فاستحقر جميع
العبادات بالنظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ، وأنّها لا توازي ذرّة من جبال نعمه
، ولا قطرة من بحار كرمه.
ونظر إلى القول
باللطف فوجده غير مطّرد في حقّ من ثبتت عصمته ، أو ظنّ قيام غيره من الألطاف مقامه
، وسمع قوله تعالى : ( لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) .
أو تكافأ عنده
الوجهان المذكوران ، فرجع بصره خاسئا وفكره حسيرا ، فاقتصر على مجرّد الأمر والنهي
اللذين لا يعلم غايتهما.
ويمكن أيضا أن
يشير بهما إلى قصر العبادة على التوجّه إلى المعبود ؛ فإنّ اللطف والشكر وإن كانا
للقرب إليه إلاّ أنّ إسقاط الوسائط من البين أقرب.
المذهب
الرابع : لبعض المعتزلة ،
أنّ الوجه هو ما تضمّن ترك الفعل من المفسدة ، وترك القبيح من المصلحة ؛ وذلك لأنّ
ترك العبادات مقرّب إلى المعاصي ومبعّد من الطاعات العقليّة ، ولا نعني بالمفسدة
إلاّ ذلك. وترك القبيح بالعكس ، وهو معنى المصلحة.
ولمّا كان الترك
مستلزما للمفسدة ، وترك المفسدة واجب ، ولا يتمّ إلاّ بزوال الترك الحاصل بالفعل
أو عند الفعل ، وجب الفعل.
وكذلك نقول : ترك القبيح لطف ، وكلّ لطف واجب ، فيكون الترك واجبا ، فيلزمه
تحريم الفعل ؛ لأنّه لا يحصل الترك الواجب عنده ، لتنافيهما ، وهو في الحقيقة ضغث
من المذهب الأوّل ، إلاّ أنّه لم يجعل نفس فعل الواجب لطفا ، بل به يحصل اللطف ،
وفعل القبيح ليس لطفا في القبائح العقليّة ، بل تركه لطف في الواجبات العقليّة.
ولعلّه نظر إلى
مذهب الشكر بعين من قبله ، وإلى مذهب الأمر والنهي بعين الهدم ، ورأى غلبة القوى
الشهويّة والغضبيّة على نوع الإنسان بحيث لو خلّي وطبعه لجمح به في المهالك
باتّباع مقتضى الشهوة والغضب المعبّر عنهما بالحرام والمكروه.
__________________