رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) ولم يعيّن الله في الآية فيما ذا ، فإنه قد يتبادر أنه في اللسان يدل على أحدية المعنى ، ولكن إذا نظرنا إلى قول يوسف للملك على لسان رسوله أن يسأل عن النسوة وشأن الأمر ، فما ذكرت المرأة إلا أنها راودته عن نفسه ، وما ذكرت أنه راودها ، فزال ما كان يتوهم من ذلك فإن قلت : لا زال الاشتراك في اللسان ولا بد منه ، ففي ما ذا يقع الاشتراك؟ قلنا : إنها همت به لتقهره على ما تريد منه ، وهمّ هو بها ليقهرها في الدفع عن ذلك ، فالاشتراك وقع في طلب القهر منه ومنها ، فلهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) يعني في عين ما همّ بها ، وليس إلا القهر فيما يريد كل واحد من صاحبه ، دليل ذلك قولها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وما جاء في السورة قط أنه راودها عن نفسها ، فأراه الله البرهان عند إرادته القهر في دفعها عنه فيما تريد منه (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فكان البرهان الذي رآه أن يدفع عن نفسه بالقول اللين ، فإن القول اللين قد يأتي في مواطن بما لا يأتي به القهر ، كما قال تعالى لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) فكان البرهان لا تعنف عليها ولا تسبها ، فإنها امرأة موصوفة بالضعف على كل حال ، (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) والهم بالسوء من السوء وهو مصروف عنه أعني السوء ، فلم يكن يهم بسوء (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام ، إذا ولد المولود ونشأ محفوظا قبل التكليف ولم يرزأ في عهده الذي أخذ الله من بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ، وهو الفطرة التي يولد عليها كل مولود ، فبقي عهده على أصله خالصا ، وهو الدين الخالص ، لا المخلص من غير شوب خالطه ، فهو صاحب العهد الخالص فلا يشقى.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧)

٣٨١

هذا الشاهد هو صبي كان في المهد.

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠)

(شَغَفَها حُبًّا) أي صار حبها يوسف على قلبها كالشغاف ، وهو الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب ، فهي ظرف له محيطة ، وهو العشق ، فإنه إفراط المحبة.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١)

لما رأينه في تقديسه نفسه عن الشهوات الطبيعية ، وهذا ما يدل على عصمته من أن يهم بسوء ، فإن الملك ليس من السوء في شيء قالت النسوة : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) لاختصاصه عموما بأحسن تقويم.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ

٣٨٢

الْجاهِلِينَ) (٣٣)

قول يوسف عليه‌السلام (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) محبة إضافة لا محبة حقيقية.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦)

العصر ضم شيء إلى شيء لاستخراج مطلوب.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩)

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فهو توحيد الإله ونفي ربوبية ما سواه ، قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وأما قوله : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فعن الفردية ظهرت الأفراد ، وعن الاثنين ظهرت الأشفاع ، ولا يخلو كل عدد أن يكون شفعا أو وترا

٣٨٣

إلى ما لا يتناهى التضعيف فيه ، والواحد يضعفه أبدا ، فبقوة الواحد ظهر ما ظهر من حكم العدد ، والحكم لله الواحد القهار ، ولو لا أنه سمي بالمتقابلين ما تسمى بالقهار ، لأنه محال أن يقاومه مخلوق أصلا ، فإذا ما هو قهار إلا من حيث أنه تسمى بالمتقابلين ، فلا يقاومه غيره ، فهو المعز المذل ، فيقع بين الاسمين حكم القهر والمقهور بظهور أحد الحكمين في المحل ، فلذلك هو الواحد من حيث أنه يسمى ، القهار من حيث أنه يسمى بالمتقابلين ، ولا بد من نفوذ حكم أحد الاسمين ، فالنافذ الحكم هو القاهر والقهار ، من حيث أن أسماء التقابل له كثيرة ، فهو القهار في مقابلة المنازعين.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤١)

كان الرجلان قد كذبا فيما صوراه فكان مما حدّثا به أنفسهما ، فتخيلاه من غير رؤيا ، فلما قصاه على يوسف حصل في خيال يوسف عليه‌السلام صورة من ذلك لم يكن يوسف حدث بذلك نفسه ، فصارت حقا في حق يوسف وكأنه هو الرائي الذي رأى تلك الرؤيا لذلك الرجل ، فلما عبر لهما رؤياهما قالا له : أردنا اختبارك وما رأينا شيئا ، فقال يوسف : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) فخرج الأمر في الحسّ كما عبّر.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢) راجع الهامش.

__________________

(ـ) قال سيدي أحمد بن إدريس في كتابه العقد النفيس (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) الظان هو الرجل لا يوسف ، لأنه لا يجوز الظن على يوسف عليه‌السلام ، لأنه أوحى الحق سبحانه وتعالى بتأويل الرؤيا ، والظن لا يغني من الحق شيئا ، وإياكم والظن فإنه أكذب الحديث ، فكيف يظن يوسف فيما أوحى إليه ربه سبحانه وتعالى؟!.

٣٨٤

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣)

حضرة الخيال في النوم ، وهو الرؤيا كالجسر بين الشطين للعبور عليه من هذا الشط إلى هذا الشط ، فجعل النوم معبرا ، وجعل المشي عليه عبورا ، وما سمي الإخبار عن الأمور عبارة ولا التعبير عن الرؤيا تعبيرا إلا لكون المخبر يعبر بما يتكلم به ، أي يجوز بما يتكلم به من حضرة نفسه إلى نفس السامع ، فهو ينقله من خيال إلى خيال ، لأن السامع يتخيله على قدر فهمه ، فقد يطابق الخيال الخيال ، خيال السامع مع خيال المتكلم وقد لا يطابق ، فإذا طابق سمي فهما ، وإن لم يطابقه كان لفظا لا عبارة ، لأنه ما عبر به عن محله إلى محل السامع ، غير أن التعبير عن غير الرؤيا رباعي ، والتعبير عن الرؤيا ثلاثي ، ففي الأول عبّر بالتشديد ، وفي الثاني عبر بالتخفيف ، ولما كان عالم الخيال ليس مطلوبا لنفسه ، وإنما هو مطلوب لما نصب له لهذا سمي تأويل الرؤيا عبارة ، لأن المفسر يعبر منها إلى ما جاءت له ، كما عبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القيد إلى الثبات في الدين ، ومن اللبن إلى العلم.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (٤٤)

الرؤيا الصادقة ما هي بأضغاث أحلام ، وهي جزء من أجزاء النبوة ، أما قولهم (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي لا حقيقة لها.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ

٣٨٥

(٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) (٤٨)

لما كان يوسف عليه‌السلام من أئمة علم التعبير بصور التمثيل والخيال ، علم أن صور البقر هي السنوات ، وأن سمنها يعني الخصب ، وأن عجافها هو جدبها ، وذلك كله من تجسد المعاني.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) (٥٠)

لما دعا الملك يوسف عليه‌السلام إلى الخروج من السجن فلم يخرج ، وقال لرسول الملك (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) يعني العزيز الذي حبسه (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ليثبت عنده براءته فلا تصح له المنة عليه في إخراجه من السجن ، بل الله يمن عليكم ، إذ لو بقي احتمال لقدح في عدالته ، وهو رسول من الله ، فلا بد من عدالته أن تثبت في قلوبهم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معرض الثناء على يوسف عليه‌السلام وتعظيما لحقه [لو كنت أنا بدل أو محل يوسف لأجبت الداعي] وهذه إشارة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى فتوة يوسف عليه‌السلام ، فإنه قد اجتمع في يوسف حالان ، حال السجن وحال كونه مفترى عليه ، وهو رسول ، والرسول يطلب أن يقرر في نفس المرسل إليه ما يقبل به دعاء ربه فيما يدعوه به إليه ، والذي نسب إليه معلوم عند كل أحد أنه لا يقع من مثل من جاء بدعوته إليهم ، فلا بد أن يطلب البراءة في ذلك عندهم ليؤمنوا بما جاء به من عند ربه ، فلم يحضر بنفسه ذلك المجلس حتى لا تدخل الشبهة في نفوس الحاضرين بحضوره ، وفرق كبير بين من يحصر في مثل هذا الموطن وبين من لا يحضره ، فإن صحة البراءة في غيبته أدل على براءته من حضوره ، فمن فتوة يوسف عليه‌السلام إقامته في السجن بعد أن دعاه الملك إليه ، وما علم قدر ذلك إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال عن نفسه [لأجبت الداعي] ثناء على يوسف ، فإنه اختار الإقامة في السجن ولم يخرج حتى يرجع إليه الرسول بالجواب.

٣٨٦

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٥١)

فما ذكرت المرأة إلا أنها راودته عن نفسه ، وما ذكرت أنه راودها (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢)

لم تخن المرأة يوسف في غيبته لما برأته وأضافت المراودة إلى نفسها ، لتعلم أن يوسف لم يخن العزيز في أهله ، وعلمت أنه أحق بهذا الوصف منها في حقه ، فما برأت نفسها ، بل قالت.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٣)

النفس ليست أمارة بالسوء من حيث ذاتها ، وإنما ينسب إليها ذلك من حيث أنها قابلة لإلهام الشيطان بالفجور ، ولجهلها بالحكم المشروع في ذلك ، ثم إن قول الله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ما هو حكم الله عليها بذلك ، وإنما الله حكى ما قالته امرأة العزيز في مجلس العزيز ، وهل أصابت في هذه الإضافة أو لم تصب هذا حكم آخر مسكوت عنه ، فهذا الإخبار عن النفس أنها أمارة بالسوء ما هو حكم الله عليها ، ولا من قول يوسف عليه‌السلام ، فبطل التمسك بهذه الآية لما دل عليه الظاهر ، والدليل إذا دخله الاحتمال سقط الاحتجاج به ، والذي هو للنفس أنها لوامة نفسها إذا قبلت من الشيطان ما يأمرها به ، والنفس ما ينسب إليها ذم إلا بعد تصريفها آلاتها في المذموم ، وما لم يظهر الفعل على

٣٨٧

الآلات لم يتعلق بها ذم ، والذي أجرأ النفوس على ارتكاب المحارم والدخول في المآثم هو كونها ليست على بصيرة من المؤاخذة ، فإن الله أدخلها في حكم المشيئة (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) إلا من عصم الله ، بخوف أو رجاء أو حياء ، أو عصمة في علم الله به خارجة عن هذه الثلاثة ، ولا خامس لهذه الأربعة المانعة من وقوع المخالفة والتعرض للعقوبة. واعلم أن النفس أشد الأعداء شكيمة وأقواهم عزيمة ، فجهادها هو الجهاد الأكبر ، فمن ثبت قدمه في هذا الزحف ، وتحقق بمعنى ذلك الحرف انتهض بأعضائه في الملكوت مليكا ، وكان له الملك جليسا ، غير أن هذه النفس العدوة الكافرة الأمارة بالسوء لها على الإنسان قوة كبيرة وسلطان عظيم ، بسيفين عظيمين ماضيين ، تقطع بهما رقاب صناديد الرجال وعظمائهم ، وهما شهوتا البطن والفرج ، اللتان قد تعبدتا جميع الخلائق وأسرتهم ، ومن عظمهما وكبير فعلهما حتى أفرد الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه كتابا سمّاه (كسر الشهوتين) في إحياء علوم الدين له ، وكذلك اعتنى بهما كبار العلماء رضي الله عنهم ، والذي يتوجه عليك في هذا الباب أن تبدأ بالحسام الواحد الذي هو البطن ، ثم يليه الفرج.

ـ استدراك وموعظة ـ لا ينبغي لواعظ أن يخرج في وعظه عن الكتاب والسنة ، ولا يدخل في هذه الطوام ، فينقل عن اليهود والنصارى والمفسرين الذين ينقلون في كتب تفاسيرهم ما لا يليق بجناب الله ولا بمنزلة رسل الله عليهم‌السلام ، فإن لله ملائكة في الأرض سياحين فيها يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلس ذكر نادى بعضهم بعضا هلموا إلى بغيتكم ، وهم الملائكة الذين خلقهم الله من أنفاس بني آدم ، فينبغي للمذكر أن يراقب الله ويستحي منه ، ويكون عالما بما يورده ، وما ينبغي لجلال الله ويجتنب الطامات في وعظه ، فإن الملائكة يتأذون إذا سمعوا في الحق وفي المصطفين من عباده ما لا يليق ، وهم عالمون بالقصص ، وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن العبد إذا كذب الكذبة تباعد منه الملك ثلاثين ميلا من نتن ما جاء به ، فتمقته الملائكة ، فإذا علم المذكر أن مثل هؤلاء يحضرون مجلسه فينبغي له أن يتحرى الصدق ، ولا يتعرض لما ذكره المؤرخون عن اليهود من زلات من أثنى الله عليهم واجتباهم ، ويجعل ذلك تفسيرا لكتاب الله ، ويقول : قال المفسرون ، وما ينبغي أن يقدم على تفسير كلام الله بمثل هذه الطوام ، كقصة يوسف وداود وأمثالهم عليهم‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بتأويلات فاسدة وأسانيد واهية ، عن قوم قالوا في الله ما ذكر الله عنهم ، فإذا أورد

٣٨٨

المذكر مثل هذا في مجلسه مقتته الملائكة ونفروا عنه ، ومقته الله ، ووجد الذي في دينه نقص رخصة يلجأ إليها في معصيته ، ويقول : إذا كانت الأنبياء قد وقعت في مثل هذا ، فمن أكون أنا؟ وحاشا والله الأنبياء مما نسبت إليهم اليهود لعنهم الله ، فينبغي للمذكر أن يحترم جلساءه ولا يتعدى ذكر تعظيم الله بما ينبغي لجلاله ، ويرغب في الجنة ويحذر من النار وأهوال الموقف ، والوقوف بين يدي الله ، من أجل من عنده من البطالين المفرطين من البشر ، فهؤلاء المذكرون الذين يرددون افتراءات اليهود نقلة عن اليهود لا عن كلام الله لما غلب عليهم من الجهل ، فواجب على المذكر إقامة حرمة الأنبياء عليهم‌السلام والحياء من الله أن لا يقلد اليهود فيما قالوا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المثالب ونقلة المفسرين خذلهم الله ، ومنها مراعاة من يحضر مجلسه من الملائكة السياحين ، فمن يراعي هذه الأمور ينبغي أن يذكر الناس ، ويكون مجلسه رحمة بالحاضرين ومنفعة.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) (٥٤)

فأعطته المملكة مقاليدها ، وملكته الخلافة أزمتها ، ووهبته مطاريفها ومتاليدها ، فلم يخفر عهدها وذمتها ، ولم يزل يسوس مملكته بحسن النظر ، ويقيمها بسديد الفكر ، حتى قامت الدولة على ساقها ، وعمتها خيراته على بعد أقطارها وآفاقها ، وتجلى شمسا باهرة بين أزرتها وطوقها ، وحيد دهره ، وفريد عصره ، فقال :

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥)

قوله عليه‌السلام (إِنِّي حَفِيظٌ) والحفظ أمانة ، ولو همّ بسوء لم يكن أمينا ، ولو فعل لم يكن حفيظا ، وطلب يوسف عليه‌السلام من الملك صاحب مصر أن يجعله على خزائن الأرض لأنه حفيظ عليم ، ليفتقر الكل إليه فتصح سيادته عليهم ، ولهذا أخبر بالصفة التي يستحق من قامت به هذا المقام فقال : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) حفيظ عليها فلا نخرج منها إلا

٣٨٩

بقدر معلوم ، كما أن الله سبحانه يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فإذا كانت هذه الصفة فيمن كانت ملك مقاليدها ، ثم قال بعد قوله (حَفِيظٌ) (عَلِيمٌ) أخبرنا أنه عالم بحاجة المحتاجين لما في هذه الخزائن التي خزن فيها ما به قوامهم ، عليم بقدر الحاجة. واعلم أن الغفلة ما تعمّ قط ، لا في العموم ولا في الخصوص ، والعبد لا بد له أن يغفل عن شيء دون شيء ، وحفظه للأشياء ما هو حفظ الحق لها ، فحفظ العبد بالتضمين ، وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك ، بل حفظ لكل صورة على التعيين.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤)

يقول الله : [شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين] فاعلم أن الله يشفع من حيث أسماؤه ، فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهار والشديد

٣٩٠

العقاب ليرفع عقوبته عن بعض الطوائف ، فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧)

اعلم أن الوكالة لا تصح إلا في موكل فيه ، وذلك الموكل فيه أمر يكون للموكل ليس لغيره ، فيقيم فيه وكيلا ويتصرف فيما للموكل أن يتصرف فيه مطلقا ، فمن نظر أنّ الأشياء ما عدا الإنسان خلقت من أجل الإنسان كان كل شيء له فيه مصلحة يطلبها بذاته ملكا له ، ولما جهل مصالح نفسه ، ومصالحه ما فيها سعادته ، خاف من سوء التصرف في ذلك ، فقال : إذ وقد خلق الله الأشياء من أجلي فما خلق إلا ما يصلح لي ، وأنا جاهل بالمصلحة التي في استعمالها نجاتي وسعادتي ، فلنوكله في أموري فهو أعلم بما يصلح لي ، فكما أنه خلقها هو أولى بالتصرف فيها ، هذا يقتضيه النظر والعقل ، فكيف وقد ورد به الأمر الإلهي ، فالمؤمن يتخذ الحق وكيلا يسلم إليه أموره ، ويجعل زمامها بيده كما هو في نفس الأمر ، فما زاد شيئا مما هو الأمر عليه في الوجود ، ومدحه الله بذلك ، وما أثر في الملك شيئا ، وهذا غاية الكرم الثناء بالأثر على غير المؤثر ، بل الكل منه وإليه ، فنتخذ الحق وكيلا في المصلحة لنا لا في الأشياء ، فنوكله ليسخر لنا من هذه الأشياء ما يرى فيه المصلحة لنا ، امتنانا منه وامتثالا لأمره ، فنكون في توكلنا عليه عبيدا مأمورين ممتثلين أمره نرجو بذلك خيره ، فوقع التوكل في المصالح لا في عين الأشياء.

٣٩١

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٧٢)

ـ إشارة ـ جعل يوسف عليه‌السلام الصواع حجابا ، يقرع بذلك للاتصال بالأحبة بابا.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا

٣٩٢

مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨٣)

فهو سبحانه العليم ولا عالم ، وهو الحكيم في ترتيب العالم ، فالعالم والعليم أعم ، والحكيم تعلق خاص للعلم.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦)

البث هو تفرق هموم المحبوب في وجوه كثيرة ، فإن المحبة تورث الحيرة ، والحيرة تفرق ولا تجمع ، ولهذا وصفت المحبة بالبث.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ

٣٩٣

لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (٨٨)

لكل متصدق عليه صدقة تليق به من المخلوقين ، فيبدأ بنفسه ثم بجوارحه ، ثم الأقرب إليه بعد ذلك وهو الأهل والولد ، ثم الخادم ثم الرحم والجار ، كما يتصدق على تلميذه وطالب الفائدة منه.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢)

قال يوسف عليه‌السلام لمن أساء في حقه فقطع رحمه (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فالحق أولى بهذه الصفة لمن أساء في حقه بقطع رحمه (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بعباده.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٩٥)

قال ذلك إخوة يوسف ليعقوب عليه‌السلام يريدون حيرته في حب يوسف ، لأن الحب من أوصافه الضلال والحيرة ، والحيرة تنافي العقل.

٣٩٤

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ) ، أي مآل : (رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي حقا في الحس وقد كانت حقا في الخيال في موطن الرؤيا ، فكان الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا هم أبا يوسف وخالته وإخوته ، لما دخلوا عليه خرّوا له سجّدا ، فوقع حسّا ما كان أدركه خيالا في صورة كوكبية ، فإن قلت : ما هو الرأي في هذا السجود؟ قلنا : سجود قربة لله ، فإن من سجد لغير الله عن أمر الله فقد أدى قربة ، ومن سجد لغير الله عن غير أمر الله قربة إلى الله فقد شقي ، فإن رؤيا يوسف عليه‌السلام كانت حقا من حق ، فهي مأمور بها ، كالسجود لآدم وللكعبة ولصخرة بيت المقدس (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الفرق بين العلم والحكمة أن الحكمة لها الجعل ، والعلم ليس كذلك ، لأن العلم يتبع المعلوم ، والحكمة تحكم في الأمر أن يكون هكذا ، فيثبت الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم في الزمان والحال قبل وجودها ، فتعلق بها العلم الإلهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه ، فالحكمة أفادت الممكن ما هو عليه من الترتيب الذي يجوز خلافه ،

٣٩٥

والترتيب أعطى العالم العلم بأن الأمر كذا هو ، فلا يوجد إلا بحسب ما هو عليه في الثبوت ، فالعارف يعلم بالجملة أن الظاهر في الوجود والواقع إنما هو في قبضة الحكمة الإلهية ، فيزول عنه التسخط والضجر ، ويقوم به التسليم والتفويض إلى الله في جميع الأمور ، فإن الله ما رجح إلا الواقع ، فأوقع ما أوقع حكمة منه ، وأمسك ما أمسك حكمة منه ، وهو الحكيم العليم ، فالعارف عنده الحكيم يتقدم العليم ، والعامي يقدم العليم ثم الحكيم ، وقد ورد الأمران معا ، فالحكيم خصوص والعليم عموم ، ولذلك ما كل عليم حكيم ، وكل حكيم عليم ، فالحكمة الخير الكثير.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

ليس فوق الصلاح مرتبة ، وهي مطلب رسل الله من الله ، وهم أعلم الخلق بالله.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤)

العالمون أصحاب العلامات والدلائل.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥)

الآية العلامة ، غير أن الآيات على قسمين معتادة وغير معتادة ، فأرباب الفكر والمستبصرون الموفقون هي عندهم سواء ، يتخذونها أدلة ، وما عدا هؤلاء فلا ينظرون إلا في الآيات غير المعتادة ، فيحصل لهم استشعار الخوف فيردهم ذلك القدر إلى الله ، ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة آية منهم من يخلصها دليلا على الله ، ومنهم من يشرك ، لذلك قال تعالى :

٣٩٦

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦)

لمعرفتهم بالأسباب المولدة لتلك الآيات ، كالزلازل والكسوفات وما يحدث من الآثار العلوية (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) ولم يقل بتوحيد الله ، فالمشرك مؤمن بوجود الله لا بتوحيده (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والشرك منه جلي وخفي ، فالمؤمن بتوحيد الله مؤمن بوجود الله ، وما كل مؤمن بوجود الله يكون مؤمنا بتوحيد الله ، فينقص عن درجته في قوة الإيمان ، فإنّه لما أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى) وما كان إلا التصديق بالوجود والملك لا بالتوحيد ، وإن كان فيه توحيد فغايته توحيد الملك ، فجاء قوله تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) لما خرجوا إلى الدنيا ، لأن الفطرة إنما كانت إيمانهم بوجود الحق والملك لا بالتوحيد ، فلما عدم التوحيد من الفطرة ظهر الشرك في الأكثر ممن يزعم أنه موحد ، وما أدّى من أدّاه إلى ذلك إلا التكليف ، فإنه لما كلفهم تحقق أكثرهم أن الله ما كلفهم إلا وقد علم أن لهم اقتدارا نفسيا على إيجاد ما كلفهم به من الأفعال ، فلم يخلص لهم توحيد ، فلو علموا من ذلك أن الله ما كلفهم إلا لما فيهم من الدعوى في نسبة الأفعال إليهم ، التي نسبوها إلى أنفسهم لتجردوا عنها بالله لا بنفوسهم ، كما فعل أهل الشهود ، فمن علم ذلك أقام العذر عند الله لعباد الله فيما أشركوا فيه عند إيمانهم ، فإن الله أثبت لهم الإيمان بالله وهو خير كثير وعناية عظمى ، فإذا سمع السامع الخبر النبوي بوجود الله آمن به على ما يتصوره ، فما آمن إلا بما تصوره ، والله موجود عند كل تصور كما هو موجود في خلاف ذلك التصور بعينه ، فما آمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، لما يطرأ عليهم في نفوسهم من مزيد العلم بالله ، ولو في كل مزيد تصور فيه ليس عين الأول ، وليس إلا الله في ذلك كله ، فما جاء الله بهذه الآية إلا لإقامة عذرهم ، ولم يتعرض سبحانه للتوحيد ، ولو تعرض للتوحيد لم يصح قوله (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) مع ثبوت الإيمان ، فدل أنه ما أراد الإيمان بالتوحيد ، وإنما أراد الإيمان بالوجود ، ثم ظهر التوحيد لمن ظهر في ثاني حال ـ وجه آخر ـ الشرك الخفي هو الاعتماد على الأسباب الموضوعة ، والركون إليها بالقلب ، فإن ذلك من أعظم رزيّة دينية في المؤمن ، وهو المراد بقوله تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)

٣٩٧

قال عليه‌السلام [أتدرون ما حق الله على العباد ، أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا] فدخل فيه الشرك الخفي والجلي الذي هو قطع الإسلام ، ثم قال [أتدرون ما حقهم على الله إذا فعلوا ذلك ، أن لا يعذبهم] وذلك بأن لا تتوجه إلا إلى الله ، عذبهم بالاعتماد على الأسباب ، لأنها معرضة للفقر ، ففي حال وجودها يعذبهم بتوهم فقدها ، وبعد فقدها بفقدها ، فهم معذبون دائما ، والذين لم يشركوا استراحوا ولم ينالوا بفقدها ألما ـ الوجه الثالث ـ من رحمة الله بالعالم أن أحالهم على الأسباب وما جعل لهم رزقا إلا فيها ليجدوا العذر في إثباتها ، فمن أثبتها جعلا فهو صاحب عبادة ، ومن أثبتها عقلا فهو مشرك ، وإن كان مؤمنا ، فما كل مؤمن موحد عن بصيرة شهودية أعطاه الله إياها ـ لطيفة ـ ليس المراد بالشرك هنا أن تجعل مع الله إلها آخر ، ذلك هو الجهل المحض ، فإنه ما ثمّ إله آخر ، بل هو إله واحد عند المشرك وغير المشرك ، فكل شرك يقتضيه العلم ويطلبه الحق فهو حق ، فليس المقصود إلا العلم ، فما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، فكثر العلماء بالله ، وأبقى طائفة من المؤمنين هم في الشرك ، ولا يعلمون أنهم فيه ، فلذلك لم ينسبهم إلى الشرك لعدم علمهم بما هم فيه من الشرك ، وهم لا يشعرون ، فالاسم الله هو الذي وقع عليه الشرك فيما يتضمنه ، فشاركه الاسم الرحمن قال تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فجعل للاسم الله شريكا في المعنى ، وهو الاسم الرحمن ، فالمشركون هم الذين وقعوا على الشركة في الأسماء الإلهية ، لأنها اشتركت في الدلالة على الذات ، وتميزت بأعيانها بما تدل عليه من رحمة ومغفرة وانتقام وحياة وعلم وغير ذلك ، فإن من شأن الشركة اتحاد العين المشترك فيه ، فيكون لكل واحد الحكم فيه على السواء ، وإلا فليس بشريك مطلق ، فإن الشريك الذي أثبته الشقي لم يتوارد مع الله على أمر يقع فيه الاشتراك ، فليس بمشرك على الحقيقة ، بخلاف السعيد فإنه أشرك الاسم الرحمن بالاسم الله ، وبالأسماء كلها في الدلالة على الذات ، فهو أقوى في الشرك من هذا ، فإن الأول شريك دعوى كاذبة ، وهذا أثبت شريكا بدعوى صادقة ـ تحقيق ـ أهل لا إله إلا الله سعدوا سعادة الأبد ولو شقوا يوما ما ، ولا شقاء مع التوحيد ، ولا سعادة مع الشرك المعتقد ، وشرك الغفلة معفو عنه.

٣٩٨

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨)

قال عليه‌السلام عن ربه (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ولم يقل أدعو إلى نفسي ، وإلى حرف موضوع للغاية ، فهو النبي الأمي الذي يدعو على بصيرة مع أميته ، وبهذا يزيد العالم الإلهي على غيره ، والأميون الذين يدعون معه إلى الله على بصيرة ، فهم التابعون له في الحكم ، إذ كان رأس الجماعة ، فالبصيرة هي الفتح الإلهي والعلم اللدني ، والمجتهد وصاحب الفكر لا يكون أبدا على بصيرة فيما يحكم به ، فأما المجتهد فقد يحكم اليوم في نازلة شرعية بحكم فإذا كان في غد لاح له أمر آخر أبان له خطأ ما حكم به بالأمس في النازلة ، فرجع عنه وحكم اليوم بما ظهر له ، ويمضي الشرع حكمه في الأول والآخر ، ويحرم عليه الخروج عما أعطاه دليله في اجتهاده في ذلك الوقت ، فلو كان على بصيرة لما حكم بالخطأ في النظر الأول ، فالخطأ لا يكون مع البصيرة ، وكذلك صاحب العقل ، يزن المتكلم بميزان عقله ما هو خارج عن العقل لكونه وراء طوره ، وهو النسب الإلهية ، لم يقبله ميزانه ويرمي به ، وكفر به وتخيل أنه ما ثمّ حق إلا ما دخل ميزانه ، والمجتهد الفقيه وزن حكم الشرع بميزان نظره كالشافعي المذهب مثلا ، أراد أن يزن بميزانه تحيل النبيذ الذي قبله ميزان أبي حنيفة فرمى به ميزان الشافعي فحرمه ، وقال أخطأ أبو حنيفة ، ولم يكن ينبغي للشافعي المذهب مثلا أن يقول مثل هذا دون تقييد ، وقد علم أن الشرع قد تعبد كل مجتهد بما أداه إليه اجتهاده ، وحرم عليه العدول عن دليله ، فما وفّى الصنعة حقها ، وأخطأ الميزان العام الذي يشمل حكم الشريعة على الإطلاق ، فالبصيرة في الحكم مثل الضروريات للعقول عند من يدعو إلى الله على بصيرة ، فما يدعو إلى الله على بصيرة إلا من كان على بينة من ربه (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من اتبعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم ورثة الأنبياء لاشتراكهم في الخبر ، فهو يدعو بمثل دعوة النبي عليه‌السلام عباد الله إلى توحيد الله والعمل بطاعته ، بشرعه المنزل المنطوق به حاليا ، لا يزيد على دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى ما جاء به من الإخبار بالأمور

٣٩٩

المغيبة ، إلا إن أطلعه الله على شيء من الغيب مما علّمه الله ، فله أن يدعو به مما لا يكون مزيلا لما قرره الشرع بالتواتر عندنا ، أي على طريق يفيد العلم ، وذلك أن الوحي كله موجود في رجال الله من الأولياء ، والذي اختص به النبي من هذا دون الولي الوحي بالتشريع ، فلا يشرع إلا النبي ، ولا يشرع إلا رسول خاصة ، فيحلل ويحرم ويبيح ويأتي بجميع ضروب الوحي ، والأولياء ليس لهم من هذا الأمر إلا الإخبار بصحة ما جاء به هذا الرسول وتعيينه ، حتى يكون هذا التابع على بصيرة فيما تعبده به ربه على لسان هذا الرسول ، إذا كان هذا الولي لم يدرك زمانه حتى يسمع منه كما سمع أصحابه ، فصار هذا الولي بهذا النوع من الخطاب بمنزلة الصاحب الذي سمع من لفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شرع قال تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فما جاء إلا بالإعلام ، فما أغلق باب التنزل بالعلم بالشريعة على قلوب أوليائه ، وأبقى لهم التنزل الروحاني بالعلم بها ليكونوا على بصيرة في دعائهم إلى الله بها ، كما كان من اتبعوه وهو الرسول ، فهو أخذ لا يتطرق إليه تهمة لاحتمال التأويل وما يتطرق إلى الناظر صاحب الدليل إلى دليله من الدخل عليه فيه ، فإن من يدعو إلى الله على بصيرة فإن علمه من حق اليقين ، أي حق استقراره في القلب ، لا يزلزله شيء عن مقره ، فهو إدراك الأمر على ما هو ، لأنه علم محقق ، لذلك جاء في القرآن (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وهم هؤلاء الذين ذكرناهم ، فرب حديث صحيح من طريق رواية الثقات عندنا ليس بصحيح في نفس الأمر ، فنأخذه على طريق غلبة الظن لا على العلم ، وهذه الطائفة التي ذكرناها تأخذه من هذا الطريق فتكون من عدم صحة ذلك الخبر الصحيح عندنا على بصيرة أنه ليس بصحيح في نفس الأمر ، وبالعكس ، وهو أن يكون الحديث ضعيفا من أجل ضعف الطريق ، من وضّاع فيه أو مدلس ، وهو في نفس الأمر صحيح ، فتدرك هذه الطائفة صحته ، فتكون فيه على بصيرة ، فهؤلاء هم ورثة الأنبياء لاشتراكهم في الخبر ، وانفراد الأنبياء بالتشريع ، واشترك الرسول ومن اتبعه في الدعوة إلى الله على بصيرة ، ومنها الأخذ عن الله مباشرة دون واسطة ، ومن هذا المقام قال أبو يزيد البسطامي : حدثني قلبي عن ربي ، فأنكر عليه من أنكر وغاب عنه نص الكتاب وهو هذه الآية ، فكل علم لا يكون حصوله عن كشف بعد فتح الباب يعطيه الجود الإلهي ويبديه ويوضحه فهو شعور لا علم ،

٤٠٠