رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ظهره ، وقلت له : يا ملعون إن الله قد قيدها بنعوت مخصوصة يخرجها من ذلك العموم ، فقال : (فَسَأَكْتُبُها) فتبسم إبليس وقال : يا سهل ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل هذا المبلغ ، ولا ظننت أنك ها هنا ، ألست تعلم يا سهل أن التقييد صفتك لا صفته؟ قال سهل : فرجعت إلى نفسي وغصصت بريقي ، وأقام الماء في حلقي ، ووالله ما وجدت جوابا ، ولا سددت في وجهه بابا ، وعلمت أنه طمع في مطمع ، وانصرف وانصرفت ، ووالله ما أدري بعد هذا ما يكون ، فإن الله سبحانه ما نص بما يرفع هذا الإشكال ، فبقي الأمر عندي على المشيئة منه في خلقه ، لا أحكم عليه في ذلك بأمد ينتهي أو بأمد لا ينتهي ، فهذا إبليس ينتظر رحمة الله أن تناله من عين المنة والجود المطلق ، الذي به أوجب على نفسه سبحانه ما أوجب ، وبه تاب على من تاب وأصلح ، فالحكم لله العلي الكبير عن التقييد في التقييد ، فلا يجب على الله إلا ما أوجبه على نفسه ، وبقيت الرحمة مطلقة ينتظرها من ينتظرها من عين المنة التي كان منها وجوده ، فمهما رأيت الوجوب فاعلم أن التقييد يصحبه ، فإن الله تعالى رحمن بعموم رحمته التي وسعت كل شيء ، رحيم بما أوجب على نفسه لعباده ، فهو رحمن في العموم ، رحيم في الخصوص ، وهو رحمن برحمة الامتنان ، رحيم بالرحمة الخاصة ، وهي الواجبة في قوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الآيات ، وقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وأما رحمة الامتنان فهي التي تنال من غير استحقاق بعمل ، وبرحمة الامتنان رحم الله من وفقه للعمل الصالح الذي أوجب له الرحمة الواجبة ، وبها نال العاصي وأهل النار إزالة العذاب وإن كان مسكنهم ودارهم جهنم. ومن صفة من وجبت لهم الرحمة : ـ

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧)

الضمير في (يَجِدُونَهُ) و (يَأْمُرُهُمْ) يعود على أهل الكتاب ، بأنه نبي مبعوث إليهم

١٨١

أيضا في كتبهم ، فمن إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما آمن أهل الكتاب بكل ما أتى به موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى وعيسى عليهما‌السلام لآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) وهي الأعباء الثقال ، وهؤلاء المذكورون طائفة مخصوصة من أهل الكتاب ، فخرج من ليس بأهل الكتاب من هذا التقييد الوجوبي ، وبقي الحق رحمانا على الإطلاق ، فمن عباد الله من يبسط رحمة الله على عباده طائعهم وعاصيهم ، ومن عباد الله من يريد إزالة رحمة الله عن بعض عباده ، وهو الذي يحجّر رحمة الله التي وسعت كل شيء ، ولا يحجرها على نفسه ، وصاحب هذه الصفة لو لا أن الله سبقت رحمته غضبه ، لكان هذا الشخص ممن لا يناله رحمة الله أبدا ، فإن إبليس لما رأى منة الله قد سرت في العالم ، طمع في رحمة الله من عين المنة لا من عين الوجوب الإلهي ، فعمّ كل الأشياء اتساع رحمته تعالى ، فمن حجّر رحمة الله فما حجرها إلا على نفسه ، ولو لا أن الأمر على خلاف ذلك ، لم ينل رحمة الله من حجرها وقصرها ، ولكن والله ما يستوى حكم رحمة الله فيمن حجرها بمن لم يحجرها وأطلقها من عين المنة ، فما من شيء إلا وهو طامع في رحمة الله ، فمنهم من تناله بالوجوب ، ومنهم من تناله بحكم المنة.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨)

أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ودعا إلى الله عزوجل على بصيرة ، وقال له تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) وهذا هو التوحيد التاسع ، توحيد الهوية في الاسم المرسل ، وهو توحيد الملك ، ولهذا نعته بأنه يحيي ويميت ، فمن أعطى أحيا ونفع ، ومن منع أضر وأمات ، ومن منع لا عن بخل

١٨٢

كان منعه حماية وعناية وجودا من حيث لا يشعر الممنوع ، وكان الضرر في حقه حيث لم يبلع إلى نيل غرضه لجهله بالمصلحة فيما حماه عنه النافع ، ومات هذا الممنوع لكونه لم تنفذ إرادته كما لا تنفذ إرادة الميت ، فهذا منع الله وضرره وإماتته ، فإنه المنعم المحسان ، فأرسل الرسل بالتوحيد تنبيها لإقرارهم في الميثاق الأول (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) فهو سبحانه المحيي الذي يعطي الحياة لكل شيء ، فما ثمّ إلا حي ، لأنه ما ثمّ إلا من يسبح الله بحمده ، ولا يسبحه إلا حي ، سواء كان ميتا أو غير ميت ، فإنه حي ، لأن الحياة للأشياء فيض من حياة الحق عليها ، فهي حية في حال ثبوتها ، ولو لا حياتها ما سمعت قوله (كن) بالكلام الذي يليق بجلاله فكانت ، وإنما كان محييا لكون حياة الأشياء من فيض اسم الحي كنور الشمس من الشمس المنبسط على الأماكن ، ولم تغب الأشياء عنه لا في حال ثبوتها ولا في حال وجودها ، فالحياة لها في الحالتين مستصحبة ، فهو يحيي ويميت ، وليس الموت بإزالة الحياة في نفس الأمر وعند أهل الكشف ، ولكن الموت عزل الوالي وتولية وال ، لأنه لا يمكن أن يبقى العالم بلا وال يحفظ عليه مصالحه لئلا يفسد ، ألا ترى إلى الميت يسئل ويجيب إيمانا وكشفا ، وأنت تحكم في هذه الحالة أنه ميت ، وما أزال عنه اسم الموت السؤال ، فإن الانتقال موجود ، فلو لا أنه حي في حال موته ما سئل ، فليس الموت بضد الحياة إن عقلت ، فالموت عبارة عن انتقال من منزل الدنيا إلى منزل الآخرة ، ما هو عبارة عن إزالة الحياة منه في نفس الأمر ، وإنما الله أخذ بأبصارنا ، فلا ندرك حياته ، فالميت عندنا ينتقل وحياته باقية عليه لا تزول ، وإنما يزول الوالي ، وهو الروح عن هذا الملك ، الذي وكله الله بتدبيره أيام ولايته عليه ، والميت عندنا يعلم من نفسه أنه حي ، وإنما تحكم عليه بأنه ليس بحي لوقوفك مع بصرك ، ومع حكمك في حاله قبل اتصافه بالموت من حركة ونطق وتصرف ، وقد أصبح متصرفا فيه لا متصرفا ، وهو تنبيه من الله لنا أن الأمر كذا هو ، التصرف فيه للحق لا لك ، في حال دعواك التصرف ، فالموت انتقال خاص على وجه مخصوص ، لذلك قال تعالى متمما (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فمن وحّده بلسان رسوله لا من لسانه جازاه الله على توحيده جزاء رسوله ، فإن وحده لا بلسان رسوله بل بلسان رسالته جازاه مجازاة إلهية لا تعرف ، تدخل تحت قوله : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

١٨٣

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠)

ـ إشارة ـ ضرب موسى عليه‌السلام بعصاه الحجر فانفجر ، والبحر المغلق فانفلق ، لأن سر الحياة في العصا ، فلذلك انفجر الحجر ماء ، وسر القيومية فيها فلذلك أظهرت في البحر يبسا ، فسر الحياة في النبات ، والقيومية تعطي التفرقة فانفرق البحر.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣)

السبت الراحة والسبت السير السريع في اللسان ، وللراحة تسمى يوم السبت سبتا ، فيوم السبت يوم الراحة ، فإنه سبحانه نظر إلى ما خلق في يوم السبت ، فاستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، وقال أنا الملك ، لظهور الملك ، ولهذا سمي يوم السبت ، والسبت

١٨٤

الراحة ، ولهذا أخبر تعالى أنه ما مسه من لغوب فيما خلقه ، واللغوب الإعياء ، فهي راحة لا عن إعياء كما هي في حقنا ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) يتجاوزون بالراحة حدّها.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧)

ومن هذه الحقيقة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك.

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨)

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الله ، فالراجع إلى الله إنما يرجع من المخالفة إلى الموافقة ، ومن المعصية إلى الطاعة.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ

١٨٥

يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢)

هذا هو الميثاق الثاني بعد وجود آدم ، قبض الحق على ظهره واستخرج منه بنيه ، وأشهدهم على أنفسهم ، وهو العهد الخالص ، أي الدين الخالص ، والميثاق الأول كان قبل وجود جسد آدم ، وهو ميثاق النبيين ، وكما ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) وأن لهذه النشأة الإنسانية صورا مبثوثة في العناصر والأفلاك والسموات والكرسي والعرش واللوح والقلم ، حتى في العدم ، كذلك لو لا ما كان لنا وجود في صورة آدم العنصرية ، معينين مرئيين متميزين عند الله في علمه ورؤيته وعندنا ما قلنا «بلى» أنت ربنا ، فإن آدم عليه‌السلام لما أوجده الله وسواه كما سوى الأفلاك جعل لنا في صورته صورا ، مثل ما فعل فيما تقدم من المخلوقات ، ثم قبض على تلك الصور المعينة في ظهر آدم ، وآدم لا يعرف ما يحوي عليه ، كما أنّ كل صورة لنا في كل فلك ومقام لا يعرف بها ذلك الفلك ولا ذلك المقام ، وأنه للحق في كل صورة لنا وجه خاص إليه ، من ذلك الوجه يخاطبنا ، ومن ذلك الوجه نرد عليه ، ومن ذلك الوجه نقر بربوبيته ، فلو أخذنا من بين يدي آدم لعلمنا ، فكان الأخذ من ظهره غيبا له ، وأخذه أيضا معنا في هذا الميثاق من ظهره ، فإن له معنا صورة في صورته ، فشهد كما شهدنا ، ولا يعلم أنه أخذ منه ، أو ربما علم ، فإنه ما نحن على يقين من أنه لم يعلم بأنه أخذ منه ولا بأنا أخذنا منه ، فقد ورد في الخبر المشهور الحسن الغريب [أن الله تجلى لآدم عليه‌السلام ويداه مقبوضتان فقال له : يا آدم اختر أيتهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، قال : فبسطها ، فإذا آدم

١٨٦

وذريته ، فنظر إلى شخص من أضوئهم أو أضوئهم ، فقال : من هذا يا رب؟ فقال الله له : هذا ابنك داود ، فقال يا رب كم كتبت له؟ فقال أربعين سنة ، فقال : يا رب وكم كتبت لي؟ فقال الله : ألف سنة ، فقال : يا رب فقد أعطيته من عمري ستين سنة : فقال الله له : أنت وذاك ، فما زال يعد لنفسه حتى بلغ تسعمائة وأربعين سنة ، فجاء ملك الموت ليقبض روحه ، فقال له آدم : إنه بقي لي ستون سنة ، فأوحى الله إلى آدم : أي آدم إنك وهبتها لابنك داود ، فجحد آدم فجحدت ذريته ، ونسي آدم فنسيت ذريته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فمن ذلك اليوم أمر بالكتاب والشهود] فهذا آدم وذريته صورا قائمة في يمين الحق ، وهذا آدم خارج عن تلك اليد ، وهو يبصر صورته وصور ذريته ، في يد الحق ، فأخذ الله الصور من ظهر آدم وآدم فيهم ، وأشهدهم على أنفسهم بمحضر من الملأ الأعلى والصور التي لهم في كل مجلى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فشهد على نطقهم من حضر ممن ذكرنا بالإقرار بربوبيته عليهم وعبوديتهم له ، وهو قوله تعالى : (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) فلو كان له شريك فيهم لما أقروا بالملك له مطلقا ، فإن ذلك موضع حق من أجل الشهادة ، فنفس إقرارهم بالملك له بأنه ربهم هو عين نفي الشريك ، وإنما قلنا ذلك لأنه لم يجر للتوحيد هنا لفظ أصلا ، ولكن المعنى يعطيه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية : إن الله لما خلق آدم قبض على ظهره فاستخرج منه كأمثال الذر فأشهدهم على أنفسهم ، ومن رحمة الله بخلقه في أخذ العهد على الناس لما أخذهم الله من ظهور آبائهم ، وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته قالوا : «بلى» أنت ربنا ، ولم يشهدهم بتوحيده ، إبقاء عليهم ، لعلمه أن فيهم من يشرك به إذا خرج إلى الدنيا ، وتبريه من الشريك في العقبى يوم العرض الأكبر ، فإنه لم يذكر الله في هذه الآية عنا في الأخذ الميثاقي إلا الإقرار بوجود الله لا بتوحيده ، ما تعرض للتوحيد فيها ، فقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ولم يقل لهم (ألست بواحد؟) لعلمه تعالى بأنه إذا أوجدهم أشرك بعضهم ووحد بعضهم (قالُوا بَلى) فاجتمعوا في الإقرار له بالربوبية ، أي أنه سيدهم ، وزاد المشرك الشريك ، وقد يكون العبد مملوكا لاثنين بحكم الشركة ، فأي سيد قال له (ألست بربك؟) فلا بد أن يقول العبد بلى ، ويصدق ، فلهذا قلنا إن الإقرار إنما كان بوجود الله ربا له ، أي مالكا وسيدا ، فما كان التصديق إلا بالوجود والملك ، لا بالتوحيد ، وإن كان فيه توحيد فغايته توحيد الملك ،

١٨٧

فكانت الفطرة إنما هي بوجود الحق والملك لا بالتوحيد ، وبعد هذا الميثاق يولد كل بني آدم على الفطرة وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كل مولود يولد على الفطرة] وهو الميثاق الخالص لنفسه ، فقولهم «بلى» هي الفطرة التي ولد الناس عليها ، وإليها ينتهون ، ومن هنا نعلم أن الإيمان في حق الرضيع أثبت ، فإنه ولد على الفطرة ، فطرة الإيمان ، وهو إقراره بالربوبية لله تعالى على خلقه ، حين الأخذ من الظهر والإشهاد ، وما نقل إلينا أنه طرأ أمر أخرج الذرية عن هذا الإقرار وصحته قبل أن يولد ، فلما ولد ولد على تلك الفطرة الأولى ، فإن الروح الإنساني لما خلقه الله خلقه كاملا بالغا عاقلا عارفا مؤمنا بتوحيد الله ، مقرا بربوبيته ، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولو لا ما هو عاقل بذاته ، وهو عقل لنفسه ، ما أقر بربوبية خالقه عند أخذ الميثاق منه بذلك ، إذ لا يخاطب الحق إلا من يعقل عنه خطابه ، ومن هذا الجمع قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأرواح أجناد مجندة ، فإنه لما جمعهم جمعهم في حضرة التمثيل ، فما كان وجها لوجه هناك تعارفوا هنا ، وما وقع ظهرا لظهر هناك تناكر هنا ، وما بينهما من وجه إلى ظهر وجانب وغير ذلك ، وبهذا الإقرار كل أحد يقر بهذه الشهادة في الآخرة ، ولا ينكر ولا يدعي لنفسه ربوبية ، وثبت بهذا الإقرار الاسترقاق لله على بني آدم ، فطولبوا بالوفاء بحق العبودية لهذا الإقرار ، ولذلك فإن العبد إذا اشتراه الإنسان من غيره فمن شرطه أن يقر العبد لبائعه بالملك ، ولا يسمع مجرد دعواه في أنه مالك له ، ولا يقوم على العبد حجة بقول سيده ما لم يعترف هو بالملك له ، ويغفل عن هذا القدر كثير من الناس ، فإن الأصل الحرية ، واستصحاب الأصل مرعي ، وبعد الاعتراف بالملك صار الاسترقاق في هذه الرقبة أصلا يستصحب ، حتى تثبت الحرية إن ادعاها ، هكذا هو الأمر ، ولما أخذ الله تعالى الميثاق والعهد في قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ألقمه الحجر الأسود ، وأمر بتقبيله تذكرة ، وأخبر بلسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحجر يمينه ، ولا تصح المعصية إلا بعد العقد ، ولذلك كان الابتلاء أصله الدعوى ، فمن لا دعوى له لا ابتلاء يتوجه عليه ، ولهذا ما كلفنا الله حتى قال لنا : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فقلنا : (بَلى) فإقرارنا بربوبيته علينا عين إقرارنا بعبوديتنا له ، والعبودية بذاتها تطلب طاعة السيد ، فلما ادعينا ذلك ، حينئذ كلفنا ليبتلي صدقنا فيما ادعيناه ، وأوجدنا في هذه الدنيا على تلك الفطرة ، فادعى المؤمن الإيمان وهو التصديق بوجود الله وأحديته وأنه لا إله إلا هو إلى غير ذلك ، فلما ادعى بلسانه أن هذا مما انطوى

١٨٨

عليه جنانه ، وربط عليه قلبه ، احتمل أن يكون صادقا فيما ادعاه أنه صفة له ، ويحتمل أن يكون كاذبا في أن ذلك صفة له ، فاختبره الله لإقامة الحجة له أو عليه ، بما كلفه من عبادته على الاختصاص ، لا العبادة السارية بسريان الألوهية ، ونصب له وبين عينيه الأسباب ، وأوقف ما تمسّ حاجة هذا المدعي على هذه الأسباب ، فلم يقض له بشيء إلا منها وعلى يديها ، فإن رزقه الله نورا يكشف به ويخترق سدف هذه الأسباب ، فيرى الحق تعالى من ورائها مسببا اسم فاعل ، أو يراه فيها خالقا وموجدا لحوائجه التي اضطره إليها ، فذلك المؤمن الذي هو على نور من ربه وبينة من أمره ، الصادق في دعواه ، الموفي حق المقام الذي ادعاه ، بالعناية الإلهية التي أعطاه ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، قال بألوهية الأسباب التي رزقه الله منها وجعلها حجبا بينه وبين الله ، فأضاف الألوهة إلى غير مستحقها ، فكذب في دعواه لكثرة الأسباب ، وإقراره في شركه بأن ذلك قربة منه إلى الله خالق الأسباب ، فلم يصدق ، والذي لم يقل بنسبة الألوهة للأسباب ، لكنه لم ير إلا الأسباب وما حصل له من الكشف ما يخرجه عنها ، مع توحيد الألوهة ، كان ذلك شركا خفيا لا يشعر به صاحبه أنه شرك يحجبه عن الأمر العالي الذي طلب به ، فلم يوجد صاحب هذه الدعوى في توحيد الله وتوحيده في أفعاله ـ مع الاضطراب عند فقد السبب وسكونه عند وجوده ـ صادقا ، فنقصه على قدر ما فاته من ذلك ، هذا ولم يجعل الأسباب آلهة ، فاختبر الله العباد بما شرع لهم بإرسال الرسل ، واختبر الله المؤمنين بالأسباب ، فكل صنف اختبره بحسب دعواه ، ولما وضع الله الأسباب لم يرفعها في حق أحد ، وإنما أعطى بعض عباده من النور ما اهتدى به في المشي في ظلمات الأسباب ، غير ذلك ما فعل ، فعاينوا من ذلك على قدر أنوارهم ، فحجب الأسباب مسدلة لا ترفع أبدا ، فلا تطمع ، وإن نقلك الحق من سبب ، فإنما ينقلك بسبب آخر ، فلا يفقدك السبب جملة واحدة ، فإنه حبل الله الذي أمرك بالاعتصام به ، وهو الشرع المنزل ، وهو أقوى الأسباب وأصدقها ، وبيده النور الذي يهتدى به في ظلمات بر هذه الأسباب وبحرها ، فمن عمل كذا وهو السبب ، فجزاؤه كذا ، فلا تطمع فيما لا مطمع فيه ، ولكن سل الله رشة من ذلك النور على ذاتك (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ـ نصيحة ـ اعلم أن الإنسان يغفل ويسهو وينسى ، ويرى لنفسه مرتبة سيادة في وقت غفلته على غيره من العباد ، فإذ ولا بد من هذا فليجتهد

١٨٩

أن يكون عند الموت عبدا محضا ، ليس فيه شيء من السيادة على أحد من المخلوقين ، ويرى نفسه فقيرة إلى كلّ شيء من العالم من حيث فقره إلى الله ـ تحقيق ـ اعلم أنه إذا انقطعت الأعمال من العبيد التي كانت عن تكليف مشروع لم تنقطع العبادة ، فإذا تناهى حد العمل الحسن والقبيح في أهل الجنة وأهل النار ، بقي جزاؤهم جزاء العبادة في السعداء ، وجزاء العبودية في أهل النار ، وهو جزاء لا ينقطع أبدا ، فهذا أعطاهم اتساع الرحمة وشمولها ، فإن المجرمين لم يزل عنهم شهود عبوديتهم وإن ادعوا ربانية ، فيعلمون من نفوسهم أنهم كاذبون ، بما يجدونه ، فتزول الدعوى بزوال أوانها ، وتبقى عليهم نسبة العبودية التي كانوا عليها في حال الدعوى وقبل الدعوى ، ويجنون ثمرة قولهم : (بَلى) فكانوا بمنزلة من أسلم بعد ارتداده ، فحكم على الكل سلطان (بَلى) فأعقبهم سعادة بعد ما مسهم من الشقاء بقدر ما كانوا عليه في زمان الدعوى ، فما زال حكم (بَلى) يصحبهم من وقته إلى ما لا يتناهى دنيا وبرزخا وآخره ، وعرضت عوارض لبعض الناس أخرجتهم في الظاهر عن حكم توحيدهم ، بما ادعوه من الألوهة في الشركاء ، فأثبتوه وزادوا ، وكل عارض زائل ، وحكمه يزول بزواله ، ويرجع الحكم إلى الأصل ، والأصل يقتضي السعادة ، فمآل الكل إن شاء الله إليها مع عمارة الدارين ، ولكل واحدة ملؤها ، والرحمة تصحبها كما صحبت هنا العبودية لكل أحد ممن بقي عليها أو ادعى الربوبية ، فإنه ادعى أمرا يعلم من نفسه خلافه ، فيرجع الأمر في الآخرة إلى حكم أخذ الميثاق بالرحمة التي وسعت كل شيء ـ إشارة ـ إنما كان الأخذ من ورائك ، ولو كان من أمامك ما ضل أحد ، التفسير حمل الظهور على الظهر ، والإشارة حمله على الظهور الذي هو ضد الخفا ، فكأنه يقول : أخذهم من ظهورهم لهم إلى ظهورهم له ، فأقروا ، أما قوله : (لو كان من أمامك ما ضل أحد) أي لو شهدتني من كوني قادرا ولا سبيل إلى ذلك ، ولما وقع حينئذ إنكار قط ، والأخذ إشارة إلى القهر.

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥)

١٩٠

وهو ابن باعورا ، وكان قد آتاه الله العلم بخاصية آية من آياته ، فدعا بها على موسى عليه‌السلام وقومه ، فأجابه الله فيما دعا فيه ، وشقي هو في نفسه وسلب الله عنه علم ذلك ، وجعل مثله كمثل الكلب ، وهنا نكتة أحب بيانها وإن قليلا ما يقع التنبيه عليها ، وربما غلط فيها قوم من حيث الجواز الإمكاني ، والوجود قد ثبت على أحد طرفي الممكن ، فلا سبيل إلى انقلابه ، وهو أن الحق سبحانه ما تجلى لشيء قط واحتجب عنه ، ولا كتب في قلبه إيمانا فمحاه ، وكل من قال استتر عني بعد التجلي ، فما تجلى له قط ، ولكن جلّي له فقال : هو هو ، ولا ثبات للكون على حال ، فتغير عليه ، فكذلك كتبه الإيمان وإتيان الآيات والبينات ، إذا أعطيت في القلوب وقامت شواهدها منها فلا تزال أبدا ، فإذا أزيل عن شخص مثل هذا ، فاعلم أنه ما كتب قط في لوح قلبه ، ولا كان رداء عليها ، لكن كانت رداء عليه ، وأعطي عبارتها ولسانها ، لا أعيانها ووجودها ، فمثل هذا العطاء يسترد ويزال ، ولذلك قال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) فقوله : (فَانْسَلَخَ مِنْها) كما يسلخ الرجل من ثوبه ، والحية من جلدها ، فكانت عليه رداء كما ذكرنا ، لم يكن عنده سوى النطق ، فإذا نطق ظهر مكنون الاسم وأثره بالخاصية ، ولا يشترط في الخواص المفردة تطهير ولا تقديس ولا حضور ولا جمعية ولا كفر ولا إيمان ، إلا بمجرد ما يكون النطق بتلك الحروف المعينة ظهر الأثر ، ولو كان القائل غافلا عن نطقه ، فدل على أن الآيات كانت على بلعام ابن باعورا في الظاهر كالثوب ، فإنه أعطي الحروف ، فكان يفعل بالخاصية لا بالصدق ، فعمل بها في غير طاعة الله فأشقاه الله ، ولو كان في باطنه لمنعه الحياء والمقام من الدعاء على نبي من الأنبياء ، وأجيب لخاص الاسم ، وعوقب وجعل مثل الكلب ، ونسي حروف ذلك الاسم.

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا

١٩١

بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) فهم المحجوبون لا يعلمون ولا يشهدون ، فالعين طريق ، والعلم تحقيق ، فما تنظر إلا لتعلم ، ولا تخاطب إلا لتفهم ، والتلبيس يدخل على البصر ، ومن استعمله العلم كان بحكم الفهم ، فالشهادة على الخبر أقوى في الحكم من شهادة البصر ، فإذا أنصف الإنسان ، فرق بين الإيمان والعيان ، فالتصديق بالخبر فوق الحكم بما يشهده البصر ، فإذا أنصف الإنسان ، فرق بين الإيمان والعيان ، فالتصديق بالخبر فوق الحكم بما يشهده البصر ، إلا إذا نظر واعتبر (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) الإنسان الحيوان حكمه حكم سائر الحيوان ، إلا أنه يتميز عن غيره من الحيوان بالفصل المقوم له ، كما يتميز الحيوان بعضه عن بعض الفصول المقومة لكل واحد من الحيوان ، فالإنسان الحيواني من جملة الحشرات ، فقال تعالى في أهل الضلال : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) فإن لهم قلوبا يعقلون بها ، وإن لهم أعينا يبصرون بها ، وإن لهم آذانا يسمعون بها ، فأنزلوا أنفسهم منزلة الأنعام (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لأن الأنعام ما جعل الله لهم هذه القوى التي توجب لصاحب البصر أن يعتبر ، ولصاحب الأذن أن يعي ما يسمع ، ولصاحب القلب أن يعقل ، فرتبة خلق الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

مراتب الأسماء الإلهية : الأسماء الإلهية على ثلاث مراتب ، أسماء تدل على الذات لا تدل

١٩٢

على أمر آخر ، وأسماء تدل على صفات تنزيه ، وأسماء تدل على صفات أفعال ، وما ثم مرتبة رابعة ، وكل هذه الأسماء قد ظهرت في العالم ، فأسماء الذات يتعلق بها ولا يتخلق وأسماء صفات التنزيه يقدس بها جناب الحق تعالى ويتخلق بها العبد بحسب ما تعطيه مما يليق به ، فكما أن العبد يقدس جلال الله أن تقوم به صفات الحدوث ، كذلك يقدّس العبد بهذه الأسماء في التخلق بها أن تقوم به صفات القدم والغنى المطلق ، وأسماء صفات الأفعال يوحد العبد بها ربه فلا يشرك في فعله تعالى أحدا من خلقه.

شرح الأسماء الحسنى وتعلقها : نسب الحق تعالى إلى نفسه الأسماء الحسنى دون غيرها من الأسماء ، وإن كانت أسماء له في الحقيقة ، إلا أنه عرّاها عن النعت بالحسنى فهو عزوجل «الله» من حيث هويته وذاته. «الرحمن» بعموم رحمته التي وسعت كل شيء. «الرحيم» بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده. «الرب» بما أوجده من المصالح لخلقه. «الملك» بنسبة ملك السموات والأرض إليه ، فإنه رب كل شيء ومليكه. «القدوس» بقوله وما قدروا الله حق قدره ، وتنزيهه عن كل ما وصف به. «السلام» بسلامته من كل ما نسب إليه مما كره من عباده أن ينسبوه إليه. «المؤمن» بما صدق عباده ، وبما أعطاهم من الأمان إذا وفوا بعهده. «المهيمن» على عباده بما هم فيه من جميع أحوالهم مما لهم وعليهم. «العزيز» لغلبه من غالبه إذ هو الذي لا يغالب ، وامتناعه في علو قدسه أن يقاوم. «الجبار» بما جبر عليه عباده في اضطرارهم واختيارهم ، فهم في قبضته. «المتكبر» لما حصل في النفوس الضعيفة من نزوله إليهم في خفي ألطافه لمن تقرب بالحد والمقدار ، من شبر وذراع وباع وهرولة وتبشيش وفرح وتعجب وضحك وأمثال ذلك. «الخالق» بالتقدير والإيجاد. «البارى» بما أوجده من مولدات الأركان. «المصور» بما فتح في الهباء من الصور ، وفي أعين المتجلى لهم من صور التجلي المنسوبة إليه ما نكر منها وما عرف ، وما أحيط بها وما لم يدخل تحت إحاطة. «الغفار» بمن ستر من عباده المؤمنين. «الغافر» بنسبة اليسير إليه. «الغفور» بما أسدل من الستور من أكوان وغير أكوان. «القهار» من نازعه من عباده بجهالة ولم يتب. «الوهاب» بما أنعم به من العطاء لينعم ، لا جزاء ولا ليشكر به ويذكر. «الكريم» المعطي عباده ما سألوه منه. «الجواد» المعطي قبل السؤال ليشكروه فيزيدهم ويذكروه فيثيبهم. «السخي» بإعطاء كل شيء خلقه ،

١٩٣

وتوفيته حقه. «الرزاق» بما أعطى من الأرزاق لكل متغذ من معدن ونبات وحيوان وإنسان من غير اشتراط كفر ولا إيمان. «الفتاح» بما فتح من أبواب النعم والعقاب والعذاب. «العليم» بكثرة معلوماته. «العالم» بأحدية نفسه. «العلام» بالغيب فهو تعلق خاص ، والغيب لا يتناهى ، والشهادة متناهية إذا كان الوجود سبب الشهود والرؤية كما يراه بعض النظار ، وعلى كل حال فالشهادة خصوص. «القابض» بكون الأشياء في قبضته ، والأرض جميعا قبضته ، وكون الصدقة تقع بيد الرحمن فيقبضها. «الباسط» بما بسطه من الرزق الذي لا يعطي البغي بسطه ، وهو القدر المعلوم ، وأنه تعالى يقبض ما شاء من ذلك لما فيه من الابتلاء والمصلحة ، ويبسط ما شاء من ذلك لما فيه من الابتلاء والمصلحة. «الرافع» من كونه تعالى بيده الميزان ، يخفض القسط ويرفعه ، فيرفع ليؤتي الملك من يشاء ، ويعز من يشاء ويغني من يشاء. «الخافض» لينزع الملك ممن يشاء ، ويذل من يشاء ، ويفقر من يشاء ، بيده الخير وهو الميزان فيوفي الحقوق من يستحقها ، وفي هذه الحال لا يكون معاملة الامتنان فإن استيفاء الحقوق من بعض الامتنان أعم في التعلق. «المعز» «المذل» فأعز بطاعته ، وأذل بمخالفته ، وفي الدنيا أعز بما آتى من المال من أتاه ، وبما أعطى من اليقين لأهله ، وبما أنعم به من الرياسة والولاية والتحكم في العالم بإمضاء الكلمة والقهر ، وبما أذل به الجبارين والمتكبرين ، وبما أذل به في الدنيا بعض المؤمنين ، ليعزهم في الآخرة ، ويذل من أورثهم الذلة في الدنيا لإيمانهم وطاعتهم. «السميع» دعاء عباده إذا دعوه في مهماتهم فأجابهم من اسمه السميع ، فإنه تعالى ذكر في حد السمع فقال : ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، ومعلوم أنهم سمعوا دعوة الحق بآذانهم ، ولكن ما أجابوا ما دعوا إليه وهكذا يعامل الحق عباده من كونه سميعا. «البصير» بأمور عباده كما قال لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى ، فقال لهما : لا تخافا فإذا أعطى بصره الأمان ، فذلك معنى البصير ، لا أنه يشهده ويراه فقط ، فإنه يراه حقيقة سواء نصره أو خذله أو اعتنى به أو أهمله. «الحكم» بما يفصل به من الحكم يوم القيامة بين عباده ، وبما أنزل في الدنيا من الأحكام المشروعة ، والنواميس الوضعية الحكمية ، كل ذلك من الاسم الحكم. «العدل» بحكمه بالحق ، وإقامة الملة الحنيفية ، قل رب احكم بالحق ، فهو ميل إليه إذ قد جعل للهوى حكما من اتبعه ضل عن سبيل الله. «اللطيف» بعباده فإنه يوصل

١٩٤

إليهم العافية مندرجة في الأدوية الكريهة ، فأخفى من ضرب المثل في الأدوية المؤلمة المتضمنة الشفاء والراحة لا يكون ، فإنه لا أثر لها في وقت الاستعمال مع علمنا بأنها في نفس استعمال ذلك الدواء ، ولا نحسّ بها للطافتها. ومن باب لطفه سريانه في أفعال الموجودات وهو قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ولا نرى الأعمال إلا من المخلوقين ، ونعلم أن العامل لتلك الأعمال إنما هو الله ، فلو لا لطفه لشوهد. «الخبير» بما اختبر به عباده ومن اختباره قوله : «حتى نعلم» فيرى هل ننسب إليه حدوث العلم أم لا ، فانظر أيضا هذا اللطف ، ولذلك قرن الخبير باللطيف فقال اللطيف الخبير. «الحليم» هو الذي أمهل وما أهمل ، ولم يسارع بالمؤاخذة لمن عمل سوءا بجهالة ، مع تمكنه أن لا يجهل وأن يسأل وينظر حتى يعلم. «العظيم» في قلوب العارفين به. «الشكور» لطلب الزيادة من عباده مما شكرهم عليه ، وذكرهم به من عملهم بطاعته ، والوقوف عند حدوده ورسومه وأوامره ونواهيه ، وهو يقول : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) فبذلك يعامل عباده ، فطلب منهم بكونه شكورا أن يبالغوا فيما شكرهم عليه. «العلي» في شأنه وذاته عما يليق بسمات الحدوث ، وصفات المحدثات. «الكبير» بما نصبه المشركون من الآلهة ، ولهذا قال إبراهيم عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وهنا الوقف ويبتدىء (هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فلو نطقوا لاعترفوا بأنهم عبيد ، وأن الله هو الكبير العلي العظيم. «الحفيظ» بكونه بكل شيء محيط ، فاحتاط بالأشياء ليحفظ عليها وجودها ، فإنها قابلة للعدم كما هي قابلة للوجود ، فمن شاء سبحانه أن يوجده فأوجده حفظ عليه وجوده ، ومن لم يشأ أن يوجد وشاء أن يبقيه في العدم حفظ عليه العدم ، فلا يوجد ما دام يحفظ عليه العدم ، فإما أن يحفظه دائما أو إلى أجل مسمى. «المقيت» بما قدر في الأرض من الأقوات وبما أوحى في السماء من الأمور فهو سبحانه يعطى قوت كل متقوت على مقدار معلوم. «الحسيب» إذا عدد عليك نعمه ، ليريك منته عليك ، لمّا كفرت بها فلم يؤاخذك لحلمه وكرمه وبما هو كافيك عن كل شيء ، لا إله إلا هو العليم الحكيم. «الجليل» لكونه عز فلم تدركه الأبصار ولا البصائر ، فعلا ونزل بحيث أنه مع عباده أينما كانوا كما يليق بجلاله ، إلى أن بلغ في نزوله أن قال لعبده مرضت فلم تعدني ، وجعت فلم تطعمني ، وظمئت فلم تسقني ، فأنزل نفسه من عباده منزلة عباده من عباده ، فهذا من حكم هذا الاسم الإلهي. «الرقيب» لما هو عليه من لزوم الحفظ لخلقه ، فإن

١٩٥

ذلك لا يثقله وليعلم عباده أنه إذا راقبهم يستحون منه ، فلا يراهم حيث نهاهم ، ولا يفقدهم حيث أمرهم. «المجيب» من دعاه لقربه وسماعه دعاء عباده كما أخبر عن نفسه (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) فوصف نفسه بأنه متكلم إذ المجيب من كان ذا إجابة وهي التلبية. «الواسع» العطاء بما بسط من الرحمة التي وسعت كل شيء ، وهي مخلوقة فرحم بها كل شيء ، وبها أزال غضبه عن عباده. «الحكيم» بإنزال كل شيء منزلته ، وجعله في مرتبته ، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وقد قال عن نفسه : إن بيده الخير وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والخير كله بيديك فلم يبق منه شيئا والشر ليس إليك. «الودود» الثابت حبه في عباده ، فلا يؤثر فيما سبق لهم من المحبة معاصيهم ، فإنها ما نزلت بهم إلا بحكم القضاء والقدر السابق ، لا للطرد والبعد (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فسبقت المغفرة للمحبين اسم مفعول. «المجيد» لما له من الشرف على كل موصوف بالشرف فإن شرف العالم بما هو منسوب إلى الله أنه خلقه وفعله فما هو شرفه بنفسه فالشريف على الحقيقة من شرفه بذاته وليس إلا الله. «الباعث» عموما وخصوصا ، فالعموم بما بعث من الممكنات إلى الوجود من العدم ، وهو بعث لم يشعر به كل أحد إلا من قال بأن للممكنات أعيانا ثبوتية ، وإن لم يعثر على ما أشرنا إليه القائل بهذا ، ولما كان الوجود عين الحق فما بعثهم إلا الله بهذا الاسم خاصة ، ثم خصوص البعث في الأحوال كبعث الرسل ، والبعث من الدنيا إلى البرزخ نوما وموتا ، ومن البرزخ إلى القيامة ، وكل بعث في العالم في حال وعين ، فمن الاسم الباعث فهو من أعجب اسم تسمى الحق به تعريفا لعباده. «الشهيد» لنفسه بأنه لا إله إلا هو ، ولعباده بما فيه الخير والسعادة لهم بما جاؤا به من طاعة الله وطاعة رسوله ، وبما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ، وشهيد عليهم بما كانوا فيه من المخالفات والمعاصي وسفساف الأخلاق ، ليريهم منة الله وكرمه بهم حيث غفر لهم وعفا عنهم ، وكان مآلهم عنده إلى شمول الرحمة ، ودخولهم في سعتها إذ كانوا من جملة الأشياء وأنّ تلك الأشياء المسماة مخالفة لم يبرزها الله من العدم إلى الوجود إلا برحمته ، فهي مخلوقة من الرحمة ، وكان المحل الذي قامت به سببا لوجودها ، لأنها لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بنفس المخالف ، وقد علمت أنها مخلوقة من الرحمة ، ومسبحة بحمد خالقها ، فهي تستغفر للمحل الذي قامت به حتى ظهر وجود عينها لعلمها بأنها لا تقوم بنفسها. «الحق» الوجود الذي لا يأتيه

١٩٦

الباطل ، وهو العدم من بين يديه ولا من خلفه ، فمن بين يديه من قوله لما خلقت بيدي ، ومن خلفه لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس وراء الله مرمى ، فنسب إليه الوراء وهو الخلف ، فهو وجود حق لا عن عدم ، ولا يعقبه عدم ، بخلاف الخلق فإنه عن عدم ويعقبه العدم من حيث لا يشعر به ، فإن الوجود والإيجاد لا ينقطع ، فما ثم في العالم من العالم إلا وجود وشهود ، دنيا وآخرة من غير انتهاء ولا انقطاع ، فأعيان تظهر فتبصر. «الوكيل» الذي وكله عباده على النظر في مصالحهم ، فكان من النظر في مصالحهم أن أمرهم بالإنفاق على حد معين ، فاستخلفهم فيه بعد ما اتخذوه وكيلا ، فالأموال له بوجه ، فاستخلفهم فيها. والأموال لهم بوجه فوكلوه في النظر فيها ، فهي لهم بما لهم فيها من المنفعة ، وهي له بما هي عليه من تسبيحها بحمده ، فمن اعتبر التسبيح قال : إن الله ما خلق العالم إلا لعبادته ، ومن راعى المنفعة قال : إن الله ما خلق العالم إلا لينفع بعضه بعضا. «القوي المتين» هو ذو القوة لما في بعض الممكنات أو فيها مطلقا من العزة ، وهي عدم القبول للأضداد ، فكان من القوة خلق عالم الخيال ، ليظهر فيه الجمع بين الأضداد ، لأن الحس والعقل يمتنع عندهما الجمع بين الضدين ، والخيال لا يمتنع عنده ذلك ، فما ظهر سلطان القوي ، ولا قوته إلا في خلق القوة المتخيلة وعالم الخيال ، فإنه أقرب في الدلالة على الحق ، فإن الحق هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، فما حاز الصورة على الحقيقة إلا الخيال ، وهذا ما لا يسع أحدا إنكاره ، فإنه يجده في نفسه ويبصره في منامه ، فيرى ما هو محال الوجود موجودا ، فتنبه لقوله : إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. «الولي» هو الناصر من نصره ، فنصرته مجازاة ، ومن آمن به فقد نصره ، فالمؤمن يأخذ نصر الله من طريق الوجوب ، فإنه قال : «وكان حقا علينا نصر المؤمنين» مثل وجوب الرحمة عليه سواء. قال تعالى : «كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح» وأين هذا من اتساعها؟ فنصرة الله تشبه رحمة الوجوب ، وتفارق رحمة الامتنان الواسعة ، فإنه ما رأينا فيما أخبرنا به تعالى نصرة مطلقة ، وإنما رأيناها مقيدة إما بالإيمان وإما بقوله : «إن تنصروا الله ينصركم». «الحميد» بما هو حامد بلسان كل حامد وبنفسه ، وبما هو محمود بكل ما هو مثنى عليه وعلى نفسه ، فإن عواقب الثناء عليه تعود. «المحصي» كل شيء عددا ، من حروف وأعيان وجودية ، إذ كان التناهي لا يدخل إلا في الموجودات ، فيأخذه الإحصاء فهذه الشيئية شيئية

١٩٧

الوجود وفي قوله وأحصى كل شيء عددا. «المبدى» هو الذي ابتدأ الخلق بالإيجاد في الرتبة الثانية ، وكل ما ظهر من العالم ويظهر فهو فيها ، وما ثم مرتبة ثالثة فهي الآخر والأولى للحق ، فهو الأول ، فالخلق من حيث وجوده لا يكون في الأول أبدا ، وإنما له الآخر ، والحق معه في الآخر ، فإنه مع العالم أينما كانوا ، وقد تسمى بالآخر فاعلم. «المعيد» عين الفعل من حيث ما هو خالق وفاعل وجاعل وعامل ، فهو إذا خلق شيئا وفرغ خلقه ، عاد إلى خلق آخر ، لأنه ليس في العالم شيء يتكرر ، وإنما هي أمثال تحدث ، وهي الخلق الجديد ، وأعيان توجد. «المحيي» بالوجود كل عين ثابتة لها حكم قبول الإيجاد ، فأوجدها الحق في وجوده. «المميت» في الزمان الثاني فما زاد من زمان وجودها فمفارقتها وانتقالها لحال الوجود الذي كان لها موت ، وقد يرجع إلى حكمها من الثبوت الذي كان لها فمن المحال وجودها بعد ذلك حتى تفرغ ، وهي لا تفرغ لعدم التناهي فيها فافهم. «الحي» لنفسه لتحقيق ما نسب إليه مما لا يتصف به إلا من من شرطه أن يكون حيا. «القيوم» لقيامه على كلّ نفس بما كسبت. «الواجد» بالجيم لما طلب فلحق ، فلا يفوته هارب ، كما لا يلحقه في الحقيقة طالب معرفته. «الواحد» من حيث ألوهته فلا إله إلا هو. «الصمد» الذي يلجأ إليه في الأمور ولهذا اتخذناه وكيلا. «القادر» هو النافذ الاقتدار في القوابل الذي يريد فيها ظهور الاقتدار لا غير. «المقتدر» بما عملت أيدينا فالاقتدار له ، والعمل يظهر من أيدينا ، فكل يد في العالم لها عمل فهي يد الله ، فإن الاقتدار لله فهو تعالى قادر بنفسه ، مقتدر بنا. «المقدم» «المؤخر» من شاء لما شاء ومن شاء عما شاء. «الأول» «الآخر» بالوجوب وبرجوع الأمر كله إليه. «الظاهر» «الباطن» لنفسه ظهر فما زال ظاهرا وعن خلقه بطن ، فما يزال باطنا فلا يعرف أبدا. «البر» بإحسانه ونعمه وآلائه التي أنعم بها على عباده. «التواب» لرجوعه على عباده ليتوبوا ، ورجوعه بالجزاء على توبتهم. «المنتقم» ممن عصاه تطهيرا له من ذلك في الدنيا بإقامة الحدود ، وما يقوم بالعالم من الآلام ، فإنها كلها انتقام وجزاء خفي لا يشعر به كل أحد ، حتى إيلام الرضيع جزاء. «العفو» لما في العطاء من التفاضل في القلة والكثرة وأنواع الأعطيات على اختلافها لا بد أن يدخلها القلة والكثرة ، فلا بد أن يعمها العفو ، فإنه لا بد من الأضداد كالجليل. «الرؤف» بما ظهر في العباد من الصلاح والأصلح ، لأنه من المقلوب وهو ضرب من

١٩٨

الشفقة. «الوالي» لنفسه على كل من ولي عليه ، فولي على الأعيان الثابتة فأثر فيها الإيجاد ، وولي على الموجودات فقدم من شاء ، وأخر من شاء ، وحكم فعدل ، وأعطى فأفضل. «المتاعالي» على من أراد علوا في الأرض ، وادعى له ما ليس له بحق. «المقسط» هو ما أعطى بحكم التقسيط ، وهو قوله «وما ننزله إلا بقدر معلوم» وهو التقسيط. «الجامع» بوجوده لكل موجود فيه. «الغني» عن العالمين بهم. «المغني» من أعطاه صفة الغنى بأن أوقفه على أن علمه بالعالم تابع للمعلوم ، فما أعطاه من نفسه شيئا فاستغنى عن الأثر منه فيه لعلمه بأنه لا يوجد فيه إلا ما كان عليه. «البديع» الذي لم يزل في خلقه على الدوام بديعا لأنه يخلق الأمثال وغير الأمثال ، ولا بد من وجه به يتميز المثل عن مثله ، فهو البديع من ذلك الوجه. «الضار» «النافع» بما لا يوافق الغرض وبما يوافقه. «النور» لما ظهر من أعيان العالم ، وإزالة ظلمة نسبة الأفعال إلى العالم. «الهادي» بما أبانه للعلماء به مما هو الأمر عليه في نفسه. «المانع» لإمكان إرسال ما مسكه ، وما وقع الإمساك إلا لحكمة اقتضاها علمه في خلقه. «الباقي» حيث لا يقبل الزوال ، كما قبلته أعيان الموجودات بعد وجودها ، فله دوام الوجود ، ودوام الإيجاد. «الوارث» لما خلفناه عند انتقالنا إلى البرزخ خاصة. «الرشيد» بما أرشد إليه عباده في تعريفه إياهم بأنه تعالى على صراط مستقيم في أخذه بناصية كل دابة ، فما ثم إلا من هو على ذلك الصراط ، والاستقامة مآلها إلى الرحمة ، فما أنعم الله على عباده بنعمة أعظم من كونه آخذا بناصية كل دابة ، فما ثم إلا من مشيّ به على الصراط المستقيم. «الصبور» على ما أوذى به في قوله : «إن الذين يؤذون الله ورسوله» فما عجل لهم في العقوبة مع اقتداره على ذلك ، وإنما أخر ذلك ليكون منه ما يكون على أيدينا من رفع ذلك عنه بالانتقام منهم ، فيحمدنا على ذلك ، فإنه ما عرفنا به مع اتصافه بالصبور إلا لندفع ذلك عنه ونكشفه ، هذا فيما ورد عن الأسماء أما الكنايات فإذا جاءت في كلام الرسول عن الله تعالى أو في كتاب الله فلننظر القصة والضمير ونحكم على تلك الكناية بما يعطيه الحال في القصة المذكورة لا يزاد في ذلك ولا ينقص منه.

واعلم أنه لما كانت الأسماء الإلهية نسبا تطلبها الآثار لذلك لا يلزم ما تعطل حكمه منها ما لم يتعطل وإنما يقدح ذلك لو اتفق أن تكون أمرا وجوديا ، فالله إله سواء وجد العالم أو لم يوجد ، فإن بعض المتوهمين تخيل أن الأسماء تدل على أعيان وجودية قائمة بذات الحق

١٩٩

فإن لم يكن حكمها يعم وإلا بقي منها ما لا أثر له معطلا. فلما خلق الله العالم رأيناه ذا مراتب وحقائق مختلفة ، تطلب كل حقيقة منه من الحق نسبة خاصة ، فلما أرسل تعالى رسله كان مما أرسلهم به لأجل تلك النسب أسماء تسمى بها لخلقه ، يفهم منها دلالتها على ذاته تعالى ، وعلى أمر معقول لا عين له في الوجود ، له حكم هذا الأثر والحقيقة الظاهرة في العالم من خلق ورزق ، ونفع وضر ، وإيجاد واختصاص ، وأحكام وغلبة وقهر ولطف ، وتنزل واستجلاب ومحبة ، وبغض وقرب ، وبعد وتعظيم وتحقير ، وكل صفة ظاهرة في العالم تستدعي نسبة خاصة لها اسم معلوم عندنا من الشرع ، فمنها مشتركة وإن كان لكل واحد من المشتركة معنى إذا تبين ظهر أنها متباينة فالأصل في الأسماء التباين والاشتراك فيه لفظي ، ومنها متباينة ومنها مترادفة ، ومع ترادفها فلا بد أن يفهم من كل واحد معنى لا يكون في الآخر ، فعلمنا ما سمى به نفسه واقتصرنا عليها.

«بحث في الأسماء الإلهية» تنقسم الأسماء الإلهية إلى أسماء إلهية تطلب العالم ، ويطلبها العالم ، كالاسم الرب والقادر والخالق والنافع والضار والمحيي والمميت والقاهر والمعز والمذل إلى أمثال هذه الأسماء. وثم أسماء إلهية لا تطلب العالم ، ولكن يستروح منها نفس من أنفاس العالم من غير تفصيل ، كما يفصل بين هذه الأسماء التي ذكرناها آنفا فأسماء الاسترواح كالغني والعزيز والقدوس وأمثال هذه الأسماء ، وما وجدنا لله أسماء تدل على ذاته خاصة من غير تعقل معنى زائد على الذات فإنه ما ثم اسم إلا على أحد أمرين : إما ما يدل على فعل وهو الذي يستدعي العالم ولا بد ، فإنه من المحال أن يكون في العالم شيء ليس له مستند إلى أمر إلهي يكون نعتا للحق كان ما كان ، وإما ما يدل على تنزيه وهو الذي يستروح منه صفات نقص كوني تنزه الحق عنها ، غير ذلك ما أعطانا الله. فما ثم اسم علم ما فيه سوى العلمية لله أصلا إلا إن كان ذلك في علمه أو ما استأثر الله به في غيبه مما لم يبده لنا ، وسبب ذلك لأنه تعالى ما أظهر أسماءه لنا إلا للثناء بها عليه ، فمن المحال أن يكون فيها اسم علمي أصلا ، لأن الأسماء الأعلام لا يقع بها ثناء على المسمى ، لكنها أسماء أعلام للمعاني التي تدل عليها ، وتلك المعاني هي التي يثنى بها على من ظهر عندنا حكمه بها فينا ، وهو المسمى بمعانيها ، والمعاني هي المسماة بهذه الأسماء اللفظية ، كالعالم والقادر وباقي الأسماء. فلله الأسماء الحسنى وليست إلا المعاني ، لا هذه الألفاظ ، فإن الألفاظ لا تتصف بالحسن والقبح إلا

٢٠٠