أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

أنّ نفس الاتيان بالعمل بداعي احتمال أمره الواقعي كافٍ في العبادية ، والأمر الاحتياطي لا يخلق العبادية ، لأنّ المفروض هو الأمر بالاحتياط في العبادة ، فلابدّ أن تكون العبادية لا من جهته ، وإلاّ لكان الحكم خالقاً لموضوعه ومتعلّقه ، فتأمّل.

قوله : فإن قلت : كيف تكون أخبار « من بلغ » مخصّصة لما دلّ على اعتبار الشرائط في حجّية الخبر ، مع أنّ النسبة بينهما العموم من وجه ... الخ (١).

لعلّ النظر في دعوى العموم من وجه إلى أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تدلّ على حجّية خصوص خبر العدل ، أعمّ من كونه في الأحكام الالزامية أو في المستحبّات ، وأخبار التسامح تدلّ على حجّية الأعمّ من خبر العدل في خصوص المستحبّات.

ولا يخفى ما فيه ، حيث إنّه لا تعارض بينهما في مورد الاجتماع الذي هو خبر العادل في المستحبّات ، أمّا ما ينفرد فيه أخبار التسامح وهو خبر الفاسق في المستحبّات فهو غير مشمول لأدلّة حجّية خبر العادل ، وهكذا العكس وهو خبر العادل في الواجبات ، فإنّه غير مشمول لأخبار التسامح ، وهذا هو الشأن في كلّ دليلين بينهما عموم من وجه إذا كانا متوافقين في الإثبات والنفي.

لكن هذا إن لوحظت النسبة بين أخبار التسامح وبين منطوق أدلّة خبر العادل ، أمّا لو لوحظت النسبة بين أخبار التسامح وبين منطوق آية النبأ القائل إنّه لا يقبل خبر الفاسق ، فوقوع التعارض بينهما بالعموم من وجه واضح ، لأنّ أخبار التسامح تقول بحجّية مطلق الخبر في خصوص المستحبّات ، ومنطوق آية النبأ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤١٣.

٢٦١

يقول بعدم قبول خبر الفاسق في مطلق الأحكام ، فيتعارضان في خبر الفاسق الدالّ على استحباب شيء ، وبناءً عليه فينحصر الجواب عن المعارضة المذكورة بتقديم أخبار التسامح ، لشهرة العمل بها. أمّا مفهوم أدلّة حجّية خبر العادل ففي الحقيقة لا يكون هو المعارض لأخبار التسامح ، لما حقّق في محلّه من أنّ المفهوم لا يكون هو مركز المعارضة ، بل العمدة إنّما هو المنطوق ، وقد عرفت أنّه وإن كان بينه وبين أخبار التسامح نسبة العموم من وجه ، إلاّ أنّهما غير متعارضين ، لكونهما متوافقين في الإثبات. نعم من حيث الدلالة على الحصر بالعادل هما متعارضان ، لكن سيأتي (١) أنّ النسبة حينئذ هي العموم والخصوص المطلق ، وأخبار التسامح أخصّ.

وكأنّ الشيخ قدس‌سره ناظر إلى هذه الجهة الثانية ، فإنّه قال في تعداد ما أُورد على أخبار التسامح : ومنها أنّ هذه الأخبار معارضة بما دلّ على لزوم طرح خبر الفاسق وجعل احتمال صدقه كالعدم ـ ثمّ قال ـ وربما يجاب أيضاً بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، والترجيح مع هذه الأخبار. والتحقيق في الجواب : أنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع فهو في المقام غير ثابت ، وإن كان آية النبأ فهي مختصّة ـ بشهادة تعليلها ـ بالوجوب والتحريم ، فلابدّ في التعدّي عنهما من دليل مفقود في المقام (٢).

ومن ذلك تعرف أنّه لا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير بقوله : ولكن الإنصاف أنّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره لا يخلو عن ضعف ، فإنّ ما دلّ على اعتبار

__________________

(١) في الصفحة : ٢٦٤.

(٢) رسالة في التسامح في أدلّة السنن ( ضمن رسائل فقهية ) : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢٦٢

الشرائط في أخبار الآحاد لا ينحصر بالإجماع وآية النبأ الخ (١) ، وذلك لأنّ جواب الشيخ بقوله : والتحقيق إلخ ، إنّما هو في قبال دعوى العموم من وجه ، وأنّ المعارض لأخبار التسامح هو ما دلّ على عدم حجّية خبر الفاسق ، وهو منحصر بالإجماع والآية الشريفة. أمّا أدلّة اعتبار العدالة في الخبر فلم تكن مورداً لإشكال المشكل ، فإنّه إنّما أشكل بما يدلّ على طرح خبر الفاسق دون ما دلّ على اعتبار العدالة ، فإنّه لا يدلّ على لزوم طرح خبر الفاسق إلاّبالمفهوم ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لو كان الإشكال من ناحية المقابلة بين منطوق آية النبأ وبين أخبار التسامح بالعموم من وجه ، لم يمكن الجواب عنه إلاّبما نقله الشيخ قدس‌سره من كون الترجيح مع هذه الأخبار. أمّا ما أفاده الشيخ قدس‌سره فهو إنّما ينفع في قبال منطوق الآية ، أمّا مفهوم حجّية خبر العادل فلابدّ من الجواب عنه بأنّ التعارض إنّما يكون بين منطوق تلك الأدلّة والأخبار المذكورة ، لا بين نفس مفهوم تلك الأدلّة والأخبار المذكورة. نعم يمكن إنكار المفهوم في تلك الأدلّة ، لما تقدّم في حجّية أخبار الآحاد (٢) من كون الانحصار بالعادل أو بالموثوق به ونحو ذلك إنّما هو بمثل القدر المتيقّن ونحوه ، إذ ليس لنا دليل يدلّ بمنطوقه بالصراحة على اعتبار العدالة أو الوثوق على وجه تكون لنا قضية ذات مفهوم ومنطوق.

أمّا ما أجاب به في هذا التحرير بقوله : قلت : مع أنّه يمكن أن يقال الخ (٣) من الحكومة ، فلم يظهر وجهه ، كما أنّ ما أُفيد من عدم بقاء المورد لأخبار

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤١٤.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٨٩ ـ ١٩١.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤١٣.

٢٦٣

التسامح كذلك ، لأنّا لو قدّمنا أدلّة خبر العادل على أخبار التسامح في مورد كون المخبر بالاستحباب فاسقاً ، يبقى خبر العدل في المستحبّات مورداً لأخبار التسامح ، غايته أنّه مشمول أيضاً لأدلّة حجّية خبر العادل. نعم يمكن إسقاط دعوى العموم من وجه ، فإنّها مبنية على لحاظ نسبة أخبار التسامح مع المنطوق وحده أو مع المفهوم وحده ، وذلك لا وجه له ، بل بحسب الصناعة ينبغي نسبة أخبار التسامح إلى مجموع ما دلّت عليه أخبار حجّية خبر العادل ، فإنّ حاصل تلك الأدلّة هو أنّ الخبر إن كان راويه عادلاً كان مقبولاً في جميع الأحكام ، وإن كان فاسقاً لم يكن مقبولاً.

وإن شئت فقل : إنّ أدلّة خبر الواحد تشترط العدالة في جميع الأحكام ، فتكون أخبار التسامح أخصّ منها ، لأنّ مفادها عدم اشتراط العدالة في خصوص المستحبّات ، وعلى ذلك جرى شيخنا قدس‌سره في الدورة الأخيرة ، فراجع ما حرّرته عنه في هذا المقام ، وما حرّره عنه السيّد سلّمه الله في ذلك (١).

ومن ذلك كلّه [ يظهر ] أنّ ما أُفيد في هذا التحرير بقوله : قلت مع أنّه يمكن الخ ليس خالياً من التأمّل ، فإنّ الحكومة لا وجه لها. ولو وجّهناها بما أفاده قدس‌سره في الدورة الثانية من كون أخبار « من بلغ » أخصّ مطلقاً ، لم يتّجه قوله في ذيل العبارة : وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة. كما أنّ هذه الجملة وهي قوله : وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة ، لا تلتئم مع قوله : مع أنّه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار « من بلغ » مورد الخ ، فإنّ عدم بقاء المورد إنّما يناسب كون النسبة هي العموم المطلق ، دون العموم من وجه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٦١.

٢٦٤

قوله : ولا يبعد أن يكون الوجه الثاني أقرب ـ كما عليه المشهور ـ حيث إنّ بناءهم في الفقه على التسامح في أدلّة السنن ، وقد عرفت أنّ ظاهر العنوان لا ينطبق إلاّعلى القول بالغاء شرائط الحجّية في الخبر القائم على استحباب الشيء ... الخ (١).

لا يخفى أنّه قدس‌سره في الدورة الأخيرة قد اختار الوجه الثالث ، وهو الحكم بالاستحباب على نحو الموضوعية ، فراجع ما حرّرته عنه قدس‌سره وما حرّره عنه السيّد سلّمه الله في الدورة الأخيرة. ولم أعرف الوجه في عدم التغيير في هذا التحرير ، مع أنّه قد طبع سنة إحدى وخمسين ، وكان اشتغاله قدس‌سره في الدورة الأخيرة في هذه المسألة في رجب سنة تسع وأربعين.

وكيف كان ، فإنّ ملخّص ما أفاده قدس‌سره حسبما حرّرناه عنه قدس‌سره في اختيار الوجه الثالث ، هو أوّلاً : أنّ هذه الجمل في الأخبار وإن كانت في حدّ نفسها ناظرة إلى حال ما بعد العمل ، إلاّ أنّ قرينة سياقها يعطي النظر إلى ما قبل العمل ، فإنّها في سياق الحثّ على العمل والترغيب فيه بإحداث الداعي على العمل ، فتكون بواسطة هذه القرينة السياقية ناظرة إلى حال ما قبل العمل ، وحينئذ يدور أمرها بين الوجه الثاني وهو جعل الحجّية ، والوجه الثالث وهو جعل الاستحباب على نحو الموضوعية ، وحيث إنّ جعل الحجّية للخبر الضعيف يقتضي إلغاء احتمال الخلاف ، وهو لا يناسب فتح باب احتمال الخلاف الذي أفادته الروايات بقوله : « وإن لم يكن الأمر كما بلغه » (٢) كانت هذه الجمل بمنزلة القرينة على أنّ المتكلّم في تلك الأخبار ليس بصدد جعل الحجّية ، بل هي بصدد بيان أمر آخر لا يتنافى مع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤١٥ ـ ٤١٦.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٨٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٨ ح ٩.

٢٦٥

إبداء احتمال الخلاف للسامع ، وذلك الأمر الآخر هو الحكم باستحباب العمل المذكور على نحو الموضوعية.

ثمّ بعد الفراغ عن ذلك يبقى الترديد بين كونها متعرّضة لاستحباب الاحتياط شرعاً ، أو لأنّه مستحسن عقلاً كما يعطيه التقييد في بعضها بقوله : « فعمله رجاء ذلك الثواب » (١) وبين كونها متعرّضة لاثبات الاستحباب لنفس العمل الذي بلغ عليه الثواب استحباباً واقعياً ثانوياً بعنوان أنّه بلغ عليه الثواب؟

والمختار له قدس‌سره هو الوجه الثاني من هذين الوجهين ، بدعوى عدم استفادة القيدية من قوله عليه‌السلام : « رجاء ذلك الثواب » ، بل هو مسوق لبيان حال المكلّف في ذلك الحال ، وأنّه يفعله بداعي الحصول على ذلك الثواب الذي بلغه ، كما هو الشأن فيما لو كان البلوغ بطريق الحجّة المعتبرة ، أو بطريق القطع الناشئ عن القطع الحاصل من الأدلّة المفيدة للقطع ، فإنّ المكلّف إنّما يفعل ذلك الفعل بداعي الحصول على ثواب ذلك العمل ، أو بداعي الحصول على موافقة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعبّر عن الأوّل برجاء الثواب ، وعن الثاني بطلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، فليس هو مسوقاً لبيان القيدية ، ولا لبيان الاتيان بالعمل بداعي احتمال الاستحباب ، بل مسوق لبيان أنّ العمل كان بداعي الحصول على الثواب ، بأن يفعله راجياً من الله تعالى أن يثيبه على ذلك العمل ، كما لو صلّى الظهر مثلاً راجياً من الله تعالى أن يثيبه ، هذا ملخّص ما أفاده قدس‌سره في الدورة الأخيرة ، فراجع ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٨٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٨ ح ٧ ( وفيه : التماس ذلك الثواب ).

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٨١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٨ ح ٤.

٢٦٦

حرّرته عنه وما حرّره عنه السيّد سلّمه الله ص ٢٠٨ وص ٢٠٩ (١) وتأمّل.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذه القرائن الثلاث يمكن المناقشة [ فيها ] :

أمّا الأُولى ، وهي كون هذه الجمل في سياق الحثّ وإحداث الداعي ، فلأنّ ذلك لا ينحصر بالحمل على الحجّية أو على الموضوعية ، بل يتأتّى مع بيان أنّ العامل لو عمل ما عمله طامعاً في الثواب راجياً له ، كان له ذلك الثواب وإن كان الواقع على خلافه ، وحينئذ يكون النظر في هذه الأخبار إلى أنّ العامل يعطى أُجرة ذلك العمل ، سواء كان عمله به من جهة قيام الحجّة الشرعية على وجوبه أو استحبابه ، أو كان من جهة الاحتياط واحتماله وجوبه أو استحبابه ، بل لعلّها بتنقيح المناط شاملة لموارد القطع بذلك.

وعلى أيّ حال ، لا يكون لها تعرّض لجعل حجّية ولا لجعل استحباب ، وإن كانت مسوقة في مقام الحثّ والترغيب وإحداث الداعي من هذه الناحية ، أعني ناحية إعطاء الثواب ، لئلاّ يتوقّف المكلّف عن العمل بتسويل الشيطان ، وأنّه لعلّه لا يصادف الواقع بالنسبة إلى من يكون همّه تحصيل الثواب.

أمّا القرينة الثانية ، وهي إبداء احتمال المخالفة ، بدعوى أنّها لا تناسب جعل الحجّية ، لأنّ المناسب لجعل الحجّية هو صرف نظر المكلّف عن احتمال المخالفة ، وتحويل نظره إلى البناء على المطابقة ، لا جعل احتمال المخالفة نصب عينيه ، فهي وإن كانت في الجملة من مقتضيات الحال ، وأنّ المتكلّم البليغ الذي بصدد الحجّية لا يحسن منه إلاّصرف ذهن السامع عن احتمال الخلاف ، إلاّ أنّه مع ذلك لعلّه يكون المقام مقام إبداء ذلك الاحتمال وسدّه تعبّداً ، بأن يقال له : هذا الخبر حجّة كاشفة عن الواقع فيلزمك البناء على المطابقة للواقع ، وإن كنت

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٦٠ ـ ٣٦٤.

٢٦٧

وجداناً تحتمل أنّه مخالف للواقع ، وهذا المقام إنّما هو فيما لو كان المخاطب مشكّكاً ، أو فرض المتكلّم تشكيكه ولو من جهة ظاهر حاله الادّعائي أنّه بصدد الشكّ والانكار ، فإنّ هذه الجهات جهات بلاغة ومناسبة المقال لمقتضى الحال ، حسبما يراه المتكلّم مناسباً للمقام تحقيقاً أو تنزيلاً ، كما يظهر ذلك من مراجعة كلمات علماء البلاغة في القسم الأوّل المعبّر عنه بعلم المعاني في تأكيد الحكم بمراتبه من الجملة الاسمية المؤكّدة بأنّ ، والقسم ، ولام الابتداء ، حسب فرض خلوّ ذهن السامع من الانكار والشكّ في الحكم.

ولكن مع ذلك كلّه إنّما يكون المقامان المذكوران ، أعني مقام صرف ذهن السامع عن احتمال المخالفة للواقع ، ومقام إبداء ذلك الاحتمال ليحكم عليه بالغائه ، إنّما هو بعد الفراغ عن كون المتكلّم في مقام الجعل ، وتردّدنا بين كون المجعول هو الحجّية أو الاستحباب ، وهذا إنّما يتمّ بعد طي المرحلة الأُولى ، وقد عرفت الحال في ذلك وأنّه لم تقم قرينة على أنّه في مقام الجعل والتشريع ، وأنّ جعل الثواب لا يستلزم جعل الاستحباب ، ومن ذلك كلّه يظهر لك الكلام في :

القرينة الثالثة ، الراجعة إلى دعوى أنّ مثل قوله عليه‌السلام : « رجاء ذلك الثواب » لا يكون قيداً في العمل ، بأن يكون عمله رجائياً لاحتمال الأمر الاستحبابي ، بل إنّه مسوق لبيان الداعي له على العمل ، فيكون المنظور إليه هو حالة المكلّف وأنّه فعله بداعي الثواب راجياً ترتّبه عليه ، فإنّ هذه القرينة إنّما تنفع بعد سدّ باب احتمال جعل الحجّية ، وأنّها مسوقة لجعل الاستحباب وتردّدنا بين كون المستحب هو نفس الفعل ، أو كونه هو بداعي الاحتمال لتكون هذه الأخبار منطبقة على استحباب الاحتياط ، أمّا بعد أن صرفنا هذه الروايات عن كلّ من جعل الحجّية والاستحباب ، وقلنا إنّ المنظور بها هو الحثّ والترغيب على العمل

٢٦٨

بالسنّة ، لئلاّ يتوقّف المكلّف عن العمل بها بتسويل النفس أو الشيطان بابداء احتمال الخلاف ، فلا نكون في حاجة إلى مثل هذه التشبّثات ، وينطبق الرجاء في الثواب على العامل بالحجّة الشرعية والعامل بالقطع والعامل بطريق الاحتياط ، فإنّ المكلّف في جميع هذه الصور طامع في الثواب طالب له ، أو أنّه طالب لموافقة السنّة المعبّر عنه في بعض تلك الأخبار « طلباً لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » ويكون رجاؤه وطلبه لذلك في الجميع بوتيرة واحدة ، فتأمّل.

قوله : القسم الثالث : التخيير الناشئ عن تعارض الحجّتين وتنافي الطريقين ، كتعارض فتوى المجتهدين المتساويين ، ومؤدّى الخبرين مع تساويهما في مرجّحات باب التعارض ... الخ (١).

الأصل في تعارض الأمارات هو التساقط ، ولكن دلّت المقبولة ونحوها على التخيير في خصوص باب الأخبار بعد التساوي في المرجّحات ، وعلى كلّ حال فباب فتوى المجتهدين المتساويين في العلمية خارج عن تعارض الأمارات ، بل إنّ أصل تشريع التقليد ـ أعني وجوب كون العمل على طبق فتوى المجتهد ـ إنّما هو على نحو العموم البدلي ، وإن كانت فتوى كلّ من المجتهدين حجّة في نفسها ، وبواسطة هذا العموم البدلي في وجوب كون العمل على طبق فتوى المجتهد يكون التخيير ثابتاً في أصل التشريع ، بخلاف باب العمل في الأخبار ونحوها من الأمارات ، فإنّ وجوب العمل فيها يكون عمومه انحلالياً ، فيقع التعارض عند التنافي بينهما ، فتدخل المسألة في أصالة التساقط ما لم يدلّ دليل على التخيير في خصوص مورد منها كما في الأخبار ، وقد شرحنا ذلك في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٢٠.

٢٦٩

مبحث التقليد (١) ومبحث التعارض (٢) وفي مباحث وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية (٣) وفي مبحث التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية (٤) فراجع.

قوله : والحاصل أنّ الذي يعتبر في جريان البراءة أمران ... الخ (٥).

الأمر الأوّل يتّضح به كون المرجع عند الشكّ في التعيين هو البراءة أو الاشتغال ، لما سيأتي (٦) من أنّ التعيين عندما لو علم بوجوب الصيام مثلاً وشكّ في أنّه على نحو التعيين أو على نحو التخيير بينه وبين عدل آخر كالاطعام ، هل هو بجعل الشارع أو أنّه ليس من هذا القبيل.

والأمر الثاني يتّضح به عدم إمكان الرجوع إلى البراءة في وجوب ذلك العدل الآخر تخييراً ، كالإطعام في المثال المذكور بعد العلم بوجوب الصيام ، لأنّ البراءة من طروّ الوجوب التخييري على الإطعام (٧) ينتج الضيق على المكلّف بتعيّن الصيام عليه.

وهذه الجهة في هذا الأمر الثاني هي المنظور إليها في عبارة الشيخ قدس‌سره بقوله : أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والاباحة فلا تجري فيه أدلّة البراءة ، لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلزم به ويعاقب عليه الخ (٨) ومراده من عدم جريان دليل البراءة عدم جريانها في الطرف الآخر ، أعني الاطعام

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٢) راجع المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٢١ وما بعدها.

(٣) لم نعثر عليه في مظانه.

(٤) لم نعثر عليه في مظانه.

(٥) فوائد الأُصول ٣ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

(٦) الحاشية الآتية في الصفحة : ٢٧٢.

(٧) [ في الأصل : « الصيام » بدل « الإطعام » ، فلاحظ ].

(٨) فرائد الأُصول ٢ : ١٥٩.

٢٧٠

في المثال المزبور المحتمل كونه عدلاً لما تعلّق به الوجوب أعني الصيام ، فإنّ الاطعام في مثل ذلك يتردّد أمره بين الوجوب التخييري والاباحة ، ومن الواضح عدم جريان البراءة فيه حينئذ ، لأنّ نتيجة جريانها هو تعيّن الصيام على المكلّف ، فيكون ذلك خلاف الامتنان.

وينبغي أن يكون فرض الكلام في صورة عدم تعذّر الطرف المعلوم تعلّق الوجوب به أعني الصيام ، أمّا في صورة تعذّره فلا ينبغي الإشكال في جريان البراءة في الطرف الآخر الذي هو الاطعام.

لا يقال : إنّه في صورة عدم تعذّر الصيام يبقى الشكّ فيما احتمل وجوبه تخييراً ـ وهو الاطعام ـ بحاله لا يجري فيه أصل أصلاً ، لأنّ المفروض عدم جريان البراءة فيه ، وعدم جريان أصالة عدم الوجوب كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى بيانه من أنّ عدم الجعل لا أثر له وعدم المجعول لا أصل له ، وحينئذ تبقى الشبهة في ناحية الاطعام بحالها بلا أصل يجري فيها ، وهو غريب.

لأنّا نقول : لا غرابة في ذلك ، إذ لا يترتّب أثر عملي على الشكّ المزبور إلاّ من جهة كون الطرف المذكور مسقطاً لما علم وجوبه ، والمفروض جريان أصالة الاشتغال من هذه الجهة. وبالجملة : أنّ هذه الشبهة من جهة الأثر المترتّب عليها وهو إسقاط ما علم وجوبه تجري فيها أصالة الاشتغال ، ومن جهة الشكّ في أصل وجوب ذلك الطرف تخييراً لا أثر لها ، فلا غرابة في كونها بلا أصل يجري فيها. ومنه يعلم أنّه عند تعذّر الطرف المحتمل الوجوب يكون الطرف الآخر المردّد بين الوجوب التعييني والتخييري متعيّناً ، وهو واضح.

__________________

(١) في الصفحة : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

٢٧١

قوله : لأنّ صفة التعيينيّة المشكوكة ليست من الأُمور الوجودية المجعولة شرعاً ولو بالتبع ، بل إنّما هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل ، بداهة أنّ نحو تعلّق الخطاب لا يختلف ، تعييناً كان أو تخييرياً ... الخ (١).

وهذا الفرق نظير ما هو الفارق بين الطلب الوجوبي والاستحبابي ، بأنّ الطلب فيهما واحد ، غير أنّه في الاستحبابي محتاج إلى جعل الترخيص في الترك ، بخلاف الايجابي فإنّه يكفي فيه مجرّد جعل الطلب.

ولكن هذا الوجه من الفرق بين التعييني والتخييري لم يذكره قدس‌سره في مبحث الوجوب التخييري ، فلاحظ التحريرات عنه قدس‌سره في ذلك المبحث ، خصوصاً ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (٢) فإنّه قد ذكر فيه وجوهاً أربعة ، الأوّل : كون الوجوب متعلّقاً بعنوان « أحدهما » الانتزاعي. الثاني : كون الوجوب في كلّ منهما مشروطاً بعدم الآخر. الثالث : كون الوجوب متعلّقاً بالقدر الجامع بينهما. الرابع : كون الواجب هو كلّ واحد منهما على البدل. وقد اختار قدس‌سره هذا الوجه الرابع الذي هو مبني على الاختلاف بين الوجوبين بالهوية.

وهذا هو الذي أفاده في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : وهذا بخلاف ما إذا كان هناك مصلحة واحدة مترتّبة على كلّ من الفعلين ، فإنّه لا يوجب إلاّ إيجاب أحدهما تخييراً ، فلابدّ من تقييد الاطلاق بأداة العطف ، وهذا سنخ من الوجوب يعبّر عنه بالوجوب التخييري ، فالواجب في الحقيقة هو أحدهما المردّد القابل للانطباق على كلّ من الفعلين الخ (٣)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

(٢) فوائد الأُصول ١ ـ ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٥.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٨٠ ـ ٣٨١.

٢٧٢

أمّا لو كان هناك مصلحتان متضادتان لا يمكن الجمع بينهما في الخارج مع كون كلّ منهما ملزمة في نفسها ، فقد حكم في التحرير المذكور بسقوط احتماله ، وأنّ فرض وجود الملاكين فرض نادر موهوم بعيد عن الأذهان ، وقد مثّل لذلك بمسألة ما لو كان لنا دليلان دلّ أحدهما على وجوب الظهر والآخر دلّ على وجوب الجمعة ، وقام دليل خارجي على عدم وجوب كليهما معاً ، فلابدّ من أحد التقييدين الخ (١) فإنّ ذلك وإن كان من باب التعارض الطارئ الناشئ عن الإجماع مثلاً على عدم الفريضتين في يوم واحد ، فيكون المرجع فيه هو أحكام التعارض ، لا تقييد كلّ منهما بعدم الأُخرى بمفاد إن الشرطية ، أو التقييد بمفاد لفظ « أو » التخييرية ، إلاّ أنّه لو جمعنا بينهما بحسب الدلالة بالحمل على الوجوب التخييري ، دخلت المسألة فيما نحن فيه ، وهذا هو مراد شيخنا قدس‌سره ، وهاك نصّ ما حرّرته عنه قدس‌سره وهو قولي : وربما كان الواجب التخييري مردّداً بينهما كما لو ورد الأمر بصلاة الجمعة يومها ، وورد أمر آخر بصلاة الظهر ، وقام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد ، وجمعنا بين الأمرين بحمل كلّ منهما على الوجوب التخييري الخ ، وكأنّ هذه الجملة قد سقطت من قلم المحرّر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ التخيير لو كان ناشئاً عن تزاحم الملاكين في مقام الجعل لا يكون منتجاً لايجاب كلّ منهما مشروطاً في مقام الحدوث بعدم الآخر ، كي يكون المرجع عند الاتيان بأحدهما هو البراءة من الآخر كما أفاده بقوله : وعليه يكون وجوب كلّ منهما عند عدم الاتيان بمتعلّق الآخر الخ (٢) بل يكون الاشتراط المذكور واقعاً في مقام البقاء ، كما أفاد في هذا الكتاب بقوله : فالتقييد

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٨١.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٨٢.

٢٧٣

إنّما يكون باعتبار البقاء ومرحلة السقوط لا باعتبار الثبوت ومرحلة الحدوث الخ (١) وإن كان الذي يظهر منه في مبحث الواجب التخييري (٢) هو كون الاشتراط في مرحلة الحدوث ، فراجع وتأمّل.

وتوضيح هذا المبحث من أوّله إلى آخره يحصل بأُمور :

الأوّل : ما حقّق في محلّه في مبحث الوجوب التخييري (٣) من أنّه لا يكون ناشئاً إلاّعن ملاك واحد يقوم به كلّ من الفعلين ، غايته أنّه لمّا لم يكن بينهما جامع عرفي قريب ، كان التخيير بينهما شرعياً ، وإلاّ ففي الحقيقة لا يكون الواجب إلاّ القدر الجامع بين الفعلين ، بحيث إنّه لو كان ذلك القدر الجامع ممّا يدركه العرف وكان قريباً لأذهانهم ، لكان الوجوب متعلّقاً به ، وكان التخيير بين الفعلين عقلياً.

أمّا ما يقال من إمكان تصوير كون التخيير الشرعي ناشئاً عن ملاكين فقد حقّق في محلّه وهنا أيضاً أنّه أوّلاً خلاف الظاهر من إبراز الحكم بقالب العطف بلفظ « أو ». وثانياً : منع إمكان ذلك من أصله ، حيث إنّ فرض تزاحم الملاكين في مقام الجعل والتشريع يوجب الجعل على طبق أحدهما عند تساويهما ، فلا يكون المؤثّر إلاّملاكاً واحداً وهو أحد الملاكين ، لا أنّ المؤثّر هو كلّ من الملاكين ليكون ذلك موجباً لاشتراط التكليف بكلّ من الفعلين في مرحلة البقاء بعدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٢٩.

(٢) فوائد الأُصول ١ ـ ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٤.

(٣) راجع بحث الواجب التعييني والتخييري في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٤٩ وما بعدها.

٢٧٤

الاتيان بالفعل الآخر (١) وإن كان هذا الأخير محلّ تأمّل ، لأنّ الملاكين لو كان كلّ منهما في حدّ نفسه تام الملاكية ، غير أنّه لا يمكن استيفاؤه مع استيفاء الآخر ، يكون كلّ منهما باعثاً للمولى على إيجاد الحكم على طبقه مقيّداً بقاؤه بعدم الآخر ، ولا يعقل أن ينبعث المولى عن أحدهما بإيجاد طلب أحد الفعلين ، فإنّ طلب المولى وإن أمكن تعلّقه بإيجاد أحد الفعلين ، بخلاف الإرادة التكوينية من العبد ، إذ لا يصحّ تعلّقها بإيجاد أحد الفعلين ، إلاّ أنّ نفس جعل المولى الطلب الناشئ عن أحد الملاكين ، يكون من هذه الجهة حاله حال الإرادة التكوينية في أنّها لا يعقل أن تنشأ عن أحد الملاكين.

وبالجملة : أنّ هذا الطلب الواحد المتعلّق بأحد الفعلين لا يعقل أن يكون ناشئاً عن أحد الملاكين ، فإنّه من هذه الجهة كالفعل الواحد الصادر عن أحد الباعثين ، فكما نقول بمحالية صدور الفعل الواحد عن أحد الباعثين ، فكذلك ينبغي أن نقول بمحالية صدور الطلب الواحد من المولى المتعلّق بأحد الفعلين عن أحد الملاكين ، بل لابدّ في ذلك من صدور طلبين يتعلّق أحدهما بأحد الفعلين معيّناً والآخر بالآخر ، ويكون بقاء كلّ منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر. ويمكن أن تكون ملاكية أحد الملاكين مشروطة بعدم وجود الفعل الآخر ، فيكون اشتراط العدم اشتراطاً في أصل حدوث الطلب وفي بقائه بعد تحقّق حدوث الطلب وتعلّقه بكلّ منهما.

وعلى كلّ حال ، يكون المنشأ طلبين لا طلباً واحداً متعلّقاً بأحدهما ،

__________________

(١) هذا حاصل ما أفاده شيخنا قدس‌سره فراجع تحريرات السيّد ص ١٥٥ وتحريرات المرحوم الشيخ محمّد على ص ١٣٠ من مبحث الواجب التخييري [ منه قدس‌سره. راجع أجود التقريرات ١ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ وفوائد الأُصول ١ ـ ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٤ ].

٢٧٥

ويكون عدم كلّ منهما شرطاً في حدوث الآخر وفي بقائه ، أو يكون شرطاً في بقائه لا في حدوثه ، أمّا كونه شرطاً في حدوثه فقط نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، فلا يتأتّى فيما نحن فيه ، لأنّ لازمه هو أنّه عند خلوّ صفحة الوجود عن كلّ منهما أن يتوجّه كلا التكليفين ، ولابدّ من الاتيان بكلّ منهما حينئذ ، ولا يكون الاتيان بأحدهما موجباً لسقوط الآخر. نعم فيما لو كان هناك ملاك واحد يقوم به كلّ من الفعلين ، يكون الناشئ عن ذلك الملاك الواحد طلباً واحداً متعلّقاً بأحد الفعلين.

الأمر الثاني : أنّه بعد فرض كون المنشأ في الخطاب التخييري هو الملاك الواحد ، لابدّ أن يكون مرجعه إلى تكليف واحد متعلّق بأحد الفعلين على البدل ، لا أنّه يكون مرجعه إلى التكليف بكلّ من الفعلين مشروطاً ولو في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالآخر ، بحيث إنّه قبل الاتيان بشيء منهما يكون لنا تكليفان فعليان يكون بقاء كلّ منهما مشروطاً بعدم الاتيان بمتعلّق التكليف الآخر ، إذ لو كان مرجعه إلى ذلك لزم منه كون الملاك الواحد علّة لتكليفين ، واشتراط بقاء كلّ منهما بعدم الاتيان بمتعلّق الآخر لا يدفع هذا المحذور ، أعني استحالة كون الملاك الواحد علّة في توجّه تكليفين فعليين.

نعم ، هذا الاشتراط الذي يكون مرجعه إلى الترتّب من الطرفين ، يدفع إشكال التدافع والتطارد بين الخطابين فيما لو كان المكلّف غير قادر على امتثالهما ، كما لو كان التزاحم في مقام الامتثال من جهة عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما كما في مسألة الغريقين ، ومع ذلك هذا الاشتراط إنّما يكون في مرحلة الحدوث لا في مرحلة البقاء.

الأمر الثالث : أنّه بعد أن عرفت أنّ مرجع الخطاب التخييري إلى تكليف

٢٧٦

واحد متعلّق بأحد الفعلين ، تعرف أنّ الاتيان بأحد الفعلين لا ينبغي أن يعدّ من قبيل المسقط للتكليف بالآخر إلاّمسامحة ، حيث إنّك قد عرفت أنّه ليس لنا في الوجوب التخييري تكليفان يكون الاتيان بمتعلّق أحدهما مسقطاً للآخر ، بل لا يكون لنا إلاّتكليف واحد متعلّق بأحد الفعلين ، فهو أشبه شيء بالتخيير العقلي ، بل هو هو بعينه ، غايته أنّه لم يكن فيه جامع عرفي بين الفعلين ، فلا يكون الاتيان بأحد الفعلين إلاّ امتثالاً لذلك التكليف ، أعني التكليف بأحد الفعلين ، لا أنّه يكون امتثالاً للتكليف المتعلّق بالمأتي به وإسقاطاً للتكليف المتعلّق بالآخر الذي لم يأت به ، ولو كان كذلك لعاد المحذور السابق المذكور في الأمر الثاني.

وبالجملة : أنّ كلّ واحد من العدلين لا يكون إلاّ امتثالاً لنفس الوجوب التخييري ، وليس كلّ منهما مسقطاً للتكليف بالآخر ، وإلاّ لكان عدمه شرطاً للتكليف بالآخر ولو في مرحلة البقاء ، فيعود إشكال استحالة كون الملاك الواحد علّة لتكليفين فعليين ولو بالنسبة إلى ما قبل الشروع في شيء من المتعلّقين.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لو أتى بهما دفعة واحدة يكون أحدهما لا بعينه امتثالاً والآخر لغواً. ويحتمل أن يكون المجموع امتثالاً واحداً ، نظراً إلى ما ذكرناه من رجوع التكليف التخييري في الحقيقة إلى التكليف بالقدر الجامع وإن لم يكن ذلك الجامع عرفياً ، فيكون المجموع من الفعلين مصداقاً ووجوداً واحداً من تلك الطبيعة التي هي القدر الجامع. وعلى أيّ حال ، فإنّ احتمال كون ذلك المجموع عبارة عن امتثالين لا وجه له ، كاحتمال عدم حصول الامتثال بذلك المجموع ، نظراً إلى أنّ كلّ واحد منهما ورد في مورد مسقطه الذي هو متعلّق الآخر ، فإنّ هذه الشبهة إنّما نشأت من دعوى كون أحد الفعلين مسقطاً للتكليف المتعلّق بالآخر ، وقد عرفت عدم صحّتها ، وأنّ الصحيح هو أنّ أحد الفعلين يكون امتثالاً للتكليف

٢٧٧

التخييري ، الذي هو عبارة عن وجوب أحد الفعلين.

الأمر الرابع : بما أنّه قد عرفت أنّ الاتيان بأحد الفعلين لا يكون إلاّ امتثالاً لذلك التكليف التخييري ، تعرف أنّه لو علم بوجوب العتق مثلاً واحتمل كون الصيام واجباً أيضاً تخييرياً بينه وبين العتق ، لو أتى المكلّف بالصيام ، لا يكون من قبيل الشكّ في سقوط التكليف بالعتق ، ولا من قبيل الشكّ في كون الصيام مسقطاً له ، بل لا يكون إلاّمن قبيل الشكّ في الامتثال ، لأنّه على تقدير كون التكليف متعلّقاً بخصوص العتق لم يكن الامتثال حاصلاً ، فلا يكون الشكّ إلاّمن قبيل الشكّ في حصول الامتثال ، فهو من هذه الجهة أشبه شيء بما لو توجّه إليه التكليف المردّد متعلّقه بين الجمعة والظهر وقد أتى بأحدهما. نعم يمكن التعبير بأصالة الاشتغال وأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، لكن لا بالنسبة إلى خصوص العتق ، بل بالنسبة إلى العلم الاجمالي المردّد بين كون المكلّف به هو خصوص العتق ، أو هو أحد الأمرين منه ومن الصيام.

وبالجملة : أنّ المعوّل عليه في هذه المسألة هو العلم الاجمالي المذكور ، بل يكون هو المعوّل حتّى لو لم نتمكّن من إثبات كون الوجوب التخييري ناشئاً عن ملاك واحد ، بأن احتملنا كونه ناشئاً عن ملاكين ، فإنّه عند الدوران في وجوب العتق بين التعيين والتخيير بينه وبين الصيام ، يحصل لنا ذلك العلم الاجمالي أيضاً لأنّا حينئذ نعلم بأنّا مكلّفون إمّا بالعتق وحده ، أو بأحد الأمرين منه ومن الصيام إن كان الخطاب التخييري ناشئاً عن ملاك واحد ، أو بكلّ من الأمرين المذكورين في ظرف عدم الآخر إن كان الوجوب التخييري ناشئاً عن ملاكين ، وعلى كلّ من هذه الأطراف الثلاثة يكون الفراغ اليقيني منحصراً بالعتق ، ولا يحسن أن نقول إنّ الاتيان بالصيام يكون من قبيل الشكّ في كونه مسقطاً للتكليف بالعتق ، نعم هو من

٢٧٨

قبيل الشكّ في المسقط بالنسبة إلى ذلك المكلّف به واقعاً ، المردّد بين كونه هو خصوص العتق أو كونه أحد الأمرين ، كما سيأتي توضيحه إن شاء الله (١)

__________________

(١) والأولى أن يقال : إنّا بعد أن تصوّرنا التخيير عن ملاك واحد والتخيير عن ملاكين ، بكون ملاكية كلّ مشروطة حدوثاً وبقاءً بعدم الفعل الآخر ، أو بكون بقاء أحد الملاكين مشروطاً بعدم الآخر ، تكون الاحتمالات ثلاثة ، ولا إشكال في لزوم الاحتياط لو كنّا مسبوقين بترك الصيام مثلاً ، فإنّه حينئذ يحصل لنا العلم بأنّه قد توجّه إلينا التكليف إمّا بالعتق وحده ، وإمّا بأحدهما ، وإمّا بالعتق بشرط عدم الصيام حدوثاً وبقاءً ، وإمّا به ما دام عدم الصيام ، فعند وجود الصيام نشكّ في سقوط التكليف الذي علمناه قبل حدوثه. نعم لو لم نكن مسبوقين بعدم الصيام ، بل كان الصيام مثلاً موجوداً وحصل لنا ما يوجب وجوب العتق على الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، تنحلّ المسألة إلى الشكّ في التكليف ، لأنّه على أحد الوجوه المذكورة لا نكون مكلّفين بشيء عند وجود الصيام ، وحينئذ يكون الجاري في حقّنا هو البراءة ، فتأمّل.

لكن هذا الفرض نادر جدّاً ، والغالب هو اقتران سبب وجوب العتق بعدم الطرف الآخر الذي هو الصيام مثلاً ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة الاشتغال فيما لو أقدم على الصيام بعد توجّه الأمر بالعتق عند حدوث سبب وجوبه ، وهذه الطريقة أعني أصالة الاشتغال كما تجري في الصورة المذكورة ، أعني ما لو علم بوجوب العتق وشكّ في كونه تعيينياً أو تخييرياً بينه وبين الصدقة مثلاً ، فكذلك تجري فيما لو علم وجوب كلّ منهما وشكّ في التعيين والتخيير في كلّ منهما.

وكذلك تجري أيضاً في الصورة الثالثة ، وهي ما لو علم وجوب كلّ منهما تخييراً ، ولكن حصل الشكّ في شمول ذلك الوجوب التخييري لثالث لهما ، بأن احتملنا كون أطراف ذلك الوجوب التخييري ثلاثة : الاثنين المذكورين وثالثاً لهما وهو الصيام مثلاً فإنّه عند الاتيان بالصيام تجري أصالة الاشتغال في ذلك الوجوب التخييري المعلوم تعلّقه بأحد الاثنين.

٢٧٩

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو تعذّر عليه العتق بعد توجّه الخطاب المذكور ،

__________________

بل وكذلك تجري هذه الطريقة فيما لو علمنا أنّ ذلك الثالث ليس بواجب تخييري ، ولكن احتملنا كون وجود ذلك الثالث مسقطاً لهما. وكذا فيما لو علمنا وجوب شيء معيّن وجوباً تعيينياً ، ولكن احتملنا أنّ الفعل الفلاني يكون مسقطاً لذلك الوجوب التعييني ، وإن لم يكن هو ـ أعني ذلك الفعل ـ واجباً لا تعييناً ولا تخييراً.

نعم ، هناك شكّ آخر في هذه المسائل ، وهو أنّه عند تعذّر ما علمنا وجوبه ، هل يتعيّن ذلك الطرف الآخر المشكوك الطرفية أو المشكوك كونه مسقطاً ، ولابدّ من التعرّض لهذه الجهة من الشكّ.

ولكن المسألة الثانية خارجة عن هذا البحث ، فإنّا لو علمنا بوجوب كلّ من العتق والصدقة مثلاً ، وشككنا في كونه تعيينياً أو تخييرياً ، لو اتّفق تعذّر العتق مثلاً ، فلا إشكال في وجوب الاتيان بالصدقة ، سواء كان وجوبهما تعيينياً أو كان وجوبهما تخييرياً.

وكذلك الحال في المسألة الأخيرة ، فإنّ ذلك الفعل الآخر المحتمل الاسقاط لا يحتمل وجوبه عند تعذّر الطرف الآخر الذي تعلّق به الوجوب حتّى في صورة العلم بكونه مسقطاً.

نعم ، تدخل هذه المسألة في هذا البحث لو احتملنا مع كونه مسقطاً كونه طرفاً في الوجوب التخييري ، بأن يحصل التردّد بين كونه مسقطاً محضاً وكونه طرفاً في الوجوب التخييري ، وكذلك لو انضمّ إليهما احتمال ثالث ، وهو كونه مباحاً صرفاً لا مسقطاً ولا واجباً تخييرياً.

ثمّ بعد ذلك نقول بعونه تعالى : قد يقال في هذه المسائل عند تعذّر ما علم وجوبه بالاشتغال ، نظراً إلى أنّ تعذّر ما تعذّر هل يوجب سقوط التكليف الذي كان ثابتاً قبل التعذّر. وقد يقال بالبراءة ، نظراً إلى كون تعيّن الباقي مشكوكاً ، لأنّ تعيّنه إنّما يكون لو كان الوجوب تخييرياً ، والمفروض أنّه لم يثبت ذلك ، وحينئذ يكون تعيّن الصيام مشكوكاً ، فالأصل فيه البراءة [ منه قدس‌سره ].

٢٨٠