هذا نظير الإضراب والاستفهام في قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) [الطور : ٣٧] ، أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجدونه فيه ويروونه للناس؟! أي ما عندهم الغيب حتى يكتبوه ، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإسلام بأنهم كالذين سألهم النبيصلىاللهعليهوسلم أجرا على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين أطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما ادّعى الرسول صلىاللهعليهوسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما أطلعوا عليه فيجدونه مخالفا لما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم.
قال قتادة : لما قالوا : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] قال الله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي حتى علموا متى يموت محمد ، أو إلى ما يؤول إليه أمره فجعله راجعا إلى قوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠]. والوجه ما سمعته آنفا.
والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل ، أي ما غاب عن علم الناس.
والتعريف في (الْغَيْبُ) تعريف الجنس وكلمة (عند) تؤذن بمعنى الاختصاص والاستئثار ، أي استأثروا بمعرفة الغيب فعلموا ما لم يعلمه غيرهم.
والكتابة في قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يجوز أنها مستعارة للجزم الذي لا يقبل التخلف كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] لأن شأن الشيء الذي يراد تحقيقه والدوام عليه أن يكتب ويسجل ، كما قال الحارث بن حلزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فيكون الخبر في قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مستعملا في معناه من إفادة النسبة الخبرية.
ويجوز أن تكون الكتابة على حقيقتها ، أي فهم يسجلون ما أطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوما لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مستعملا في معنى الفرض والتقدير تبعا لفرض قوله : (عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) ، ويكون من باب قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) [النجم : ٣٥] وقوله : (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) [مريم : ٧٧ ، ٧٨].
وحاصل المعنى : أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه.
(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢))
انتقال من نقض أقوالهم وإبطال مزاعمهم إلى إبطال نواياهم وعزائمهم من التبيت للرسول صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين ولدعوة الإسلام من الإضرار والإخفاق وفي هذا كشف لسرائرهم