رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

لا نوم فيها ولا غائلة ، في ظل ظليل وأمن مقيل ومجاورة الجليل ، ثم روحوا إلى نهر الكوثر والكافور والماء المطهر والتسنيم والسلسبيل والزنجبيل ، فاغتسلوا وتنعموا ، طوبى لكم وحسن مآب ، ثم روحوا فاتكئوا على الرفارف الخضر والعبقري الحسان والفرش المرفوعة ، في الظل المدود والماء المسكوب والفاكهة الكثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ثم تلا هذه الآية (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) ـ إلى هنا انته حديث أبي بكر النقاش ـ ثم إن الحق تعالى بعد هذا الخطاب يرفع الحجاب ويتجلى لعباده ، فيخرون سجّدا فيقول لهم : ارفعوا رؤوسكم فليس هذا موطن سجود ، يا عبادي ما دعوتكم إلا لتنعموا بمشاهدتي ، فيمسكهم في ذلك ما شاء الله ، فيقول لهم : هل بقي لكم شيء بعد هذا؟ فيقولون : يا ربنا وأي شيء بقي ، وقد نجيتنا من النار وأدخلتنا دار رضوانك وأنزلتنا بجوارك وخلعت علينا ملابس كرمك وأريتنا وجهك؟ فيقول الحق جل جلاله : بقي لكم ، فيقولون : يا ربنا وما ذاك الذي بقي؟ فيقول : دوام رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا ، فما أحلاها من كلمة وما ألذها من بشرى ، وتتفاضل الناس في رؤيته سبحانه ويتفاوتون تفاوتا عظيما على قدر علمهم ، فمنهم ومنهم ، ثم يقول سبحانه لملائكته : ردوهم إلى قصورهم فلا يهتدون ، لأمرين : لما طرأ عليهم من سكر الرؤية ، ولما زادهم من الخير في طريقهم فلم يعرفوها ، فلو لا أن الملائكة تدل بهم ما عرفوا منازلهم فإذا وصلوا إلى منازلهم تلقاهم أهلهم من الحور والولدان ، فيرون جميع ملكهم قد كسي بهاء وجمالا ونورا من وجوههم أفاضوه إفاضة ذاتية على ملكهم ، فيقولون لهم لقد زدتم نورا وبهاء وجمالا ما تركناكم عليه ، فيقول لهم أهلها : وكذاكم أنتم قد زدتم من البهاء والجمال ، ما لم يكن فيكم عند مفارقتكم إيانا ، فينعم بعضهم ببعض.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)

٣٦١

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢)

أمر الإله من الإله تعلق

ما أمره في العالمين محقق

إلا بواسطة الرسول فإنّه

أمر مطاع سرّه يتحقق

إن خالفت أمر الإله إرادة

منه تكاد النفس منه تزهق

ولذاك شيبت النبي مقالة

هي فاستقم فيما أمرت توفق

فإذا أراد نقيض ما أمرت به

نفس المكلّف فالوقوع محقق

ما خاطب الله نبيه بالاستقامة المطلقة ، إذ ما ثم طريق إلا وهو مستقيم موصل إلى الله من قوله تعالى (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ولكن قيد خطابه بقوله تعالى : (كَما أُمِرْتَ) فمعنى الاستقامة هنا الحركات والسكنات على الطريقة المشروعة ، والصراط المستقيم هو الشرع الإلهي ، والإيمان بالله رأس هذا الطريق ، وشعب الإيمان منازل هذا الطريق التي بين أوله وغايته وما بين المنزلين أحواله وأحكامه. ولما كان أحد لا يعرف هل وافق أمر الله إرادته فيه أنّه يمتثل أمره أو يخالفه؟ لهذا صعب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الله واشتدّ ، فقال شيبتني هود ، فإنها السورة التي نزل فيها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) وأخواتها مما فيه هذه الآية أو معناها ، فالناس من ذلك على خطر (وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي لا ترتفعوا عن أمره بما تجدونه في نفوسكم من خلقكم على الصورة الإلهية ، فتقولوا مثلنا لا يكون مأمورا ، فانظر فيما أمرت به أو نهيت عنه من حيث أنك محلّ لوجود عين ما أمرت به أو نهيت عنه ، فمتعلق الأمر عند صاحب هذا النظر أن يهيّىء محله بالانتظار ، فإذا جاء الأمر الإلهي الذي يأتي بالتكوين بلا واسطة ، فينظر أثره في قلبه أولا ، فإن وجد الإباية قد تكونت في قلبه فيعلم

٣٦٢

أنه مخذول وأن خذلانه منه ، لأنه على هذه الصورة في حضرة الثبوت عينه التي أعطت العلم لله به ، وإن وجد غير ذلك وهو القبول فكذلك أيضا فينظر في العضو الذي تعلق به ذلك الأمر المشروع أن يتكون فيه من أذن أو عين أو يد أو رجل أو لسان أو بطن أو فرج ، فإنا قد فرغنا من القلب بوجود الإباية أو القبول ، فلا نزال نراقب حكم العلم فينا من الحق حتى نعلم ما كنا فيه فإنه لا يحكم فينا إلا بنا.

ألم تعلم بأن الله منّا

يرانا والوجود لنا شهيد

فيلزمنا الحياء فلا يرانا

بحيث نهى ونحن له شهود

وذا من أعجب الأشياء عندي

فيأمرنا ويفعل ما يريد

يقول لي استقم ويريد مني

مخالفة يؤيدها الوجود

فيا قوم اسمعوا ما قلت فيمن

هو المولى ونحن له عبيد

يريد الأمر لا المأمور فانظر

إلى حكم يشيب له الوليد

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣)

(فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وذلك من أثر حكم الدار والموطن ، فقد جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مولى القوم منهم في الحكم ، فمن جاور مواضع التهم لا يلومن من نسبه إليها ، وكما يحكم على أهل دار الكفر الدار ، وإن كان فيها من لا يستحق ما يستحقه الكفار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين] ـ إشارة ـ لا تركن إلى غير الله ، واكتف بالله في سؤالك ، تسعد إن شاء الله ، فإن من ركن إلى جنسه فقد ركن إلى ظالم ، فإن الله يقول في الإنسان : إنه كان ظلوما لحمله الأمانة ، وما من أحد من الناس إلا حملها.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤)

٣٦٣

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أعطى الحق تعالى الصلاة الليل والنهار حتى يعم الزمان بركتها (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أتبع السيئة الحسنة تمحها] فكلما ذكرت خطيئة أتيتها فتب عنها عقيب ذكرك إياها ، واستغفر الله منها واذكر الله عندها بحسب ما كانت تلك المعصية ، وإذا عصيت الله بموضع ، فلا تبرح من ذلك الموضع ، حتى تعمل فيه طاعة وتقيم فيه عبادة ، فكما يشهد عليك إن استشهد يشهد لك وحينئذ تنتزح عنه ، وكذلك ثوبك إن عصيت الله فيه فاعبد الله فيه قبل أن تفارقه (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥)

ـ إشارة ـ لتعلم أن الصلاة انبعثت من الحضرة الصمدانية المقدسة ، فاغتنمها فهي كالخطرة المختلسة ، نظرت إليها الحضرة النورية فوهبتها أسرارها ، وأفاضت عليها الحضرة القيومية أنوارها ، ولما كانت هذه الصلوات تختص بالمناجاة الربانية وترد عليها إذا خاطبت بالمناجاة الإلهية ، وتعمّ جميع المقامات المخصوصة بروحانية أهل السموات ، وجيئت بجميع الحركات المستقيمة في الإنسانيات عند القراءات ، والأفقيات في الحيوانات عند الركوع للأذكار المعظمات ، والمنكوسة في النباتات عند السجود لابتغاء القربات ، وكانت الصلوات خمسا لمطابقتها أصول تركيب الإنس (الماء ، التراب ، النار ، الهواء ، الروح) لأن الخمسة وحدها من بين سائر الأعداد تحفظ نفسها وغيرها ، فاعرف قدرها واشكر خيرها ، واعلم أنه تعالى قسم هذه الصلوات قسمين ، وجعل لها حكمين ، لتحصيل علمين ، في عالمين راجعين إلى حاكمين ، فقسم واحد خصه بالعقل ، وهو الحضور والتدبر لما يتلوه بعد عقد النية ، وقسم آخر خصه بالحس وهو التلاوة وجميع حركات الصلاة ، لما كانت لا توجد إلا في هذه البنية ، وأما الحكمان ، فحكم العقل التوجه إلى القربة ، وحكم الحس التوجه إلى الكعبة ، وإنما قيدنا بجهة واحدة عن الجهات ، لإزالة الحيرة والالتفات ، وإشارة إلى فضل الجمع على الشتات ، وأما العلمان : فالعلم الواحد يختص بالعقل وهو علم التنزلات والعلم الآخر يختص بالحس وهو علم التجليات ، وأما العالمان ، فالعالم الواحد عالم الغيب ، والعالم الآخر عالم الشهادة المقدس عن الريب ، وأما الحاكمان ، فالحاكم الواحد الاسم الظاهر ،

٣٦٤

والحاكم الآخر الاسم الباطن بلا مؤازر ، ولما اشتق الله تعالى لهذه الصلاة أسماء من أوقاتها لا من ساعاتها ، علمنا أن ذلك لسرّ أبداه ، وخير إلينا أسداه ، فصلاة الظهر في العقل لظهوره بالعلم ، وفي الحس لظهوره بالفعل في خلق الظهيرة والحكم ، وصلاة العصر في العقل لضمه إياه في عقل معرفته عن النقل ، وفي الحسّ لضمه إياه في فروع الأحكام إلى النقل عن العقل ، بضم الشمس إلى الغيب لوجود الفصل والفضل ، وصلاة المغرب في العقل لاستتاره بالأدلة الفكرية ، وفي الحس لاستتاره عن الكيفية ، وصلاة العشاء في العقل لاستسلامه إلى سلطان السمع ، فلاحت له بارقة من بوارق الجمع ، فغشيت عين بصيرته لشدة ظلام الطبع ، وفي الحس لاستتار المبصرات بجلابيب الظلمات ، فكأن العين غشيت عن إدراكها في أصل الوضع ، وصلاة الفجر في العقل لانفجار بحار الأسرار ، وفي الحسّ لانفجار بحار الأبصار. واعلم أن الصلوات المفروضة كلها نهارية ، إما بالشمس وإما بآثارها ، إلا العشاء الأخيرة فإنّها مشتركة بين الليل وبين النهار أنوارها ، وذلك لسرّ غريب ، ومعنى عجيب ، وهو أن الصلاة تكليف ، ففيها مشقة وتعنيف ، هما صفتان للنهار دون الليل عقلا وإحساسا ، فجعل النهار معاشا وجعل النوم سباتا ، حين جعل الليل لباسا ، وانظر ما أوزن هذا التعريف بحكمة التكليف ، ثم اعلم أن الصلاة البرزخية ، وهي المغرب فرضها سبحانه بين جهر في شفع ، وسرّ في وتر ، وذلك في العقل لأن البرزخ في الصلاة أمر معقول بين عبد ورب علي قدر ، لأن العبد بالليل منوط ، والرب بضوء شمس الله مربوط ، وفي الحسّ بين كشف وستر ، وأن الصلاة النهارية مفروضة بين شفع وسرّ ، فالشفع للخلق ، والسر للوتر ، فإن الخلق إذا ظهر احتجب الحق واستتر ، فلهذا شفع الظهر والعصر ، وبالقراءة أسر ، وجهر في كل صلاة الفجر لقرب طلوع الشمس.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)

٣٦٥

وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨)

اعلم أن المشيئة الإلهية ، لما كان لها أثر في الفعل لهذا نفى تعلقها بما لا يقبل الانفعال من حيث مرجحه لا من حيث نفسه ، فإن قلت فما فائدة إخبار الله تعالى بأنه لو شاء لفعل كذا مع كون كذا يستحيل وقوعه عقلا لكون المشيئة الإلهية لم تتعلق به؟ قلنا : إن ذلك إعلام لنا أن ذلك الأمر الذي نفى تعلق المشيئة الإلهية ، بكونه ، ليس يستحيل كونه بالنظر إلى نفسه لإمكانه ، فإنه يجب له أن يكون في نفسه قابلا لأحد الأمرين ، فيفتقر إلى المرجح بخلاف المحال لنفسه ، فإنه يستحيل نفي تعلق المشيئة بكونه ، فإنه لا يكون لنفسه ، فكانت فائدة إخبار الله تعالى بقوله (لَوْ شاءَ) فيما لا يقع إعلاما أنه بالنظر إلى ذاته ممكن الوقوع ، ليفرق لنا سبحانه بين ما هو في الإمكان وبين ما ليس بممكن ، فنفى تعلق المشيئة والإرادة به قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) لاختلاف معتقداتهم ، فهم يخالفون المرحومين مخالفيهم.

(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩)

ـ الوجه الأول ـ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) وهم أهل الجمع الذين عرفوه في الاختلاف في التجلي فلم ينكروه ـ الوجه الثاني ـ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فما زالوا من الخلاف لأنهم قد خالفوا المختلفين (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي من أجل الخلاف خلقهم لتظهر أسماؤه في الوجود ، فما تعدى كل خلق ما خلق له ، فالكل طائع وإن كان فيهم من ليس بمطيع مع كونه طائعا ، فما ثم إلا اختلاف ، ولا يكون إلا هكذا ، فإذا سمعت أن ثمّ أهل جمع فليس إلا من جمع مع الحق على ما في العالم من الخلاف ، لأن الأسماء الإلهية مختلفة وما ظهر العالم إلا بصورتها ، فأصل اختلاف المعتقدات في العالم الكثرة في العين الواحدة ، فإن الله من حيث نفسه له أحدية الأحد ، ومن حيث أسماؤه له أحدية الكثرة ، فهذا هو السبب الموجب

٣٦٦

لتجليه تعالى في الصور المختلفة ، وتحوله فيها لاختلاف المعتقدات في العالم إلى هذه الكثرة ، فكان الحق سبحانه أول مسئلة خلاف ظهر في العالم ، لأن كل موجود في العالم أول ما ينظر في سبب وجوده ، لأنه يعلم في نفسه أنه لم يكن ثم كان بحدوثه لنفسه ، واختلفت فطرهم في ذلك ، فاختلفوا في السبب الموجب لظهورهم ما هو؟ فلذلك كان الحق أول مسئلة خلاف في العالم ، ولما كان أصل الخلاف في العالم في المعتقدات ، وكان السبب أيضا وجود كل شيء من العالم على مزاج لا يكون للشيء الآخر ، لهذا كان مآل الجميع إلى الرحمة لأنه خلقهم وأظهرهم في العماء وهو نفس الرحمن.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

خصّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلم إحياء الأموات معنى وحسا ، فحصل العلم بالحياة المعنوية وهي حياة العلوم والحياة الحسية ، وهو ما أتى في قصة إبراهيم عليه‌السلام تعليما وإعلاما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) وذلك تسكين ورفق من الله لما يجده رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ردّ أمره ، فيجد لذلك عزاء في نفسه ، لما يرى من منازعة أمته إياه فيما جاء به عن الله ، وليري نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قاست الأنبياء من أممهم فيعزي نفسه بذلك وتثبيتا لفؤاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن وقع منا في أمر الله ما وقع من هؤلاء (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ) (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) لنا نحن (لِلْمُؤْمِنِينَ) لنشكر الله على ما أولانا من نعمه ، حيث آمنا واستسلمنا ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه شيئا مثل ما كلّفت الأمم رسلها ، فنشكره سبحانه على هذه النعمة إذ لو شاء لألقى في قلوبنا ، ما ألقاه في قلوب الأمم قبلنا. واعلم أن جميع هذا القصص ، إنما هو قناطر وجسور موضوعة نعبر عليها إلى ذواتنا وأحوالنا المختصة بنا ، فإن فيها منفعتنا ، إذ كان الله نصبها معبرا ، فما أبلغ قوله تعالى (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) لما فيك وما عندك بما نسيته ، فيكون هذا الذي قصصته عليك يذكرك بما فيك وما نبهتك عليه.

٣٦٧

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

لما تغرّب الأمر عند المحجوبين عن موطنه بما ادعوه فيه لأنفسهم قيل لهم : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) لو نظرتم من نسبتم إليه هذا الفعل منكم ، إنما هو الله لا أنتم ، فأضاف الحق الأفعال إليه ليحصل للعبد الطمأنينة ، بأن الدعوى لا تصح فيها مع التمييز بين ما يستحقه الحق عزوجل وما لا يستحقه ، فإذا بلغ العبد هذا الحدّ ردّ الأمور كلها لله ، ولما رجع الأمر كله لله مما وقعت فيه الدعاوى الكاذبة ، لم يدل رجوعها إلى الله تعالى على أمر لم يكن عليه الله ، بل هويته هي هي في حال الدعاوى في المشاركة وفي حال رجوع الأمر إليه ، والمقام ليس إلا للتمييز والحقيقة ، ما عصى الله أحد ولا أطاعه بل الأمر كله لله ، فأفعال العبد خلق لله والعبد محلّ لذلك الخلق ، فالأصل في العالم قبول الأمر الإلهي في التكوين ، والعصيان أمر عارض له نسبي ، فإليه يرجع الأمر كله ، يعني الذي عليه العالم بأسره ، ما صح منه وما اعتل ، فلا تنظر إلى المناصب وانظر إلى الناصب الذي يعمل بحكم الموطن لا بما يقتضيه النظر العقلي ، فمن موطن الدنيا أن يعامل فيها الجليل بالإجلال في وقت ، وفي وقت يعامل الجليل بالصغار ، وفي وقت يعامل الصغير بالصغار ، وفي وقت يعامل الصغير بالجلال بخلاف موطن الآخرة ، فإن العظيم بها يعامل بالعظمة ، والحقير بها يعامل بالحقارة ، ولو نظر الناظر لرأى في الدنيا من يقول في الله ما لا يليق به تعالى ومن يقول فيه ما يليق به من التنزيه والثناء ، فالناظر إذا كان عاقلا علم بعقله أن موطن الدنيا كذا يعطي ويترك عنه الجواز العقلي الذي يمكن في كل فرد فرد من أفراد العالم ، فإن هذا الجواز في عين الشهود ليس بعلم ولا صحيح ، وليكن العاقل مع الواقع في الحال ، فإن ذلك صورة الأمر على ما

٣٦٨

هو عليه في نفسه ، فإنّ الله تعالى ذكرنا بنفسه لنعلم أن المرجع إليه ، فلا نقوم في شيء نحتاج فيه إلى الاعتذار عنه أو نستحي منه عند المرجع إليه ، فهو تعالى على صراط مستقيم ، ومنه بدأ الأمر كله ولذلك جاء بالرجوع ، لأنه لا يمكن أن يكون الرجوع إلا من خروج متقدم ، والموجودات كلها والمحدثات ما خرجت إلى الوجود إلا عن الله ، فلهذا ترجع أحكامها إليه ولم تزل عنده ، وإنما سميت راجعة لما طرأ للخلق من رؤية الأسباب التي هي حجب على أعين الناظرين ، فلا يزالون ينظرون ويخترقون الأسباب من سبب إلى سبب حتى يبلغوا إلى السبب الأول ، وهو الحق فهذا معنى الرجوع ، ومن جهة أخرى لما كانت الأسماء والصفات كلها لله تعالى حتى ما يزعم العبد أنها له ، قال تعالى : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فأخذ منه جميع ما كان يزعم أنه له إلا العبادة ، فإنه لا يأخذها إذ كانت ليست بصفة له ، فقال له تعالى : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ) وهو أصله الذي خلق له (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبادة اسم حقيقي للعبد ، فهي ذاته وموطنه وحاله وعينه ونفسه وحقيقته ووجهه ، وأتى باسمه المضمر في (فَاعْبُدْهُ) لأنه إن عبدته من حيث عرفته فنفسك عبدت ، وإن عبدته من حيث لم تعرفه فنسبته إلى المرتبة الإلهية فالمرتبة عبدت ، وإن عبدته عينا من غير مظهر ولا ظاهر ولا ظهور ، بل هو هو لا أنت ، وأنت أنت لا هو ، فهو قوله : (فَاعْبُدْهُ) فقد عبدته ، وتلك المعرفة التي ما فوقها معرفة ، فإنها معرفة لا يشهد معروفها ، (فَاعْبُدْهُ) أي تذلّل له في كل صراط يقيمك فيه ، لا تتذلل لغيره ، فإن غيره عدم ، ومن قصد العدم لم تظفر يداه بشيء ، ولا تقل أنت المدرك ، فإن الأبصار لا تدركه ، إذ لو أدرك الغيب ، ما كان غيبا ، لذلك جاء بضمير الغائب في قوله (فَاعْبُدْهُ) فاعبد ذاتا منزهة مجهولة لا تعرف منها سوى نسبتك إليها بالافتقار ، ولهذا تمم فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي اعتمد عليه (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من دعواكم أن الأمر إليكم ، وهو لله ، وقطع بهذا ظهر المدّعين بالاستقامة على العبودية والتوكل ، إذا لم يكن صفتهم ولا حالهم ، فقوله تعالى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) يشير به للإنسان للبراءة من نفسه ، ورد الأمر كله إلى الله ، فالحق سبحانه غاية الطرق ، قصدت الطرق أو لم تقصد ، فما هو غاية قصد السالك ، فإن السالك مقيد القصد (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) وفيه إشارة إلى أنه ما في الوجود بحكم الحقيقة إلا طاهر ، فإن الاسم القدوس يصحب الموجودات ، وبه يثبت

٣٦٩

قوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من تفريقكم بين الله وبين عباده ، ولا ينبغي أن يحال بين العبد وسيده ، ولا يدخل بين العبد والسيد إلا بخير ولهذا شرع الشفاعة وقبل العذر ، وأما النجاسة فهي أمر عرضي ، عيّنه حكم شرعي ، والطهارة أمر ذاتي ، ولما كان الوجود منه قال تعالى : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ) بين البدء والختم وهو الرجوع (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فيهما ، فهل طلب منك ما ليس لك فيه تعمل؟ (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فلا بد من حقيقة هنا تعطي إضافة العمل إليك مع كونه خلقا لله تعالى ، حيث أنتم مظاهر أسمائه الحسنى ، وبها تسعدون وتشقون ، (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) فأضاف العمل لك ، وجعل نفسه رقيبا عليه وشهيدا ، لا يغفل ولا ينسى ، ذلك لتقتدي أنت به فيما كلفك من الأعمال ، فلا تغفل ولا تنسى لأنك أولى بهذه الصفة لافتقارك إليه وغناه عنك ، فسلّم الأمر إليه واستسلم ، تكن موافقا لما هو الأمر عليه في نفسه ، فتستريح من تعب الدعوى بين الافتتاح والختم ، وإذا علمت هذا فارجع إليه مختارا ولا ترجع مضطرا ، فإنه لا بد من رجوعك إليه ، ولا بد أن تلقاه كارها كنت أو محبا ، فإنه يلقاك بصفتك لا يزيد عليها ، فانظر لنفسك يا ولي ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله ، كره الله لقاءه] ولما كان لقاء الله لا يكون إلا بالموت ، فمن علم الموت استعجله في الحياة الدنيا ، فيموت في عين حياته عن جميع تصرفاته وحركاته وإراداته فيلقى الله بحكم من يلقاه محبا للقائه ، فإذا جاء الموت المعلوم في العامة وانكشف غطاء هذا الجسم ، لم يتغير عليه حال ولا زاد يقينا ، فما يذوق إلا الموتة الأولى ، وهي التي ماتها في حياته ، قال عليّ رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، فمن رجع إلى الله هذا الرجوع سعد وما أحس بالرجوع المحتوم الاضطراري ، فإنه ما جاءه إلا وهو هناك عند الله ، فغاية ما يكون الموت المعلوم في حقه أن نفسه التي هي عند الله يحال بينها وبين تدبير هذا الجسم الذي كانت تدبره ، فتبقى مع الحق على حالها ؛ وينقلب هذا الجسد إلى أصله ، وهو التراب الذي منه نشأت ذاته ، فكأن دارا رحل عنها ساكنها ، فأنزله الملك في مقعد صدق عنده إلى يوم يبعثون ، ويكون حاله في بعثه كذلك لا يتغير عليه حال مع كونه مع الحق لا من حيث ما يعطيه الحق مع الأنفاس ، وهكذا في الحشر العام وفي الجنان التي هي مقره ومسكنه ، وفي النشأة

٣٧٠

التي ينزل فيها ، وهذا الرجوع ما هو رجوع التوبة فإنّه لذلك الرجوع حدّ خاص ، وهذا رجوع عام في كل الأحوال التي يكون عليها الإنسان ـ تحقيق ـ المسافر ترك الحق في أهله خليفة ، شفقة عليهم وحذرا وخيفة ، وما خاف عليهم إلا منه ، لأنه ما يصدر شيء إلا عنه ، إذا كان السيد راعي الغنم ، فما جار وما ظلم ، وما ينال منها إلا ما يقوته ، وقوته ما يفوته ، قوته آثار أسمائه في عباده ، وبها عمارة بلاده ، فحراثة وزراعة ، وتجارة وبضاعة ، لذلك وصف باليدين ، وأظهر في الكون النجدين ، فالواحدة بائعة والأخرى مبتاعة ، إلى قيام الساعة ، ولكل يد طريق ، هذا هو التحقيق ، فإن حكم المشتري ما هو حكم البائع ، وهذا ما لا شك فيه من غير مانع ولا منازع ، آيبون تائبون وهو التواب وإليه المآب ـ تحقيق ـ قال تعالى : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) سمّي رجوعا لكونه منه خرج ، وإليه يعود وفيما بين الخروج والعود ، وضعت الموازين ، ومد الصراط ووقعت الدعاوى ، وظهرت الآفات ، وكانت الرسل وجاءت الأدواء ، فمنهم المستعمل لها ، والآخذ بها والتارك لها.

(١٢) سورة يوسف مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

(وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) فانتبه قلبك من سنة الغفلة ، والغفلة لا تكون إلا عن سلطنة الأمر الطبيعي والمزاج.

٣٧١

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

وذلك لما علم يعقوب عليه‌السلام من علم أبنائه بتأويل ما مثّل الحق ليوسف عليه‌السلام في رؤياه ، إذ ما كان ما رآه ومثل له إلا عين إخوته وأبويه ، فأنشأ الخيال صورة الإخوة كواكب ، وصورة الأبوين شمسا وقمرا ، وكلهم لحم ودم وعروق وأعصاب ، فانظر هذه النقلة من عالم السفل إلى عالم الأفلاك ، ومن ظلمة هذا الهيكل إلى نور الكوكب ، فقد لطف الكثيف ، ثم عمد إلى مرتبة التقدم وعلو المنزلة والمعاني المجردة فكساها صورة السجود المحسوس فكثف لطيفها ، والرؤيا واحدة ، ولو لا قوة الخيال وجمعيته ما جرى ما جرى ثم برأ يعقوب عليه‌السلام أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان ، وليس إلا عين الكيد ، فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ـ الرؤيا ـ اعلم أيدك الله أن للإنسان حالتين حالة تسمى النوم وحالة تسمى اليقظة ، وفي كلتا الحالتين جعل الله له إدراكا يدرك به الأشياء ، تسمى تلك الإدراكات في اليقظة حسا ، وتسمى في النوم حسا مشتركا ، فكل شيء تبصره في اليقظة يسمى رؤية ، وكل ما تبصره في النوم يسمى رؤيا مقصورا ، وجميع ما يدركه الإنسان في النوم هو مما ضبطه الخيال في حال اليقظة من الحواس ، وهو على نوعين ، إما ما أدرك صورته في الحس ، وإما ما أدرك أجزاء صورته التي أدركها في النوم بالحس لا بد من ذلك ، فإن نقصه شيء من إدراك الحواس في أصل خلقه ، فلم يدرك في اليقظة ذلك الأمر فقد المعنى الحسي الذي يدركه به في أصل خلقته ، فلا يدركه في النوم أبدا ، فالأصل الحسّ ، والإدراك به في اليقظة والخيال تبع في ذلك ، وقد يتقوى الأمر على بعض الناس فيدركون في اليقظة ما كانوا يدركونه في النوم ، وذلك نادر وهو للنبي والولي ، واعلم أن مبدأ الوحي الرؤيا الصادقة ، وهي لا تكون إلا في حال النوم ، قالت عائشة في الحديث الصحيح [أول ما بدىء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح] وسبب ذلك صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه

٣٧٢

ثبت عنه أنه قال أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ، فكان لا يحدث أحدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديث عن تزوير يزوره في نفسه ، بل يتحدث بما يدركه بإحدى قواه الحسية أو بكلها ، ما كان يحدث بالغرض ولا يقول ما لم يكن ، ولا ينطق في اليقظة عن شيء يصوره في خياله مما لم ير لتلك الصورة بجملتها عينا في الحس ، فهذا سبب صدق رؤياه ، وإنما بدىء الوحي بالرؤيا دون الحس لأن المعاني المعقولة أقرب إلى الخيال منها إلى الحس ، لأن الحس طرف أدنى ، والمعنى طرف أعلى وألطف ، والخيال بينهما والوحي معنى ، فإذا أراد المعنى أن ينزل إلى الحس فلا بد أن يعبر على حضرة الخيال قبل وصوله إلى الحس ، والخيال من حقيقته أن يصور كل ما حصل عنده في صورة المحسوس ، لا بد من ذلك ، فإن كان ورود ذلك الوحي الإلهي في حال النوم سمي رؤيا ، وإن كان في حال اليقظة سمي تخيلا أي خيل إليه ، فلهذا بدىء الوحي بالخيال ، ثم بعد ذلك انتقل الخيال إلى الملك من خارج ، فكان يتمثل له الملك رجلا أو شخصا من الأشخاص المدركة بالحس ، وقد ينفرد هذا الشخص المراد بذلك الوحي بإدراك هذا الملك ، وقد يدركه الحاضرون معه ، فيلقي على سمعه حديث ربه وهو الوحي ، وتارة ينزل على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأخذه البرحاء وهو المعبر عنه بالحال ، فإن الطبع لا يناسبه ، وانفرد الأنبياء في ذلك بالتشريع ، فقد يكون الولي بشيرا ونذيرا ولكن لا يكون مشرعا ، فإن الرسالة والنبوة بالتشريع قد انقطعت فلا رسول بعده ولا نبي ، أي لا مشرع ولا شريعة ، ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي] فشق ذلك على الناس فقال : [لكن المبشرات] فقالوا : يا رسول الله ، وما المبشرات؟ فقال : [رؤيا المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة] هذا حديث حسن صحيح من حديث أنس بن مالك ، وعن أبي هريرة وحذيفة وابن عباس وأم كرز ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة ، فقد بقي للناس من النبوة هذا وغيره ، ومع هذا لا يطلق اسم النبوة ولا النبي إلا على المشرع خاصة ، فحجر هذا الاسم لخصوص وصف معيّن في النبوة ، وما حجر النبوة التي ليس فيها هذا الوصف الخاص ، وإن كان حجر الاسم ، فنتأدب ونقف حيث وقف صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد علمنا بما قال وما أطلق وما حجر ، فنكون على بينة من أمرنا ، وإذا علمت هذا فلنقل إن الرؤيا ثلاث ، منها بشرى ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة ، فيرتقم في خياله ، فإذا نام أدرك ذلك بالحس المشترك لأنه تصوره في يقظته ، فبقي مرتسما

٣٧٣

في خياله ، فإذا نام وانصرفت الحواس إلى خزانة الخيال أبصرت ذلك ، والرؤيا الثالثة من الشيطان ، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، والرؤيا ثلاث : فالرؤيا الصالحة بشرى من الله تعالى ، ورؤيا من تحزين الشيطان ، ورؤيا مما يحدث الرجل به نفسه ، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به الناس] ـ الحديث ـ وفي حديث أبي قتادة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات ، وليستعذ بالله من شرها فإنها لا تضرّه] وهو حديث حسن صحيح ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن رؤيا المسلم على رجل طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت] واعلم أن لله ملكا موكلا بالرؤيا يسمى الروح ، وهو دون السماء الدنيا ، وبيده صور الأجساد التي يدرك النائم فيها نفسه وغيره ، وصور ما يحدث من تلك الصور من الأكوان ، فإذا نام الإنسان ، أو كان صاحب غيبة أو فناء أو قوة إدراك لا يحجبه المحسوسات في يقظته عن إدراك ما بيد هذا الملك من الصور ، فيدرك هذا الشخص بقوته في يقظته ما يدركه النائم في نومه ، وذلك أن اللطيفة الإنسانية تنتقل بقواها من حضرة المحسوسات إلى حضرة الخيال المتصل بها ، الذي محله مقدم الدماغ ، فيفيض عليها ذلك الروح الموكل بالصور من الخيال المنفصل عن الإذن الإلهي ما يشاء الحق أن يريه هذا النائم أو الغائب أو الفاني أو القوي ، من المعاني متجسدة في الصور التي بيد هذا الملك ، فمنها ما يتعلق بالله وما يوصف به من الأسماء ، فيدرك الحق في صورة ، أو القرآن أو العلم أو الرسول الذي هو على شرعه ، فهنا يحدث للرائي ثلاث مراتب أو إحداهن ، المرتبة الواحدة أن تكون الصورة المدركة راجعة للمرئي بالنظر إلى منزلة ما من منازله وصفاته التي ترجع إليه ، فتلك رؤيا الأمر على ما هو عليه بما يرجع إليه ، والمرتبة الثانية أن تكون الصورة المرئية راجعة إلى حال الرائي في نفسه ، والمرتبة الثالثة أن تكون الصورة المرئية راجعة إلى الحق المشروع والناموس الموضوع ، أي ناموس كان في تلك البقعة التي ترى تلك الصورة فيها ، في ولاة أمر ذلك الإقليم القائمين بناموسه ، وما ثم مرتبة رابعة سوى ما ذكرناه ، فالأولى وهي رجوع الصورة إلى عين المرئي فهي حسنة كاملة ولا بد ، لا تتصف بشيء من القبح والنقص ، والمرتبتان الباقيتان قد تظهر الصورة فيها بحسب الأحوال من الحسن والقبح

٣٧٤

والنقص والكمال ، فلينظر إن كان من تلك الصورة خطاب فبحسب ما يكون الخطاب يكون حاله ، وبقدر ما يفهم منه في رؤياه ، ولا يعول على التعبير في ذلك بعد الرجوع إلى عالم الحس ، إلا إن كان عالما بالتعبير أو يسأل عالما بذلك ، ولينظر أيضا حركته أعني حركة الرائي مع تلك الصورة ، من الأدب والاحترام أو غير ذلك ، فإن حاله بحسب ما يصدر منه في معاملته لتلك الصورة ، فإنها صورة حق بكل وجه ، وقد يشاهد الروح الذي بيده هذه الحضرة وقد لا يشاهده ، وما عدا هذه الصورة فليست إلا من الشيطان إن كان فيه تحزين ، أو مما يحدث المرء به نفسه في حال يقظته ، فلا يعول على ما يرى من ذلك ، ومع هذا وكونها لا يعول عليها إذا عبّرت كان لها حكم ولا بد ، يحدث لها ذلك من قوة التعبير لا من نفسها ، وهو أن الذي يعبرها لا يعبرها حتى يصورها في خياله من المتكلم ، فقد انتقلت تلك الصورة من المحل الذي كانت حديث نفس أو تحزين شيطان إلى خيال العابر لها ، وما هي له حديث نفس ، فيحكم على صورة محققة ارتسمت في ذاته ، فيظهر لها حكم أحدثه حصول تلك الصورة في نفس العابر ، كما جاء في قصة يوسف مع الرجلين ، وكانا قد كذبا فيما صوراه ، ثم إن الله تعالى إذا رأى أحد رؤيا فإن صاحبها له فيما رآه حظ من الخير والشر بحسب ما تقتضي رؤياه ، أو يكون الحظ في ناموس الوقت في ذلك الموضع ، وأما في الصورة المرئية فلا ، فيصور الله ذلك الحظ طائرا وهو ملك في صورة طائر ، كما يخلق من الأعمال صورا ملكية روحانية جسدية برزخية ، وإنما جعلها في صورة طائر لأنه يقال طار له سهمه بكذا ، والطائر الحظ ، ويجعل الرؤيا معلقة في رجل هذا الطائر ، وهي عين الطائر ، ولما كان الطائر إذا اقتنص شيئا من الصيد من الأرض إنما يأخذه برجله لأنه لا يد له ، وجناحه لا يتمكن له الأخذ به ، فلذلك علق الرؤيا برجله ، فهي المعلقة وهي عين الطائر ، فإذا عبرت سقطت لما قيلت له ، وعند ما تسقط ينعدم بسقوطها ، ويتصور في عالم الحس بحسب الحال التي تخرج عليه تلك الرؤيا ، فترجع صورة الرؤيا عين الحال لا غير ، ثم إن تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها بشرى ومبشرة لتأثيرها في بشرة الإنسان ، فإن الصورة البشرية تتغير بما يرد عليها في باطنها مما تتخيله ، من صورة تبصرها أو كلمة تسمعها إما بحزن أو فرح ، فيظهر لذلك أثر في البشرة لا بد من ذلك ، فإنه حكم طبيعي أودعه الله في الطبيعة ، فلا يكون إلا هكذا. واعلم أن للرؤيا مكان ومحل وحال ، فحالها النوم ، وهو الغيبة عن

٣٧٥

المحسوسات الظاهرة الموجبة للراحة ، لأجل التعب الذي كانت عليه في هذه النشأة في حال اليقظة من الحركة ، وإن كان في هواها ، فتعب الآلات والجوارح والأعضاء البدنية في حال اليقظة ، وجعل زمانه الليل وإن وقع بالنهار ، كما جعل النهار للمعاش وإن وقع بالليل ، ولكن الحكم للغالب ، فتنتقل هذه الآلات من ظاهر الحس إلى باطنه في النوم الذي يكون معه الرؤيا ، ليرى ما تقرر في خزانة الخيال الذي رفعت إليه الحواس ما أخذته من المحسوسات ، وما صورته القوة المصورة التي هي من بعض خدم هذه الخزانة ، لترى هذه النفس الناطقة التي ملّكها الله هذه المدينة ما استقر في خزانتها ، وعلى قدر ما كمل لهذه النشأة من الآلات التي هي الجوارح والخدام الذين هم القوى الحسية يكون الاختزان ، فثمّ خزانة كاملة لكمال الحياة ، وثمّ خزانة ناقصة كالأكمه ، فإنه لا ينتقل إلى خزانة خياله صور الألوان ، والخرس لا ينتقل إلى خزانة خياله صور الأصوات ولا الحروف اللفظية ، هذا كله إذا عدمها في أصل نشأته ، وأما إذا طرأت عليه هذه الآفات فلا ، فإنه إذا انتقل بالنوم إلى باطن النشأة ودخل الخزانة وجد صور الألوان التي اختزنها فيها قبل طرق الآفة ، وكذلك كل ما أعطته قوة من قوى الحس الذين هم جباة هذه المملكة ، فإذا ارتقى الإنسان في درج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعه دة ، وأن الأمر الذي هو فيه رؤيا ، إيمانا وكشفا ، ولهذا ذكر الله أمورا واقعة في ظاهر الحس وقال (فَاعْتَبِرُوا) وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي جوزوا واعبروا مما ظهر لكم من ذلك إلى علم ما بطن به وما جاء له ، قال عليه‌السلام : (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ولكن لا يشعرون ، فمن اعتبر الرؤيا يرى أمرا هائلا ويتبين له ما لا يدركه من غير هذا الوجه ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح في أصحابه سألهم : هل رأى أحد منكم رؤيا؟ لأنها نبوة ، فكان يحب أن يشهدها في أمته ، والناس اليوم في غاية الجهل بهذه المرتبة التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتني بها ويسأل كل يوم عنها ، والجهلاء في هذا الزمان إذا سمعوا بأمر وقع في النوم لم يرفعوا به رأسا وقالوا : بالمنامات يريد أن يحكم ، هذا خيال ، وما هي إلا رؤيا ، فيستهونوا بالرائي إذا اعتمد عليها وهذا كله لجهله بمقامها ، وجهله بأنه في يقظته وتصرفه في رؤيا ، وفي منامه في رؤيا في رؤيا ، فهو كمن يرى أنه استيقظ في نومه وهو في منامه ، وهو قوله عليه‌السلام : [الناس نيام] وأما المكان والمحل ، فأما المحل فهو هذه النشأة العنصرية ، لا يكون للرؤيا محل غيرها ، فليس للملك رؤيا ، وإنما ذلك للنشأة

٣٧٦

العنصرية الحيوانية خاصة ، وأما المكان فهو ما تحت مقعر فلك القمر خاصة ، وفي الآخرة ما تحت مقعر فلك الكواكب الثابتة ، وذلك لأن النوم قد يكون في جهنم في أوقات ، ولا سيما في المؤمنين من أهل الكبائر ، وما فوق فلك الكواكب فلا نوم ، وأعني به النوم الكائن المعروف في العرف. واعلم أن الإنسان إذا زهد في غرضه ورغب عن نفسه وآثر ربه ، أقام له الحق عوضا من صورة نفسه صورة هداية إلهية حقا من عند حق ، حتى يرفل في غلائل النور ، وهي شريعة نبيه ورسالة رسوله ، فيلقى إليه من ربه ما يكون فيه سعادته ، فمن الناس من يراها على صورة نبيه ، ومنهم من يراها على صورة حاله ، فإذا تجلت له في صورة نبيه فليكن عين فهمه فيما تلقي إليه تلك الصورة لا غير ، فإن الشيطان لا يتمثل على صورة نبي أصلا ، فتلك حقيقة ذلك النبي وروحه ، أو صورة ملك مثله عالم من الله بشريعته ، فما قال فهو ذاك ، فمن صبر نفسه على ما شرع الله له على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله لا بد أن يخرج إليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مبشرة يراها أو كشف بما يكون له عند الله من الخير ، وإنما يخرج الله إليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتصور على صورته غيره ، فمن رآه رآه لا شك فيه ، فالمبشرات وهي جزء من أجزاء النبوة إما أن تكون من الله إلى العبد ، أو من الله على يد بعض عباده إليه ، وهي الرؤيا يراها الرجل المسلم أو ترى له ، فإن جاءته من الله في رؤياه على يد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان حكما تعبد نفسه به ولا بد ، بشرط أن يرى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصورة الجسدية التي كان عليها في الدنيا ، كما نقل إليه من الوجه الذي صح عنده ، حتى إنه إن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراه مكسور الثنية العليا ، فإن لم يره بهذا الأثر فما هو ذاك ، وإن تحقق أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورآه شيخا أو شابا مغايرا للصورة التي كان عليها في الدنيا ومات عليها ، ورآه في حسن أزيد مما وصف له ، أو قبح صورة أو يرى الرائي إساءة أدب في نفسه معه ، فذلك كله الحق الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما هو رسول الله ، فيكون ما رآه هذا الرائي عين الشرع ، إما في البقعة التي يراه فيها عند ولاة الأمور من الناس ، وإما أن يرجع ما يراه إلى حال الرائي أو إلى المجموع ، غير ذلك لا يكون ، فيكون تغير صورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عين إعلامه وخطابه إياه بما هو الأمر عليه ، في حقه أو حق ولاة العصر بالموضع الذي يراه فيه ، فإن جاءه بحكم في هذه الصورة فلا يأخذ به إن اقتضى ذلك نسخ حكم ثابت بالخبر المنقول الصحيح المعمول به ، وكل ما أتى به

٣٧٧

من العلوم والأسرار مما عدا التحليل والتحريم فلا تحجير عليه فيما يأخذه منه ، لا في العقائد ولا في غيرها ، وذلك بخلاف حكمه لو رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورته ، فيلزمه الأخذ به ولا يلزم غير ذلك ، فإن الله يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) هذا هو الفرقان بين الأمرين ، فقد يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرؤيا أو في الكشف ، فيصحح من الأخبار ما ضعف بالنقل ، وقد ينفي من الأخبار ما ثبت عندنا بالنقل ، كما ذكر مسلم في صدر كتابه عن شخص أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فعرض عليه ألف حديث كان في حفظه ، فأثبت صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الألف ستة أحاديث وأنكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي ، فمن رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقد رآه في اليقظة ما لم تتغير عليه الصورة ، فإن الشيطان لا يتمثل على صورته أصلا ، فهو معصوم الصورة حيا وميتا ، فمن رآه فقد رآه في أيّ صورة رآه.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

اعلم أنه كل ما يتخيل يعبر كالرؤيا ، كذلك يعبر كل كلام ويتأول ، فما في الكون كلام لا يتأول ولذلك قال تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وكل كلام فإنه حادث عند السامع ، فمن التأويل ما يكون إصابة لما أراده المتكلم بحديثه ، ومن التأويل ما يكون خطأ عن مراد المتكلم ، فقول يعقوب عليه‌السلام لابنه يوسف عليه‌السلام : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) يعني الإصابة في التأويل بما يريد المتكلم.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ

٣٧٨

يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠)

اعلم أن الذي تحقق مقام العبودة تعرّض صاحبه للبلاء ، ثم إن من شأن هذا الموطن أن لا يكمل فيه عز لأحد ولا راحة ، فإنه لما وهب الله عز الحسن يوسف عليه‌السلام ابتلي بذل الرق ، ومع ذلك الحسن العالي الذي لا يقاومه شيء بيع بثمن بخس دراهم معدودة ، من ثلاثة دراهم إلى عشرة لا غير ، وذلك مبالغة في الذلة تقاوم مبالغته عزة الحسن ، ثم سلب الرحمة من قلوب الإخوة ، والحسن مرحوم أبدا بكل وجه ، فظهر أن الأمر الإلهي لم يكن بيد الخلق منه شيء سوى التصريف تحت القهر ، فزال بهذا الذل العظيم عن ذلك الحسن

٣٧٩

العرضي ، فبقي يوسف عليه‌السلام في سفره (إلى الله) طيب النفس عزيزا بالعزة الإلهية لا غير ـ إشارة ـ وبيع بثمن بخس ، ليعلم أن الإنسان من حيث هو صاحب نقص ، فإن غلا ثمنه وعلا ، فلصفة زائدة على ذاته حضرتها الملأ الأعلى.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)

(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) يعني الإصابة في التأويل بما يريد المتكلم (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) الصورة قد تكون في اللسان الأمر والشأن ، فقوله تعالى : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي على من أظهره بصورته أي بأمره ، فإن له حكم العزل فيه مع بقاء نشأته ، فتدل هذه الآية على أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خلق الله آدم على صورته] أنه ما أراد بالصورة النشأة وإنما أراد الأمر والحكم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يسمعون ولا يشهدون ، فالعالم لا يعدل عن سنن العلم ، ومراد الله في الأشياء.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

(هَيْتَ لَكَ) أي حسنت هيئتي لك.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤)

٣٨٠