رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩)

شجرة طوبى غرسها الحق تعالى بيده في جنة عدن ، وأطالها حتى علت فروعها سور جنة عدن ، وتدلت مطلة على سائر الجنات كلها ، وليس في أكمامها ثمر إلا الحلي ، والحلل لباس أهل الجنة وزينتهم زائدا في الحسن والبهاء على ما تحمل أكمام شجر الجنات من ذلك ، لأن لشجرة طوبى اختصاص فضل بكون الله خلقها بيده ، فإن لباس أهل الجنة ما هو نسج ينسج ، وإنما تشقق عن لباسهم ثمر الجنة كما تشقق الأكمام هنا عن الورد وعن شقائق النعمان وما شاكلهما من الأزهار كلها ، كما ورد في الخبر الصحيح كشفا والحسن نقلا ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب بالناس فدخل رجل فقال : يا رسول الله ، أو قام رجل من الحاضرين ـ الشك مني ـ فقال : يا رسول الله ، ثياب أهل الجنة أخلق تخلق أم نسج تنسج؟ فضحك الحاضرون من كلامه ، فكره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم وقال : [أتضحكون إن سأل جاهل عالما؟ يا هذا ، وأشار إلى السائل بل تشقق عنها ثمر الجنة] وشجرة طوبى زينها بثمر الحلي والحلل اللذين فيهما زينة للابسهما ، وأعطت في ثمر الجنة كله من حقيقتها عين ما هي عليه ، كما أعطت النواة النخلة وما تحمله من النوى الذي في ثمرها ، وكل من تولاه الحق بنفسه من وجهه الخاص بأمر ما من الأمور فإن له شفوفا وميزة على من ليس له هذا الاختصاص ولا هذا التوجه.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٣٠)

(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) لأنه لم يكن عندهم هذا الاسم ولا سمعوا به قبل هذا ، فلما قيل لهم (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) فزادهم هذا الاسم نفورا ، فإنهم لا يعرفون إلا الله ، الذين يعبدون الشركاء ليقربوهم إلى الله زلفى ، ولما قيل لهم (اعْبُدُوا اللهَ) لم يقولوا : وما الله؟ وإنما أنكروا توحيده ، وقد نقل أنهم كانوا يعرفونه مركبا (الرحمن الرحيم) اسم واحد كبعلبك ورام هرمز ، فلما أفرده بغير نسب أنكروه ، فقال لهم الداعي :

٤٢١

الرحمن (هُوَ رَبِّي) ولم يقل هو الله ، وهم لا ينكرون الرب ، وفسره بالرب لأنه المغذي ، وبالغذاء حياتهم ، فلا يفرقون من الرب ويفرقون من الله ، ولهذا عبدوا الشركاء ليشفعوا لهم عند الله ، إذ بيده الاقتدار الإلهي والأخذ الشديد ، وهو الكبير عندهم المتعالي ، فهم معترفون مقرون به ، فتلطف لهم بالعبارة بالاسم الرب ليرجعوا ، فهو أقرب مناسبة بالرحمن ، فأمر نبيه أن يقول بحيث يسمعون (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في أمركم (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي مرجعي في أمركم ، عسى يهديكم إلى الإيمان ، فما أغلظ لهم ، لتتوفر دواعي المخاطبين للنظر فيما خاطبهم به ، إذ لو خاطبهم بصفة القهر ، وهو غيب لا عين له في الوقت إلا مجرد إغلاظ القول ، لنفرت طباعهم وأخذتهم حمية الجاهلية لما نصبوهم آلهة ، فأبقى عليهم ، وهذا هو التوحيد الرابع عشر في القرآن وهو توحيد الرجعة وهو توحيد الهوية.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١)

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) فقال قرآنا بالتنكير دليل على أحد أمرين إما على آيات منه مخصوصة كما ضرط الجبار عند ما سمع (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ) وإما أن يكون ثم أمر آخر ينطلق عليه اسم قرآن غير هذا لغة ، ولو حرف امتناع لامتناع فهل هو داخل تحت الإمكان فيوجد أو ما هو ثم إلا بحكم الفرض ، وعندنا كل كلام إلهي من كلمة مركبة من حرفين إلى ما فوق ذلك من تركيبات الحروف والكلمات المنسوبة إلى الله بحكم الكلام فإنه قرآن لغة وله أثر في النزول في المحل المنزل عليه (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) والتقدير لكان هذا القرآن الذي أنزل عليك يا محمد فحذف الجواب لدلالة الكلام عليه ومعنى ذلك لو أنزلناه على من ذكرناه لسارت الجبال وتقطعت الأرض وأجاب الميت ،

٤٢٢

وما ظهر شيء من ذلك فينا وقد كلمنا به ، وهو يحيي الموتى بما فيه من العلم إن كان المقصود بالموت الجهل فإن من أصناف الموت الجهل يقول تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) وتقطع به الأرض وتسير الجبال بما فيه من الزجر والوعيد ولذلك كان نزول القرآن شديدا على هذا الهيكل الإنساني ، فكان الوحي يؤثر الغت والغطّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند نزوله بالقرآن ، وهذه الآية أيضا تدل على شرف الجماد على الإنسان وشرف الإنسان إذا مات وصار مثل الأرض في الجمادية على حاله حيا في الإنسانية (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) كل ما سوى الواجب الوجود لنفسه فهو لله ، حتى ما توصف أنت به ويوصف الحق به هو لله كله ووجود ما سوى الله إنما هو بالله فلا موجود ولا موجد إلا الله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فكان حكم هذه المشيئة في الدنيا بالتكليف وأما في الآخرة فالحكم لقوله تعالى : (يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فله الإطلاق سبحانه.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢)

العقاب هو ما يعقب الشر ، وبذلك سمي العقاب عقوبة وعقابا ، وهو سائغ في الخير والشر من حيث أنه ما يعقب كل حال من الأحوال ، غير أن العرف سماه في الخير ثوابا وفي الشر عقابا.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) فهو قيامه بمصالح عباده ونظره لهم في قيامه بهم بعين الرحمة فيرزقهم ويحسن إليهم وهم به مشركون وكافرون وقل عن الأدباء ما شئت ، ويدعوهم وهم عنه معرضون وعلى هواهم الذي اتخذوه إلها مقبلون ، وفي هذه الآية إشارة

٤٢٣

إلى أن الفعل لله من خلف حجاب الأكوان التي هي محل ظهور الأفعال فيها (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) يريد أسماء الاعلام وذلك في معرض الدلالة فإذا سموهم قالوا هذا حجر ، هذا شجر ، هذا كوكب والكل اسم عبد فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء الله فقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ سَمُّوهُمْ) فتعرفوا عند ذلك الحق بيد من هو؟ هل هو بأيديكم أو بيدي؟ وقد قال الحق تعالى وأبان ذلك كله ليعقل عنه (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) فلما عرفوا قوله وتحققوه علموا أنهم في فضيحة لأنهم إذا سموهم لم يسموهم بالله بل آباؤكم نصبوهم آلهة ، وهذا الإله الذي أدعوكم إليه تعرفونه وأن اسمه الله لا تنكرونه ، وأنتم القائلون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ثم وصفهم الله بأنهم في شركهم قد ضلوا ضلالا مبينا فقال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) فما له من هاد معناه موفق ، لأنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم من الله شيئا ، فهي شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم.

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي صفة الجنة التي وعد المتقون (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) فإن الآخرة دار بقاء ، فالإنسان في بقائه آكل لا صائم ، فهو متغذ بالذات صائم بالعرض فالغذاء باق فأكلها دائم لا ينقطع والدوام في الأكل إنما هو عين النعيم بما يكون به الغذاء للجسم فأهل الجنة يأكلون ويشربون عن شهوة لالتذاذ لا عن جوع فإنهم ما يتناولون الشيء المسمى غذاء إلا عن علم بأن الزمان قد حان (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فلا يزال في لذة ونعيم لا يحوج الطبيعة إلى طلب وحاجة للكشف الذي هم عليه بخلاف أهل النار فإنهم يجوعون ويظمئون لأن المقصود منهم أن يتألموا.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ

٤٢٤

بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩)

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) فذكر المحو بعد الكتابة ، فثبت المحو وهو المعبر عنه بالنسخ عند الفقهاء ، فهو نسخ إلهي رفعه الله ومحاه بعد ما كان له حكم في الثبوت والوجود وهو في الأحكام انتهاء مدة الحكم ، وفي الأشياء انتهاء المدة فإنه تعالى قال : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فهو يثبت إلى وقت معين ثم يزول حكمه لا عينه (وَيُثْبِتُ) ما شاء مما كتبه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إسرائه إنه أسري به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام ، فوصل إلى سماع أصوات الأقلام وهي تجري بما يحدث الله في العالم من الأحكام وهذه الأقلام رتبتها دون القلم الأعلى ودون اللوح المحفوظ فإن الذي كتبه القلم الأعلى لا يتبدل وسمي اللوح بالمحفوظ من المحو فلا يمحى ما كتب فيه وهذه الأقلام تكتب في ألواح المحو والإثبات على قدر ما تأتي به إليهم رسل الله من عند الله من رأس الديوان وهو القلم الأعلى من إثبات ما شاء ومحو ما شاء وهو قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ومن هذه الألواح تنزل الشرائع والصحف والكتب على الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ولهذا يدخل في الشرائع النسخ ويدخل في الشرع الواحد النسخ في الحكم وإلى هنا كان يتردد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الصلوات الخمسين بين موسى وبين ربه إلى هذا الحد كان منتهاه فيمحو الله عن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء من تلك الصلوات التي كتبها في هذه الألواح إلى أن أثبت منها هذه الخمسة وأثبت لمصليها أجر الخمسين وأوحى أنه لا يبدل القول لديه ، فما رجع بعد ذلك من موسى في شأن هذا الأمر ، ومن هذه الكتابة (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ومن هذه الحقيقة التردد الكوني في الأمور والحيرة فيها ،

٤٢٥

وهو إذا وجد الإنسان أنّ نفسه تتردد في فعل أمر ما ، هل يفعله أو لا يفعله؟ وما تزال على تلك الحال حتى يكون أحد الأمور التي ترددت فيها فيكون ويقع ذلك الأمر الواحد ويزول التردد فذلك الأمر الواقع هو الذي ثبت في اللوح من تلك الأمور المتردد فيها وذلك أن القلم الكاتب في لوح المحو يكتب أمرا ما وهو زمان الخاطر الذي يخطر للعبد فيه فعل ذلك الأمر ثم تمحى تلك الكتابة يمحوها الله فيزول ذلك الخاطر من ذلك الشخص لأنه ما ثم رقيقة في هذا اللوح تمتد إلى نفس هذا الشخص في عالم الغيب فإن الرقائق إلى النفوس من هذه الألواح تحدث بحدوث الكتابة وتنقطع بمحوها فإذا أبصر القلم موضعها في اللوح ممحوا كتب غيرها مما يتعلق بذلك الأمر من الفعل أو الترك فيمتد من تلك الكتابة رقيقة إلى نفس ذلك الشخص الذي كتب هذا من أجله فيخطر لهذا الشخص ذلك الخاطر الذي هو نقيض الأول ، فإذا أراد الحق إثباته لم يمحه ، فإذا ثبت بقيت رقيقة متعلقة بقلب هذا الشخص وثبتت ، فيفعل ذلك الشخص ذلك الأمر أو يتركه بحسب ما ثبت في اللوح فإذا فعله أو ثبت على تركه وانقضى فعله محاه الحق من كونه محكوما بفعله وأثبته صورة عمل حسن أو قبيح على قدر ما يكون ، ثم إن القلم يكتب أمرا آخر هكذا الأمر دائما ، وهذه الأقلام هذه مرتبتها والموكل بالمحو ملك كريم على الله تعالى هو الذي يمحو على حسب ما يأمر به الحق تعالى والإملاء على ذلك الملك ومن أحكام هذه الأقلام تكون جميع التأثيرات في العالم دائما ولا بد لها أن تكتب وتثبت انتثار الكواكب وانحلال هذه الأجرام الفلكية وخراب هذه الدار الدنياوية وانتقال العمارة في حق السعداء إلى الجنان العلية وفي حق الأشقياء إلى جهنم وهي أسفل سافلين ـ وجه آخر ـ للقلب وجهان ظاهر وباطن فباطنه لا يقبل المحو بل هو إثبات مجرد محقق وظاهره يقبل المحو [وهو لوح المحو] والإثبات فيه وقتا أمرا ما (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فقلب العبد هو محل الإلقاء الإلهي من خير وشر شرعا ، وهو لوح المحو والإثبات ، فيخطر للعبد خاطر أن يفعل أمرا ما من الأمور ، ثم ينسخه خاطر آخر ، فيمحو الأول ويثبت الثاني ، وهذا ما دام العبد مهتما لخواطره ، محجوبا عن كشف الإلقاء الإلهي ، فإذا أيّد بالعصمة إن كان نبيا ، أو بالحفظ إن كان وليا ، عاد قلبه لوحا محفوظا عن المحو ، فإن ظهر ممن هذا مقامه محو في ظاهر الكون بعد إثبات ، وهو عن أمر يقوم بالقلب من الحق ، فلا يقال فيه إنه لوح محو وإثبات لأنه صاحب كشف ، وإنما وقع المحو في ظاهر الكون وبقيت حكمته

٤٢٦

في القلب (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) فلو كان صاحب الكتاب مؤمنا بكل كتابه ما ضل أبدا ـ إشارة ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) يمحو الأسباب من قلوب الموحدين ويثبت نفسه ، ويمحو الوحدانية من قلوب الناظرين ويثبت الأسباب (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وهي السابقة التي لا تتبدل ولا تمحى ، فأم الكتاب هو الكتاب الذي فيه ما كان قبل إيجاده وما يكون ، كتاب ذو قدر معلوم فيه بعض أعيان الممكنات وما يتكون عنها وفيه قضاء الله وحكمه وهو كتاب محصور لأنه موجود وعلم الله في الأشياء لا يحصره كتاب مرقوم ولا يسعه رق منشور ولا لوح محفوظ ولا يسطره قلم عليّ ، ومن هذا الكتاب سمي الحق عليما وله القضاء الذي يحكم على القدر ـ الوجه الثاني ـ (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) اعلم أن تحقيق عندية كل شيء نفسه والعندية في اللسان ظرف مكان أو ظرف محلي كالجسم للعرض اللوني الذي يدركه البصر فهو أجلى فيما ترومه من الدلالة فهو بحيث محله وصاحب المكان ما هو بحيث المكان والعندية جامعة للأمرين (وَعِنْدَهُ) أي الحق فهو (أُمُّ الْكِتابِ) وهو القرآن فإنه صفة الحق فالقرآن أم الكتاب الذي عنه خرجت الكتب المنزلة واختلفت الألسنة به لقبولها إياه بحقيقته فقيل فيه : إنه عربي وإنه عبراني وإنه سرياني بحسب اللسان الذي أنزل به والقرآن من جملة الكتب إلا أن له الجمعية دون سائر الكتب.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٤٠)

فإنما عليك البلاغ وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبان (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١)

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) فإنه المقيت فقد ترتبت الأمور ترتيب الحكمة فلا معقب لحكمه فهو في كل حال يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي فعل حكيم عالم بالمراتب.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ

٤٢٧

وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢)

(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) يعني المكر المضاف إلى عباده والمكر المضاف إليه سبحانه فنفى المكر عنهم (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فأتى بلفظ كل وهي حرف شمول فشملت كل نفس فما تركت شيئا في هذا الموضع (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) الكافر الذي ستر عنه هذا العلم في الحياة الدنيا (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) في الدار الآخرة حيث ينكشف الغطاء عن الأعين فيعلم من كان يجهل.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣)

(١٤) سورة إبراهيم مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١)

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) اعلم أن القرآن قرآن في الصدور ، وفي اللسان كلام ، وفي المصاحف كتاب ، (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمة العدم إلى نور الوجود (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) فكنا نورا بإذن ربنا (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) فهو صراط العزة ، صراط التنزيه الذي ليس لمخلوق فيه قدم في العلم به ، فإنه صراط الله الذي عليه ينزل لخلقنا ، وعليه يكون معنا أينما كنا ، وعليه نزل من العرش إلى السماء الدنيا وإلى الأرض ، وهو قوله : (وَهُوَ

٤٢٨

اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) وعليه يقرب من العبد أضعاف ما يتقرب إليه عبده إذا سعى إليه بالطريق التي شرع له ، فهو يهرول إليه إذا رآه مقبلا تهمما بعبده وإكراما له ، ولكن على صراط العزة ، وهو صراط نزول لا عروج لمخلوق فيه ، ولو كان لمخلوق فيه سلوك ما كان عزيزا ، فهو صراط ممنوع لنفسه ، فالحق سبحانه يختص بالنزول فيه (الْحَمِيدِ) أي الحامد والمحمود ، لأن فعيل إذا ورد يطلب اسم الفاعل والمفعول ، فإما أن يعطي الأمرين معا مثل هذا ، وإما أن يعطي الأمر الواحد لقرينة الحال ، وقد أثنى على نفسه ، فهو الحامد والمحمود.

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) يعني بلغتهم ولحنهم ، ليعلموا ما هو الأمر عليه ، فإذا خاطبهم ما يخاطبهم إلا بما تواطؤا عليه من التعبير عن المعاني التي يريد المتكلم أن يوصل مراده فيما يريد منها إلى السامع ، فالمعنى لا يتغير البتة عن دلالة ذلك اللفظ عليه ، وإن جهل كيف ينسب فلا يقدح ذلك في المعقول من تلك العبارة ، وإذا ظهر لهم في فعل من الأفعال فلا يظهر لهم إلا بما ألفوه في عاداتهم ، لأنه يريد إفهامهم ، فمن المحال أن يخرج في خطابه إياهم عما تواطؤا عليه في لسانهم ، فالشرائع تنزلت بحسب ما وقع عليه التواطؤ في ألسنة العالم ، فلا يرسل رسول إلا بما تواطأ قومه عليه ، وقد يكون التواطؤ على صورة ما هي الحقائق عليه وقد لا يكون ، والحق سبحانه تابع لهم في ذلك كله ، ليفهم عنه ما أنزله من أحكامه ، وما وعد به وأوعد عليه ، كما قد دل دليل العقل على استحالة حصر الحق

٤٢٩

في أينية ، ومع هذا جاء لسان الشرع بالأينية في حق الحق من أجل التواطؤ الذي عليه لسان المرسل إليهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسوداء : أين الله؟ فلو قالها غير الرسول لشهد الدليل العقلي بجهل القائل ، فإنّه لا أينية له ، فلما قالها الرسول وبانت حكمته وعلمه ، علمنا أنه ليس في قوة فهم هذا المخاطب أن يعقل موجده إلا بما تصوره في نفسه ، فلو خاطبه بغير ما تواطأ عليه وتصوره في نفسه لارتفعت الفائدة المطلوبة ولم يحصل القبول ، فمن حكمته أن سأل مثل هذه بمثل هذا السؤال وبهذه العبارة ، ولذلك لما أشارت إلى السماء ، قال فيها : إنها مؤمنة ، أي مصدقة بوجود الله ولم يقل عالمة ، واعلم أن إخلاف ما أوعدت به من الشر يسمّى تجاوزا ، وهذه شبهة المعتزلة ، وغاب عنها قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) وما تواطؤوا عليه أعني الأعراب ، إذا أوعدت أو وعدت بالشر التجاوز عنه ، وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق ، فعاملهم الحق بما تواطؤا عليه ، فزلت هنا المعتزلة زلة عظيمة ، أوقعها في ذلك استحالة الكذب على الله تعالى في خبره ، وما علمت أن مثل هذا لا يسمّى كذبا في العرف الذي نزل به الشرع ، فحجبهم دليل عقلي عن علم وضع حكمي ، وهذا من قصور بعض العقول ووقوفها في كل موطن مع أدلتها ، ولا ينبغي لها ذلك ، ولتنظر إلى المقاصد الشرعية في الخطاب ، ومن خاطب ، وبأي لسان خاطب ، وبأي عرف أوقع المعاملة في تلك الأمة المخصوصة ، فنقول للمعتزلي الذي يقول بإنفاذ الوعيد فيمن مات على غير توبة. إن الله عرفنا أنّ وعيده ينفذ فيمن شاء ويغفر لمن شاء ، والخبر الإلهي الصدق لا يدخله الكذب ، فإنه محال على الجناب الإلهي ، وإن نظر العالم إلى أنّ خطاب الحق لعباده إنما يكون بحسب ما تواطؤا عليه ، وهذا خطاب عربي لسائر العرب ، بلسان ما اصطلحوا عليه من الأمور التي يتمدحون بها في عرفهم ، ومن الأمور التي يذمونها في عرفهم ، فعند العرب من مكارم الأخلاق ، أن الكريم إذا وعد وفي وإذا أوعد تجاوز وعفا ، وهي من مكارم أخلاقهم ومما يمدحون بها الكريم ، ونزول الوعيد عليهم بما هو في عرفهم ، لم يتعرض في ذلك لما تعطيه الأدلة العقلية من عدم النسخ لبعض الأخبار ولاستحالة الكذب ، بل المقصود إتيان مكارم الأخلاق يقول بعض الأعراب في كرم خلقه :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

مدح نفسه بالعفو والتجاوز عمن جنى عليه بما أوعد على ذلك من العقوبة بالعفو

٤٣٠

والصفح ، ومدح نفسه بإنجاز ما وعد به من الخير ، يقال في اللسان : وعدته في الخير والشر ، ولا يقال أوعدته بالهمز إلا في الشر خاصة ، والتجاوز والعفو عند العرب مما تواطؤا على الثناء به على من ظهر منه ، فالله أولى بهذه الصفة ، وقد عرفنا أن وعيده ينفذ فيمن شاء ويغفر لمن شاء ، ولا ينبغي أن يقال مخلف ، بل ينبغي أن يقال إنه عفو متجاوز عن عبده ، ومع هذه الوجوه فلا يتمكن زوال الرهبة من قلب العبد من نفوذ الوعيد ، لأنه لا يدري هل هو ممن يؤاخذ أو ممن يعفى عنه؟ (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لتقوم عليهم الحجة إذا خالفوا ، أو يعملوا بما فهموا فيسعدوا ، فوقع البيان ، فما رمز نبي شيئا قط ، لأنه بعث للبيان (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) مطلق الضلالة الحيرة والجهل بالأمر وبطريق الحق المستقيم ، فقوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) أي من عرّفه بطريق الضلالة فإنه يضل فيها (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ومن عرّفه بطريق الهداية فإنه يهتدي فيها ، ولما كان العقل السليم يحار في الأخبار الموهمة للتشبيه ويتيه ، فهذا معنى يضل ، أي يحير العقول بمثل هذه الخطابات ـ الصادرة من الله على ألسنة الرسل الصادقة ـ المجهولة الكيفية ، ولا يتمكن للعقل أن يهتدي إلى ما قصده الحق بذلك مما لا يليق بالمفهوم ، ثم يرى العقل أنه سبحانه ما خاطبنا إلا لنفهم عنه ، والمفهوم من هذه الأمور يستحيل عليه سبحانه من كل وجه يفهمه العبد بضرب من التشبيه المحدث ، إما من طريق المعنى أو طريق الحس ، ولا يتمكن للعقل أن لا يقبل هذا الخطاب فيحار ، فثمّ حيرة يخرج عنها العبد ويتمكن له الخروج منها بالعناية الإلهية ، وثمّ حيرة لا يتمكن له الخروج عنها بمجرد ما أعطى الله العقل من أقسام القوة التي أيده الله بها ، فيحار الدال في المدلول لعزة الدليل ، لذلك قال تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) ثم يجيء الشرع بعد هذا في أمور حكم العقل بدليله على إحالتها ، فيثبت الشرع ألفاظا تدل على وجوب ما أحاله ، فيقبل ذلك إيمانا ولا يدري ما هو ، فإنه (الْحَكِيمُ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

ـ الوجه الأول ـ (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي ذكرهم بنعم الله وآلائه ، فإنما نابت

٤٣١

الأيام مناب النعم لأنها الآتية بأنواع الكرم ، أوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام : يا بن عمران حببني إلى عبادي ، قال : يا رب كيف أصل إلى ذلك؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا بن عمران ذكرهم إحساني إليهم ، وعظيم تفضلي عليهم ، فإنهم لا يعرفون مني إلا الحسن الجميل. وأيام الله هي أيام الأنفاس على الحقيقة ، فإنها أقل ما ينطلق عليه اسم يوم ، فهو أن يذكرهم بقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فتلك أيام الله وأنت في غفلة عنها ، وهذه الأيام التي ينبغي أن يذكر العبد بها ، مثل أيام النعم وأيام الانتقام التي أخذ الله فيها القرون الماضية. واعلم أن البلايا أكثر من النعم في الدنيا ، فإنه ما من نعمة ينعمها الله على عباده تكون خالصة من البلاء ، فإن الله يطالبه بحقها من الشكر عليها ، وإضافتها إلى من يستحقها بالإيجاد ، وأن يصرفها في الموطن الذي أمره الحق أن يصرفها فيه ، فمن كان شهوده في النعم هذا الشهود متى يتفرغ للالتذاذ بها؟ وكذلك الرزايا هي في نفسها مصائب وبلايا ، ويتضمنها من التكليف ما يتضمنه من النعم من طلب الصبر عليها ، ورجوعه إلى الحق في رفعها عنه ، وتلقيها بالرضى أو الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى بالله إلى غير الله ، فقد علمت من أيام الله أن الدار دار بلاء ، لا يخلص فيها النعيم من البلاء وقتا واحدا ، وأقله طلب الشكر من المنعم بها عليه ، وأي تكليف أشق منه على النفس ، ولذلك تمم تعالى بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) واعلم أن الله إذا مدح الصابرين فهم الذين حبسوا نفوسهم عن الشكوى لغير الله ولا يحبسونها عن الشكوى إلى الله ـ الوجه الثاني ـ (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) اعلم أن الله لما أعلمنا أنه هو الدهر ، ذكر لنا سبحانه أن له أياما من كونه دهرا ، وهي أيام الله ، فعيّن هذه الأيام أحكام أسمائه تعالى في العالم ، فلكل اسم أيام ، وهي زمان حكم ذلك الاسم ، والكل أيام الله ، وتفاصيل الدهر بالحكم في العالم ، وهذه الأيام تتوالج ويدخل بعضها في بعض ، ويغشي بعضها بعضا ، وهو ما نراه من اختلاف الأحكام في الزمان الواحد ، فذلك لتوالجها وغشيانها وتقليبها وتكرارها ، ولهذه الأيام الإلهية ليل ونهار ، فليلها غيب ، وهو ما غاب عنّا منها ، وهو عين حكمها في الأرواح العلوية الكائنة فوق الطبيعة والأرواح المهيّمة ، ونهارها شهادة ، وهو عين حكمها في الأجسام الطبيعية إلى آخر جسم عنصري ، وهي ما تحت الطبيعة ، والاسم الإلهي النور هو الذي أظهر الليل والنهار في أيام الله ، والدهر من حيث عينه يوم واحد لا يتعدد ، ولا ليل له ولا نهار ، فإذا أخذته

٤٣٢

الأسماء الإلهية عينت بأحكامها في هذا اليوم الأزلي ـ الذي هو عين الدهر ـ الأيام الإلهية التي أمر المذكّر أن يذكرنا بها ، لنعرفها من أيام الزمان ، ثم جعل الله هذه الأيام المعلومة عندنا ليقدر بها أحكام الأيام الإلهية التي للأسماء ، فهي كالموازين لها ، يعرف بها مقادير تلك الأيام ، فقال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فإذا ضربت ثلاثمائة يوم وستين يوما في ألف سنة ، فما خرج لك بعد ذلك الضرب من العدد فهو أيام التقدير التي ليوم الرب ، فينقضي ، ثم ينشيء في الدهر يوما آخر لاسم آخر غير اسم الرب ، وكذلك يضرب ثلاثمائة يوم وستين يوما في خمسين ألف سنة ، فما خرج لك بعد الضرب من الأيام فهو أيام التقدير التي ليوم ذي المعارج من الأسماء الإلهية ، فإذا انقضى ذلك اليوم أنشأ في الدهر يوما آخر لاسم آخر غير الذي لذي المعارج ، هكذا الأمر دائما ، فلكل اسم إلهي يوم ، وإنما ذكرنا هذين اليومين يوم الرب ويوم ذي المعارج لكونهما جاءا في كتاب الله ، فلا يقدر المؤمنون بذلك على إنكارهما ، فما من اسم إلهي مما يعلم ويجهل إلا وله يوم في الدهر ، وتلك أيام الله ، والكل على الحقيقة أيام الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ـ إشارة ـ التذكر للعلماء الغافلين ، والوعظ لا يكون للناس أجمعين ، فالواعظ إنما يعظ بما يكون من الله لا بالله ، وكذلك من يخوف الناس إنما يخوفهم بما يكون من الله لا من الله ، فالترغيب لا يجري مجرى الترهيب ، فإن الترغيب قد يكون في الله ، والترهيب لا يكون إلا مما يكون من الله لا من الله.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٧)

الشكر صفة تقتضي الزيادة من المشكور للشاكر ، فيزيدنا نعمة إذا شكرناه على نعمه وآلائه ، ولا يصح الشكر إلا على النعم ، فإذا شكرت الله على ما أنعم به عليك زادك من

٤٣٣

نعمه ، فإن الشاكر في حال شكره هو عين فقره إلى ما ليس عنده وهو الزيادة التي تزاد له على النعمة التي يكون فيها.

شكر لنعمة ربي نعمة أخرى

منه عليّ لهذا يطلب الشكرا

فقري إليه وما عندي سوى نعم

من الإله بها أرساله تترى

هو الغني وفقري منة ظهرت

منه عليّ فنلت الزهو والفخرا

بالفقر فخري وبالفاقات سلطنتي

على الوجود فلا أدري ولا أدرى

فكلما زاد العبد في العبادة شكرا لله ، زاده الحق في الهداية والتوفيق في موطن الأعمال حتى الآخرة ، حيث لا عمل ولا ألم على السعداء ، ولما كان الشكر فعلا يطلب الماضي والواقع ، كانت الزيادة من النعم للشاكر فضلا من الله ، ولهذا سماها زيادة يطلبها الشكر لا الشاكر ، ولما قرر الله هذه النعم على عبده وهداه السبيل إليها قال : إما شاكرا فيزيده منها ، وإما كفورا بنعمه فيسلبها عنه ويعذبه على ذلك ، فليحترز الإنسان لنفسه في أي طريق يمشي ، فما بعد بيان الله بيان.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٨)

(وَقالَ مُوسى) لبني إسرائيل (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) ينبه أن الله تعالى ما أوجد العالم إلا للعالم ، وما تعبّده بما تعبّده به إلا ليعرفه بنفسه ، فإنه إذا عرف نفسه عرف ربه ، فيكون جزاؤه على علمه بربه أعظم الجزاء ، ولذلك قال : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولا يعبدونه حتى يعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه عبادة ذاتية ، فإذا أمرهم عبدوه عبادة خاصة مع بقاء العبادة العامة الذاتية ، فجازاهم على ذلك ، فما خلقهم إلا لهم ، وما ذكر موسى الأرض إلا لكمالها بوجود كل شيء فيها ، وهو الإنسان الجامع حقائق العالم ، فقوله : (فِي الْأَرْضِ) لأنها الذلول ، فهي الحافظة مقام العبودية ، فكأنه قال : (إِنْ تَكْفُرُوا) أنتم وكل عبد الله (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ

٤٣٤

لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١)

لما كانت الخلافة ربوبية في الظاهر ، لأن الخليفة يظهر بحكم الملك فيتصرف في الملك بصفات سيده ظاهرا ، وإن كانت عبوديته له مشهودة في باطنه ، فلم تعم عبوديته جميعه عند رعيته الذين هم أتباعه ، وظهر ملكه بهم وباتباعهم والأخذ عنه ، فكان في مجاورتهم بالظاهر أقرب ، وبذلك المقدار يستتر عنه من عبوديته ، فإن الحقائق تعطي ذلك ، لذلك كثيرا ما ينزل الوحي على الأنبياء (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) وهذه آية دواء لهذه العلة.

(وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢)

المتوكلون هم أرباب مقام العبودية وأهل الاستكفاء بالله ، وهم المتوكلون على الله توكل العبد على سيده ، لا توكل الابن على أبيه ، ولا الميت على غاسله ، ولا الأجير على آجره ، ولا توكل الموكّل على وكيله ، فإن القائلين بالأسباب أهل الاكتساب مع الاعتماد على الله

٤٣٥

ـ وإن اعتمدوا على الله ـ فما في ظاهرهم الاكتفاء بالله ، وهكذا كل ذي سبب وإن كان من المتوكلين ، فما كل متوكل يظهر منه الاكتفاء على ظاهره.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (١٥)

لا تكن في الأرض جبارا فيخدعك الطريق ، حتى يصيرك ضجيع الغريق ، فلا تتصف بالتكبر والجبروت من غير أن يعطيك الحق ذلك ، فتضل عن الطريق ، كما فعل بفرعون لما تكبر بغير الحق ، فأغرقه الله تعالى.

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧)

التجرع عن كراهة ومرارة.

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٩)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بأن له نفسا بفتح الفاء ، وأضافه إلى الاسم الرحمن ، فهو أول غيب ظهر لنفسه ، فكان فيه الحق من اسمه الرب ، فكان العماء الذي كان فيه الرب قبل خلق الخلق ، ثم أوجد الله في

٤٣٦

هذا العماء جميع صور العالم الذي قال فيه إنه هالك ، يعني من حيث صوره ، وفي هذا العماء ظهرت الملائكة المهيمة والعقل والنفس والطبيعة ، والطبيعة هي أحق نسبة بالحق مما سواها ، فإن كل ما سواها ما ظهر إلا فيما ظهر منها ، والنفس بفتح الفاء هو الساري في العالم ، أعني في صور العالم ، فالعماء أصل الأشياء والصور كلها ، وهو أول فرع ظهر من أصل (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) ولكن ما فعل مع جواز إعدام الأشياء بمسكه الإمداد بما به بقاء أعيانها ، ولكن قضى القضية أن لا يكون الأمر إلا هكذا ، ولذلك علق الإذهاب بالمشيئة ، يريد مسك الشرط المصحح لبقاء الوجود عليكم ، فتنعدمون إذ لم يوجده سبحانه ، فإن له التخيير في إيجاد كل ممكن أو تركه على حاله من اتصافه بالعدم. واعلم أن الله لا يرد ما أوجده إلى عدم ، بل هو يوجد على الدوام ولا يعدم ، فالقدرة فعالة دائما ، فإنه ما شاء إلا الإيجاد ، ولهذا قال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) ـ الوجه الأول ـ الذهاب انتقالكم من الحال التي أنتم فيها إلى حال تكونون فيها ، ويكسو الخلق الجديد عين هذه الأحوال التي كانت لكم لو شاء ، لكنه ما شاء ، فليس الأمر إلا كما هو ، فإنه لا يشاء إلا ما هي عليه ، لأن الإرادة لا تخالف العلم ، والعلم لا يخالف المعلوم ، والمعلوم ما ظهر ووقع ، فلا تبديل لكلمات الله ، فإنها على ما هي عليه ـ الوجه الثاني ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يلحقكم بالعدم أي إعدام الموجود (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إيجاد المعدوم وفي ذلك وصف العدم بالكينونة فانظر كيف أضاف الإلحاق بالعدم إلى المشيئة ولم يضفه إلى القدرة التي يقع الخلق والجعل بها ، والصحيح في ذلك أن الموجودات إذا كانت كما ذكرنا لها أعيان ثابتة حال اتصافها بالعدم الذي هو للممكن لا للمحال فكما أبرزها للوجود وألبسها حاله وعراها عن حال العدم فيسمى بذلك موجدا وتسمى هذه العين موجودة ، لا يبعد أن يردها إلى ما منه أخرجها وهي حالة العدم فيتصف الحق بأنه معدم لها وتتصف هي بأنها معدومة ـ الوجه الثالث ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) معناه إن يشأ يشهدكم في كل زمان فرد الخلق الجديد الذي أخذ الله بأبصاركم عنه ، فإن الأمر هكذا هو في نفسه والناس منه في لبس ، فبقاء الجوهر ليس لعينه وإنما بقاؤه للصور التي تحدث فيه ، فلا يزال الافتقار منه إلى الله دائما ، فالجوهر فقره إلى الله للبقاء ، والصور فقرها إلى الله لوجودها ، فالكل في عين الفقر إلى الله.

٤٣٧

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠)

أي بممتنع. عزة الشيء لا تكون إلا على أمثاله ، فالشيء على عزته حقير بالنسبة لعزة الله التي لا تقبل التأثير ، فإن كل شيء في العالم بالنظر إلى عظمة الله حقير ، ولكنه بتعظيم الله لا بعظمته عظيم.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢)

لما كانت المعجزات تشهد بصدق الدعوة من الرسل أنها دعوة من الله ، حكى الله لنا من قول الشيطان (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قوة ولا حجة ولا برهان (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وليس كل من دعا تلزم إجابته ، فإن الشيطان ما أقام برهانا لهم لما دعاهم ، فيا عجبا إن الناس جحدوا دعوة الحق مع ظهور البرهان وكفروا بها ، وأجابوا دعوة الشيطان العرية عن البرهان ، فقال لهم : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) وحكى الله عن إبليس قوله ، فأقره عليه ولم ينكره ، فاحذر أن تقوم عليك حجة الشيطان ، فإنه ليس له عليك سلطان ، فلا تقل زيّن لي ودعاني فأوقعني في الخسران ، أنت الذي أجبت ووقعت منه ، ولعنه ليس إلا التنحي عنه ، فما دعاك إلا بلسان الحال ، فإن أجبته بلسان الحال لم ينفع لعنه بالمقال.

٤٣٨

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (٢٤)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) أطلق النظر على الكيفيات والمراد بذلك بالضرورة المكيفات لا التكييف ، فإن التكييف راجع إلى حالة معقولة لها نسبة إلى المكيّف وهو الله تعالى ، وما أحد شاهد تعلق القدرة الإلهية بالأشياء عند إيجادها ، فالكيفيات المذكورة التي أمرنا بالنظر إليها لا فيها ، إنما ذلك لنتخذها عبرة ودلالة على أن لها من كيّفها ، أي صيّرها ذات كيفيات ، وهي الهيئات التي تكون عليها المخلوقات المكيّفات.

(تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٥)

اعلم أن الحق وإن أوجد العالم ووصف نفسه بما وصف ، ما زال في منزلة تنزيهه وتمييزه عن خلقه بذاته ، مع معيته بكل خلق من خلقه.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ

٤٣٩

آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) (٣٢)

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) باطن المعتقد كون الله هو لفاعل للأشياء ، لا أثر لمخلوق ولا لسبب ظاهر ولا باطن فيها ، فإن الأسباب جعلها الله ابتلاء ليتميز من يقف عندها ممن لا يرى وقوع الفعل إلا بها ممن لا يرى ذلك ويرى الفعل لله من ورائها ، عندها ، لا بها.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤)

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) ـ إشارة ـ أوحى الله إلى بعض أنبيائه : يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي ، فلا تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك ، يا ابن آدم إني وحقي لك محب ، فبحقي عليك كن لي محبا ، كيف لا يحب الصانع صنعته؟! ونحن مصنوعاته بلا شك ، فإنه خالقنا وخالق أرزاقنا ومصالحنا ، والصنعة مظهرة علم الصانع لها بالذات واقتداره وجماله وعظمته وكبريائه ، فإن لم يكن فعلى من وفيمن وبمن ، فلا بد منا ولا بد من حبه فينا ، فهو بنا ونحن به ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثنائه على ربه : [فإنما نحن به وله] فلم يزل يحب ، فلم يزل ودودا ، فهو يوجد دائما في حقنا ، فهو كل يوم في شأن ، ولا معنى للوداد إلا هذا ، فنحن بلسان الحال والمقال لا نزال نقول له : افعل كذا ، افعل كذا ، ولا يزال هو تعالى يفعل ، ومن فعله فينا نقول له : افعل ، أترى هذا فعل مكره ولا مكره له؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، بل هذا حكم الاسم الودود منه.

٤٤٠