمقدار الواجب في الزكاة أقل ضرراً مالياً مما ذكر ، فالفرار من الزكاة إلى ذلك فرار من الأخف إلى الأشد ، والأقل ضرراً إلى الأكثر ، كما هو واضح.

وبالجملة : ليس في الوجوه المذكورة دلالة على مذهب المشهور. ومثلها في الاشكال : دعوى : أن الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب يراد منها موادها المقابلة لمواد الحبوب والثمار المغايرة. فإنها خروج عن الظاهر من دون قرينة عليه. مع أن لازمه وجوب الزكاة في ثمر النخل قبل الاحمرار والاصفرار ، فالبناء على ظاهرها متعين.

نعم قد يشكل الحال في العنب ، من جهة ظهور صحيح سليمان المتقدم في أنه موضوع للزكاة ، ومحتمل صحيح سعد الثاني (٣). وكأنه لذلك جعل في المتن المعيار صدق العنب في الزبيب ، كما حكي عن أبي على والمدارك. ولا يخلو من قوة.

__________________

(١) العرية : النخلة يعيرها صاحبها غيره ليأكل ثمرها. « منه قدس‌سره »

(٢) راجع كنز العمال ج ٣ صفحة ٣٠٥ ملحق حديث : ٥٠٩٤.

(٣) تقدم ذكرهما في أوائل هذه التعليقة.

١٤١

القول الثاني أوفق بالاحتياط [١].

( مسألة ٢ ) : وقت تعلق الزكاة وإن كان ما ذكر ، على الخلاف السالف. إلا أن المناط في اعتبار النصاب هو اليابس من المذكورات [٢] ، فلو كان الرطب منها بقدر النصاب ، لكن ينقص عنه بعد الجفاف واليبس فلا زكاة.

( مسألة ٣ ) : في مثل البربن وشبهه من الدقل الذي يؤكل رطباً ، وإذا لم يؤكل إلى أن يجف يقل تمرة ، أو لا يصدق على اليابس منه التمر أيضاً ـ المدار فيه على تقديره يابساً [٣]. وتتعلق به الزكاة إذا كان بقدر يبلغ النصاب بعد جفافه.

( مسألة ٤ ) : إذا أراد المالك التصرف في المذكورات‌

______________________________________________________

[١] كما لو بلغ مالكه بعد بدو الصلاح.

[٢] قال في التذكرة : « النصاب المعتبر ـ وهو خمسة أوسق ـ إنما يعتبر وقت جفاف التمر ، ويبس العنب والغلة. فلو كان الرطب خمسة أوسق ـ أو العنب أو الغلة ـ ولو جفت تمراً أو زبيباً أو حنطة أو شعيراً نقص فلا زكاة إجماعاً .. ». وهذا هو العمدة في عموم الحكم. وإلا فمقتضى الإطلاق اعتبار النصاب بلحاظ موضوع التعلق. فان قيل بالمشهور ـ من التعلق ببدو الصلاح ـ اكتفي ببلوغ النصاب حينئذ. نعم في صحيح سليمان ابن خالد ، وخبر الحلبي : « والعنب مثل ذلك حتى يبلغ خمسة أوساق زبيباً » (١). ومورده خصوص العنب ، فالتعدي إلى غيره محتاج إلى إلغاء خصوصية مورده ، وهو لو لا الإجماع غير ظاهر.

[٣] هذا في محله فيما يصدق على اليابس منه التمر. أما ما لا يصدق‌

__________________

(١) تقدم ذكرهما في المسألة : ١ من هذا الفصل.

١٤٢

ـ بسراً ، أو رطباً ، أو حصرماً ، أو عنباً ـ بما يزيد على المتعارف فيما يحسب من المؤن [١] ، وجب عليه ضمان حصة الفقير [٢]. كما أنه لو أراد الاقتطاف كذلك بتمامها وجب‌

______________________________________________________

عليه اسم التمر أو الزبيب ففي المدارك : « اتجه سقوط الزكاة مطلقاً ». ونحوه في الذخيرة. وفي الجواهر : « إنه جيد ». وكأنه لأن ما دل على اعتبار بلوغه نصاباً إذا صار تمراً يختص بما يكون كذلك لو بقي ، فلا يشمل ما ذكر ، فيقيد به إطلاق دليل وجوب الزكاة.

اللهم إلا أن يقال : لو تمَّ ذلك فإنما يتم في العنب لصحيح سليمان. أما الرطب فلأجل أنه لا دليل فيه على التقدير بحال التمر إلا الإجماع يجب فيه الرجوع إلى عموم وجوب الزكاة ، وما دل على اعتبار بلوغ النصاب ، فيكفي في وجوب الزكاة في الفرض بلوغه النصاب حين بدو الصلاح ، ولا وجه لسقوطها بالمرة. بل الحكم في العنب كذلك ، إذ صحيح سليمان لا يصلح لتقييد أدلة الوجوب بما يكون زبيباً. غاية الأمر أن التقدير فيه بحال الزبيب لا يشمل ما لا يكون زبيباً ، فيبقى إطلاق أدلة الوجوب بحاله شاملا له.

اللهم إلا أن يكون ما ذكرنا إحداث قول ثالث. فتأمل.

[١] حق العبارة أن يقال : فيما لا يحسب من المؤن ، إذ ما يحسب من المؤمن مأذون في التصرف فيه ، وليس عليه ضمانه. ويحتمل : أن يكون قيداً للمتعارف. لكنه بعيد.

[٢] بناء على القول المشهور. أما بناء على القول الآخر فلا ضمان ، وهذا من ثمرات الخلاف. ثمَّ إنه بناء على أنه لا مانع من التصرف فيما زاد على مقدار الزكاة ، فالمراد من الضمان ثبوت مقدار الزكاة في الباقي. ولو بني على عدم جواز التصرف ، فالضمان لا بد أن يكون بمراجعة الولي ، إذ لا دليل على شرعيته للمالك مستقلا ، ويكون حكم التصرف في البعض هو‌

١٤٣

عليه أداء الزكاة حينئذ [١] ، بعد فرض بلوغ يابسها النصاب.

( مسألة ٥ ) : لو كانت الثمرة مخروصة على المالك ، فطلب الساعي من قبل الحاكم الشرعي الزكاة منه قبل اليبس لم يجب عليه القبول [٢] ، بخلاف ما لو بذل المالك الزكاة بسراً أو حصرماً مثلا ، فإنه يجب على الساعي القبول [٣].

( مسألة ٦ ) : وقت الإخراج الذي يجوز للساعي‌

______________________________________________________

حكم التصرف في الكل. فلو لم يراجع الولي بطل تصرفه. ولو أتلفه كان ضامناً للزكاة.

[١] وما دل من الإجماع على جواز الإخراج إلى زمان التصفية أو التسمية غير شامل للفرض.

[٢] لما يأتي : من تأخر وقت الإخراج عما قبل اليبس.

[٣] لأن الدليل الدال على تأخر وقت الإخراج إنما يدل على عدم وجوب المبادرة في الأداء إرفاقاً بالمالك ، لا عدم مشروعية الدفع. وبالجملة : ظاهر الدليل قصر سلطنة الفقير على المطالبة ، لا قصر سلطنة المالك عن تفريغ ماله أو ذمته.

نعم قد يقال باختصاص ذلك بما إذا كان قد اقتطفه. أما لو لم يقتطفه فيشكل بلزوم الضرر على مستحق الزكاة. وفيه : أن مستحق الزكاة إنما يستحق في الحصرم حصرماً وفي البسر بسراً ، فدفع حقه إليه لا ضرر فيه ، وليس يستحق على المالك الإبقاء كي يلزم تفويت الحق. نعم لو كان الدفع في حال لا ينتفع به أشكل الدفع ، لأنه إتلاف لماله. ومن ذلك يظهر : أنه لو أراد المالك دفع الزكاة في الحب قبل الحصاد ، أو الدياس ، أو التصفية لم يجز للساعي الامتناع عن الأخذ. فلاحظ.

١٤٤

مطالبة المالك فيه ، وإذا أخرها عنه ضمن ـ عند تصفية الغلة [١] واجتذاذ التمر ، واقتطاف الزبيب. فوقت وجوب الأداء غير وقت التعلق.

______________________________________________________

[١] بلا خلاف أجده فيه ، كما في الجواهر ، وعن الحدائق : الاتفاق عليه ، وفي المدارك : إجماع الأصحاب عليه. وفي المنتهى : « اتفق العلماء على أنه لا يجب الإخراج في الحبوب إلا بعد التصفية ، وفي التمر إلا بعد التشميس والجفاف .. ». وفي التذكرة : « وأما الإخراج فلا يجب حتى تجذ الثمرة ، وتشمس ، وتجفف ، وتحصد الغلة ، وتصفي من التبن والقشر. بلا خلاف .. ».

ثمَّ إنه قال في الشرائع : « ووقت الإخراج في الغلة إذا صفت ، وفي التمر بعد اخترافه ، وفي الزبيب بعد اقتطافه .. ». وقال في المسالك والمدارك : « في جعل ذلك وقت الإخراج تجوز ، وإنما وقته عند يبس الثمرة وصيرورتها تمراً ، أو زبيباً .. ». وقال في محكي الروضة : « إن وقت الوجوب والإخراج واحد ، وهو وقت التسمية ، بناء على غير المشهور .. ». وهذا بظاهره مناف لما تقدم عن التذكرة والمنتهى.

واحتمل في الجواهر حمل عبارتي التذكرة والمنتهى على أن الاختراف ، والاقتطاف ، والتصفية من شرائط الواجب ـ وهو الإخراج ـ لا من شرائط وجوبه ، فيجب عليه الإخراج بمجرد التسمية ، ولكن بعد التصفية والاختراف والاقتطاف ، فتجب المبادرة إلى الشرط. وهو الذي يقتضيه إطلاق دليل وجوب إيتاء الزكاة من دون مقيد. نعم بناء على المشهور لا بد من الالتزام بتقييده إلى ما بعد وقت التسمية بالإجماع المتقدم. اللهم إلا أن يقال : ظاهر صحيح سعد ـ المتقدم في تعيين زمان التعلق ـ (١) جواز التأخير إلى‌

__________________

(١) لاحظ المسألة : ١ من هذا الفصل.

١٤٥

( مسألة ٧ ) : يجوز للمالك المقاسمة مع الساعي [١] ، مع التراضي بينهما قبل الجذاذ.

( مسألة ٨ ) : يجوز للمالك دفع [٢] الزكاة والثمر على الشجر قبل الجذاذ ، منه ، أو من قيمته.

( مسألة ٩ ) : يجوز دفع القيمة حتى من غير النقدين [٣] من أي جنس كان ، بل يجوز أن تكون من المنافع ، كسكنى الدار مثلا. وتسليمها بتسليم العين إلى الفقير.

( مسألة ١٠ ) : لا تتكرر زكاة الغلات [٤] بتكرر‌

______________________________________________________

زمان الصرم ، فيقيد به إطلاق دليل الإيتاء ، بناء على ظهوره في الفورية ، كما هو كذلك.

هذا في التمر والزبيب. وأما في الحب فالظاهر الاتفاق على اعتبار التصفية. نعم الظاهر انصراف الصحيح إلى زمان الصرم المتعارف ، وكذا التصفية في كلماتهم ، فلا يجوز التأخير عنه.

[١] ذلك مقتضى ولايتهما شرعاً. وتقدم في المسألة الخامسة وجوب القبول على الساعي ، ولا يعتبر رضاه.

[٢] تقدم الكلام فيه في المسألة الخامسة.

[٣] لإطلاق معاقد الإجماعات على جواز دفع القيمة في الغلات والنقدين. وكأنه لذلك قرب في محكي البيان الجواز. لكن في المستند ـ تبعاً لما في الذخيرة ـ قرب المنع ، لفقد الدليل على الصحة. وكأنه للتأمل في ثبوت الإطلاق لمعاقد الإجماع ، أو للتأمل في حجيته. ولا يخلو من وجه ، لو لا ما تقدم من خبر قرب الاسناد. فراجع المسألة الخامسة من فصل زكاة الأنعام.

[٤] إجماعاً حكاه جماعة كثيرة. بل عن المعتبر : دعوى اتفاق العامة‌

١٤٦

السنين إذا بقيت أحوالا ، فاذا زكى الحنطة ، ثمَّ احتكرها سنين لم يجب عليه شي‌ء. وكذا التمر وغيره.

( مسألة ١١ ) : مقدار الزكاة الواجب إخراجه في الغلات ، هو العشر فيما سقي بالماء الجاري [١] ، أو بماء السماء أو بمص عروقه من الأرض ، كالنخل والشجر ، بل الزرع ـ أيضاً ـ في بعض الأمكنة ، ونصف العشر فيما سقي بالدلو ، والرشاء ، والنواضح ، والدوالي ، ونحوها من العلاجات. ولو‌

______________________________________________________

والخاصة ، عدا الحسن البصري. ويشهد له ـ مضافاً إلى موافقته لأصل العدم ـ مصحح زرارة وعبيد ابنه عن أبي عبد الله (ع) : « أيما رجل كان له حرث أو ثمرة فصدقها فليس عليه شي‌ء ، وإن حال عليه الحول عنده. إلا أن يحول مالا ، فان فعل ذلك فحال عليه الحول عنده فعليه أن يزكيه ، وإلا فلا شي‌ء عليه ، وإن ثبت ذلك ألف عام ، إذا كان بعينه. فإنما عليه فيها صدقة العشر ، فإذا أداها مرة واحدة فلا شي‌ء عليه فيها حتى يحوله مالا ، ويحول عليه الحول وهو عنده » (١).

[١] بلا خلاف ، بل عن غير واحد : نفي الخلاف فيه بين المسلمين ويشهد له النصوص الكثيرة ، كصحيح زرارة وبكير عن أبي جعفر (ع) في الزكاة : « ما كان يعالج بالرشا والدوالي والنضح ففيه نصف العشر ، وما كان يسقى من غير علاج ـ بنهر ، أو عين ، أو بعل ، أو سماء ـ ففيه العشر كاملا » (٢). ونحوه غيره. وظاهره كون الضابط أن يكون نفس سقي الزرع بعلاج وبدونه ، فان كان بعلاج ففيه نصف العشر ، وإن كان بدونه ففيه العشر ، وإن توقف على حفر النهر ، أو نبش العين‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب زكاة الغلات حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٤ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٥.

١٤٧

سقي بالأمرين ، فمع صدق الاشتراك في نصفه [١] العشر ، وفي نصفه الآخر نصف العشر. ومع غلبة الصدق لأحد الأمرين فالحكم تابع لما غلب. ولو شك في صدق الاشتراك ، أو غلبة صدق أحدهما ، فيكفي الأقل. والأحوط الأكثر.

( مسألة ١٢ ) : لو كان الزرع أو الشجر لا يحتاج إلى السقي بالدوالي‌

______________________________________________________

أو تنقيتهما. بل عن بعض : ظهور الاتفاق عليه.

[١] إجماعاً ، كما عن جماعة. لحسن معاوية بن شريح عن أبي عبد الله (ع) في حديث : « قلت له : فالأرض تكون عندنا تسقى بالدوالي ، ثمَّ يزيد الماء وتسقى سيحاً. فقال (ع) : إن ذا ليكون عندكم كذلك؟ قلت : نعم. قال (ع) : النصف والنصف ، نصف بنصف العشر ، ونصف بالعشر. فقلت : الأرض تسقى بالدوالي ، ثمَّ يزيد الماء فتسقى السقية والسقيتين سيحاً قال (ع) : وكم تسقى السقية والسقيتين سيحاً؟ قلت : في ثلاثين ليلة أو أربعين ليلة ، وقد مكث قبل ذلك في الأرض ستة أشهر أو سبعة أشهر. قال (ع) : نصف العشر » (١).

ثمَّ إن جعل المعيار في التنصيف وعدمه ما ذكر في المتن ـ من الاشتراك في الصدق وعدمه ـ غير ظاهر ، إذ المستند فيه إن كان إطلاق ما دل على أن ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بالدوالي ففيه نصف العشر ، فمن الواضح أن الإطلاقين المذكورين لا يشملان صورة الاشتراك أصلا ، بل المرجع فيها الأصول المقتضية للبراءة أو الاحتياط ، وإن كان التحقيق الأول وإن كان المستند فيه حسن معاوية المتقدم فهو خال عن الدلالة على ذلك ، فإن إطلاققوله (ع) : « النصف والنصف .. » وإن كان يقتضيه

__________________

(١) الوسائل باب : ٦ من أبواب زكاة الغلات حديث : ١.

١٤٨

______________________________________________________

لكن جوابه الأخير يقتضي خلافه ، لأن السقية والسقيتين في الفرض المذكور في السؤال تقتضي صدق الاشتراك ، وتمنع من صدق الاستقلال للغالب ، ومع ذلك حكم فيه بالنصف ، إذ الذي لا يمنع من صدق الاستقلال هو النادر الذي لا يعتد به في العرف.

ومن هنا كان المعروف ـ بل الذي ادعى عليه الإجماع ـ أنه مع التساوي يلزم النصف للنصف والعشر للنصف ، ومع الغلبة لأحدهما يكون الحكم للغالب. قال في الشرائع : « وان اجتمع فيه الأمران كان الحكم للأكثر. فإن تساويا أخذ من نصفه العشر ، ومن نصفه نصف العشر .. ». وكأنهم حملوا الجواب الأول على صورة التساوي ، والأخير على صورة الغلبة.

هذا والانصاف أن مقتضى الجواب الأول عموم الحكم لجميع صور الاشتراك ، العرفية ، مع التساوي وعدمه ، والخارج منه ليس إلا الصورة المفروضة في السؤال الثاني. وخروجها كما يستفاد من الحسن يستفاد أيضاً مما دل على أن ما سقي بالدوالي فيه نصف العشر ، بعد تنزيله على الخارج المتعارف. إذ لا يتفق مورد يسقى بالدوالي لا يسقى من ماء السماء سقية أو سقيتين إلا نادراً ، وحمل ذلك الإطلاق عليه مما لا يمكن. فيتعين الأخذ بإطلاق صدر الحسن الشامل لصورتي التساوي وعدمه ، وحمل ذيله على صورة عدم الاعتداد بالقليل عرفاً في نسبة السقي إليه ، كما هو المتعارف فيما يسقى بالدوالي ونحوها ، وما يسقى بغير ذلك. فيتم ما ذكره المصنف ، وسبقه إليه في الجواهر ونجاة العباد.

وهل المعيار في الأكثرية والمساواة ـ بناء على كونهما المدار في الحكمين المذكورين ـ الزمان ، أو العدد ، أو النمو؟ أقوال ، نسب الأول إلى جماعة ، منهم العلامة والشهيد في المنتهى والمسالك ، والثاني إلى آخرين ، منهم السيد في المدارك وشيخه في مجمع البرهان ، بل نسب إلى ظاهر‌

١٤٩

السقي بالدوالي ، ومع ذلك سقي بها من غير أن يؤثر في زيادة الثمر ، فالظاهر وجوب العشر [١]. وكذا لو كان سقيه بالدوالي ، وسقي بالنهر ونحوه من غير أن يؤثر فيه ، فالواجب نصف العشر.

( مسألة ١٣ ) : الأمطار العادية في أيام السنة لا تخرج ما يسقى بالدوالي عن حكمه [٢] ، إلا إذا كانت بحيث لا حاجة معها إلى الدوالي أصلا ، أو كانت بحيث توجب صدق الشركة فحينئذ يتبعهما الحكم.

( مسألة ١٤ ) : لو أخرج شخص الماء بالدوالي على أرض مباحة مثلا ـ عبثاً ، أو لغرض ـ فزرعه آخر ، وكان‌

______________________________________________________

الأكثر ، والثالث إلى آخرين ، منهم العلامة في القواعد والتذكرة والشهيد الثاني في حاشية الإرشاد ، وعن حواشي القواعد : إنه الأشهر. وعلله فيما عن التذكرة : « بأنه مقتضى ظاهر النص ». وتنظر فيه في محكي المدارك ، بل ظاهر النص يقتضي الأول ، كما يقتضيه أدنى تأمل في قوله (ع) فيه : « وكم تسقى السقية والسقيتين .. ». ودعوى : كون الزمان ملحوظاً فيه طريقاً إلى العدد ، فيكون دليلا على القول الثاني ، غير ظاهرة ومجرد كون المناط في الاختلاف بالعشر ونصفه هو الكلفة وعدمها ـ لو تمَّ ـ لا يصلح قرينة عليه. مع أن لازمه كون المدار على كثرة الكلفة لا العدد. فلاحظ.

[١] لظهور السقي في خصوص السقي المحتاج إليه الزرع ، فان كان ذلك بالدوالي أو بغيرها جرى عليه حكمه.

[٢] تقدم الكلام في ذلك في المسألة الحادية عشرة.

١٥٠

الزرع يشرب بعروقه ، فالأقوى العشر [١]. وكذا إذا أخرجه هو بنفسه لغرض آخر غير الزرع ، ثمَّ بدا له أن يزرع زرعاً يشرب بعروقه ، بخلاف ما إذا أخرجه لغرض الزرع الكذائي [٢] ومن ذلك يظهر [٣] حكم ما إذا أخرجه لزرع ، فزاد وجرى على أرض أخرى.

( مسألة ١٥ ) : إنما تجب الزكاة بعد إخراج ما يأخذه السلطان باسم المقاسمة [٤] ،

______________________________________________________

[١] كأنه لأجل أن المفهوم من النصوص كون المعيار في العشر ونصفه تكلف السقي للزرع وعدمه. لكنه غير ظاهر بنحو ترفع به اليد عن إطلاق الأدلة. وكأنه لذلك اختار في نجاة العباد نصف العشر ، ومال إليه في محكي كشف الغطاء. وهو الأقرب.

[٢] يعني : فسقي غيره به ، فإنه يجب فيه نصف العشر. هذا والفرق الفارق بين الفرض وما قبله في الحكم غير ظاهر.

[٣] فان حكمه حكم الفرض الأول قولا ودليلا.

[٤] بلا خلاف فيه ولا إشكال. قال في محكي المعتبر : « خراج الأرض يخرج وسطاً ، ويؤدى زكاة ما بقي إذا بلغ نصاباً ، إذا كان لمسلم. وعليه فقهاؤنا وأكثر علماء الإسلام .. ». ونحوه محكي المنتهي ويشهد له جملة من النصوص ، كمصحح أبي بصير ومحمد عن أبي جعفر (ع) أنهما قالا له : « هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال (ع) : كل أرض دفعها إليك السلطان ، فما حرثته فيها فعليك مما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه ، وليس على جميع ما أخرج الله منها العشر : إنما عليك العشر فيما يحصل في يدك ، بعد مقاسمته لك » (١) ، وما في مضمر صفوان‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٧ من أبواب زكاة الغلات حديث : ١.

١٥١

بل ما يأخذه باسم الخراج أيضاً [١] ، بل ما يأخذه العمال‌

______________________________________________________

والبزنطي من قوله (ع) : « وعلى المتقبلين ـ سوى قبالة الأرض ـ العشر ونصف العشر في حصصهم » (١). ونحوهما غيرهما. مضافاً إلى أن حصة السلطان ليست مملوكة للزارع حين تعلق الوجوب ، فلا وجه لوجوب الزكاة عليه فيها ، كما في سائر موارد الاشتراك في الزرع ، إذ ليس على الشريك زكاة حصة شريكه.

نعم لو كانت مستحقة للسلطان بعد تعلق الوجوب كان الحال فيها هو الحال في المؤن التي يأتي إن شاء الله الكلام فيها. ولو كان السلطان قد استولى على الحصة قبل تعلق الوجوب فلا ينبغي الإشكال في عدم وجوب زكاتها على المالك ، لعدم التمكن من التصرف الذي هو شرط في وجوب الزكاة. ولو كان قد استولى عليها بعده ، كان الحال فيها هو الحال فيما لو تلف بعض الحاصل بغير تفريط من المالك ، الذي لا إشكال عندهم في عدم ضمان المالك زكاته.

[١] المصرح به في كلام غير واحد : أن الخراج عند الأصحاب بحكم المقاسمة. قال في محكي جامع المقاصد : « المراد بحصة السلطان خراج الأرض أو قسمتها .. ». وفي محكي الحدائق : « المراد بخراج السلطان وحصته هو ما يؤخذ من الأرض الخراجية من نقد أو حصة من الحاصل ، وإن سمي الأخير مقاسمة .. ». ونحوهما كلام غيرهما. لكن في الاعتماد على ذلك ـ في دعوى كون استثناء الخراج إجماعياً ، كاستثناء المقاسمة ـ تأمل. كيف وفي التذكرة : « تذنيب : لو ضرب الامام على الأرض الخراج من غير حصة ، فالأقرب وجوب الزكاة في الجميع ، لأنه كالدين .. »؟

وأشكل منه ما في الجواهر : من دعوى كونه ظاهر النص والفتوى‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٧ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٢.

١٥٢

______________________________________________________

فان النصوص المتقدمة وغيرها موردها الحصة المختصة بالمقاسمة ، فإلحاق الخراج بالمؤن ـ التي يأتي الخلاف في استثنائها وعدمه ـ أولى. نعم في خبر صفوان والبزنطي قالا : « ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج .. ( إلى أن قال ) (ع) : وعلى المتقبلين ـ سوى قبالة الأرض ـ العشر ونصف العشر في حصصهم » (١) ، بناء على عموم القبالة للحصة وللنقد ، كما هو الظاهر.

إلا أن يقال : استثناء القبالة يقتضي أن تكون من جنس المستثنى منه. وكذا قوله (ع) : « في حصصهم » الظاهر كونه في مقابل حصة السلطان ، وفي السند علي بن أحمد بن أشيم. إلا أن يقال : رواية أحمد ابن محمد بن عيسى عنه تدل على وثاقته. والاستثناء ليس بحيث يوجب تقييد الإطلاق فتأمل.

وكيف كان فالظاهر التسالم على عدم سقوط الزكاة بدفع الخراج. وفي الجواهر : « لا كلام في ذلك » ، وفيما تقدم ـ من محكي المعتبر وغيره ـ الإجماع عليه ، ويشهد له النصوص المتقدمة. لكن في جملة أخرى منها السقوط ، كصحيح رفاعة عن أبي عبد الله (ع) : « عن الرجل يرث الأرض أو يشتريها فيؤدي خراجها إلى السلطان ، هل عليه فيها عشر؟ قال (ع) : لا » (٢) ، وخبر أبي كهمس عنه (ع) : « من أخذ منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه » (٣) ، وخبر سهل بن اليسع ، أنه حيث أنشأ سهل‌آباد ، وسأل أبا الحسن موسى (ع) عما يخرج منها ما عليه. فقال (ع) : « إن كان السلطان يأخذ خراجه فليس عليك شي‌ء ، وإن‌

__________________

(١) لاحظ التعليقة السابقة.

(٢) الوسائل باب : ١٠ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ١٠ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٣.

١٥٣

زائداً على ما قرره السلطان ظلماً [١] ، إذا لم يتمكن من الامتناع جهراً وسراً ، فلا يضمن حينئذ حصة الفقراء من الزائد. ولا فرق في ذلك بين المأخوذ من نفس الغلة أو من غيرها إذا كان الظلم عاماً. وأما إذا كان شخصياً فالأحوط الضمان فيما أخذ من غيرها ، بل الأحوط الضمان فيه مطلقاً وإن كان الظلم عاماً. وأما إذا أخذ من نفس الغلة قهراً فلا ضمان إذ الظلم حينئذ وارد على الفقراء أيضاً.

( مسألة ١٦ ) : الأقوى اعتبار خروج المؤن جميعها [٢]

______________________________________________________

لم يأخذ السلطان منها شيئاً فعليك إخراج عشر ما يكون فيها » (١). والجمع بينها وبين ما سبق ممكن بحمله على الاستحباب. لكن لا مجال للعمل بها بعد حكاية غير واحد الإجماع على خلافها ، فيتعين حملها على التقية ، لأن السقوط مذهب أبي حنيفة. أو طرحها وتأويلها.

[١] قال في محكي المسالك : « لا يستثنى الزائد. إلا أن يأخذه قهراً بحيث لا يتمكن من منعه سراً أو جهراً ، فلا يضمن حصة الفقراء من الزائد .. ». ونحوه ما عن غيره. لكن دخوله في النصوص محل تأمل. وحينئذ فإن أخذ من عين الغلة كان من قبيل غصب العين الزكوية الذي لا ضمان فيه للزكاة ، من دون فرق بين كون الظلم عاماً أو خاصاً. وإن أخذ من غيرها لم يبعد إلحاقه بالمؤمن التي لا فرق أيضاً في استثنائها ـ لو تمَّ ـ بين العموم والخصوص.

[٢] كما نسب إلى الأكثر ، بل عن جماعة : أنه المشهور ، بل في مفتاح الكرامة : « لو ادعى مدع الإجماع لكان في محله ، كما هو ظاهر‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب زكاة الغلات حديث : ١.

١٥٤

______________________________________________________

الغنية ، أو صريحها .. ». واختاره الصدوق في الفقيه والمقنع والهداية ، والمفيد في المقنعة ، والشيخ في المبسوط في صدر المسألة ، وحكي عن السيدين في الجمل والغنية ، والفاضلين ، والشهيد في أكثر كتبه ، والأردبيلي. نعم في المبسوط في آخر المسألة قال : « وكل مئونة تلحق الغلات إلى وقت إخراج الزكاة على رب المال دون المساكين .. ». ولعل غرضه لزوم الدفع على المالك ، وإن كان له استثناؤها من الزكاة ، لئلا يناقض ما تقدم في صدر المسألة ، مما هو صريح في الاستثناء.

واستدل للمشهور تارة : بالأصل ، الذي لا مجال لجريانه مع وجود إطلاقات العشر ونصفه ، النافية لاستثناء المؤن.

وأخرى : بقاعدة نفي الضرر ، التي لا مجال لها أيضاً ، بعد كون وجوب إخراج الزكاة ضررياً في نفسه ، فيؤخذ بإطلاق دليله ، ويكون مخصصاً لدليل القاعدة.

وثالثة : بدليل نفي العسر والحرج. وفيه : منع ذلك كلية. ولو ثبت في مورد اتفاقاً بني على سقوط الوجوب حينئذ ، لكن لا يلازم سقوط حق الزكاة ، كما في سائر موارد الحقوق المالية.

ورابعة : بنصوص استثناء حصة السلطان. وفيه : أنك قد عرفت اختصاص تلك النصوص بالحصة التي هي ملك للسلطان ، فلا ترتبط بما نحن فيه. ولو سلم عمومها لكل ما يأخذه السلطان فلا مجال لقياس المقام بها.

وخامسة : بقوله تعالى : ( خُذِ الْعَفْوَ ... ) (١) ، وقوله تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ... ) (٢) ، والعفو هو الزائد على المؤنة. وفيه : أن موضوع الكلام مئونة الزرع لا مئونة المالك. مع أن ظاهر‌

__________________

(١) الأعراف : ١٩٨.

(٢) البقرة : ٢١٩.

١٥٥

______________________________________________________

الآية أخذ تمام الزائد لا عشره أو نصفه ، فلا تكون الآية مما نحن فيه. فتأمل.

وسادسة : بما في بعض نسخ الفقه الرضوي : « وليس في الحنطة والشعير شي‌ء إلى أن يبلغ خمسة أوسق .. ( إلى أن قال ) : فاذا بلغ ذلك وحصل بغير [ بقدر ] خراج السلطان ، ومعونة العمارة والقرية أخرج منه العشر .. » (١). وفيه : أن الفقه المذكور لم تثبت حجيته ، ولا هو مجبور بعمل واعتماد ، ومجرد الموافقة لفتوى المشهور غير جابر. مع أن المراد من مئونة العمارة والقرية لا يخلو من إشكال.

وسابعة : بما في مصحح الفضلاء من قول أبي جعفر (ع) : « ويترك للخارص [ الحارث خ ل ] (٢) أجزأ معلوماً ، ويترك من النخل معافارة (٣) وأم جعرور ، ويترك للحارس ـ يكون في الحائط ـ العذق والعذقان والثلاثة لحفظه إياه » (٤) ، وما في مصحح ابن مسلم من قول أبي عبد الله (ع) : « يترك للحارس العذق والعذقان. والحارس يكون في النخل ينظره ، فيترك ذلك لعياله » (٥). وفيه : أنه لا يظهر من الرواية كون المتروك للحارس من باب الأجرة التي عينها له المالك. بل من الجائز أن يكون ذلك حقاً استحبابياً أو وجوبياً له غير أجرته. وإلا لقال (ع) : ويترك للمالك‌

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ٦ من أبواب زكاة الغلات حديث : ١.

(٢) كذا في نسخة المؤلف ( قده ) الخطية. لكن الموجود في الطبعة الجديدة من الوسائل عن الكليني ( قده ) : « لا يترك للحارس أجراً معلوماً ». وفي التهذيب ( طبع النجف الأشرف ج : ٤ صفحة : ١٠٦ ) : « يترك للحارس .. ». وفي الكافي ( طبع إيران الجديد. ج : ٣ صفحة : ٥٦٥ ) : « يعطى للحارس .. ».

(٣) مركب إضافي. قال في القاموس : « معى الفار : تمر ردي‌ء. » ويسمى مصران الفارة ( منه قدس‌سره )

(٤) الوسائل باب : ٨ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٤.

(٥) الوسائل باب : ٨ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٣.

١٥٦

______________________________________________________

المقدار المساوي لما عينه للحارس ، قليلا كان أو كثيراً ، من عين الغلة أو من غيرها ، كما لا يخفى. ولذلك رواه الكليني في الكافي في باب حق الحصاد والجذاذ. ومن ذلك قد يظهر : أن التعرض في النصوص لترك معافارة وأم جعرور ، وما يدفع للحارس ، وعدم التعرض لغير ذلك ـ ومنه المؤن اللازمة غالباً ـ ظاهر في عدم استثنائها. إلا أن يقال : النصوص المذكورة إنما وردت لبيان أحكام الخرص وما يتعلق به ، لا لبيان الزكاة وما يتعلق بها ، والمؤن من الثاني.

وثامنة : بأنه مقتضى قاعدة الشركة ، فإن احتساب المؤن المتأخرة عن زمان الوجوب على خصوص المالك محتاج إلى دليل ، وهو مفقود. ويثبت الحكم بالمؤن المتقدمة عليه بعدم القول بالفصل ، كما ادعي. وفيه : أن عدم القول بالفصل غير كاف في الإلحاق ، ما لم يثبت القول بعدم الفصل. مضافاً إلى إمكان دعوى : أن توجيه الخطاب بإيتاء الزكاة إلى المالك ظاهر في كون المؤمن عليه ، لتوقف الإيتاء الواجب عليها ، فيكون ذلك دليلا على وجوب المؤن المذكورة على المالك. فتأمل. وربما يستدل بأمور أخر ظاهرة الاشكال لا حاجة إلى ذكرها وذكر الاشكال عليها.

وبالجملة : لا يتحصل لنا وجه لرفع اليد عن الإطلاقات. والمناقشة فيها : بعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة ـ لو تمت في بعضها ـ فغير مطردة في الجميع ، لاشتمال بعضها على ذكر أمور ليست لها الأهمية ، كما يكون لاستثناء المؤن. فلاحظ نصوص ذلك الباب. لا أقل من مصحح أبي بصير ومحمد بن مسلم المتقدم في استثناء المقاسمة.

هذا وكأنه لذلك ذهب الشيخ في المبسوط والخلاف الى عدم الاستثناء وكذا ابن سعيد في الجامع ، والشهيد الثاني في فوائد القواعد. وفي المدارك والذخيرة والمفاتيح والحدائق وغيرها ، اختياره. على ما حكي عن بعضها.

١٥٧

______________________________________________________

وقد يستدل عليه بخبر محمد بن علي بن شجاع النيسابوري أنه سأل أبا الحسن الثالث (ع) : « عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كر ما يزكى ، فأخذ منه العشر عشرة أكرار ، وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كراً ، وبقي في يده ستون كراً ، ما الذي يجب لك من ذلك ، وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي‌ء؟ فوقع (ع) : لي منه الخمس مما يفضل من مئونته » (١). بتقريب : أن تقرير الامام (ع) له على اعتقاده بأن الزكاة عشرة أكرار لا سبعة دليل على عدم الاستثناء. وفيه ـ مع أن الخبر ضعيف السند من دون جابر ـ : أنك عرفت الإشكال في كون ما يصرف في عمارة الضيعة من المؤن ، وأنه لا يظهر من الحديث اعتقاد السائل ذلك لاحتمال قراءة ( أخذ ) مبنياً للمفعول ، فيكون ذلك من معتقدات الآخذ ولعله حينئذ يكون ظاهراً في الأخذ قهراً ، وعدم الردع حينئذ يكون لعدم الفائدة فيه. اللهم إلا أن يقال : إنه لا يوافق ما دل على عدم الاجتزاء بالدفع إلى الظالم. لكن سيأتي : أن الظاهر الاجتزاء به. وربما يستدل له أيضاً بأمور أخر لا تستأهل ذكراً ولا رداً.

نعم هنا شي‌ء ، وهو أن الصدوق في المقنع قال : « ليس على الحنطة والشعير شي‌ء حتى يبلغ خمسة أوساق. والوسق ستون صاعاً. والصاع أربعة أمداد. والمد مائتان واثنان وتسعون درهماً ونصف ، فاذا بلغ ذلك وحصل ـ بعد خراج السلطان ، ومئونة القرية ـ أخرج منه العشر إن كان سقي بماء المطر وكان سيحاً ، وإن سقي بالدلاء والقرب ففيه نصف العشر .. » (٢) وفي الهداية قال : « اعلم أنه ليس على الحنطة .. » (٣) وفي الفقيه‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥ من أبواب زكاة الغلات حديث : ٢.

(٢) المقنع الباب الأول من أبواب الزكاة صفحة : ١٣.

(٣) الهداية الباب الثاني من أبواب الزكاة صفحة : ٩.

١٥٨

من غير فرق بين المؤن السابقة على زمان التعلق واللاحقة. كما أن الأقوى اعتبار النصاب أيضاً بعد خروجها [١]. وإن كان‌

______________________________________________________

ـ بعد أن روى رواية عبد الله بن عجلان الآتية الواردة في ترجيح بعض المستحقين على بعض : قال (ع) : « أعطهم على الهجرة في الدين والفقه والعقل » ـ (١) قال رحمه‌الله : « وليس على الحنطة .. » (٢). والمظنون قوياً : أن اقتصاره على العبارة المذكورة يدل على أنها متن رواية. ولا سيما بملاحظة ما ذكره في صدر الفقيه والمقنع : من أن ما يذكره فيهما مما يرويه عن الأئمة (ع). بل قد يتوهم من الفقيه : أن العبارة المذكورة ذيل رواية عبد الله بن عجلان. لكنه بعيد بملاحظة عدم تناسب العبارة مع متن الرواية نعم اتحاد المتن المذكور في الكتب الثلاثة يستوجب الاطمئنان بأنه متن رواية ولا سيما بملاحظة التعبير بمؤنة القرية ، فإنها ليست في عبارات الفقهاء. لكن في حجية مثل هذا الاطمئنان تأمل ، أو منع.

والمتحصل مما ذكرنا كله : أن الأقرب عدم استثناء المؤن السابقة. وأما المؤن اللاحقة فاستثناؤها لا يخلو من إشكال أشرنا اليه. ولا سيما بناء على أن تعلق الزكاة بالعين تعلق الحق بموضوعه ، لا من قبيل الجزء المشاع ولا من قبيل الكلي في المعين. إذ المؤنة إنما تكون على ملك المالك لا الزكاة اللهم إلا أن يقال : لما كانت العين موضوعاً للحق كانت مئونتها مئونته ، لأن حفظه بحفظها. فلاحظ.

[١] كما نسب إلى الفقيه والمقنع والمقنعة والنهاية والمبسوط والسرائر والمنتهى ونهاية الأحكام والتحرير وغيرها ، بل نسب إلى المشهور. وعن التذكرة : « الأقرب أن المؤنة لا تؤثر في نقصان النصاب وإن أثرت في‌

__________________

(١) تأتي الرواية في المسألة الثالثة من فصل في بقية أحكام الزكاة.

(٢) الفقيه ج ٢ صفحة ١٨ طبع النجف الأشرف.

١٥٩

الأحوط اعتباره قبله ، بل الأحوط عدم إخراج المؤن ، خصوصاً اللاحقة [١]. والمراد بالمؤنة كلما يحتاج إليه الزرع والشجر ،

______________________________________________________

نقصان الفرض .. ». وعن المدارك والذخيرة. موافقته ، وعن فوائد الشرائع وجامع المقاصد وإيضاح النافع والميسية والمسالك والروضة : أن المؤن اللاحقة تستثنى بعد النصاب ، والسابقة قبله.

ولأجل أنه لم يتحصل عندنا دليل على استثناء المؤن يشكل البناء على أحد الأقوال. والأدلة المتقدمة يختلف مقتضاها. فالأصل ، وأدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، والرضوي ، وما دل على أنه يترك للحارس العذق والعذقان والثلاثة تقتضي استثناءها قبل النصاب. وقاعدة الشركة ـ بضميمة عدم القول بالفصل ـ تقتضي استثناءها بعد النصاب. وكذا قوله تعالى : ( خُذِ الْعَفْوَ ... ) ونحوه ، لو تمَّ كون المراد منه الزائد على مئونة الغلة لا مئونة المالك. ولو فرض إجمال دليل الاستثناء ، فلأجل أنه يدور الأمر بين تقييد بلوغ الخمسة أوسق بما كان بعد المؤنة ، وتقييد قولهم (ع) : « ففيه العشر » بما كان بعد المؤنة ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، يسقط الإطلاقان معاً عن الحجية ، وتكون النتيجة كما لو قيد الإطلاق الأول. فإذا بلغ خمسة أوسق مع المؤنة ، وبدونها بلغ أربعة لم يجب عليه شي‌ء.

اللهم إلا أن يقال : الإطلاق الثاني يترتب على الإطلاق الأول ، لأنه من قبيل إطلاق الحكم ، والأول من قبيل إطلاق الموضوع ، فاذا سقط إطلاق الموضوع عن الحجية لم يبق لإطلاق الحكم مجال. وحينئذ فإذا دار الأمر بين تقييد الإطلاق الأول والإطلاق الثاني فقد علم بعدم حجية الإطلاق الثاني ، إما للتخصيص ، أو للتخصص ، فأصالة الإطلاق الأول بلا معارض وتكون النتيجة كما لو علم تقييد الإطلاق الثاني بعينه. هذا كله بناء على إجمال الخاص. لكنه فرض غير حاصل ، لما عرفت من مستند الاستثناء.

[١] كان المتعين أن يقول بدله : « خصوصاً السابقة » ، لا مكان‌

١٦٠