أوّلا : بما تقدّم في أجوبة الآيتين الاوليين من أنّه لو تمّ لقضى بوجوب الحذر تعيينا وهو منفيّ بالإجماع ، وثبوت التخيير للمنذر بالإضافة إلى المنذرين لو تعدّدوا لا مدخل له بالتخيير الّذي هو محلّ البحث كما لا يخفى ، فإنّ هذا التخيير بالقياس إلى اجتهاد نفس المنذر وهو العالم المتمكّن تعيين ، لمنافاته قيام ما ليس من جنس الإنذار الحاصل من الغير مقامه.
وثانيا : أنّ الآية عند التحقيق ينهض دليلا على وجوب الاجتهاد في حقّ محلّ البحث لا على جواز التقليد له ، وذلك لأنّ التفقّه المأمور به ليس إلاّ عبارة عن الاجتهاد ، والأمر المتعلّق به إمّا أن يكون متوجّها إلى المتمكّنين من الاجتهاد أو إلى من يعمّهم والغير المتمكّنين ، والثاني باطل لاستحالة التكليف بما لا يتمكّن منه. والراجح في النظر القاصر أنّ هذا هو الوجه في تخصيص الأمر من كلّ فرقة بطائفة منهم ، نظرا إلى أنّ المتمكّن منهم من الاجتهاد طائفة منهم لا جميعهم ، فعلى هذا يكون الآية من الخطابات العينيّة لا الكفائيّة على خلاف ما فهمه القوم حيث يستدلّون بها على وجوب الاجتهاد كفاية بدليل تخصيص الطائفة بالذكر ، مع أنّ مذهبهم في الخطاب الكفائي أنّه يتناول الجميع ويسقط بفعل البعض فيضطرّون في تصحيح الاستدلال بها ـ مع ظهورها في أمر الطائفة عينا ـ إلى تأويلها بأنّ تخصيص الطائفة بالذكر من جهة أنّها البعض الّذي يسقط بفعله الفرض عن الآخرين لا من جهة اختصاص الأمر بهم ، وغفلوا عن أنّ هذا التأويل لا ينهض إصلاحا للأمر المتعلّق بالطائفة على طريق العينيّة ، ومن هنا ترى أنّ من خصّ فرض الكفاية بالبعض الغير المعيّن أخذ الآية دليلا على مطلوبه.
وما استظهرناه في معنى الآية لا يستلزم إشكالا ولا افتقارا إلى التكلّف في دفعه بما لا يدفعه أصلا ، فإذا كان المتمكّنون من الاجتهاد يجب عليهم الاجتهاد عينا يدخل فيهم محلّ البحث وهو المطلوب ، بل الوجوب عليهم عينا عين المطلوب.
ولا ينافي ذلك للقضيّة المجمع عليها من أنّ الاجتهاد من فروض الكفاية يتعلّق بجميع المكلّفين ويسقط بفعل البعض ، لأنّ هذا الاجتهاد لابدّ وأن يراد منه غير ما هو المراد منه في محلّ البحث وهو تحمّل المشقّة في النظر في الأدلّة لاستنباط ما يستنبط منها من الأحكام ، ضرورة أنّه لا يتمكّن منه إلاّ بعد حصول مقدّمات وجوده من استحصال العلوم المعهودة المأخوذة من مباديه والملكة وقوّة ردّ الفرع إلى الأصل فلا يكون ذلك ممّا يتمكّن منه