مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

١
٢

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا ونبيا خاتم المرسلين محمد وآله الطاهرين.

وبعد فان جميع الاوساط العلمية لتعرف حقا مايتمتع به الكتاب الشهير « مستمسك العروة الوثقى » تاليف آية الله العظمى وامرجع الديني الاعلى الذي انتهت اليه رثاسة الشيعة الامامية في هذا العصر السيد المحسن الطباطبائي الحكيم [ مد الله ظله على روؤس المسلمين ] من سمو المعنى وحسن السمعة وبعد الصيت ذلك لانه اول كتاب من نوعه ظهر للملأ العلمي واول شرح الكتاب « العروة الوثقى » برز للاوساط وهو يحمل بين فقد كان محور الدراسات الفقهية من ذي قبل هو كتاب « شرايع الاسلام » للمحقق [قدس الله سره ] ويتلوه كتاب تبصرة المتعلمين للعلامة عليه ، وكل ماجاء بعد هذا الشرح « العروة الوثقى » فقد وجد طريقا معبدا فسار عليه بسهولة ويسر ، واصبحت مطالبه ونظرياته موضع عناية الدارسين والمدرسين ونقاشهم وقبولهم وردهم.

وقد طبع للمرة الثانية بشكل امتازت به على الطبعة الاولى من نواح شتى أبرزها تيسر تطبيق الشرح مع الاصل بقضل الارقام الموضوعة على

٣

كل منهما ولم يمض من لزمن الاقليل نسبيا حتى نفدت نسخه واصبح الطلب متكررا والحاجة اليه ملحة فلم يسع الناشر الا أن يتقدم للملأ العلمي باخراج الجزء الاول منه في طبعة ثالثة ممتاز على سابقتها بمزيد العناية في تحقيقه وتدقيقه وتخريج أحاديثه والدلالة على مظانها من مصادرها ونحو ذلك من الجهود التي بذلها صاحب الفضيلة البحاثة العلامة الجليل السيد مرتضى الخلخالي النجفي دام فضله وعلى الله أجره والحمدلله رب العالمين.

هـ / رمضان / ١٣٨٤

الناشر

محمد كاظم االحكيم

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ‌

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خير خلقه وآله الطاهرين. وبعد فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربه محمد كاظم الطباطبائي : هذه جملة مسائل مما تعم به البلوى وعليها الفتوى ، جمعت شتاتها وأحصيت متفرقاتها عسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنون ، وتكون ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. والله ولي التوفيق.

______________________________________________________

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين. والصلاة والسلام على أشرف النبيين وخاتم المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد فيقول العبد الفقير الى الله الغني « محسن » خلف العلامة المرحوم السيد « مهدي » الطباطبائي الحكيم : قد يكون من دواعي الخير وأسباب التوفيق أن يجتمع لدي فريق من أرباب العلم والفضل ، ويرغبوا إلى رغبة ملحة في تدريس علم الفقه الشريف على أن يكون محور البحث والنظر كتاب [ العروة الوثقى ] تأليف سيدنا الأعظم فخر الفقهاء المحققين المرحوم المبرور السيد محمد كاظم الطباطبائي ، أعلى الله مقامه ، فنزلت عند رغبتهم متوكلا على الله تعالى ومستمداً منه المعونة والتسديد. وكنت في أثناء ذلك أدون ما ألقيه إليهم كشرح للكتاب المذكور بشكل موجز. آملا منه ـ جل شأنه ـ أن يكون وافياً بمداركه كافياً في تعرف أحكامه ، فأكون قد أديت وظيفة جُلي في خدمة هذا العلم الجليل.

٥

[ مسألة ١ ] : يجب على كل مكلف [١] في عباداته ومعاملاته [٢] أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطا [٣].

[ مسألة ٢ ] : الأقوى جواز العمل بالاحتياط [٤]

______________________________________________________

وإني لأرجو منه تعالى ببركة من أنا في جوار حرمه ، وأستجير في كثير من الأحيان بذمته ـ صلوات الله عليه ـ أن يتقبله بقبول حسن ، ويثبته في ديوان الحسنات ، ليكون ذخراً لي يوم ألقاه ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) إنه ولي التوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[١] الوجوب التخييري المذكور من قبيل وجوب الإطاعة ، فطري بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل ، حيث أن في ترك جميع الابدال احتمال الضرر. وعقلي بمناط وجوب شكر المنعم. ولأجل ذلك اختص بصورة احتمال التكليف المنجز ، فمع الغفلة عن التكليف ، أو احتمال التكليف غير الإلزامي ، أو الإلزامي غير المنجز ، لم يجب شي‌ء من ذلك ، لعدم احتمال الضرر في تركها ، ولا هو مما ينافي الشكر الواجب.

[٢] بل في جميع أفعاله وتروكه ـ كما سيأتي ذلك منه رحمه‌الله ـ لوجود المناطين المذكورين في الجميع.

[٣] يعني : يجب أن يعمل على طبق الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط.

أما الاكتفاء بالأولين فلاقتضاء كل منهما العلم بأداء الوظيفة شرعية أو عقلية الموجب للأمن من العقاب ، أو من حصول ما ينافي الشكر ، وان احتمل مخالفته للواقع. وأما الاكتفاء بالأخير فلأنه يوجب القطع بأداء الواقع الموجب للأمن مما ذكر أيضاً. وأما عدم الاكتفاء بغيرها كالظن مثلا فلعدم اقتضاء العمل المطابق له للأمن لاحتمال مخالفته للواقع.

[٤] خلافاً لما عن المشهور ، من بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد‌

٦

مجتهداً أو لا. لكن يجب أن يكون عارفا بكيفية الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد [١].

[ مسألة ٣ ] : قد يكون الاحتياط في الفعل ، كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته ، وقد يكون في الترك ، كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ،

______________________________________________________

والتقليد معاً ، بل لعل ظاهر المحكي عن السيد المرتضى وأخيه الرضي ـ قدس‌سرهما ـ دعوى الاتفاق عليه. لكنه لا دليل عليه بعد ما عرفت من أن العمل الموافق للاحتياط موجب للعلم بمطابقة الواقع. وأما أدلة وجوب التعلم فتأبى الحمل على الوجوب النفسي ، والوجوب الغيري ممتنع ، لعدم المقدمية بين العلم والعمل ، فالمراد منها الوجوب الإرشادي ، والمقصود منه عدم عذرية الجهل في مخالفة الواقع قبل التعلم ، كما هو أيضاً ظاهر وجوب التبين في آية النبإ (١). والإجماع المدعى على المنع غير واضح الحجية. كما أن اعتبار الإطاعة في صحة العبادة لا يقتضي ذلك » لتحقق الإطاعة عند العقلاء بنفس الفعل الصادر عن داعي الأمر ولو كان محتملا ، والتمييز مما لا يعتبر عندهم فيها قطعاً. واحتمال دخله في حصول الغرض ـ مع أنه قد يندفع بالإطلاقات المقامية ـ لا يصلح علة لوجوب الاحتياط في نظر العقل ، كاحتمال اعتبار شي‌ء جزءاً أو شرطاً في المأمور به ، كما هو موضح في محله من الأصول.

[١] هذا شرط للاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل ، بل لعل عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط ، فلا يحصل الأمن.

__________________

(١) وهي قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) الحجرات : ٤٩.

٧

وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار [١] كما إذا لم يعلم أن وظيفته القصر أو التمام.

[ مسألة ٤ ] : الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار [٢] وأمكن الاجتهاد أو التقليد.

______________________________________________________

[١] الأولى إسقاط هذا القيد ، إذ التكرار هنا عين الجمع بين الأمرين كالقصر والتمام ، فيغني ذكره عن ذكره. وتسميته تكراراً بلحاظ مفهوم الصلاة وإلا فمع الاختلاف في الكيفية لا تكرار حقيقة. والاحتياط بفعل محتمل الجزئية أو الشرطية وترك محتمل المانعية داخل في أحد الأولين. بل الجمع يمكن أن يكون داخلا في الأول. فتأمل.

[٢] وعن جماعة منعه ، بل هو الذي أصر عليه بعض الأعاظم [ دام ظله ] (١).

وقد يستدل له [ أولا ] : بأن فيه فوات نية الأمر ، لأن الفعل حينئذ يكون بداعي احتمال الأمر ، لا بداعي الأمر. [ وثانياً ] : بأنه لعب أو عبث بأمر المولى.

وكلا الأمرين ممنوعان. أما الأول : فلأن فعل كل واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب. والاحتمال دخيل في داعوية الأمر ، لا أنه الداعي إليه ، والا كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء على كون الفعل ناشئاً عن داعي العلم بالأمر لا عن داعي نفس الأمر ، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر. [ وبالجملة ] : العلم في فرض العلم التفصيلي والاحتمال في فرض عدمه دخيلان في داعوية الأمر إلى الفعل ، لا أنهما داعيان اليه. ومن ذلك تعرف أن مرجع الشك في المقام إلى الشك في اعتبار العلم بالأمر في تحقق الإطاعة ، فيكون من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر‌

__________________

(١) الشيخ ميرزا محمد حسين النائيني.

٨

[ مسألة ٥ ] : في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً [١] ، لأن المسألة خلافية.

______________________________________________________

لا من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير. نعم يتم ذلك بناء على أن الباعث على العمل الاحتمال لتباين نحوي الامتثال ، إذ في أحدهما يكون الباعث الأمر ، وفي الآخر الاحتمال ، فالشك في اعتبار الامتثال التفصيلي يكون من التردد بين التعيين والتخيير.

وأما الثاني : فلأنه قد يكون في الفحص بالاجتهاد أو التقليد من العناء والمشقة ما لا يكون بالاحتياط ـ مع أنه لو سلم ، فكونه عبثاً بأمر المولى ممنوع ، إذ الإتيان بالفعل المتكرر ـ بعد ما كان عن محض الأمر ـ موجب لكونه أبلغ في الإطاعة ، وأظهر في استشعار العبودية من الفعل بدون التكرار. غاية الأمر أنه عبث في كيفية الإطاعة ، وهو مما لا يقدح في حصولها ، كيف وهو متأخر عنها رتبة؟!

[١] لا ريب في أن الاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل إنما هو لكونه موجباً للعلم بأداء الواقع المؤدي إلى الأمن من تبعة مخالفته. فإذا أدرك عقل المكلف ذلك كان مجتهداً في مسألة جواز الاحتياط حينئذ ولزم الاكتفاء به ، وإلا امتنع الاكتفاء به. إلا أن يدرك عقله حجية رأي الغير ، فيفتي له بجواز الاحتياط ، فيكتفي به أيضاً. وكون المسألة وفاقية أو خلافية لا يصلح علة للاكتفاء به وعدمه. بل الاكتفاء به دائر مدار إدراك عقله لذلك ، كما عرفت. مع أن كون المسألة خلافية لا يختص بجواز الاحتياط ، فإن مسألة جواز التقليد أيضاً خلافية ، إذ المحكي عن علماء حلب وغيرهم وجوب الاجتهاد عيناً ، فاختصاص الاحتياط بذلك غير ظاهر. وسيأتي أنه لا بد للعامي من أن يكون مجتهداً في جواز التقليد.

٩

[ مسألة ٦ ] : في الضروريات لا حاجة إلى التقليد [١] كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما. وكذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين. وفي غيرهما يجب التقليد [٢] إن لم يكن مجتهداً إذا لم يمكن الاحتياط ، وإن أمكن تخير بينه وبين التقليد.

[ مسألة ٧ ] : عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل [٢].

______________________________________________________

[١] لوضوح أن وجوب العمل شرعاً برأي الغير حكم ظاهري كوجوب العمل بسائر الحجج ، ومن المعلوم أن الحكم الظاهري يختص جعله بحال الشك ، فيمتنع جعل حجية رأي الغير مع العلم بالواقع ، كما في الضروريات واليقينيات.

[٢] على المعروف. لما دل على حجية رأي المجتهد لغيره ، من الكتاب والسنة وبناء العقلاء ، والسيرة القطعية في زمان المعصومين (ع) ـ كما هو محرر في محله من الأصول ـ من غير فرق في دلالتها عليه بين إمكان الاحتياط وتعذره. وخلاف بعضهم في ذلك ضعيف ، وبذلك يظهر التخيير بينه وبين الاحتياط مع إمكانه.

[٣] بمعنى عدم الاكتفاء به في نظر العقل في حصول الأمن من العقاب لاحتمال عدم مطابقته للواقع. فلو علم بعد العمل بصحته واقعاً ، أو ظاهراً لمطابقته لرأيه أو رأي من يجب عليه تقليده حال النظر ، اكتفى به في نظر العقل حينئذ. أما في الأول فواضح. وأما في الثاني فلحصول الأمن من تبعة مخالفته على تقديرها من جهة مطابقته للحجة. وسيأتي لذلك تتمة في كلام المصنف [ ره ] (١). ولو انكشف مطابقته لرأي من يجب عليه تقليده حال العمل مع مخالفته لرأي من يجب عليه تقليده حال النظر ، ففي الاكتفاء به وعدمه وجهان ، أقواهما الثاني. وليس الحكم فيه حكم ما لو قلد‌

__________________

(١) راجع المسألة : ١٦ من هذا الفصل.

١٠

[ مسألة ٨ ] : التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين [١] ، وان لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ فتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقق التقليد.

______________________________________________________

مجتهداً ثمَّ عدل عنه إلى غيره ـ لموت أو نحوه مما يسوغ العدول ـ فكان رأي من قلده ثانياً مخالفاً لرأي من قلده أولا. للفرق بين المسألتين بحصول التقليد في الثانية دون الأولى ، وربما كان فارقاً في الحكم. وسيأتي التعرض لذلك إن شاء الله تعالى (١).

[١] قد اختلفت كلماتهم في تعريف التقليد. ففي بعضها : « أنه الأخذ بقول الغير من غير حجة » ، وفي آخر : « أنه العمل بقول الغير ... » ‌وفي ثالث : « أنه قبول قول الغير ... ». لكن هذا الاختلاف وإن كان ـ لأول نظرة ـ ظاهراً في الاختلاف في معنى التقليد ومفهومه ، إلا أن عدم تعرضهم للخلاف في ذلك مع تعرضهم لكثير من الجهات غير المهمة يدل على كون مراد الجميع واحداً ، وأن اختلافهم بمحض التعبير. وظاهر القوانين أن مراد الجميع العمل ، حيث نسب تعريفه بالعمل بقول الغير ... إلى العضدي وغيره ، مع أن تعريف العضدي كان بالأخذ. وظاهر الفصول أن المراد الالتزام حيث قال : « واعلم أنه لا يعتبر في ثبوت التقليد وقوع العمل بمقتضاه. لأن العمل مسبوق بالعلم ، فلا يكون سابقاً عليه. ولئلا يلزم الدور في العبادات ، من حيث أن وقوعها يتوقف على قصد القربة ، وهو يتوقف على العلم بكونها عبادة ، فلو توقف العلم بكونها عبادة على وقوعها كان دوراً ... [ إلى أن قال ] : وقول العلامة [ ره ] في النهاية : بأن التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة معلومة ، بيان لمعناه اللغوي ـ كما يظهر من ذيل كلامه ـ وإطلاقه على هذا شائع في العرف العام ».

__________________

(١) في المسألة : ٥٣ من هذا الفصل.

١١

______________________________________________________

وظاهره تسليم كون التقليد لغة هو العمل إلا أنه يجب حمله اصطلاحاً على مجرد الالتزام فراراً عن الإشكالين المذكورين في عبارته. لكن يدفعهما أن دليل حجية الفتوى يقتضي كونها بمنزلة العلم وهي سابقة على العمل ، وكافية في حصول نية القربة. [ ودعوى ] : أن حجية الفتوى مشروطة بالالتزام بالعمل ، كما يظهر منه [ قده ] في شرح قولهم ـ في تعريف التقليد ـ : من غير حجة [ يدفعها ] : أنها خلاف ظاهر أدلة الحجية ، بل خلاف المقطوع به من بعضها ، كما لا يخفى. هذا مضافاً إلى النظر والاشكال في مقدمات الإشكالين المذكورين ، كما يظهر ذلك بالتأمل.

وأما التعبير بالأخذ في كلام الجماعة ـ كما سبق ـ فالظاهر أن المراد منه العمل ، كما في كثير من المقامات ، مثل الأخذ بما وافق الكتاب‌ ، والأخذ بما خالف العامة ، والأخذ بقول أعدلهما‌ ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات‌ .... إلى غير ذلك مما هو كثير. ولعله المراد أيضاً من القبول المذكور في كلام بعضهم. مع أن عدم إرادته منه لا يهم بعد ما عرفت من كون مقتضى الأدلة جواز العمل بالفتوى بلا توسيط الالتزام ، فلا يكون دخيلا في حصول الأمن من الضرر ، ولا واجباً تخييرياً بالوجوب الفطري والعقلي المتقدمين آنفاً.

فالمتحصل إذاً : أن التقليد عبارة عن العمل اعتماداً على رأى الغير ، وهو المناسب جداً لمعناه اللغوي ـ كما تقدم من الفصول ـ ويعبر عنه في العرفيات بقوله : إني أعمل كذا ويكون ذلك في رقبتك ـ مخاطباً من يشير عليه بالفعل ـ والالتزام أجنبي عنه.

هذا كله مع اتحاد المجتهد ، أما مع تعدده : فاما أن يتفقوا في الفتوى أو يختلفوا فيها. فان اتفقوا فالظاهر أنه لا دليل على تعيين واحد منهم ، فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم. وأدلة حجية الفتوى ـ كأدلة‌

١٢

______________________________________________________

حجية الخبر ـ إنما تدل على حجية الفتوى بنحو صرف الوجود الصادق على القليل والكثير ، فكما أنه لو تعدد الخبر الدال على حكم معين يكون الجميع حجة على ذلك الحكم كما يكون البعض كذلك ولا تختص الحجية بواحد منها معين أو مردد ، كذلك لو تعددت الفتوى. ويشير إلى ذلك آيتا النفر (١) والسؤال (٢) ـ بناء على ظهورهما في التقليد ـ ورواية ابن مهزيار الواردة في حكم الإتمام بمكة‌ (٣) ، ورواية صاحب السابري الواردة في من أوصى أن يحج عنه بمال لا يفي بالحج‌ (٤) ، وخبر حمران بن أعين‌ ، ومرفوع إبراهيم بن هاشم‌ الواردان في أكثر النفاس (٥) ، وغير ذلك.

ومنه يظهر ضعف أخذ التعيين للمجتهد في مفهوم التقليد. إلا أن يكون المراد به ما يقابل الترديد ، فإنه حينئذ لا بأس به ، إذ الفرد المردد ليس له خارجية كي يصلح أن يكون موضوعاً للحجية أو غيرها من الأحكام.

وإن اختلف المجتهدون في الفتوى ، فلما امتنع أن يكون الجميع حجة للتكاذب الموجب للتناقض ، ولا واحد معين ، لأنه بلا مرجح ، ولا التساقط والرجوع إلى غير الفتوى ، لأنه خلاف الإجماع والسيرة ، تعين أن يكون الحجة هو ما يختاره ، فيجب عليه الاختيار مقدمة لتحصيل الحجة ، وليس‌

__________________

(١) وهي قوله تعالى ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة : ١٢٢.

(٢) وهي قوله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٣) الوسائل باب : ٢٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ٤.

(٤) الوسائل باب : ٣٧ من كتاب الوصايا حديث : ٢ وسيأتي ذكر الرواية مفصلا في الجزء العاشر في المسألة التاسعة من فصل الوصية بالحج.

(٥) الوسائل باب : ٣ من أبواب النفاس حديث : ١١ ، ٧.

١٣

[ مسألة ٩ ] : الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت [١].

______________________________________________________

الاختيار إلا الالتزام بالعمل على طبق إحدى الفتويين أو الفتاوى بعينها ، وحينئذ يكون الالتزام مقدمة للتقليد لا أنه عينه ، ومما ذكرنا يظهر أن دعوى أن التقليد هو الالتزام مما لم يتضح له مأخذ. والله سبحانه أعلم.

[١] الكلام في هذه المسألة ، [ تارة ] : يكون في صورة موافقة رأي الميت لرأي الحي الذي يجب عليه تقليده على تقدير عدم جواز البقاء على تقليد الميت ، [ وأخرى ] : في صورة مخالفة رأيه لرأيه.

أما الكلام في الصورة الأولى : فهو أنه ـ بناء على ما عرفت من أن التقليد هو العمل برأي الغير واحداً كان أو متعدداً ـ لا تترتب صحة العمل واقعاً وعدمها على الجواز وعدمه ، لأن العمل الموافق لرأي الميت موافق لرأي الحي أيضاً ، فيكون صحيحاً مطلقاً ، كان رأي الميت حجة أولا. غاية الأمر أنه على تقدير حجيته تكون صحة العمل عقلا ـ بمعنى الاجتزاء به في نظر العقل ـ لموافقته لرأي الجميع ، وعلى تقدير عدم حجيته يكون الاجتزاء به في نظر العقل لموافقته لرأي الحي ، فالصحة والاجتزاء به عند العقل محرز على كل تقدير. نعم يثمر الكلام في حجية رأى الميت من حيث جواز البناء عليها لعدم كونه تشريعاً ، وعدمه لكونه كذلك. لكنه شي‌ء آخر أجنبي عن صحة العمل. أما بناء على كونه الالتزام بالعمل فصحة العمل عقلا وعدمها يبتنيان على حجية رأى الميت وعدمها ، فإنه على تقدير الحجية يكون الالتزام بالعمل برأيه تقليداً صحيحاً والعمل الموافق للالتزام المذكور عملا عن تقليد صحيح ، وليس كذلك على تقدير عدم الحجية.

وأما الكلام في الصورة الثانية : فهو بعينه الكلام في الصورة الأولى بناء على كون التقليد هو الالتزام بالعمل ، لما عرفت من توقف الحجية حينئذ على الالتزام بواحد من الرأيين بعينه ، فتبتني الصحة وعدمها على حجية‌

١٤

______________________________________________________

رأى الميت وعدمها.

إذا عرفت ذلك نقول : بناء على ما عرفت من أن الأدلة اللفظية الدالة على حجية الفتوى لو تمت في نفسها فإنها تدل على حجيتها بنحو صرف الوجود الصادق على القليل والكثير. كأدلة حجية الخبر ـ فلا مجال للتمسك بها مع اختلاف الرأيين. لتكاذبهما المانع من شمول الدليل لهما ولا أحدهما. فلا بد في إثبات الحجة من رأي الميت أو الحي من الرجوع إلى دليل آخر ، من إجماع ، أو بناء العقلاء ، أو سيرة المتشرعة ، أو الأصل. [ والأول ] لم يثبت بالنسبة إلى الميت ، بل قد يدعى على عدم جواز الرجوع إليه ، فضلا عن العلم بعدم انعقاده على الجواز. [ وأما الثاني ] فالظاهر أنه لا يشمل صورة الاختلاف أيضاً كالأدلة اللفظية. [ وأما السيرة ] فهي وإن ادعي استقرارها في عصر المعصومين (ع) على البقاء على تقليد الميت ، كما هو المظنون قوياً ، لكن بلوغه حداً يصح التعويل عليه لا يخلو من : إشكال. فيتعين الأخير. وستأتي وجوه تقريره.

وأما بناء على أن مفاد أدلة التقليد هو الحجية على تقدير الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين فلا مانع من الرجوع إلى إطلاق تلك الأدلة لو كان. لكن عرفت أنا لا نعرف ذلك الدليل لنعرف إطلاقه.

فالعمدة إذاً هو الأصل. وتقريره [ تارة ] : بإجرائه في الحكم الوضعي الأصولي ـ أعني : الحجية ـ فيقال : كان رأي فلان حجه ـ يعني حال حياته ـ وهو على ما كان. [ وأخرى ] : في نفس المؤدى الواقعي المحكي بالرأي ، فيقال مثلا : كانت السورة واجبة واقعاً حال حياة فلان فهي باقية على وجوبها. [ وثالثة ] : في الحكم الظاهري ، فيقال مثلا : كانت السورة واجبة ظاهراً حال حياة فلان فهي باقية على وجوبها الظاهري ، فنقول : أما إجراؤه في الحكم الوضعي على النحو الأول ـ أعني : الحجية ـ

١٥

______________________________________________________

فيتوقف أولا على كونها متأصلة في الجعل ، بحيث يصح اعتبارها من مجرد جعلها ، وتترتب عليها آثارها عقلا من صحة اعتذار كل من المولى والعبد بها. لكنه غير ظاهر ، بل الظاهر أنها منتزعة من الحكم الظاهري الراجع إلى الأمر بالعمل بالواقع على تقدير المصادفة ـ نظير الأمر بالاحتياط في بعض موارد الشك ـ وإلى الترخيص على تقدير المخالفة ، فإن ذلك هو منشأ صحة الاعتذار والاحتجاج ، فالحجية نظير الوجوب والحرمة المنتزعين من مقام الإرادة والكراهة ، ولا يصح اعتبارهما من مجرد جعلهما مع قطع النظر عن الإرادة والكراهة. وعلى هذا لا مجال لجريان الاستصحاب فيها ، لعدم كونها أثراً شرعياً ولا موضوعاً لأثر شرعي.

ويتوقف ثانياً على أن يكون موضوع الحجية مجرد حدوث الرأي ، أما إذا كانت منوطة به حدوثاً وبقاء ، بحيث يكون موضوعها في الآن الثاني بقاء الرأي ، فلا مجال لاستصحابها ، لعدم بقاء موضوعها ، لانتفاء الرأي بالموت. وقد يستظهر ذلك من بناء الأصحاب ـ بل ظهور الإجماع ـ على ارتفاع الحجية بتبدل رأي المجتهد ، وبارتفاع الشرائط من العدالة والعقل والضبط وغيرها. ولأن حجية الرأي بالإضافة إلى العامي ليست بأعظم منها بالإضافة إليه نفسه ، ومن المعلوم أن حجية الرأي بالإضافة إلى نفسه على النحو الثاني ، فإن الحجية لرأي المجتهد بالإضافة إلى نفسه في كل زمان موضوعها الرأي في ذلك الزمان ، لا مجرد الحدوث.

فان قلت : سلمنا كونها كذلك بالإضافة إلى العامي ، لكن لا دليل على ارتفاع الرأي بالموت فيجري فيه استصحاب بقائه ، ويكون حجة.

[ قلت ] : لو سلمنا تقوم الرأي بالنفس عقلا لا بالبدن فليس كذلك عرفا ، فإنه يصدق عرفاً أن هذا الميت لا رأي له. مع أن الموت ملازم لارتفاع الرأي ـ غالباً ـ قبله آناً ما فلا مجال لاستصحابه.

١٦

______________________________________________________

هذا ولكن الإنصاف أن الإجماع على عدم حجية رأي المجتهد مع اختلال الشرائط ـ لو تمَّ ـ لا يقتضي عدم الحجية مع ارتفاع الحياة إذا كان محلا للخلاف وارتفاع الحجية بتبدل الرأي إنما هو لكون الحجية مشروطة بعدم ظهور الخطأ له في المستند ، لا لكونها منوطة بالرأي حدوثاً وبقاء. ولذا ترى الشهادة تسقط عن مقام الحجية إذا ظهر للشاهد الخطأ في المستند ، مع أنها حجة بحدوثها إلى الأبد ولا ترتفع حجيتها بموت الشاهد أو نسيانه. وارتفاع الرأي قبل الموت غالباً إن قام إجماع على قدحه فهو خارج عن محل الكلام ، والكلام في غيره من الفروض وإن لم يقم إجماع على ذلك لم يقدح في جريان الاستصحاب. وبالجملة : احتمال حجية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له ، فلا مانع من الاستصحاب.

فان قلت : رأى المجتهد حال حياته وإن دل على ثبوت الحكم في جميع الوقائع السابقة والمقارنة واللاحقة ، إلا أن القدر المتيقن حجيته في غير الوقائع اللاحقة ، فهو بالنسبة إليها غير معلوم الحجية حتى تستصحب بعد الموت ، إذ الاستصحاب حينئذ يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي.

قلت : إنما يتم الاشكال لو كانت الوقائع ملحوظة بخصوصها موضوعاً للحجية في قبال غيرها ، كأفراد الكلي الملحوظ بعضها في قبال آخر. أما إذا كانت جميع الوقائع ملحوظة بنحو القضية الحقيقية ، والشك إنما هو في مجرد استمرار الحكم إلى الأزمنة اللاحقة ، فلا مانع من الاستصحاب ، إذ الواقعة اللاحقة ـ على هذا المعنى ـ تكون موضوعاً للحكم لو كانت واقعة في حياة المفتي وإنما الشك في خصوصية زمان الحياة ، والاستصحاب شأنه إلغاء احتمال دخل خصوصية الزمان السابق في الحكم. نظير ما لو ثبت أن من ولد في يوم الجمعة يجب ختانه وشك في استمرار الحكم لمن ولد في يوم السبت ، فمن ولد في يوم السبت يعلم بثبوت الحكم له لو كان ولد في يوم الجمعة‌

١٧

______________________________________________________

ويشك في بقائه على ما كان. فصورة القضية المستصحبة هكذا : هذا ـ يعني : المولود في يوم السبت ـ كان لو ولد وجب ختانه فهو على ما كان.

وكذلك نقول في المقام : هذه الواقعة كانت لو وجدت فيما مضى لكان الرأي فيها حجة فهي باقية على ما كانت ، فالشك ليس لاحتمال دخل خصوصية أفراد الوقائع ، بل لاحتمال دخل خصوصية الزمان السابق في الحكم ، وشأن الاستصحاب إلغاء احتمال ذلك. فهذا الاستصحاب نظير استصحاب الشرائع السابقة عند الشك المحرر جوازه في مبحث الاستصحاب. نعم هو من قبيل الاستصحاب التعليقي المحقق في محله جريانه ، إذ لا فرق بين الحكم التعليقي والتنجيزي في الدخول في عموم دليل الاستصحاب. لكنه ربما يكون معارضاً بالاستصحاب التنجيزي لعدم الدليل على حكومته عليه ، وحينئذ يسقط للمعارضة ، وفي المقام يعارض بأصالة عدم الحجية الثابت قبل الوجود. لكنه مبني على جريان الأصل في العدم الأزلي ، وإلا كان الأصل التعليقي بلا معارض.

وأما إجراؤه في الحكم الواقعي : فيشكل بأنه يتوقف على اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وكلاهما غير حاصل. أما الأول فلعدم اليقين الوجداني حال الوفاة بثبوت الحكم الواقعي حال الحياة ، إذ لا منشأ له. ومثله اليقين التنزيلي. وكون رأي المجتهد بمنزلة اليقين مسلم لو ثبتت حجيته حال الوفاة ، وهي محل الكلام ، وحجيته حال الحياة على ثبوت الحكم الواقعي حينئذ لا تجدي في ثبوت اليقين التنزيلي بعد الوفاة بأصل الثبوت ، فلا يقين ولا ما هو بمنزلته بثبوت الحكم الواقعي من أول الأمر. وأما الثاني فانتفاؤه أظهر ، للعلم بثبوت الحكم الواقعي على تقدير حدوثه ، وإنما الشك في أصل ثبوته لا غير.

وأما إجراؤه في الحكم الظاهري : فلا ضير فيه ، لاجتماع أركانه ،

١٨

______________________________________________________

لليقين الوجداني حال الوفاة بثبوته حال الحياة الملازم لحجية الفتوى حال الحياة ، والشك في بقائه ، للشك في بقاء الحجية إلى زمان الوفاة. نعم يتوجه عليه الإشكال الأخير في استصحاب الحجية. ويندفع بما عرفت من الاستصحاب التعليقي. بل جريانه هنا أوضح ، لأن الحكم المستصحب إن لم يكن اقتضائياً ـ كما لو كانت فتوى الميت عدم الوجوب أو عدم الحرمة ـ فاستصحابهما التعليقي لا يعارضه الاستصحاب التنجيزي ، لأنه لو جرى كان مفاده نفي الوجوب أو الحرمة ـ لأصالة عدمهما ـ فالاستصحاب التنجيزي ـ لو جرى ـ فهو موافق لا مخالف كي يسقطا بالمعارضة. نعم لو كان اقتضائياً ـ كما لو كانت فتوى الميت الوجوب أو الحرمة ـ فالأصل التنجيزي وإن كان معارضاً ، لكن البقاء على التقليد في الأحكام الاقتضائية مما لا بأس به قطعاً من حيث العمل ، لموافقته للاحتياط. ولو كانت فتوى الميت الوجوب ، وفتوى الحي الحرمة ، فالفتوى الأولى لما كان مفادها نفي الحرمة كانت من هذه الجهة غير اقتضائية ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في مضمونها ، ومن حيث نفس الوجوب اقتضائية فلا بأس بالبقاء عليها من حيث العمل ، كما عرفت.

هذا كله مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من أن المظنون قويا استقرار السيرة على البقاء على تقليد الميت ، بل دعوى الجزم بذلك قريبة جداً. وعليه فلا تنتهي النوبة إلى الأصول وإن كان مقتضاهما مختلفاً ، إذ القدر المتيقن من السيرة صورة العلم بالمسألة أو خصوص صورة العمل ، لا مطلقاً وإن لم يعمل ، فضلا عما لو لم يعلم. أما الأصل فمقتضاه الجواز مطلقاً عمل أولا ، علم أولا. والتشكيك في ثبوته في الوقائع مع عدم العلم في غير محله ، إذ اعتبار العلم بالفتوى في الحجية خلاف الإجماع كما لا يخفى.

هذا كله مع تساوي المجتهدين الميت والحي في العلم. أما مع الاختلاف‌

١٩

______________________________________________________

فالظاهر أنه لا إشكال في بناء العقلاء على تعين الرجوع إلى الأعلم ، فيجب العدول إلى الحي إن كان أعلم ، كما يجب البقاء إن كان الميت أعلم. بلا فرق بين ما علم وعمل وبين غيره ، لعدم الفرق في بناء العقلاء المذكور. ولا مجال حينئذ للرجوع إلى الأصول شرعية أو عقلية ، نعم لو كان الرجوع إلى الأعلم من جهة الحكم العقلي بالتعيين عند الدوران بينه وبين التخيير كان الأصل الشرعي وارداً عليه ، فيتعين الرجوع إلى الأصل المتقدم. لكن الظاهر استقرار بناء العقلاء على تعين الرجوع إلى الأعلم ، فيتعين العمل به.

هذا ولو بني على جواز البقاء على تقليد الميت فهل يجوز العدول ـ كما هو ظاهر المتن والمنسوب إلى بعضهم ـ أولا؟ ـ كما نسب إلى أكثر القائلين بجواز البقاء ـ وجهان.

أما وجه الأول : فهو استصحاب التخيير الثابت قبل الرجوع إلى الميت. وفيه : أن مرجع التخيير الثابت سابقا إلى أنه لو اختار أي واحد منهما كان رأيه حجة عليه ، فيقال : كان لو اختار الحي الذي يقع الكلام في جواز العدول إليه لكان رأيه حجة. وهو من الاستصحاب التعليقي المعارض باستصحاب عدم الحجية الثابت قبل الاختيار.

وأما وجه الثاني : فهو إما الإجماع على عدم جواز العدول الثابت قبل الوفاة وبعد الوفاة ، أو الثابت قبل الوفاة فيستصحب المنع إلى ما بعد الوفاة. أو أصالة الاحتياط ، لكون المورد من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير. وفيه : أن عموم معقد الإجماع إلى ما بعد الوفاة ممنوع ، بل ثبوت الإجماع على المنع حال الحياة عن العدول تعبداً غير ظاهر كي يجري استصحابه.

وأما أصالة الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير فلا مجال لها ، إذ كما يحتمل وجوب البقاء على تقليد الميت يحتمل وجوب العدول عنه إلى الحي ، فاحتمال التعيين موجود في كل من الطرفين كما يحتمل التخيير أيضا ،

٢٠