والمعنى : لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أو لا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها ، أو إظهارها للناس ، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥]. وعن الكلبي ومقاتل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع (أَنْفُسَكُمْ) إلى معنى قومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي ليسلم بعضكم على بعض. والمعنى : فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيره ذلك.
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم. ومنه
حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقالت أم عطية : «رحمة الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون) فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وما يدريك أن الله أكرمه ، فقالت : إذا لم يكرمه الله فمن يكرمه الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي». قالت أم عطية : فلا أزكي أحدا بعد ما سمعت هذا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون إذا أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيرا ولا أزكي على الله أحدا.
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : «سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الاسم ، وسمّيت برة فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم ، قالوا : بم نسميها؟ قال : سموها زينب».
وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس ، أي طهارتها وصلاحها ، تفويضا بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفة الموافقة لظواهرهم وبين أنواعها بون. وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخبرة واتهام القرائن والبوارق.
فلا يدخل في هذا النهي الإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثل ما أريد من قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن