رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤)

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) اعلم أن من حقيقته أن يكون مقيدا ، لا يصح أن يكون مطلقا بوجه من الوجوه ما دامت عينه ، فإن التقييد صفة نفسية له ، ومن كان حقيقته أن يكون مطلقا فلا يقبل التقييد جملة واحدة ، فإنه صفته النفسية أن يكون مطلقا ، لكن ليس في قوة المقيد أن يقبل الإطلاق لأن صفته العجز ، وأن يستصحبه الحفظ الإلهي لبقاء عينه ، فالافتقار يلزمه. وللمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فلا توجب على الله إلا ما أوجبه على نفسه ، وعلى الحقيقة إنما وجب ذلك على النسبة لا على نفسه ، فإنه يتعالى أن يجب عليه من أجل حدّ الواجب الشرعي ، والنسب هي الأسماء الإلهية فإن لكل اسم دلالتين : دلالة على المسمّى به ، ودلالة على حقيقته التي بها يتميز عن اسم آخر. فلا إله إلا هو ، ولا فاعل سواه ، فيوجب من كونه كذا ، ويجب عليه من كونه كذا ، فالرحمة الواجبة أوجبها تعالى للعالم على نفسه ، وصارت حقا عليه ولكن لا كل العالم بل لعالم مخصوص ، وهو المنعوت في قوله : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) فهم قوم خواصّ نعتهم بعمل خاص فقيدها بالجهالة ، فإن لم يجهل لم يدخل في هذا التقييد ، وبقيت الرحمة مطلقة من عين المنة لا الوجوب فهؤلاء يأخذونها من طريق الوجوب لقيام الأسباب التي جعلها الحق موجبة لها بهم ، وما عدا هؤلاء فينتظرونها من باب المنة ، وقال في آية أخرى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) وما عدا هؤلاء المنعوتين فإن الله يرحمهم برحمة الامتنان ، فلا وجوب على الله مطلقا ، فمهما رأيت الوجوب فاعلم أن التقييد يصحبه ، وما كتب الله على نفسه ما كتبه إلا لمن قام بحق النيابة عنه فيما استنابه وليس إلا المتقين ، وما عدا هؤلاء فهم أهل المنن ، فنالوا أغراضهم على الاستيفاء ، ثم إن الله امتن عليهم بعد ذلك بالمغفرة والرحمة التي عم حكمها ، وهنا أوجب الحق الرحمة على نفسه لمن تاب وأصلح من العاملين السوء بجهالة.

٨١

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧)

وهو خير الفاصلين بأحكام حكمته فتزول المغالبة والمنازعة.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩)

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) كل معدوم العين ظاهر الحكم والأثر ، فهو على الحقيقة المعبر عنه بالغيب ، فإنه من غاب في عينه فهو الغيب ، والطبيعة غائبة العين في الوجود فليس لها عين فيه ، وعن الثبوت وليس لها عين فيه ، فهي عالم الغيب المحقق ، وهي معلومة ، كما أن المحال معلوم ، غير أن الطبيعة وإن كانت مثل المحال في رفع الثبوت عنها والوجود فلها أثر ويظهر عنها صور ، والمحال ليس كذلك ، ومفاتيح هذا الغيب هي الأسماء الإلهية التي لا يعلمها إلا الله العالم بكل شيء ، والأسماء نسب غيبية إذ الغيب لا يكون مفتاحه إلا غيبا. وهذه الأسماء تعقل منها حقائق مختلفة معلومة الاختلاف كثيرة ، ولا تضاف إلا إلى الحق فإنه مسماها ولا يتكثر بها ، فلو كانت أمورا وجودية قائمة به لتكثر بها ، فعلمها سبحانه من حيث كونه عالما بكل معلوم ، وعلمناها نحن باختلاف الآثار منها فينا ، فسميناه كذا من أثر ما وجد فينا ، فتكثرت الآثار فينا ، فكثرت الأسماء والحق مسماها فنسبت إليه

٨٢

ولم يتكثر في نفسه بها ، فعلمنا أنها غائبة العين. ولما فتح الله بها عالم الأجسام الطبيعية باجتماعها بعد ما كانت متفرقة في الغيب ، معلومة الافتراق في العلم ، إذ لو كانت مجتمعة لذاتها لكان وجود عالم الأجسام أزلا لنفسه لا لله ، وما ثم موجود ـ ليس هو الله ـ إلا عن الله. وما ثم واجب الوجود لذاته إلا الله ، وما سواه فموجود به لا لذاته ، وبالمشيئة ظهر أثر الطبيعة وهي غيب فالمشيئة مفتاح ذلك الغيب ، والمشيئة نسبة إلهية لا عين لها فالمفتاح غيب ، فالغيب هو النور الساطع العام الذي به ظهر الوجود كله ، وما له في عينه ظهور ، فهو الخزانة العامة التي خازنها منها ، وقد تكون مفاتح الغيب هي استعدادات القوابل ، وهي غير مكتسبة بل منحة إلهية ، فلهذا لا يعلمها إلا الله ولا تعلم إلا بإعلام الله ، وعالم الغيب قد يظهر على غيبه من يرتضيه من رسله ، وهو غيب الوجود أي ما هو في الوجود ، ومغيب عن بعض الأبصار والبصائر ، وهذا الغيب هنا ما ليس بموجود ، فمفتاح ذلك الغيب لا يعلمه إلا الله ، فلا يعلم ما هو مفتاح غيب خاص في مفرد مفرد من الغيوب ، فإذا حصل الاستعداد من الله تعالى حصل المفتاح وبقي الفتح حتى يقع التعليم ، فإنه هو الفتاح العليم فانفرد سبحانه بعلم مفاتح هذا الغيب ، ونفى العلم عن كل ما سواه بها ، فالممكنات كلها وأعني بكلها ميزها عن المحال ولاواجب ، لا أن أعيانها يحصرها الكل ، ذلك محال هي في ظلمة الغيب ، فلا يعرف لها حالة وجود ، ولكل ممكن منها مفتاح ، لا يعلمه إلا الله ، فلا موجد إلا هو ، خالق كل شيء وموجده ، وما من ممكن يظهره الله إلا وله ظل ممدود في الغيب ، لا يمكن خروجه. فظاهر الإنسان ما امتد من الإنسان فظهر ، وباطنه ما لم يفارق الغيب فلا يعلم باطن الإنسان أبدا. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وهي ما تسقط إلا من خشية الله كما قال (وإن منها لما يهبط من خشية الله) (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) أمهات الطبيعة أربعة : الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وقد جعل الله اثنين منها أصلا في وجود الاثنين الآخرين ، فانفعلت اليبوسة عن الحرارة ، والرطوبة عن البرودة ، فالرطوبة واليبوسة موجودتان عن سببين هما الحرارة والبرودة ، ولهذا ذكر الله في قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) لأن المسبب يلزم من كونه مسببا وجود السبب ، أو منفعلا وجود الفاعل كيف شئت فقل ، ولا يلزم من وجود السبب وجود المسبب فإن المنفعل يطلب الفاعل بذاته ، فإنه منفعل لذاته ولو لم يكن منفعلا لذاته ما قبل الانفعال والأثر

٨٣

وكان مؤثرا فيه ، بخلاف الفاعل فإنه يفعل بالاختيار إن شاء فعل فيسمى فاعلا ، وإن شاء ترك ، وليس ذلك للمنفعل. ولهذه الحقيقة ذكر تعالى (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) فذكر المنفعل ولم يذكر ولا حار ولا بارد لما كانت الرطوبة واليبوسة عند العلماء بالطبيعة تطلب الحرارة والبرودة اللتين هما منفعلتان عنهما ، كما تطلب الصنعة الصانع ، لذلك ذكرهما دون الأصل ، وإن كان الكل في (كِتابٍ مُبِينٍ) فهذه الآية من فصاحة القرآن وإعجازه حيث علم أن الذي أتى به ـ وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن ممن اشتغل بالعلوم الطبيعية فيعرف هذا القدر ، فعلم قطعا أن ذلك ليس من جهته ، وأنه تنزيل من حكيم حميد ، وأن القائل بهذا عالم ، وهو الله تعالى. فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل شيء بتعليم الله إياه وإعلامه ، لا بفكره ونظره وبحثه.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦١)

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) لما صدر منهم من النزاع ، فمن أراد أن يزول عنه حكم القهر فليصحب الله بلا غرض ولا تشوف ، بل ينظر كل ما وقع في العالم وفي نفسه يجعله كالمراد له ، فيلتذ به ويتلقاه بالقبول والبشر والرضى ، فلا يزال من هذه حاله مقيما في النعيم الدائم ، لا يتصف بالذلة ، ولا بأنه مقهور ، فتدركه الآلام لذلك ، وعزيز صاحب هذا المقام ، وما رأيت له ذائقا ، لأنه يجهل الطريق إليه فإن الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به لأمر ما. (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وهو التوكيل أعني هذا الإرسال في حق قوم وحفظا وعصمة في حق آخرين ، فدخل تحت قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) فنكر ، فدخل حفظة الوجود وحفظة الأفعال ، ففي حفظ الوجود اجتماع الموحدين والمشركين في الحفظ الإلهي ، وذلك من باب الاعتناء بالخلق وإن جهلوا.

٨٤

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨)

كل ما في العالم آياته تعالى ، فإنها دلائل عليه ، ويدخل في ذلك الخوض في القرآن وهو المراء والجدل فيه بأنه محدث أو قديم ، أو هل هذا المكتوب في المصاحف ، والمتلو المتلفظ به ، عين كلام الله ، أو ما هو عين كلام الله؟ فالكلام في مثل هذا ، والخوض فيه ، هو الخوض في آيات الله. وقد سماه الله حديثا وليس إلا القرآن (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فلو أراد غير القرآن لقال فيها بضمير الآية أو الآيات فليس للذكورية هنا دخول إلا إذا أراد آيات القرآن ، والقرآن خبر الله ، والخبر عين الحديث ، وقد وصانا تعالى وحذرنا في آية أخرى بقوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) إذا أقمتم معهم وهم بهذه المثابة وإن لم نخض معهم.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

٨٥

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

ذمّ الله قوما اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وهم في هذا الزمان أصحاب السماع ، أهل الدف والمزمار ، نعوذ بالله من الخذلان :

ما الدين بالدف والمزمار واللعب

لكنما الدين بالقرآن والأدب

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١)

إن هدى الله هو الهدى ، أي بيان الله هو البيان ، وما لله لسان بيان فينا إلا ما جاءت به الرسل من عند الله فبيان الله هو البيان ، لا ما بينه العقل ببرهانه في زعمه ، وليس البيان إلا ما لا يتطرق إليه الاحتمال. فمن حكم عقله ونظره وبرهانه على شرعه فما نصح نفسه ، وما أعظم ما تكون حسرته يوم القيامة إذا انكشف الغطاء.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ

٨٦

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) وقال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) ـ بحث في الحق المخلوق به ـ هو العقل الأول وهو القلم الأعلى ، فأول ما أوجد الله من العالم العقول المدبرة جوهرا بسيطا ليس بمادة ولا في مادة ، عالم بذاته في ذاته ، علمه ذاته لا صفة له مقامه الفقر والذلة والاحتياج إلى باريه وموجده ومبدعه ، له نسب وإضافات ووجوه كثيرة ، لا يتكثّر في ذاته بتعددها. فياض بوجهين من الفيض : فيض ذاتي ، وفيض إرادي. فما هو بالذات مطلقا لا يتصف بالمنع في ذلك ، وما هو بالإرادة فإنه يوصف فيه بالمنع والعطاء وله افتقار ذاتي لموجده سبحانه الذي استفاد منه وجوده ، وسماه الحق سبحانه وتعالى في القرآن : حقا ، وقلما ، وروحا ، وفي السنة : عقلا وغير ذلك من الأسماء. وهو أول عالم التدوين والتسطير ، وهو الخازن الحفيظ العليم الأمين على اللطائف الإنسانية التي من أجلها وجد ، ولها قصد ، فهو العقل من حيث العلم بالله ، وهو القلم من حيث التدوين والتسطير ، وهو الروح من حيث التصرف ، وهو العرش من حيث الاستواء ، وهو الإمام المبين من حيث الإحصاء ، ولا يزال هذا العقل مترددا بين الإقبال والإدبار ، يقبل على باريه ، مستفيدا فيتجلى له ، فيكشف في ذاته من بعض ما هو عليه ، فيعلم من باريه قدر ما علم من نفسه ، فعلمه بذاته لا يتناهى وطريقة علمه به التجليات ، وطريقة علمه بربه علمه به ، ويقبل على من دونه مفيدا هكذا أبد الآباد في المزيد فهو الفقير الغني ، العزيز الذليل ، العبد السيد ، ولا يزال الحق يلهمه طلب التجليات لتحصيل المعارف ، واختلفت الاعتبارات فاختلفت الأسماء. فنقول في العقل الأول عقلا لمعنى يخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلما ، يخالف المعنى الذي لأجله نسميه روحا ، يخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلبا ، فهذه ألقاب كثيرة اختلفت على شيء واحد لظهوره في مراتب متعددة ، قابل بذاته كل مرتبة صالح لها. ـ وجه آخر ـ راجع النحل آية ٣ (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) الملك هو الذي يقضي فيه مالكه ومليكه بما شاء ، ولا يمتنع عنه جبرا فيسمى كرها ، أو اختيارا فيسمى طوعا (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أوتيت جوامع الكلام] وقال تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) وقال :

٨٧

(وصدقت بكلمات ربها وكتابه) ويقال : قطع الأمير يد السارق وضرب الأمير اللص ، فمن ألقي عن أمره شيء فهو ألقاه فكأن الملقي محمد عليه‌السلام ، ألقى عن الله كلمات العالم بأسره من غير استثناء شيء منه البتة ، فمنه ما ألقاه بنفسه كأرواح الملائكة وأكثر العالم العلوي ، ومنه أيضا ما ألقاه عن أمره فيحدث الشيء عن وسائط فرجع الكل في ذلك إلى من أوتي جوامع الكلم ، فنفخ الحقيقة الإسرافيلية من المحمدية المضافة إلى الحق نفخها كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قرىء ننفخ بالنون وقرىء بالياء وضمها وفتح الفاء والنافخ إنما هو إسرافيل والقبول من الصور وسر الحق بينهما هو المعنى بين النافخ والقابل ، كالرابط من الحرف بين الكلمتين ، وذلك هو سر الفعل الأقدس الأنزه الذي لا يطلع عليه النافخ ولا القابل ، والصور قرن من نور لأنه نفّر ظلام الأجسام بالأجساد وزال عنها بسرعة التقليب في الصور البقاء على الأمر المعتاد ، والصور هنا جمع صورة بالصاد ، وهو الحضرة البرزخية التي ننتقل إليها بعد الموت ، ونشهد نفسنا فيها ، وسميت بالصور والناقور ، فينفخ في الصور وينقر في الناقور وهو هو بعينه واختلفت عليه الأسماء لاختلاف الأحوال والصفات. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اعلم أن الغيب ظرف لعالم الشهادة ، وعالم الشهادة كل موجود سوى الله تعالى ، مما وجد ولم يوجد أو وجد ثم ردّ إلى الغيب ، كالصور والأعراض وهو مشهود لله تعالى ، ولهذا قلنا : إنه عالم الشهادة. ولم يزل الحق يخرج العالم من الغيب شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى عددا من أشخاص الأجناس والأنواع ، ومنها ما يرده إلى غيبه ومنها ما لا يرده أبدا ، فالذي لا يرده أبدا إلى الغيب كل ذات قائمة بنفسها وليس إلا الجواهر خاصة ، وكل ما عدا الجواهر من الأجسام والأعراض الكونية واللونية ترد إلى الغيب ، ويبرز أمثالها والله يخرجها من الغيب إلى شهادتها أنفسها. فهو عالم الغيب والشهادة والأشياء في الغيب لا كمية لها ، إذ الكمية تقتضي الحصر وهي غير متناهية ، فإذا ظهرت أعين الجواهر تبعتها النسب بكم وكيف وأين ، فليس في الوجود المحدث إلا الجوهر والنسب التي تتبعه ، فكان الغيب بما فيه كأنه يحوي على صورة مطابقة لعالمه إذ كان علمه بنفسه علمه بالعالم ، فبرز العالم على صورة العالم من كونه عالما به ، فالعالم مظهر الحق على الكمال فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، إذ ليس أكمل من الحق تعالى ، فلو كان في الإمكان أكمل من هذا العالم لكان ثم من هو أكمل من موجده ، وما ثم إلا الله ، فليس

٨٨

في الإمكان إلا مثل ما ظهر لا أكمل منه ، ومن ذلك نعلم أن الغيب غيبان : غيب لا يوجد منه شيء فيكون شهادة ولا ينتقل إليه بعد الشهادة ، وما هو محال فيكون عدما محضا ، ولا هو واجب الوجود فيكون وجودا محضا ، ولا هو ممكن يستوي طرفاه بين الوجود والعدم ، وما هو غير معلوم ، بل هو معقول معلوم ، فلا يعرف له حد. وهو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه حيث قال : (عالِمُ الْغَيْبِ) وما قرنه بالشهادة ، والغيب الآخر الغيب الذي قرنه بالشهادة وهو الذي يوجد منه الكائنات ، والغيب الذي ينتقل إليه بعض الكائنات بعد اتصافها بالشهادة ، لذلك قال متمما : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) فإن الحق ما هو فعله مع الأغراض التي أوجدها في عباده ، وإنما هو مع ما تطلبه الحكمة ، والذي اقتضته الحكمة هو الواقع في العالم ، فعين ظهوره هو عين الحكمة ، فإن فعل الله لا يعلل بالحكمة ، بل هو عين الحكمة.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٧٤)

لأنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم ، وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم من الله شيئا ، فهي شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥)

اعلم أن عالم الملكوت هو المحرك لعالم الشهادة ، وهو تحت قهره وتسخيره ، حكمة من الله تعالى لا لنفسه استحق ذلك ، فعالم الشهادة لا تصدر منه حركة ولا سكون ، ولا أكل ولا شرب ، ولا كلام ولا صمت ، إلا عن عالم الغيب. وذلك أن الحيوان لا يتحرك إلا عن قصد وإرادة وهما من عمل القلب ، وهو من عالم الغيب ، والحركة وما شاكلها من عالم الشهادة ، وعالم الشهادة ما أدركناه بالحس عادة ، وعالم الغيب ما أدركناه بالخبر الشرعي ، أو النظر الفكري فيما لا يظهر للحس عادة فنقول : إن عالم الغيب يدرك بعين

٨٩

البصيرة ، كما أن عالم الشهادة يدرك بعين البصر ، وكما أن البصر لا يدرك عالم الشهادة ما لم يرتفع عنه حجاب الظلم أو ما أشبه من الموانع ، فإذا ارتفعت الموانع وانبسطت الأنوار على المحسوسات أدرك البصر المبصرات ، فإدراكها مقرون بنور البصر ونور السراج وأشباهها من الأنوار ، كذلك عين البصيرة حجابها الريون ، والشهوات ، وملاحظة الأغيار ، إلى مثل هذه من الحجب ، فتحول بينها وبين إدراك الملكوت أعني عالم الغيب ، فإذا عمد الإنسان إلى مرآة قلبه وجلاها بأنواع الرياضات والمجاهدات حتى زال عنها كل حجاب ، واجتمع نورها مع النور الذي ينبسط على عالم الغيب ، وهو النور الذي يتراءى به أهل الملكوت ، وهو بمنزلة الشمس في المحسوس ، اجتمع عند ذلك نور عين البصيرة ، مع نور التمييز ، فكشف المغيبات على ما هي عليه ، غير أن بينهما لطيفة معنى ، وذلك أن الحس يحجبه الجدار ، والبعد المفرط ، والقرب المفرط ، والأجسام الكثيفة الحائلة بينه وبين من يريد إدراكه ، وهذا لقصوره عادة ، وقد تنخرق لنبي أو ولي كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أراكم من وراء ظهري ، وفي الأولياء ابتداء المكاشفات لهم في أول سلوكهم ، فإن المريد أول ما يكشف له عن المحسوسات فيرى رجلا مقبلا أو على حالة ما وبينهما البعد المفرط والأجسام الكثيفة ، بحيث أن يراه بمكة أو يرى الكعبة وهو بأقصى المغرب ، وهذا كثير عند المريدين في أول أحوالهم ، وأما عالم البصيرة فلا إذ عالم الغيب ليس بينه وبين عين البصيرة مسافة ولا بعد ولا قرب مفرط ، وحجابه إنما هو الران والقفل والكن وقد ارتفعت بالمجاهدات ، فلاحت أعلام الغيوب ، لكن ثم أمر تدركه وهو إن انجلت عين البصيرة كما ذكرناه فإن ثم حجابا آخر إلهيا ، وهو أن النور الذي ينبسط من حضرة الجود على المغيبات في الحضرات الوجودية ليس يعمها إلا على قدر ما يريد الله تعالى أن يكشف لك منها ، مع أنك في غاية الصفاء والجلاء ، وذلك هو مقام الوحي دليلنا على ذلك قوله تعالى : «قل (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) مع غاية الصفاء النبوي ، فكيف بالولي الذي ما فتح له من الطريق خرت إبرة؟ فهذا هو قدر ما يكشف له من عالم الغيب ، فيرى تأثيره في عالم الشهادة فيتكلم به على ذلك الحد ، فيقول : يكون كذا ولا يكون كذا وعاقبة أمر ما إلى كذا على قدر الكشف. وهذا الحجاب الإلهي لا يمكن رفعه عقلا ولو بلغ المرء أعلى الغايات ، بدليل أن هذا الحجاب إنما هو العلم الأزلي المتعلق بمعلومات غير

٩٠

متناهية ، وكل ما حصره الوجود فهو متناه ، ولا تكشف عين البصيرة إلا ما دخل في الوجود بوجه ما من أوجه مراتب الوجود ، ومهما ظهر ممن حصل في هذا المقام شيء من ذلك على ظاهره في حق شخص ما ، فتلك الفراسة ، وهي أعلى درجات المكاشفة ، لذلك قال تعالى : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وذلك عين اليقين لأنه عن رؤية وشهود.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦)

فإن الإله لا يكون من الآفلين وإبراهيم الخليل يحب الله بلا شك ، فالله ليس بآفل ، فإن تجليه دائم ، وتدليه لازم ، لذلك لم يجب الخليل الآفل ، لأنه رآه يطلب السفل ، وهمته في العلو لطلب الدنو.

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨)

كانت هذه الثلاثة أنوار حجة إبراهيم على قومه آتاه الله إياها عناية منه به ولم يقلها إشراكا ، لكن جعلها حبالة صائد يصيد بها ما شرد من عقول قومه ، فلم يكن قوله في الأنوار الثلاثة عن اعتقاد بل عن تعريف لإقامة الحجة على القوم ، ألا ترى إلى ما قال الحق في ذلك. وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه. ـ إشارة ـ غمّض عن الكوكب والقمر ، وإذا رأيت الشمس فلا تقل هذا أكبر ، أي لا تطلب الله تعالى بالدليل ، بل سله يعرفك بنفسك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من عرف نفسه عرف ربه) ـ إشارة ـ الكوكب والقمر والشمس أنوارها إشارة إلى الروح والعقل والنفس ، وأثبت لهم الربوبية لما لحظ لهم القهر على النشأة الترابية.

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩)

٩١

قال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لما رأى بعضهم يفضل على بعض وفطر السموات والأرض هو قوله ففتقناهما ، فصل السموات بعضها عن بعض ، وهو بحر واسع ما يسعه كتاب ، ففتقهما بعد رتقهما ليتميزا ، فيظهر المؤثر والمؤثر فيه لوجود التكوين. (حَنِيفاً) الحنف : الميل أي مائلا إلى جناب الحق (وَما أَنَا) في هذا الميل (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فنفى عن نفسه الشرك. ـ التوجه في الصلاة ـ جاء في الحديث بعد التكبير (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) والأكمل في التوجه أن يعقب التوجه بقوله : «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، والخير كله بيديك والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك» ـ إشارة ـ أيها الحباب المتقاطر ، والسحاب الماطر ، هذا قد تجلى لكليتك الإله الفاطر ، فقل لسمائك لا تحجب بلطافتها ، ولأرضك لا تحجب بكثافتها ، فإنه لا بد عند تجليه لسمائك من تخلخلها ، ولأرضك من تزلزلها ، فإياك أن تقع في أشراك الإشراك ، لعظيم آفات الاشتراك ، والزم الوحدة فيها تحصل رفده ومجده ، وكن وجها مستديرا ، ولا تجعله عبوسا قمطريرا ، ولا تحجب بالجهة الكعبية ، عن الجهة القلبية ، وألحق الحياة بقدمها ، والموت بعدمه في قدمها ، والصلاة بحضرة ربك ، واجعل النسك قربان قربك ، وأقر بالأمر للآمر ، واعترف بالإسلام حذرا من الحسام الباتر ، وارغب في الانصراف إلى الفضائل وعن الرزائل ، واسند الأمور إليه ، فإن مفاتيحها في يديه ، واستسلم للحكم ، تكن من أهل العلم ، وتدرّع بثوب الاستغفار ، فإنه يحول بينك وبين النار.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)

٩٢

وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨١)

اعلم أن المعلومات أربعة : الحق تعالى وهو الموصوف بالوجود المطلق سبحانه ، ليس معلولا لشيء ولا علة بل هو موجودا بذاته ، والعلم به عبارة عن العلم بوجوده ، ووجوده ليس غير ذاته ، مع أنه غير معلوم الذات ، لكن يعلم ما ينسب إليه من الصفات أعني صفات المعاني وهي صفات الكمال ، وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع ، لا تعلم بدليل ولا ببرهان عقلي ، ولا يأخذها حد ، فإنه سبحانه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، فكيف يعرف من يشبه الأشياء من لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا؟ وقد ورد المنع من الشرع في التفكر في ذات الله «ومعلوم ثان» وهو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم ، ولا تتصف بالوجود ولا بالعدم ، ولا بالحدوث ولا بالقدم ، هي في القديم إذا وصف بها قديمة ، وفي المحدث إذا وصف بها محدثة ، لا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة ، ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها ، فإن وجد شيء عن غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته ، قيل فيها : موجود قديم لاتصاف الحق بها وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله وهو المحدث الموجود بغيره قيل فيها محدثه وهي في كل موجود بحقيقتها فإنها لا تقبل التجزي ، فما فيها كل ولا بعض ، ولا يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل ولا ببرهان ، فمن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى ، وليست بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم ، وكذلك لتعلم أيضا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم ولا العالم بالتأخر عنها ، ولكنها أصل الموجودات عموما ، وهي أصل الجوهر ، وفلك الحياة ، والحق المخلوق به ، وغير ذلك ، وهي الفلك المحيط المعقول ، فإن قلت : إنها العالم صدقت ، أو إنها ليست العالم صدقت ، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت ، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه بتنزيه الحق ، وهذه الحقيقة الكلية هي الجامعة لحقائق العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وجميع الأشياء كلها. «ومعلوم ثالث» وهو العالم كله الأملاك والأفلاك وما تحويه من العوالم والهواء والأرض «ومعلوم ثالث» وهو العالم كله الأملاك والأفلاك وما تحويه من العوالم والهواء والأرض وما فيهما من العالم وهو الملك الأكبر. «ومعلوم رابع» وهو الإنسان الخليفة الذي جعله

٩٣

الله في هذا العالم المقهور تحت تسخيره ، فمن علم هذه المعلومات فما بقي له معلوم أصلا يطلبه ، فمنها ما لا نعلم إلا وجوده وهو الحق تعالى ، ونعلم أفعاله وصفاته بضرب من الأمثلة ، ومنها ما لا يعلم إلا بالمثال كالعلم بالحقيقة الكلية ، ومنها ما يعلم بهذين الوجهين وبالماهية والكيفية وهو العالم والإنسان.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢)

أتى سبحانه بلفظة (بِظُلْمٍ) نكرة فشق على الصحابة فقالوا : «وأينا لم يلبس إيمانه بظلم»؟ وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، ما عرفوا مقصود الحق من الآية ، والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور ، راجع إلى ما تعطيه الألفاظ من القوة في أصل وضعها ، لا ما هو الأمر عليه في نفسه ، لأن الظلم هنا ظلم خاص ، مع كونه نكرة فهو نكرة عند السامع لا عند المتكلم به ، لهذا فسر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : ليس الأمر كما ظننتم وإنما أراد الله بالظلم هنا ما قاله لقمان لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ففسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظلم في هذه الآية بالشرك خاصة وعلمنا بهذا التفسير أن الله أراد بالإيمان هنا أنه الإيمان بتوحيد الله لأنّ الشرك لا يقابله إلا التوحيد ، فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم تعلمه الصحابة ، ولهذا ترك التأويل من تركه من العلماء ولم يقل به واعتمد على الظاهر وترك ذلك لله.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)

الحجة هي إذا كان القول يعجز السامع فهو عين الحجة ، وهذا يدل على أن حجج الرسل عليهم‌السلام ليست عن نظر فكري ، وإنما هي عن تعليم إلهي. فقوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي مثل حجتنا التي نصبناها دليلا على توحيدنا ، وهي قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فقد استدل إبراهيم الخليل عليه‌السلام في الأفول فأعطاه النظر أن الأفول يناقض حفظ العالم ، فالإله لا يتصف بالأفول ، أو الأفول حادث لطروه

٩٤

على الآفل بعد أن لم يكن آفلا ، والإله لا يكون محلا للحوادث ، وهذه الأنوار قد قبلت الأفول فليس واحد منها بإله ، فذكر إبراهيم عليه‌السلام الحق بالعالم دلالة عليه ، ولم يقل ذلك إشراكا لكن جعل الأنوار الثلاثة حبالة صائد يصيد بها ما شرد من عقول قومه فقال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) عناية منا به (عَلى قَوْمِهِ) ـ تحقيق ـ من القول ما هو حجة وما ليس بحجة ، فهل الحجة على الخصم عين القول خاصة أو ما يدل عليه القول؟ أو في موطن يكون القول ، وفي موطن يكون ما يدل عليه القول؟ إذا كان القول يعجز السامع فهو عين الحجة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فإن كل ما يجري هو عن وضع إلهي وترتيب عالم حكيم.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٨)

اعلم أن الأسباب محال رفعها ، وكيف يرفع العبد ما أثبته الله. ليس له ذلك ، ولكن الجهل عمّ الناس فأعماهم وحيرهم وما هداهم ، فقد أثبت الله الهداية بالروح فقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقال فيه : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وهذا وضع السبب في العالم ، فالوقوف عند الأسباب لا ينافي الاعتماد على الله ، ولهذا جعل سبحانه الأسباب مسببات لأسباب غيرها ، من الأدنى حتى ينته فيها إلى الله سبحانه ، فهو السبب الأول لا عن سبب كان به ، فما دام الموجود ناظرا إلى السبب الذي صدر عنه ، كان أعمى

٩٥

عن شهود الله الذي أوجده ، فإذا أراد الله أن يجعله بصيرا ، ترك النظر إلى السبب الذي أوجده الله عنده ، ونظر من الوجه الخاص الذي من ربه إليه في إيجاده ، جعله الله بصيرا. فالأسباب كلها ظلمات على عيون المسببات ، وفيها هلك من هلك من الناس ، فالعارفون يثبتونها ولا يشهدونها ، ويعطونها حقها ولا يعبدونها ، وما سوى العارفين يعاملونها بالعكس ، يعبدونها ولا يعطونها حقها ، بل يغصبونها فيما تستحقه من العبودية التي هي حقها ، ويشهدونها ولا يثبتونها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٨٩)

فإن الملك أوسع من أن يضيق عن وجود شيء ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠)

ـ الوجه الأول ـ هدى الأنبياء عليهم‌السلام هو ما كانوا عليه من الأمور المقربة إلى الله ، وفي الدعاء المأثور سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدي الأنبياء ، وعيشة السعداء وبالهدى تعطى التوفيق ، وهو الأخذ والمشي بهدي الأنبياء ، وتعطى البيان وهو شرح ما جاء به الحق ، إذ الهدى هديان : هدى تبياني وهو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) وهذا الهدى قد يعطي السعادة وقد لا يعطيها ، إلا أنه يعطي العلم ، كقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) ؛ وهدى توفيقي وهو هدى الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو الذي يعطي سعادة العباد (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وإذا كان الرسول سيد البشر يقال له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فما ظنك بالتابع ـ الوجه الثاني ـ لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متبعا اسم مفعول لا اسم فاعل لذلك قال له عند ذكر الأنبياء (فَبِهُداهُمُ

٩٦

اقْتَدِهْ) لا بهم ، وهداهم ليس سوى شرع الله ، فكان الشارع لنا الله الذي شرع لهم ، فلو أخذ عنهم لكان تابعا (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فيما ذكرناه ، لا في فروع الأحكام ، وإن ظهر في شرعنا من فروع شرع من قبلنا ، فمن حيث هو شرع لنا ، وقد يقع الاتفاق في بعض الأحكام ، كالتوحيد والإيمان بالآخرة وما فيها ، لا ينكر ذلك ـ الوجه الثالث ـ اعلم أن كل شرع بعث به نبي من الأنبياء فهو من شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اسمه الباطن ، إذ كان نبيا وآدم بين الماء والطين ، فقوله تعالى له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وما قال بهم ، إذ كان هداهم هداك الذي سرى إليهم ، فمعناه من حيث العلم إذا اهتديت بهديهم فهو اهتداؤك بهديك ، لأن الأولية لك باطنا ، والآخرية لك ظاهرا ، والأولية لك في الآخرية ظاهرا وباطنا ، وعلمنا من ذلك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مساو لجميع من ذكره من الأنبياء ومن لم يذكره ، فإنه لكل نبي هدى كما ذكر (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) فهو سبحانه نصب الشرائع ، وأوضح المناهج ، وجمع ذلك كله في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن رآه فقد رأى جميع المقربين ، ومن اهتدى بهديه فقد اهتدى بهدي جميع النبيين. ومن ذلك أن ما قرره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا مما كان شرعا للأنبياء عليهم‌السلام فعلمناه على القطع فهو شرع لنا ، ومن هذه الآية علمنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خص بعلم الشرائع كلها ، فأبان الله تعالى له عن شرائع المتقدمين ، وأمره أن يهتدي بهداهم ، وخص بشرع لم يكن لغيره.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١)

قالت اليهود : إن الله فرغ من الخلق في يوم العروبة ، واستراح يوم السبت واستلقى على ظهره ، ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، وقال : «أنا الملك». قال الله تعالى في مقابلة هذا الكلام وأمثاله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وتزعم اليهود أن هذا مما نزل في

٩٧

التوراة ، فلا نصدقهم في ذلك ولا نكذبهم وقال تعالى ذلك في حقهم لكونهم ليسوا مثله ، فما عرفوه ، ومن جهل أمره لا يقدر قدره ، فهم ليسوا له بمثل ولا هو مثل لهم ، فوصفوه بنفوسهم وبما هم عليه ، ولا يتمكن لهم ذلك ، لأنهم يريدون الوصف الثبوتي ولا يكون إلا بالتشبيه ، ومن جعل مثلا لمن لا يقبل المثل فما قدره حق قدره ، أي ما أنزله المنزلة التي يستحقها ، فذمهم بالجهل حيث تعرضوا لما ليس لهم به علم ، فلو قالوا فيه بما أنزله إليهم لم يتعلق بهم ذم من قبل الحق ، لأن الحاكي لا ينسب إليه ما حكاه ، فلا يتعلق به ذم في ذلك ولا مدح ، فعلم الخلق بالله لا يدرك بقياس ، وإنما يدرك بإلقاء السمع لخطاب الحق ، إما بنفسه وإما بلسان المترجم عنه وهو الرسول ، مع الشهود الذي لا يسعه معه غير ما سمعه من الخطاب ، كما قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة لما تقدم (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) فأحال على النظر الفكري بتقلب الأحوال عليه (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وما عدا هذين الصنفين فلا طريق لهم إلى العلم بما يستحقه الحق أن يضاف إليه ، وما يستحقه الخلق أن يضاف إليهم ، وقدر الله لا يقدر مفصلا ، لأن الزيادة من العلم بالله لا تنقطع دنيا ولا آخرة ، فالأمر في ذلك غير متناه (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فيما كيّف به نفسه مما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله من صفاته ، وقدر الأمر موازنته لمقداره ، وهذا لا يعلم من الأمر حتى يكون له ما يعادله في ذاته ، فيكون ذلك المعادل مقدارا له لأنه يزنه ، وقد جعل الله لنفسه قدرا لكنه مجهول عند أصحاب هذا الضمير ، ولا يعرف قدر الحق إلا من عرف الإنسان الكامل الذي خلقه الله على صورته ، وهي الخلافة ، ثم وصف الحق نفسه في الصورة الظاهرة باليدين والرجلين والأعين ، وشبه ذلك مما وردت به الأخبار مما يقتضيه الدليل العقلي من تنزيه حكم الظاهر من ذلك في المحدثات عن جناب الله ، فحق قدره إضافة ما أضافه إلى نفسه مما ينكر الدليل إضافته إليه تعالى ، إذ لو انفرد دون الشرع لم يضف شيئا من ذلك إليه ، فمن أضاف مثل هذا إليه ، عقلا فذلك هو الذي ما قدر الله حق قدره ، وما قال أخطأ المضيف ، ومن أضافه شرعا وشهودا ، وكان على بينة من ربه ، فذلك الذي قدر الله حق قدره. فالإنسان الكامل الذي هو الخليفة قدر الحق ظاهرا وباطنا ، صورة ومنزلة ومعنى لأنه على صورة الحق ، والعالم قدر الحق وجودا ، وأما في الثبوت فهو أظهر لحكم الأزل الذي هو للمكنات في ثبوتها لأن الإمكان للممكن نعت ذاتي نفسي ، وما ظفر بالأمر

٩٨

على ما هو عليه إلا من جمع بين التشبيه والتنزيه ، فقال بالتنزيه من وجه عقلا وشرعا ، وقال بالتشبيه من وجه شرعا لا عقلا ، والشهود يقضي بما جاءت به الرسل إلى أممها في الله ، وأما في سياق الآية فقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) مع إقرارهم أن التوراة نزلت على موسى عليه‌السلام من عند الله ، فكذبوا على الله ، فاسودت وجوههم أي ذواتهم ، فلا نور لهم يكشفون به الأشياء ، بل هم عمي لا يبصرون ، لذلك قال تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ، قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ما أمرنا الله إلا أن نقول «الله» ثم أمرنا أن نتركهم في خوضهم يلعبون ، فإنه لما جهل قدره ، عصي نهيه وأمره ـ حكمة ـ كل من أنزلته منزلته فقد قدرته حق قدره ، وما بعد ذلك مرمى لرام ، وقدرك عند الله موازن لقدره عندك ، وأنت أعرف بنفسك مع ربك.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بالكذب على الله ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار] ويدخل في هذه الآية من يجري إلى الافتراء على الله ، وينسب الذي سنّه إلى الله تعالى ، ويتأول أنه لا فاعل إلا الله ، وأنه تعالى المنطق عباده ، فإذا كان مع الناس يريهم أن ما سنه ولو كان حسنا أن ذلك جاءه من عند الله ،

٩٩

كما يجيء لأولياء الله ، فإذا أخطر له الملك هذه الآية يقول : ما أنا مخاطب بها ، وإنما خوطب بها أهل الدعوى الذين ينسبون الفعل إلى أنفسهم ، فإنه قال : افترى ، فنسب الافتراء إلى هذا القائل ، وأنا أقول إن الأفعال كلها لله تعالى لا إليّ ، فهو الذي قال على لساني ، ثم إنه قال : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) فأضاف القول إليه ، وكذلك قوله : «إلي» ومن أنا حتى أقول إليّ ، إذ الله هو المتكلم وهو السميع ، ثم قال : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وما أقول أنا ذلك ، بل الإنزال كله من الله ، فإذا تفقه في نفسه في هذا كله افترى على الله كذبا ، وزيّن له سوء عمله فرآه حسنا.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالرفع يعني الوصل فالبين في اللسان من الأضداد.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٩٥)

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بما يظهر منهما ، فيعلم من ذلك اختزان البذرة والنواة والحبة ما يظهر منها إذا بذرت في الأرض ، وكيف تدل على خروج العالم من الغيب إلى الشهادة ، لأن البذرة لا تعطي ما اختزن الحق فيها إلا بعد دفنها في الأرض ، فتنفلق عما اختزنته من ساق وأوراق وبذور أمثالها ، من النواة نوى ، ومن الحبة حبوب ، ومن البذرة بذور ، فتظهر عينها في كثير مما خرج عنها. فتعلم من هذا ما الحبة التي خرج منها العالم! ففلق الحب عن أمثاله ، فلم يظهر سوى أشكاله.

١٠٠