فالجواب : إن في النصب هاهنا دلالة على معنى لا يوجد في الرفع وذلك أنك إذا قلت : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] فتقديره : إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر فهو يوجب العموم لأن قوله : (إنا خلقنا كل شيء) لفظ عام فإذا قال : (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فليس فيه عموم لأنه يجوز أن تجعل خلقناه نعتا لشيء ، ويكون «بقدر» خبرا لكل ، ولا تكون فيه دلالة لفظية على خلق الأشياء كلها ، بل تكون فيه دلالة على أن ما خلق الله منها خلقه بقدر.
ومثل هذا في الكلام : كل نحوي أكرمته في الدار ، فقد أوجبت إكرام النحويين ، لأن تقديره : أكرمت في الدار كل نحوي أكرمته.
قوله : وكيف يختار فيه النصب وقد حال بينه وبين مفعوله.
يعني : إذا قلت : كنت زيد ضربته ، فقد وقع زيد ضربته في موضع مفعول كنت ، كأنك قلت : كنت قائما.
فإذا كانت الجملة هكذا ، لم تشبه الجملة المعطوفة وهي : ضربت زيدا وعمرا كلمته ، لأن الأول قد نصب مفعوله وعطف الثاني عليه فأجراه مجراه في تسلطه على مفعوله.
وأنشد في جواز النصب للمرار الأسدي :
* فلو أنها إياك عضتك مثلها |
|
جررت على ما شئت نحرا وكلكلا (١) |
فنصب إياك بإضمار عضت ، والتقدير : فلو أنها عضت إياك مثلها عضتك مثلها.
وإن شئت كان التقدير : فلو أنها إياك عضت مثلها عضتك مثلها ، فتقدر الفعل بعد إياك لأنه منفصل كما تقول : إياك ضربت. وإنما يجوز ضربت إياك في الشعر ..
قوله : عضتك مثلها كأنه يصف داهية .. والنحر : موضع المنحر والكلكل والكلكال : الصدر.
باب من الفعل الذي يستعمل في الاسم
ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر
اعلم أن حكم البدل أن يكون مكان المبدل منه في العامل ، وليس التقدير فيه أن ينحى الأول عن معنى الإلغاء له ، وإزالة الفائدة به ولكن على معنى أن البدل قائم بنفسه (غير) مبين للمبدل منه كتبيين النعت للمنعوت الذي هو تمام المنعوت.
فإن قال قائل : فلأي شيء دخل؟ قيل له : قد يكون للشيء الواحد اسم من معان تشتق له منها تلك الأسماء ، فيجوز أن يشتهر ببعض أسمائه عند قوم ، وببعض أسمائه عند آخرين.
فإذا اجتمع الاسمان على طريق بدل أحدهما من الآخر ، فقد بينه بغاية البيان فهذا هو
__________________
(١) شرح الأعلم ١ / ٧٥ ، شرح السيرافي ٢ / ٧٣٢.