رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

الإلهية بها بين الأجير والمستأجر ، فلو كانوا عبيدا ما كتب الحق كتابا لهم على نفسه ، فإن العبد لا يوقت على سيده ، إنما هو عامل في ملكه ، ومتناول ما يحتاج إليه ، فالأجراء هم الذين اشترى الحق منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة ، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلوات الخمس : فمن أتى بهن لم يضيع من حقهن شيئا كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

(التَّائِبُونَ) جمع تائب من رجال ونساء ، وهو الراجع إلى الله من عين المخالفة ، ولو رجع ألف مرة في كل يوم ، فما يرجع إلا من المخالفة. والله قابل التوب خاصة. (الْعابِدُونَ) هم أهل الفرائض خاصة ، منهم صاحب سبب ، ومنهم تارك سبب ، وهم صلحاء الظاهر والباطن ، قد عصموا من الغل والحسد والحرص والشره المذموم ، وصرفوا كل هذه الأوصاف إلى الجهات المحمودة. الثواب لهم مشهود ، والقيامة وأهوالها والجنة والنار مشهودتان ، دموعهم في محاريبهم ، شغلهم هول المعاد عن الرقاد ، ضمروا بطونهم بالصيام ، للسباق في حلبة النجاة. (الْحامِدُونَ) من الرجال والنساء ، تولاهم الله بعواقب ما تعطيه صفات الحمد ، فهم أهل عاقبة الأمور ، فالحمد إنما هو لله خاصة ، بأي وجه كان ، فالحامدون الذين أثنى الله عليهم في القرآن ، هم الذين طالعوا نهايات الأمور في ابتدائها ، وهم أهل السوابق ، فشرعوا في حمده ابتداء بما يرجع إليه سبحانه وتعالى جل جلاله من حمد المحجوبين انتهاء ، فهم الحامدون على الشهود بلسان الحق ، ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا شيء أحب إلى الله تعالى من أن يمدح ، والله تعالى قد وصف عباده المؤمنين بالحامدين ، وذم ولعن من ذم جناب الله ، ونسب إليه ما لا يليق به (السَّائِحُونَ) وهم المجاهدون في سبيل الله ، من رجال ونساء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ، فالسياحة في هذه الأمة الجهاد ، والسياحة المشي في الأرض للاعتبار برؤية آثار القرون

٢٨١

الماضية ، ومن هلك من الأمم السالفة ، ولما كان المقصود من الجهاد إعلاء كلمة الله ، في الأماكن التي يعلو فيها ذكر غير الله ، ممن يعبد من دون الله ، جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة هذه الأمة الجهاد ، فإن الأرض وإن لم يكفر عليها ولا ذكر الله فيها أحد من البشر ، فهي أقل حزنا وهما من الأرض التي عبد غير الله فيها وكفر عليها ، وهي أرض المشركين والكفار ، فكانت السياحة بالجهاد أفضل من السياحة بغير الجهاد ، ولكن بشرط أن يذكر الله عليها ولا بد ، فإن ذكر الله في الجهاد أفضل من لقاء العدو ، فيضرب المؤمنون رقابهم ، ويضرب الكفار رقاب المؤمنين. وأما السياحة بالجولان في الأرض على طريق الاعتبار والقربة إلى الله ، لما في الأنس بالخلق من الوحشة ، فالسايحون من عباد الله يشاهدون من آيات الله ، ومن خرق العوائد ما يزيدهم قوة في إيمانهم ونفسهم ومعرفتهم بالله ، وأنسا به ورحمة بخلقه ، وشفقة عليهم ، فيفتح لهم في بواطنهم في علوم إلهية لا ينالونها إلا في هذه المشاهدة ، وما يحصل لهم من خرق العوائد والاعتبار ، فهم يرون في الأرض من الآيات والعجائب والاعتبارات ما دعاهم إلى النظر فيما ينبغي لمالك الأرض ، فأنار الله قلوبهم بأنوار العلوم ، وفتح لهم في النظر في الآيات ، وهي العلامات الدالة على عظمة من انقطعوا إليه وهو الله تعالى. (الرَّاكِعُونَ) من رجال ونساء ، هم الذين وصفهم الله بالركوع ، وهو الخضوع والتواضع لله تعالى من حيث هويته سبحانه ، ولعزته وكبريائه حيث ظهر من العالم ، لعلمهم بأنها صفة الحق ، لا صفة من تلبس بها ، فركعوا للصفة لا للعين ، ومن هنا تواضع العارفون للجبارين والمتكبرين من العالم للصفة لا لعينهم إذ كان الحق هو مشهودهم في كل شيء. (السَّاجِدُونَ) من الرجال والنساء ، تولاهم الله بسجود القلوب ، فهم لا يرفعون رؤوسهم ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهو حال القربة وصفة المقربين قال تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) يريد الذين لا يرفعون رؤوسهم ، ولا يكون ذلك إلا في سجود القلب. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) من رجال ونساء ، هم الذين تولاهم الله بالأمر بالله ، إذ كان هو المعروف ، فلا فرق أن تقول الآمرون بالله أو الآمرون بالمعروف ، فهو المعروف الذي لا ينكر بلا خلاف في جميع الملل والنحل والعقول ، فالآمرون بالمعروف هم الآمرون على الحقيقة بالله ، فإنه سبحانه إذا أحب عبده كان لسانه الذي يتكلم به ، والأمر من أقسام الكلام ، فهم الآمرون به لأنه لسانهم ،

٢٨٢

فهؤلاء هم الطبقة العليا في الأمر بالمعروف ، وكل آمر بمعروف فهو تحت حيطة هذا الأمر (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وأعلاهم طبقة الناهون عن المنكر بالمعروف ، والمنكر الشريك الذي أثبته المشركون بجعلهم ، فلم يقبله التوحيد ، وأنكره فصار منكرا من القول وزورا. (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) اعلم أن قوله تعالى : (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) إطلاق في حقهم وهم على طبقتين : فمنهم من عرف الحدود الذاتية فوقف عندها ، وذلك العالم الحكيم المشاهد صاحب العين السليمة ، ومنهم من عرف الحدود الرسمية ، ولم يعلم الحدود الذاتية ، وهم أرباب الإيمان ، ومنهم من عرف الحدود الرسمية والذاتية وهم الأنبياء والرسل ومن دعا إلى الله على بصيرة من أتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهؤلاء هم الأولى بأن يطلق عليهم الحافظون لحدود الله الذاتية والرسمية معا. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الصابرين على ذلك ، وهم الذين حبسوا نفوسهم عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣)

لأنه قبل التبيين يعذر في استغفاره ، وليس بأصحاب الجحيم إلا أعداء الله تعالى الذين هم أهل الجحيم.

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

إن الرسول إذا تبين له أن شخصا ما عدو لله تبرأ منه ، قال تعالى في حق إبراهيم عليه‌السلام وأبيه آزر ، بعد ما وعظه وأظهر الشفقة عليه لكونه كان عنده في حد الإمكان أن يرجع إلى الله وتوحيده من شركه ، فلما بين الله له في وحيه ، وكشف له عن أمر أبيه ، وتبين إبراهيم عليه‌السلام أن أباه آزر عدو لله ، تبرأ منه مع كونه أباه ، فأثنى الله عليه فقال :

٢٨٣

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وقد كان إبراهيم في حق أبيه أواها حليما ، لا الآن ، وقد ورد في الخبر أن إبراهيم يجد أباه بين رجليه في صورة ذيخ ، فيأخذه بيده فيرمي به في النار ، فانظر ما أثر عند الخليل إيثاره لجناب الحق من عداوة أبيه في الله تعالى ، فالله يجعلنا ممن آثر الحق على هواه ، وأن يجعل ذلك مناه ، فإن هذا هو ما فعله إبراهيم الخليل عليه‌السلام في حق أبيه آزر ، عند ما تحقق أنه عدو لله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الأواه هو الذي يكثر التأوه لما يشاهده من جلال الله ، وكونه ما في قوته مما ينبغي أن يعامل به ذلك الجلال الإلهي ، والتأوه من نعت المحبين ، فيتأوه غيرة على الله ، وشفقة على المحجوبين ، فيتأسف على من حرمه الله الشهود ، ويتأوه لحبه في محبوبه من أجل ما يراه من عمى الخلق عنه ، فإن من شأن المحبة الشفقة على المحبوب. (حَلِيمٌ) ببنية المبالغة ، وهي فعيل ، والحلم لا يكون إلا مع القدرة على من يحلم عنه ، فالحلم هو الإمهال من القادر على الأخذ ، فيؤخر الأمر ويمهل ولا يهمل ، فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره لا يكون حليما ، ولا يكون ذلك حلما ، فلا حليم إلا أن يكون ذا اقتدار ، فإن العجلة بالأخذ عقيب الجريمة دليل على الضجر ، فالحليم هو الذي لا يعجل مع القدرة وارتفاع المانع ، وحلم العبد من العلم الإلهي السابق ولا يشعر به العبد ، حتى تقوم به صفة الحلم ، فحينئذ يعلم ما أعطاه حكم علم الله في حكمه ، ولهذا إن تقدمه العلم بذلك لا يسمى حليما على جهة التشريف ، فالحق يوصف بالحلم لعدم الأخذ ، لا على طريق التشريف ، والعبد ينعت بالحلم لعدم الأخذ أيضا ولكن على طريق التشريف ، لجهله بما في علم الله من ذلك ، قبل اتصافه بعدم المؤاخذة والإمهال من غير إهمال ، فشرف الحق بالعلم لا بالحلم ، وشرف العبد بالحلم لا بالعلم ، لجهله ذلك. فإن علم قبل قيام صفة الحلم به لم يكن الحلم به تشريفا ، ولما كانت المخالفة تقتضي المؤاخذة أفسد الحلم حكمها في بعض المذاهب ، ولذلك يقال : حلم الأديم إذا فسد وتشقق ، وكذلك حلم النوم أفسد المعنى عن صورته ، لأنه ألحقه بالحس وليس بمحسوس ، حتى يراه من لا علم له بأصله ، فيحكم عليه بما رآه من الصورة التي رآها عليها ، ويجيء العارف بذلك فيعبر تلك الصورة إلى المعنى الذي جاءت له ، وظهر بها ، فيردها إلى أصلها ، كما أفسد الحلم العلم ، فأظهره في صورة اللبن ، وليس بلبن ، فرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأويل رؤياه إلى أصله وهو العلم فجرد عنه تلك الصورة.

٢٨٤

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١٥)

الذي على الله إنما هو البيان خاصة ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ) يضل أي ليحير (قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) في أخذ الميثاق والفطرة التي ولدوا عليها ، (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) فإذا أبان لهم حيرهم ، فمنهم من حيره بالواسطة فشك في النبوة ، وحار فيها ، وما تحقق أن هذا نبي ، فتوقف في الأخذ عنه ، ومنهم من حيره في أصل النبوة هل لها وجود أم لا؟ ومنهم من حيره فيما جاء به هذا النبي ، مما تحيله الأدلة النظرية ، فأورثهم البيان الإلهي هذه الحيرة ، وذلك لعدم الإيمان ، فلم يكن لهم نور إيمان يكشف لهم عن حقيقة ما قاله الله ، وأبان عنه ، فلما أبان الحق ما أبانه لعباده فمنهم من رزقه العلم فعمل به ، ومنهم من حرمه الله العلم فضل وحار وشك وارتاب وتوقف ، فلا ضلال إلا بعد هداية ، فالهدى في هذه الآية يحتمل أن يكون الهدى التبياني ، وهو ابتلاء ، لا الهدى التوفيقي ، ومن الهدى التبياني قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، وقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) والهدى بمعنى البيان ، قد يعطي السعادة ، وقد لا يعطيها ، إلا أنه يعطي العلم ولا بد ، أما الهدى التوفيقي فهو الذي يعطي السعادة لمن قام به ، وهو قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) وهذا هو هدى الأنبياء. فالهدى التوفيقي هدى الأنبياء عليهم‌السلام (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وهو الذي يعطي سعادة العباد وما توفيقي إلا بالله.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ

٢٨٥

إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) قد لا تكون التوبة من ذنب ، بل يرجع إلى الله في كل حال في كل طاعة ، فيرجع بالتائب إلى ربه من طاعة إلى طاعة ؛ (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن ، فنفس الله عنه بالأنصار ، فكانت الأنصار كلمات الله ، نصر الله بهم دينه وأظهره.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨)

(وَظَنُّوا) أي علموا وتيقنوا ، قال أهل اللسان في ذلك ، فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ، أي تيقنوا واعلموا ، فإن الظن لما كانت مرتبته برزخية ، لها وجه إلى العلم ونقيضه ، ثم دلت قرائن الأحوال على وجه العلم فيه ، حكمنا عليه بحكم العلم ، وأنزلناه منزلة اليقين ، مع بقاء اسم الظن عليه لا حكمه ، فإن الظن لا يكون إلا بنوع من الترجيح يتميز به عن الشك ، فإن الشك لا ترجيح فيه ، والظن فيه نوع من الترجيح إلى جانب العلم : (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) اعلم أن توبة الله ابتداء مقرونة بعلى ، وتوبة الخلق مقرونة بإلى ، لأنه المطلوب بالتوبة ، فهو غايتها ، فرجوع الحق عليهم رجوع عناية محبة أزلية ليتوبوا ، فإذا تابوا أحبهم حب من رجع إليه ، فهو حب جزاء. قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) فهذا الحب ما هو الأول ، وللعبد حب آخر زائد على قوله : (وَيُحِبُّونَهُ) فالأول حب عناية منه ابتداء ، فالتوبة عن محبة منتجة لمحبة أخرى منه ، فهي بين محبتين متعلقتين بهم من الله ، وتاب عليهم فكان هو التائب على الحقيقة ، والعبد محل ظهور الصفة ، فكانت رجعته عليهم في الدنيا ردهم بها إليه ، ولذلك قال : (لِيَتُوبُوا) فما رجع إليهم إلا ليرجعوا ، وكل معلل علّه الحق فإنه واقع ، كما أنه كل ترج من الله واقع ،

٢٨٦

فالرجعة الأولى من الله على العبد هي التي يعطيه الحق بها الإنابة إليه ، فإذا رجع العبد إليه بالتوبة رجع الحق إليه غير الرجوع الأول ، وهو الرجوع بالقبول ، ثم قال : (أَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) وهو لفظ المبالغة إذ كانت له التوبة الأولى من قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) والثانية من قوله : (لِيَتُوبُوا) فالتوبتان له من كل عبد ، فهو التواب لا هم ، ووصف الله تعالى نفسه بأنه التواب ، فما تاب من تاب ولكن الله تاب (الرَّحِيمُ) الذي يرجع على عبده في كل مخالفة بالرحمة له ، فيرزقه الندم عليها ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الندم توبة] فيتوب العبد بتوبة الله عليه ، فلو لا توبة الله عليهم ما تابوا ، والتوبة الرجوع ، فالله أكثر رجوعا إلى العباد من العباد إليه ، لأن برجوعه تعالى إلى العباد يبقي عليهم الوجود بالحفظ الإلهي ، وهو التواب بالرجوع عليهم بقبول التوبة ، الرحيم بعدم المؤاخذة على الذنب ـ راجع البقرة آية ٣٧ ـ نصيحة ـ عليك بالالتجاء إلى من تعرف أنه لا يقاوم فإنه يحميك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

(وَلا نَصَبٌ) ـ موعظة ـ نصب الأبدان من همم النفوس في المعقول والمحسوس.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

٢٨٧

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

الجهاد من فروض الكفاية إذا قام به من يقع به الغناء سقط عن الباقي ، لقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خرج قط إلى غزو عدو إلا وترك بعض الناس في المدينة (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) الفقه في الدين هو استخراج الحكم في مسئلة من نص ورد في الكتاب أو السنة ، يدخل الحكم في هذه المسئلة في مجمل ذلك الكلام ، ولا يحتاج إلى قياس في ذلك ، فإن الدين قد كمل ولا تجوز الزيادة فيه كما لم يجز النقص ، فالفقه على الحقيقة هو الفهم الذي أعطاه الله عبده في القرآن ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما هو إلا فهم يؤتيه الله من شاء من عباده في هذا القرآن ، لذلك قال تعالى : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأقامهم مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التفقه في الدين والإنذار ، وهو الذي يدعو إلى الله على بصيرة كما يدعو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بصيرة ، لا على غلبة ظن ، كما يحكم عالم الرسوم ، فشتان بين من هو فيما يفتي به ويقوله على بصيرة منه في دعائه إلى الله وعلى بينة من ربه ، وبين من يفتي في دين الله بغلبة الظن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)

هذا هو الجهاد الذي فرضه الله تعالى المعين ويعصي الإنسان بتركه لا بد من ذلك ، ويؤخذ من هذه الآية إشارة إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد الهوى ، فإنه أكبر الأعداء إليك الذين يلونك ، فإنه بين جنبيك ، ولا أكفر من النفوس بنعم الله ، فإنها في كل نفس تكفر نعمة الله عليها من بعد ما جاءتها ، ولا يلي الإنسان أقرب إليه من نفسه ، وجهاد النفس أعظم من جهاد العدو ، لذلك قال عليه‌السلام : [إن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر] لأن الإنسان لا يخرج إلى جهاد العدو إلا بعد جهاد نفسه ، وجهاد العدو قد يقع من العبد للرياء والسمعة والحمية ، وجهاد النفس أمر باطن لا يطلع عليه إلا الله ، فحظ كل موفق من هذه

٢٨٨

الآية أن ينظر إلى نفسه الأمارة بالسوء ، التي تحمله على كل محظور ومكروه وتعدل به عن كل واجب ومندوب ، للمخالفة التي جبلها الله عليها ، وهي أقرب الكفار والأعداء إليه ، فإذا جاهدها وقتلها أو أسرها حينئذ يصح له أن ينظر في الأغيار على حسب ما يقتضيه مقامه ، فإنك إذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء ، الذي إن قتلت فيه كنت من الشهداء الأحياء ، فالهوى هو أقرب الكفار إليك ، فاشتغل به وإلا اشتغل بك فيهدم دينك.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤)

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) وهي واحدة ولكن الأمزجة مختلفة (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بورود العافية عليهم ، والإيمان عين واحدة وزيادته أو كثرته إنما هي في ظهوره في المواطن المختلفة ، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج إلخ. وهو في نفسه لا يتكثر ، ولهذا قال تعالى فيمن قال : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أولئك هم الكافرون حقا فنفى عنهم الإيمان كله.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥)

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهو الشبه المضلة القادحة في الأدلة وفي الإيمان ، تحول بين العقل من العاقل وبين صحة الإيمان الذي له تعلق بوجود الحق وتعلق بتوحيد الحق ، فالذي حال مرضه العقلي بينه وبين صحة الإيمان بوجود الحق فقد حال بينه وبين العلم لضروري ، فإن العلم بوجود الصانع عند ظهور الصنعة للناظر ضروري ، وإن لم يعلم حقيقة الصانع ولا ماهيته ولا ما يجب أن يكون عليه ويجوز ويستحيل إلا بعد نظر فكري وإخبار إلهي نبوي ، فهذا مرض لا طب فيه ، ومن فقد العلم الضروري كان بمنزلة المريض الذي قد استفرغ المرض نفسه بحيث لا يعلم أنه مريض ولا ما هو فيه لأنه لا عقل له ، وأما

٢٨٩

الذي معه الإيمان أو العلم الضروري بوجود الحق الخالق فمرضه عدم اعتقاد صحة التوحيد وعدم القبول من الشارع ما جاء به من صفات الحق ، فإن توحيد الحق يدرك بالإيمان ويدرك بالنظر (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) لأنهم على مزاج لا يصلح إلا للنار (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي الصفقة من قوله تعالى واشتروا الضلالة بالهدى ، وهي السورة المنزلة فلا بد من الزوائد في الفريقين.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨)

حفظ الله علينا (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة بشهادة خزيمة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقامه في شهادته مقام رجلين ، فحكم بشهادته وحده ، إذ لم يقبل الجامع للقرآن آية منه إلا بشهادة رجلين فصاعدا إلا هذه الآية ، فإنها ثبتت بشهادة خزيمة وحده رضي الله عنه ، وشهد الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحرصه على نجاة أمته فقال : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي عنادكم يعز عليه للحق المبين (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) في أن تسلموا وتنقادوا إلى ما فيه سعادتكم وهو الإيمان بالله وما جاء من عند الله ، فمدح الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحرص على ما تسعد به أمته ، فالأوصاف الجبلية في الإنس والجان مثل الحسد والغضب والحرص والجبن والبخل ، وما كان في الجبلة فمن المحال عدمه إلا أن تنعدم العين الموصوف بها ، ولما علم الحق أن إزالتها من هذين الصنفين من الخلق لا يصح زوالها عيّن لها مصارف يصرفها فيها فتكون محمودة إذا صرفت في الوجه الذي أمر الشارع أن تصرف فيه وجوبا أو ندبا ، وتكون مذمومة إذا صرفت في خلاف المشروع ، فقال تعالى : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) ومن ذلك حرصه على إسلام عمه أبي طالب إلى أن قال له : قلها في أذني حتى أشهد لك بها ،

٢٩٠

لعلمه بأن شهادته مقبولة وكلامه مسموع (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فوصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرحمة ، وهي رحمة فطر عليها زائدة على الرحمة التي بعث بها ، وهي قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وما من أحد من الأمة إلا وهو مؤمن بالله ، ومن وجه آخر قيده بالإيمان ولم يقيد الإيمان فهذا تقييد في إطلاق ، فإنه قال في الإيمان إنه مؤمن صاحبه بالحق والباطل ، ومن كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما أن أبان لأمته عن صورة تجلي الحق لعباده بقول ما قاله نبي لأمته قبله ، كما جاء في حديث الدجال ـ مسئلة ـ الاتصاف بأوصاف الحق تعالى التي بها يكون إلها واجب شرعا وعقلا اجتناب هذه الأسماء الإلهية معنى وإن أطلقت لفظا ينبغي أن لا تطلق لفظا على أحد إلا تلاوة ، فيكون الذي يطلقها تاليا حاكيا كما قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فسماه عزيزا رؤوفا رحيما فنسميه بتسمية الله إياه ونعتقد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه مع ربه عبد ذليل خاشع أواه منيب ، فإطلاق الألفاظ التي تطلق على الحق من الوجه الصحيح الذي يليق بالجناب الإلهي لا ينبغي أن تطلق على أحد من خلق الله إلا من حيث أطلقها الحق لا غير وإن أباح ذلك ، فإن أطلقها العبد على من أطلقها عليه الحق أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون هذا المطلق تاليا أو مترجما ناقلا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الإطلاق ، ومن الورع أن لا يطلق على أحد ممن ليس بنبي ولا رسول اللفظ الذي اختصوا به ، فيطلق على الرسل الذين ليسوا برسل الله لفظة الورثة والمترجمين ، فيقال من السلطان الفلاني إلى السلطان الفلاني ترجمان يقول كذا. وكذا ، فلا يطلق على المرسل ولا المرسل إليه اسم الملك ورعا وأدبا مع الله ، ويطلق عليه اسم السلطان ، فإن الملك من أسماء الله ، فيجتنب هذا اللفظ أدبا وحرمة وورعا ، ويقال السلطان ، إذ كان هذا اللفظ لم يرد في أسماء الله ، ويطلق على الرسول الذي جاء من عنده اسم الترجمان ولم يطلق عليه اسم الرسول ، لأنه أطلق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجعل من خصائص النبوة والرسالة أدبا مع رسل الله عليهم‌السلام ، وإن كان هذا اللفظ أبيح ولم ينه عنه فلزوم الأدب أولى ـ إشارة ـ التوحيد في الإله ، من حيث ما هو إله ، لا من حيث الأسماء فإنها للعبيد والإماء ، بها يكون التحقق ، وهي المراد بالتخلق ، قد قال في الكتاب الحكيم عن رسوله الكريم ، إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وقال سبحانه عن نفسه في كلامه القديم ، إن الله بكم لرؤف رحيم ، فقد عرفنا ، بأنه وصف

٢٩١

نفسه بما وصفنا ، فلو لا صحة القبول منا ، ما أخبر بذلك عنا ، وخبره صدق ، وقوله حق ، فالمشاركة في الصفات ، دليل على تباين الذوات ، فالحق تعالى يرى صورته في مرآة الإنسان الكامل ، ومعنى يرى صورة الحق فيه إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه ، كما جاء في الخبر فبهم تنصرون والله الناصر ، وبهم ترزقون والله الرازق ، وبهم ترحمون والله الراحم ، وقد ورد في القرآن فيمن علمنا كماله واعتقدنا ذلك فيه أنه بالمؤمنين رؤف رحيم ، فالتخلق بالأسماء ، يقول به جميع العلماء.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عما دعوتموهم إليه (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي في الله الكفاية يكفيني أمرهم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهذا هو التوحيد الحادي عشر ، وهو توحيد الاستكفاء ، وهو من توحيد الهوية لما قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) فأحالنا علينا بأمره فبادرنا لامتثال أمره ، فمنا من قال التعاون على البر والتقوى أن يرد كل واحد صاحبه إلى ربه في ذلك ، ويستكفي به فيما كلفه ، وهو قوله : (واستعينوا بالله) خطاب تحقيق «عليه توكلت» التوكل اعتماد القلب على الله تعالى مع عدم الاضطراب عند فقد الأسباب الموضوعة في العالم ، التي من شأن النفوس أن تركن إليها ، فإن اضطرب فليس بمتوكل ، وهو من صفات المؤمنين (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فإذا كان رب العرش والعرش محيط بعالم الأجسام وأنت من حيث جسميتك أقل الأجسام فاستكف بالله ، الذي هو رب مثل هذا العرش ، ومن كان الله حسبه انقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء ، وجاء في ذلك بما يرضي الله ، والله ذو فضل عظيم على من جعله حسبه.

٢٩٢

(١٠) سورة يونس مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم أهل السعادة (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي سابق عناية عند ربهم في علم الله ، وصحت لهم هذه القدم قبل كونهم حيث لا قبل في علم الله ، خصوصية منه جل علاه لهم ، وهي الرحمة التي كتبها على نفسه ، وقدم الصدق هذه تعطي ثبوت أهل الجنات في جناتهم ، ولهذا قال في أهل الجنان عطاء غير مجذوذ ، فما وصفه بالانقطاع ، فقال تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي سابقة بأمر قد أعلمهم به قبل أن يعطيهم ذلك ، ثم أعطاهم فصدق فيما وعدهم به ، واعلم أن من المتشابه صفة القدم ، فإنه ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة قدمه ، فتقول قط قط وعزتك] وقد مهدنا أن الصورة المنسوبة إلى الله تعالى هي ظلل غمام الشريعة ، وأن وجهه منها هو بارق نور التوحيد ، ومظهره الإخلاص ، وعلى هذا فالقدم هي نور الإيمان ، ومظهره الصدق ، وهذا هو القدم الذي تستغيث النار من نوره كما جاء في حديث أبي سمية ، قال : سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الورود ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [الورود الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم] وفي حديث يعلى رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن النار لتنادي جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي] أخرجهما

٢٩٣

أبو عبد الله محمد الترمذي الحكيم ، وذكر القرطبي حديث يعلى عن أبي بكر النخاد ، وهذا يحقق أن القدم فيما ذكرناه أمران : أحدهما أن نور الإيمان يكفر جميع أسباب الكفر والمعاصي ، وهي أسباب ، فكما يطفىء أسبابها في الدنيا ، فكذلك حقيقته تطفىء حقيقتها في الآخرة ، والثاني نسبته إلى رب العزة ، وهو صاحب العزة ومالكها ، والعزة إن كانت جميعا لله تعالى بمقتضى قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) لكنه قد نسبها لرسوله وللمؤمنين في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فما من مؤمن إلا وهو صاحب العزة ، فإذا وضع قدمه حق للنار أن تضج منه وتنزوي وتنطفىء نارها بما له من نور العزة ، وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم [فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول : قط قط ، فهناك تمتلىء وتنزوي بعضها إلى بعض ، فلا يظلم الله من خلقه أحدا] وذكر الحديث ، وهو غير مناف لما ذكرناه ، ومرجعه للحديث الصحيح [ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ـ إلى قوله ـ ورجله التي يمشي بها] فإنه يقتضي تحقق رجل المؤمن بنور التوحيد ، حتى تكون منسوبة إلى الله تعالى ، وحينئذ فهو موافق لما تقدم من القدم ، وانزواؤها بعضها إلى بعض فيه حكمتان : إحداهما أنها عندما تضج بسبب نور العزة من أقدام المؤمنين ، فيخرجون منها ، لخلو مواضعهم ، فلو بقيت كذلك لما كانت مملوءة ، وهو مناف لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية ، وأيضا ربما كان في ذلك تخفيف على أهلها ، فاقتضت الحكمة أنها حينئذ تنضم وتجتمع على أهلها المتكبرين وتمتليء بهم ، تحقيقا للوعيد وزيادة في العذاب ، والحكمة الثانية أنها لو بقيت مواضع المؤمنين خالية من النار ، لم يتم لهم سرورهم بالأمن منها ، لعلمهم بأن الله وعدها أنه يملؤها ، فربما توقعوا الإعادة ، فكان في انزوائها وانضمامها على أهلها وامتلائها بهم تأمين للمؤمنين ، كما ذبح الموت بين الفريقين تحقيقا للخلود ـ إشارة ـ اعلم أن نعلي قدم الصدق هما الخوف والرجاء [راجع قوله تعالى لموسى عليه‌السلام (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس) سورة طه آية رقم (١٢)].

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى

٢٩٤

الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

راجع الأعراف آية ٥٤ (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) العرش له الإحاطة بالأجسام ، وله الأولية في الأفلاك فما تحتها ، فهو الأول المحيط ، فاختاره الحق للاستواء لما بين الصفتين ، وإن كان العرش هو الملك ، فكل شيء ما سوى الله ملكه ، والسموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة في فلاة ، والكرسي في جوف العرش كحلقة في فلاة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) اعلم أن حكم المدبر في الأمور إحكامها في موضع الجمع والشهود ، وإعطاؤها ما تستحقه ، وهذا كله قبل وجودها في أعيانها ، فالتدبير هو التقدير ، فقوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يعني أن الحق على الحقيقة هو مدبر العالم ، وما وصف نفسه بذلك إلا ليعرفنا أنه ما عمل شيئا إلا ما تقتضيه حكمة الوجود ، وأنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها ، فلم يزل الحق في أزله مدبرا ، ولا بد أن يكون تدبيره في مدبّر معيّن له ، وليس إلا أعيان الممكنات ، فهي مشهودة له في حال عدمها ، فإنها ثابتة ، فيدبر فيها ما يكون من تقدم بعضها على بعض ، وتأخرها في تكوين أعيانها وصور ما توجد فيها ، وهنالك هو سر القدر الذي أخفى الله تعالى علمه عن خلقه ، حتى يظهر الحكم به في الصور الموجودة في رأي العين (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) الأنبياء والمؤمنون يشفعون في أهل الإيمان ، وأهل الإيمان طائفتان : منهم المؤمن عن نظر وتحصيل دليل ، وهم الذين علموا الآيات والدلالات والمعجزات ، وهؤلاء هم الذين يشفع فيهم النبيون ، ومنهم المؤمن تقليدا بما أعطاه أبواه إذ ربياه أو أهل الدار التي نشأ فيها ، فهذا النوع يشفع فيهم المؤمنون كما أنهم أعطوهم الإيمان في الدنيا بالتربية ، وأما الملائكة فتشفع فيمن كان على مكارم الأخلاق في الدنيا وإن لم يكن مؤمنا ، وما ثم شافع رابع ، وبقي من يخرجه أرحم الراحمين من النار ، وهم الذين ما عملوا خيرا قط ، لا من جهة الإيمان ولا بإتيان مكارم الأخلاق ، غير أن العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل الجنة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

٢٩٥

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

(إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ما سمي الخلق خلقا إلا بما يخلق منه ، فالخلق جديد ، وفيه حقيقة اختلاق ، لأنك تنظر إليه من وجه فتقول : هو حق ، وتنظر إليه من وجه فتقول : هو خلق ، وهو في نفسه لا حق ولا غير حق ، فإطلاق الحق عليه والخلق كأنه اختلاق ، فغلب عليه هذا الحكم فسمي خلقا ، وانفرد الحق باسم الحق (ثُمَّ يُعِيدُهُ) الإعادة تكرار الأمثال أو العين في الوجود ، وذلك جائز وليس بواقع ، أعني تكرار العين ، للاتساع الإلهي ، ولكن الإنسان في لبس من خلق جديد ، فهي أمثال يعسر الفصل فيها لقوة الشبه ، فالإعادة إنما هي في الحكم ، مثل السلطان يولي واليا ثم يعزله ، ثم يوليه بعد عزله ، فالإعادة في الولاية ، والولاية نسبة لا عين وجودي ، ألا ترى الإعادة يوم القيامة إنما هي في التدبير ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ميّز بين نشأة الدنيا والنشأة الآخرة ، والروح المدبّر لنشأة الدنيا عاد إلى تدبير نشأة الآخرة ، فهي إعادة حكم ونسبة لا إعادة عين فقدت ثم وجدت ، فالأعيان التي هي الجواهر ما فقدت من الوجود حتى تعاد إليه ، بل لم تزل موجودة العين ، ولا إعادة لموجود في الوجود فإنه موجود ، وإنما هي هيآت وامتزاجات نسبية ، فلا إعادة في الكون ، وإنما الإعادة في نشء الآخرة إعادة حكم إلهي في حق أمر مخصوص ، بمنزلة من خرج من دار ثم عاد إليها ، فالدار الدار والخارج الداخل ، وما ثمّ إلا انتقال في أحوال لا ظهور أعيان ، مع صحة إطلاقها أن الخارج من الدار عاد إلى داره.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥)

٢٩٦

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) تضيء كل ما أشرقت عليه ، فهي ضياء لوجود روح الحياة في العالم كله ، وجعلها الله ضياء يكشف به كل ما تنبسط عليه لمن كان له بصر ، فإن الكشف إنما يكون بضياء النور لا بالنور ، فإن النور ما له سوى تنفير الظلمة ، وبالضياء يقع الكشف ، فالضوء لا يكون معه حجاب عما يكشفه ، فجعل الله تعالى الشمس ضياء ، فهي ضياء بالجعل نور بالذات ، كما جعل (الْقَمَرَ نُوراً) فهو نور بالجعل وهو بالذات محو (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) «والقمر» ولم يسمه بدرا ولا هلالا ، فإنه في هاتين الحالتين ما له سوى منزلة واحدة ، بل اثنتين ، فلا يصدق قوله (مَنازِلَ) إلا في القمر ، فللقمر درج التداني والتدلي ، وله الأخذ بالزيادة والنقص ، فهو يتغير في أحواله نورا (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) مقادير التقسيم التي في فلك البروج عيّنها الحق تعالى لنا ، إذ لم يميزه البصر بهذه المنازل المعينة في الفلك المكوكب ، واسمه فلك المنازل ، وهو من تقدير العزيز العليم ، وجعلها ثماني وعشرين منزلة ، مقسمة على اثني عشر برجا ، فكل برج منزلتان وثلث ، والقمر أحد السبعة ، الجواري السبع التي في السموات السبع ، والتي تقطع في فلك البروج بين سريع وبطيء ، ويوم كل كوكب منها بقدر قطعه فلك البروج ، وأسرعها قطعا القمر ، فإن يومه ثمانية وعشرون يوما من أيام الدورة الكبرى التي تقدر بها هذه الأيام ، وهي الأيام المعه دة عند الناس ، فأقصر أيام الكواكب يوم القمر ، ومقداره ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ، واعلم أن أصغر الأيام هي التي نعدها حركة الفلك المحيط ، الذي يظهر في يومه الليل والنهار ، فأقصر يوم عند العرب وهو هذا ، لأكبر فلك ، وذلك لحكمه على ما في جوفه من الأفلاك ، إذ كانت حركة ما دونه في الليل والنهار حركة قسرية له ، قهر بها سائر الأفلاك التي يحيط بها ، ولكل فلك حركة طبيعية تكون له مع الحركة القسرية ، فكل فلك دونه ذو حركتين في وقت واحد ، حركة طبيعية وحركة قسرية ، ولكل حركة طبيعية في كل فلك يوم مخصوص ، يعدّ مقداره بالأيام الحادثة عن الفلك المحيط ، المعبر عنه بقوله تعالى : (مِمَّا تَعُدُّونَ) وكلها تقطع في الفلك المحيط ، فكلما قطعته على الكمال كان يوما لها ، ويدور الدور ، فأصغر الأيام منها هو ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ، وهو مقدار قطع حركة القمر في الفلك المحيط ، ونصب الله هذه الكواكب السبعة في السموات ليدرك البصر قطع فلكها في الفلك المحيط لنعلم عدد السنين والحساب ، فلكل كوكب منها يوم

٢٩٧

مقدّر ، يفضل بعضها على بعض ، على قدر سرعة حركاتها الطبيعية أو صغر أفلاكها (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) بسير القمر في منازله والشمس فيها ـ فلك المنازل ـ راجع سورة يس آية ـ ٣٩ ـ (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

المتقي يتولى الله تعليمه فلا يدخل علمه شك ولا شبهة ، فهو صاحب بصيرة ، والمتفكر بين البصر والبصيرة ، لم يبق مع البصر ولا يخلص للبصيرة ، فهو ناظر إلى قوة مخلوقة ، فيصيب ويخطىء ، وإذا أصاب يقبل دخول الشبهة عليه بالقوة التي أفادته الإصابة.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

الحمد لله هو آخر دعوى السعداء ، ويرجع الأمر على الابتداء ، وهكذا تكون الدرجات في الجنان ، والأحوال على ترتيب ما كان عليه الإنسان ، فالحمد لله تملأ الميزان ، وهي آخر موضوع ، ولا إله إلا الله تثبت الإيمان ، وهي أول مسموع ، فالحمد لله رب العالمين ، ونعمت العاقبة للمتقين ، فإن الحمد لله هو أول ما تكلم به أول إنسان في نشئه ، وهو آخر دعواهم ، فبدأ العالم بالثناء وختم بالثناء ، وذلك عند قول الله لأهل الجنة : رضائي عنكم

٢٩٨

فلا أسخط عليكم أبدا ، فالحمد لله له التأخير في الأمور ، فهي تملأ الميزان ، فإن آخر ما يجعل في الميزان سبحان الله وبحمده ، فبها يمتلىء ، فالتحميد يأتي عقيب الأمور ، ففي السراء يقال : (الحمد لله المنعم المفضل) وفي الضراء يقال : (الحمد لله على كل حال).

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢)

فإن الإنسان لو نشأ على الخير والنعم طول عمره لم يعرف قدر ما هو فيه حتى يبتلى ، فإذا مسه الضر عرف قدر ما هو فيه من النعم والخيرات ، عند ذلك عرف قدر المنعم.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١٣)

اعلم أن الله ما ذكر أخبار القرون الماضية إلا لنكون على حذر من الأسباب التي أخذهم بها أخذته الرابية ، وبطش بهم البطش الشديد ، وأما الموت فأنفاس معدودة ، وآجال محدودة ، وليس الخوف إلا من أخذه وبطشه لا من لقائه ، فإن لقاءه يسر الولي ، والموت سبب اللقاء ، فهو أسنا تحفة يتحفها المؤمن ، فكيف به إذا كان عالما ، بخ على بخ

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ

٢٩٩

قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦)

(قُلْ) أمر من الحق تعالى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال ، (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ولكنه شاء فتلوته عليكم وأدراكم به ، يقول : فهمكم إياه فعلمتم أنه الحق.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨)

إن للمشرك ضربا من التوحيد ، أعني توحيد المرتبة الإلهية العظمى ، فإن المشرك جعل الشريك شفيعا عند الله ، فوحد هذا المشرك الله في عظمته ، ليست للشريك عنده هذه الرتبة ، إذ لو كانت له ما اتخذه شفيعا ، والشفيع لا يكون حاكما ، فلهم رائحة من التوحيد ، وإن لم يخرجوا من النار لا يبعد أن يجعل الله لهم فيها نوعا من النعيم في الأسباب المقرون بها الآلام.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ

٣٠٠