من هذين الوجهين لم يكن منصرفا عن النظر إليه تعالى ، بل ذلك من جملة العلم بربوبيّته وكمال إلهيّته.
ولهذا قال : ( وهنالك يستوعب جلال الله سبحانه الفكر بحيث يصير مقصورا عليه ليس إلاّ ، ويصير همّ العاقل شيئا واحدا ، وغايته ذلك الشيء ، فينظر فيه ، وبه ، ومنه ، وإليه ، وعليه ، ويحذف غيره من درجة الاعتبار حتّى الجنّة والنار ).
أقول : وهنالك يعني عند شغل النفس بالأمور المذكورة.
يستوعب جلال الله سبحانه الفكر ، بحيث يصير الفكر مقصورا على الجلال.
ويصير همّ العاقل شيئا واحدا ، على معنى أنّه يرجع عن تفصيل تصوّراتها إلى الجلال الموجب لها ، حتّى يكون الجلال هو الغاية المستحضرة والنهاية المعتبرة ، ولم يبق له همّ ولا همّة سواه ، ولم يوجّه فكره إلاّ إلى ذكراه ، فينظر فيه ليقف على مراتبه ؛ ليصل بذلك إلى أعلى مطالبه.
وليكن النظر في عظمته وجلاله سببا إلى التصديق بزيادة كماله.
وينظر بالجلال ، على معنى أنّه يجعله آلة في تحصيله إليه من حيث الإجمال والتحصيل ، لا من حيث التفصيل.
وينظر منه ، أي يجعل مبدأ نظره من الجلال على معنى الانتقال من المطالب إلى المبادئ معتقدا أنّما يظفر به صائر منه وفائض عنه.
وينظر إلى الجلال ، بمعنى ترجيع النظر كرّتين بعد تحصيل المنظور فيه ؛ ليرسخ في القوّة العاقلة.
وينظر عليه ، بمعنى معتمدا في نظره في الجلال عليه متبرّئا من الحول والقوّة إلاّ إليه.
ويحذف غيره من درجات اعتباره حتّى رجاء جنّته وخوف ناره ، اللذين هما سبيل العبد والأجير ، بل لا يوجّه ذلك إلاّ إلى العليّ الكبير سبحانه وتعالى عمّا يشركون.