رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

الماء ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ليس بقائف ، بل هو العارف يعرف الأول من كل شيء فيكشف بها كل خبء ، يفور من بصره النور ، ولا يبور ، هو بالإيمان مشروط ، وبحكمه مربوط ، يمده المؤمن بما شاء من أسمائه ، عند إنبائه ، فلا يبطي ، ولا يخطي ، له النفوذ والمضاء ، وله الحكم والقضاء ، ولا إمساك إن شاء ولا مضاء ، فإن شاء لم يقض وإن شاء قضى ، بما يكون وهو كائن وما قد مضى ، نوره لا يحتاج إلى مدد ، ولا انقضاء مدد ، ولا استبصار بأحد.

(وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩)

الإمام المبين وهو الدفتر الأعظم الذي مع الحق على عرشه ، ونقل منه في اللوح المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ، يتضمن ما في العالم من حركة وسكون ، واجتماع وافتراق ، ورزق وأجل وعمل.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٨٥)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ) وهو كل عالم علوي (وَالْأَرْضَ) كل عالم سفلي ، فالسماء من عالم الصلاح ، والأرض من عالم الفساد ، ومنه اشتقت اسم الأرضة لما تفسده من الثياب والورق والخشب (وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) وهو الحق المخلوق به العالم ، وفي تفسيره وجوه

٤٦١

ـ الوجه الأول ـ هو الوجود الصرف ، لأنه قد قام الدليل على أنه ما ثمّ وجود أزلا إلا وجود الحق ، فهو واجب الوجود لنفسه ـ الوجه الثاني ـ الحق المخلوق به هو العماء ، وهو نفس الرحمن الذي هو علة الإيجاد من جانب الرحمة بالخلق ، ليخرجهم من شر العدم إلى خير الوجود ـ الوجه الثالث ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما خلق الله العقل ، وهو الحق الذي خلق به السموات والأرض ـ الوجه الرابع ـ الحق هنا هو ما يحكم الله به يوم القيامة بين عباده وفي عباده وبه أنزل الشرائع ـ تحقيق ـ قال تعالى كما ورد (كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف) ولما كان المحب من شأنه إذا قام بالصورة أن يتنفس ، لما في ذلك التنفس من لذة المطلوب ، فخرج ذلك النفس من شأنه إذا قام بالصورة أن يتنفس ، لما في ذلك التنفس من لذة المطلوب ، فخرج ذلك النفس عن أصل محبة في الخلق الذي يريد التعرف إليهم ليعرفوه ، فكان العماء المسمى بالحق المخلوق به ، فكان ذلك العماء ماء جوهر العالم ، فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها ، وهو قابل إلى ما لا يتناهى ، فجميع الموجودات ظهرت في العماء بكن ، أو باليد الإلهية ، أو باليدين ، إلا العماء فظهوره بالنفس خاصة ، ولو لا ما ورد في الشرع النفس ما أطلقناه ، مع علمنا به ، وأصل ذلك حكم الحب ، فبهذا الحب وقع التنفس فظهر النفس ، فكان العماء ، فهذا العماء هو الحق المخلوق به كل شيء ، وسمي الحق لأنه عين النفس والنفس مبطون في المتنفس ، فالعماء من تنفسه تعالى ، والصور المعبر عنها بالعالم من كلمة كن ، فلما سمعنا كلامه تعالى ونحن ثابتون في جوهر العماء لم نتمكن أن نتوقف عن الوجود ، فكنا صورا في جوهر العماء ، فأعطينا بظهورنا في العماء الوجود للعماء بعد ما كان معقولي الوجود ، حصل له الوجود العيني ، فالأصل على هذا كان وهو العماء من النفس ، وهو وجود وهو عين الحق المخلوق به وأجناس العالم مخلوقون من العماء ، وأشخاص العالم مخلوقون من العماء أيضا ومن أنواع أجناسه ، فما خلق شيء من عدم لا يمكن وجوده ، بل ظهر في أعيان ثابتة.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (٨٦)

ولا يعلم أحد للعالم مدة يقف عندها بجملتها ، إلا أن الله تعالى بالجملة لم يزل خالقا ولا يزال دنيا وآخرة ، والآجال في المخلوق بانتهاء المدد لا في الخلق ، فالخلق مع الأنفاس يتجدد ، فما أعلم به خلقه علمه.

٤٦٢

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧)

يراجع تفسير فاتحة الكتاب في السبع المثاني ـ الفاتحة هي السبع المثاني ، فهي سبع آيات تحتوي على جميع الآيات ، فظهرت في الوجود حضرة تفرد وحضرة تجمع ، فمن البسملة إلى الدين إفراد إلهي ، ومن اهدنا إلى الضالين إفراد العبد المألوه ، وقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تشمل ، وما هي العطاء ، وإنما العطاء ما بعدها ، وإياك في الموضعين ملحق بالإفراد الإلهي ، فصحت السبع المثاني ، يقول العبد فيقول الله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ـ الوجه الأول ـ العظيم الصفات ، والقرآن الجمع ، وليس سوى إياك نعبد وإياك نستعين ـ الوجه الثاني ـ (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قيد وصف القرآن في هذه الآية بالعظمة ، فإن نزوله إذا كان بصفة العظمة أثر في القلب هيبة وجلالا وحياء ومراقبة وحضورا وإخباتا وانكسارا وذلة وافتقارا وانقباضا وحفظا ومراعاة وتعظيما لشعائر الله ، وانصبغ القرآن كله عنده بهذه الصفة ، فأورثه عظمة عند الله وعند أهل الله ، ولم يجهل أحد من المخلوقات عظمة هذا الشخص ، إلا بعض الثقلين لأنهم ما سمعوا نداء الحق عليه بالتعريف ، وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إذا أحب الله عبدا قال لجبريل : إني أحب فلانا ، فيحبه جبريل ، ثم يأمره أن يعلم بذلك أهل السماء ، فيقول ألا إن الله تعالى قد أحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء كلهم ، ثم يوضع له القبول في الأرض].

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١)

في قسم الله جل ثناؤه بالربوبية على إنفاذ سؤال التقرير على المشركين يوم القيامة ، أقسم سبحانه على نفسه باسم الرب المضاف إلى نبيه محمد عليه‌السلام ، فقال عز من قائل.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣)

٤٦٣

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤)

فانصدع بأمر الله ، لأنه ما قال له اصدع إلا ولا بد أن يكون قابلا لنفوذ أمر الله فيه حتى يسمى مصدوعا ، فلو كان لا يقبل النفوذ لكان هذا الأمر عبثا ، ألا ترى إلى قوله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فإنه لا ينفذ في المشرك ، إذ لو نفذ لوحّد ، فقال له : وأعرض ، لأنهم ليسوا بمحل ، فيأمر الرسول المشرك من غير صدع ، والذي علم منه أنه يجيب ويقبل الأمر ولو كان على كره هو الذي يصدع بالأمر.

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦)

وهم الذين قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وقالوا (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أقسم سبحانه باسمه لنبيه وأضافه إليه إضافة الحضور والمشاهدة ، تفريجا لغمه وطردا لهمه ، وثلجا لفؤاده ، وشرحا لما ناله من الضيق والحرج مما سمع في سيده ومرسله وحبيبه من رد أمره وخطابه وتكذيبه ، وهذا هو المقام العالي الذي لا أعلى منه ولا أسنى ، ويقع فيه التفاضل بين الرسل وبين الأنبياء وبين الأولياء ، ولما كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤال الحق عباده عن أعمالهم بالتقرير والإنكار والتوبيخ والتقريع من المشقات الكبيرة والآلام العظام ، أقسم له سبحانه بنفسه ليشتفي من أعدائه في ذلك الموطن ، فقدّم له إخباره هذا ، وأقسم عليه تأكيدا ، لينقص عنه من ذلك الضيق الذي يجده بعض الشيء.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (٩٧)

يعني في حق الله وتكذيبه ، فهو لذلك يضيق صدره ، فلما علم أن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المقام الذي أوصله إليه سبحانه بعنايته التي تقتضي له أن يعامل الوقت كما ينبغي بما ينبغي لما ينبغي ، أمره بالتسبيح الرباني ليشغله به عن ضيقه وألمه وجرحه ، وزواله بالكلية محال من أجل الموطن ، ولهذا قال له في هذا الموطن في آية أخرى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) فأمره

٤٦٤

سبحانه بالاشتغال بالرب من مقام التذلل فقال.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (٩٨)

فالرب هنا بمعنى السيد ، وفي التسبيح بمعنى الثابت ، فأراد سبحانه بما أمره به من التسبيح الرباني والعبادة الربانية أن يغنيه عنهم إلى يوم يلقاه ، والتسبيح التنزيه ، وهو قسم من أقسام الحمد ، فهو ثناء بعدم ، وهو التنزه عن كل صفة تدل على الحدوث لاتصافه بالقدم ، واحذر أن تسبح الحق بعقلك ، واجعل تسبيحه منك بالقرآن الذي هو كلامه ، فتكون حاكيا لا مخترعا ولا مبتدعا ، فهو أعلم بنفسه منك ، وهو يحمد ذاته بأتم المحامد وهو قوله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) فلا تسبحه تسبيحة واحدة بعقلك جملة واحدة ، فإن الأدلة العقلية كثيرة التنافر للأدلة الشرعية في الإلهيات ، فسبح ربك بكلام ربك وبتسبيحه ، لا بعقلك الذي استفاده من فكره ونظره ، فإنه ما استفاد أكثر ما استفاد إلا الجهل ، فلا تتعد بالفكر محله (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) يريد الذين لا يرفعون رؤوسهم أبدا ، ولا يكون ذلك إلا في سجود القلب ، ولهذا قال له عقيب قوله (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) تمم فقال.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

ولما كان القسم بالرب ، جعل الحكم بالتسبيح لهذا الاسم والعبادة له ، حتى لا يكون لاسم آخر سلطان عليه في هذه النازلة على هذا المقام ، فقال له تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وقال : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) المنعوت في الشرع (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ـ الوجه الأول ـ فتعرف باليقين من سجد منك ، ولمن سجدت ، فتعلم أنك آلة مسخرة بيد حق قادر ، اصطفاك وطهرك وحلاك بصفاته ـ الوجه الثاني ـ اعلم أن الأسماء الإلهية نسب ، فمن عرف النسب فقد عرف الله ، ومن جهل النسب فقد جهل الله ، ومن عرف أن النسب تطلبها الممكنات فقد عرف العالم ، ومن عرف ارتفاع النسب فقد عرف ذات الحق من طريق السلب ، فلا يقبل النسب ولا تقبله ، وإذا لم يقبل النسب لم يقبل العالم ، فقوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) نسبة خاصة من الاسم الرب المضاف (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فتعلم من عبده ومن العابد والمعبود ـ الوجه الثالث ـ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فينكشف الغطاء ويحتد البصر ، فترى ما رأى

٤٦٥

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمع ما سمع ، فتلحق به في درجته من غير نبوة تشريع ، بل وراثة محققة لنفس مصدقة متبعة ـ لذلك قرأ بعضهم من باب الإشارة (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ) ـ الوجه الرابع ـ (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يعني الموت ، لأنه أمر متيقن لا اختلاف في وقوعه في كل حيوان ـ الوجه الخامس ـ «اليقين» حكم اليقين سكون النفس بالمتيقن ، أو حركتها إلى المتيقن وهو ما يكون الإنسان فيه على بصيرة ، أي شيء كان ، فإذا كان حكم المبتغى حكم الحاصل فذلك اليقين ، سواء حصل المتيقن أو لم يحصل في الوقت ، وهو قول القائل لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، مع أن المتيقن ما حصل في الوجود العيني ، فقال الله لنبيه ولكل عبد يكون بمثابته (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ولما كان شرف اليقين بشرف المتيقن ، لهذا جاء بالألف واللام في قوله (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يريد متيقنا خاصا ، ما هو يقين يقع المدح به ، بل هو يقين معيّن ، واليقين هو الذي يأتي طالبا المحل الذي ينزل فيه ، فإذا تيقنت علمت بمن آمنت ـ الوجه السادس ـ إذا أضاف الحق نفسه إلى شيء من خلقه ، فانظر إلى عبادة ما أضاف نفسه إليه فقم بها أنت ، فإنك النسخة الجامعة ، وما عرفك الحق بهذه الإضافة الخاصة إلا لهذا ، مثال الإله المضاف : وإلهكم ، ربنا الذي أعطى ، رب المشرق والمغرب ، رب السموات ، ورب آبائكم ، رب المشرقين ورب المغربين فعطف ، وما أظهر الإضافة كما فعل في غير ذلك ، ما فعله سدى ، فاعبد ربك على ما قلته لك في كل إضافة حتى يأتيك اليقين ، وإذا أتاك اليقين انجلى لك الأمر وعرفت شرف الإضافة ، فإنه ما عبد أحد الإله المطلق عن الإضافة فإنه الإله المجهول.

بحث في اليقين ـ اليقين مقام شريف بين العلم والطمأنينة ، وربما اشتق اليقين من يقن الماء إذا استقر ، فاليقين استقرار الإيمان في القلب ، واعلم أن اليقين لما اعتنى به الله دون غيره من المقامات ، أكمل نشأته فسوى ذاته أولا حين أرسله مطلقا ، مثل قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ثم جعل له عينا وعلما وحقا وأخفى حقيقته ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [لكل شيء حقيقة] وقد ثبت حق اليقين ، فلا بد لهذا الحق من حقيقة ، وهو حقيقة اليقين ، فصار اليقين على هذا نشأة قائمة على أربعة أركان : علم وعين وحق وحقيقة ، فالحقيقة سنّية ، والثلاثة الأركان الباقية كتابية ، فاليقين اسم يكون منه فعل فيظهر في حضرة الأفعال على مراتبها ، ولا يتمكن أن يوصف بوجه ، بخلاف العلم ، فلا يوصف بالقدم

٤٦٦

ويوصف بالعلم والعين والحق وغير ذلك ، ولما كان فلك اليقين واسعا ، كان في حركته بطء لاتساع فلكه ولعلوه وارتفاعه ، فلا يظهر له في عالم التركيب ذلك الأثر الظاهر إلا عند القليل من المتروحنين من البشر ، وذلك لعلو هممهم ، فإنها جازت عليه من فلكه وقربت منه فحصل آثاره فيها ، ولذلك قال تعالى : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فجعلهم قوما ، فإن الشكوك هي الغالبة والقطع على جهالة لا على يقين ، فسمي القطع يقينا ، واليقين من جهة الحقيقة غير حاصل عند أكثر الناس ، وإن القطع عندهم حاصل عندهم ويسمونه يقينا ، وليس كذلك ، فلو كانت دائرة فلك اليقين قريبة منا سريعة الدور ضيقة الفلك لكانت سريعة الأثر ، وكان الخلق أكثرهم على اليقين ، فكانوا على سبيل الحق ، لكن الأمر كما ترى بالعكس ، وانظر في إشارة الشارع بقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وقلّل الصالحين فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) فأين أنت من أصحاب اليقين الذين هم أقل من عمّال الصالحات ، بل نبّه عليهم (بِقَوْمٍ) فهم أقل من القليل ، واليقين فوق الإيمان بلا شك ، فأين الطمأنينة أبعد وأبعد ، وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يتعلم اليقين ، وقيل له (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وسر ذلك أنه قيل له (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) والعلم لا بد بأن يستند إلى اليقين ، لأن اليقين روح العلم والطمأنينة حياته ، فلا يزال يطلب الزيادة من العلم ، فلا يزال يتعلم اليقين لارتباطه به ، وهكذا في كل دقيقة من دقائق التفاصيل ، ولما كان العلم بهذه المثابة انبغى لكل عاقل أن لا يسأل سواه في كل شيء ، ولما كان لليقين نشأة كاملة كانت له عين مميزة ، فقيل عين اليقين ، لئلا يتخيل السامع أنا نريد عين الشمس وغير ذلك ، ونقول علم اليقين في العلم ، لئلا يتخيل علم النحو أو علم الأدب ، وكذلك حقّ اليقين ، لئلا يتخيل حق قدره وحق تقاته إذا قلنا حق ولا نضيفه إلى اليقين ، كذلك نقول حقيقة اليقين ، لئلا يتخيل أنا نريد حقيقة الإيمان وحقيقة الوجود ، فجاءت الإضافة قطعا ، لأن اليقين هو مجموع هذه الأشياء فجازت ، واليقين ما بأيدي الناس منه إلا مجرد ذاته الجسمانية ، أي حروفه اللفظية والرقمية ، ولذلك ما تجد أحدا إلا وهو يشك في المقدور ، إما بعقده وإما بحاله ضرورة ، وأدناها مرتبة هذه الكسيرة التي وقع القسم من الله عليها بضمانها ، ولا بد أن يعطيها ولم يشترط فيها إيمانا ولا كفرا ، ومع هذا كله لم يثلج صدره ولا حصل في النفس من اليقين

٤٦٧

علم ولا عين ولا حق ولا حقيقة ، فأين أنت يا مسكين؟ فمن كشف الله له عن بصيرته وانحل قفله من أهل الكمال قليلون جدا ، فانظر ما أعلى درجة اليقين ، فإن عين اليقين بها ينظر إلى الهمم عند تسابقها إليه وتجاريها على براقات الأعمال الصالحات ، فيشهدها خارجة من النفوس المسجونة في الهياكل الظلمانية ، واختراقها عالم الوهم والمثال الذي هو البحر الخضم الذي تهلك فيه أكثر الهمم ، وتعاين هذا اليقين بالعين المضافة ، فالصاحب يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكلم دحية ، وإنما كان جبريل عليه‌السلام ، فإذا قال : إنه دحية فلا علم عنده ولا يقين ، لكنه عنده القطع الذي يسميه يقينا ، واليقين إذا نظر بعينه إلى مثل ما ذكرناه ورأى رجوع الهمم يتعجب مما خلق الله عليه العقول من القصور ، فما أشأم من وثق بعقله ، أو قال إنه يعرف ربه بعقله ، وإذا وصلت الهمم بالمسابقة إلى اليقين وهو ينظر إليها بعينه ، أنزلها في حضرته وحصل من صور الهمم التي يمتاز بعضها من بعض صورة معقولة ، لا يمكن للبصر أن يدركها ، لأنها غيب ، فيسلط علمه عليها ، وهذا هو علم اليقين المضاف إليه ، فعينك إذا لم تغلط من عين اليقين ، وإذا غلطت من عين القطع ، وعلمك إذا لم يغلط من علم اليقين وإذا غلط فمن علم القطع ، وهو قوله تعالى : [كنت سمعه وبصره] فلا يرى إلا اليقين ولا يعلم إلا اليقين ، وأما حق اليقين فهو أن ينظر عند ما تميزت له صفات الفصل بين الهمم في الأمر الذي انبعثت عنه وحكم مزاج صاحب تلك الهمة وأين محله من عالمه وعلى ماذا قامت بنيته حين يبدو له ما يعطي امتزاج أخلاطه من القوة ، فيكون الإمداد بحسب ذلك ، وأما حقيقة اليقين فهو أن ينظر في المقام المعلوم الذي منه نزل إلى أسفل سافلين ، فإنه إلى ذلك ينتهي بعد التكليف والالتحاق بالروحانيات العلى ، فإن الله تعالى أوجد كل لطيفة إنسانية في مقامها الذي تؤول إليه كالملائكة سواء ، ثم نزلت إلى تدبير الأبدان فهكذا الإنسان لا يزال يترقى إلى آخر نفسه الذي يموت عليه ، وهو مقامه الذي نزل منه ، ولذلك قال (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولا يرجع إلى شيء إلا من خرج منه ، فبذلك المقام تتعلق حقيقة اليقين.

٤٦٨

(١٦) سورة النّحل مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١)

(أَتى) بالماضي (أَمْرُ اللهِ) يوم القيامة وإن كان لم يأت بعد ولكن تقطع النفس المؤمنة بإتيانه فلا فرق عندها بين حصوله وعدم حصوله وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه ولا بد وزوال حكم الإمكان فيه إلى حكم الوجوب وكل ما كان بهذه المثابة فحكم الماضي فيه والمستقبل على السواء وسياقه بالماضي آكد في الوقوع وتحققه من بقائه على الاستقبال.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) لما كان العلم تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح أعيان الأجسام كلها سمي العلم روحا تنزل به الملائكة على قلوب عباده فهم المعلمون والأستاذون في الغيب ، يشهدهم من نزلوا عليه ، فإذا نزل هذا الروح في قلب العبد بتنزيل الملك أو بإلقاء الله ووحيه ، حيي به قلب المنزل عليه ، فكان صاحب شهود ووجود ، لا صاحب فكر وتردد ولا علم يقبل عليه دخلا فينتقل صاحبه من درجة القطع إلى حال النظر (مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهي النبوة العامة لأن من نكرة (أَنْ أَنْذِرُوا) فما جاء إلا بالإعلام ، وفيه ضرب من الزجر حيث ساق الإعلام بلفظة الإنذار ، فهو إعلام بزجر فإنه البشير والنذير ، والبشارة لا تكون إلا عن إعلام ، فغلب في الإنزال الروحاني باب الزجر والخوف ، لما قام بالنفوس من الطمأنينة الموجبة إرسال الرسل ليعلموهم أنهم عن الدنيا إلى الآخرة منقلبون ، وإلي الله من نفوسهم راجعون (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) هذا هو التوحيد الخامس عشر في القرآن

٤٦٩

وهو توحيد الإنذار ، وهو توحيد الأناية (أَنَا) (فَاتَّقُونِ) وهي نبوة خاصة بنبوة التشريع ، لأن الإنذار مقرون أبدا بنبوة التشريع ، ويكون الروح صورة قوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) فإنه لم يقل هو ، فكان الروح هو الملقى ـ وجه آخر ـ الملائكة هنا هي التي نزلت بالإنذار من أجل أمر الله لهم بذلك ، فاستوى في هذا التنزل في التوحيد رسل البشر والمرسلون إليهم ، والروح هنا ما نزلوا به من الإنذار ، ليحيى بقبوله من قبله من عباده كما تحيى الأجسام بالأرواح ، فحييت بهذا الروح المنزل رسل البشر ، فأنذروا بهذا التوحيد العظيم الذي نزل من جبار عظيم بتخويف وتهديد مع لطف خفي في قوله (فَاتَّقُونِ) أي فاجعلوني وقاية تدفعون بي ما أنذرتكم به ، هذا لطفه ، ليس معناه فخافوني ، لأنه ليس لله وعيد وبطش مطلق شديد ليس فيه شيء من الرحمة واللطف ، ومثل هذه الآية قوله تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) نبوة عامة (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) نبوة تشريع لا نبوة عموم ـ بحث في نزول الملائكة على البشر ـ قال بعض أصحابنا كالإمام أبي حامد الغزالي وغيره بأن الفرق بين الولي والنبي نزول الملك ، فإن الولي ملهم ، والنبي ينزل عليه الملك مع كونه يكون ملهما ، فإنه جامع بين الولاية والنبوة ، وهذا غلط عندنا من القائلين به ، ودليل عدم ذوق القائلين به ، وإنما الفرقان إنما هو فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك ، فالذي ينزل به الملك على الرسول والنبي خلاف الذي ينزل به الملك على الولي التابع ، فإن الملك قد ينزل على الولي التابع بالاتباع ، وبإفهام ما جاء به النبي مما لم يتحقق هذا الولي العلم به وإن كان متأخرا عنه بالزمان ، أعني متأخرا عن زمان وجوده ، فقد ينزل عليه بتعريف صحة ما جاء به النبي وسقمه مما قد وضع عليه ، أوتوهم أنه صحيح عنه ، أو ترك لضعف الراوي وهو صحيح في نفس الأمر ، وقد ينزل عليه الملك بالبشرى من الله بأنه من أهل السعادة والفوز وبالأمان ، كل ذلك في الحياة الدنيا ، فإن الله عزوجل يقول : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقال في أهل السعادة القائلين بربوبية الله أن الملائكة تنزل عليهم ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) من أولياء الله من يكون له ذوق الإنزال في التنزيل ، فما طرأ ما طرأ على القائلين بخلاف هذا إلا من اعتقادهم في نفوسهم أنهم قد عموا بسلوكهم جميع الطرق والمقامات ، وأنه ما بقي مقام إلا ولهم فيه

٤٧٠

ذوق ، وما رأوا أنهم نزل عليهم ملك ، فاعتقدوا أن ذلك مما يختص به النبي ، فذوقهم صحيح وحكمهم باطل ، فمن هناك وقع الغلط ، ولو وصل إليهم ممن تقدمهم أو كان معهم في زمانهم من أهل الله القول بنزول الملك على الولي قبلوه وما ردوه.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) الحق هنا ليس عينا موجودة ، بل الباء هنا بمعنى اللام ، ولهذا قال تعالى في تمام الآية (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) من أجل الباء ، والأمر في نفسه في حق السماء والأرض ، وما أنزل (ما بَيْنَهُما) حتى يعم الوجود كله ، مثل قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) كذلك ما خلق السموات والأرض إلا بالحق ، أي للحق ، فاللام التي نابت الباء هنا منابها عين اللام في قوله (لِيَعْبُدُونِ) فخلق السموات والأرض للحق ، والحق أن يعبدوه ، ولهذا قال : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فالحق تعالى لا يخلق شيئا بشيء ، لكن يخلق شيئا عند شيء ، فكل ما يقتضي الاستعانة والسببية فهي لام الحكمة ، فما خلق الله شيئا إلا للحق ، والحق أن يعبدوه ، فعلى الحقيقة إن الله لا يخلق شيئا بشيء ، وإن خلقه لشيء فتلك لام الحكمة ، وعين خلقه عين الحكمة ، إذ خلقه تعالى لا يعلل ، فالخلق عبد بالذات أثرت فيه العوارض ، ولا سيما الشخص الإنساني ، بل ما أثرت العوارض إلا في الشخص الإنساني وحده دون سائر الخلق ، وما سواه فعلى أصله من التنزيه ، تنزيه خالقه عن الشريك ، من هذا يتضح خطأ من جعل هذا الحق المخلوق به عين علة الخلق ، والحق تعالى لا يعلل خلقه ، هذا هو الصحيح في نفسه ، حتى لا يعقل فيه أمر يوجب عليه ما ظهر من خلقه ، بل خلقه الخلق منة منه على الخلق ابتداء فضل وهو الغني عن العالمين ، وكذلك خطأ من جعل هذا الحق المخلوق به عينا موجودة بها خلق الله ما سواها ، وهو صدور معلول عن علة أوجبت العلة صدوره ، وهذا فيه ما فيه (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) اعلم أن الله هو اللطيف الخبير العلي القدير الحكيم العليم ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، لما خلق الأشياء وذكر أن له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، وضع الأسباب وجعلها له كالحجاب فهي توصل إليه تعالى كل من علمها حجابا ، وهي تصد عنه كل من اتخذها أربابا ، فذكرت الأسباب في أنبائها أن الله من ورائها ، وأنها غير متصلة بخالقها ـ فإن الصنعة

٤٧١

لا تعلم صانعها ـ ولا منفصلة عن رازقها فإنها تأخذ عنه مضارها ومنافعها ، فخلق الأرواح والأملاك ورفع السموات قبة فوق قبة على عمد الإنسان ، وأدار الأفلاك ، ودحى الأرض ليميز بين الرفع والخفض ، وعيّن الدنيا طريقا للآخرة ، وأرسل بذلك رسله تترى ، لما خلق في العقول من العجز والقصور عن معرفة ما خلق الله من أجرام العالم وأرواحه ولطائفه وكثائفه ، فإن الوضع والترتيب ليس العلم به من حظ الفكر ، بل هو موقوف على خبر الفاعل لها والمنشيء لصورها ، ومتعلق علم العقل من طريق الفكر إمكان ذلك خاصة لا ترتيبه ، ثم إن الله تعالى قدّر في العالم العلوي المقادير والأوزان والحركات والسكون في الحال والمحل والمكان والمتمكن ، فخلق السموات وجعلها كالقباب على الأرض قبة فوق قبة ، وجعل هذه السموات ساكنة ، وخلق فيها نجوما ، وجعل في سيرها وسباحتها في هذه السموات حركات مقدّرة لا تزيد ولا تنقص ، وجعلها عاقلة سامعة مطيعة ، ثم إن الله تعالى يحدث عند هذه الحركات الكوكبية في الطرق السماوية في عالم الأركان وفي المولدات أمورا مما أوحى في أمر السماء ، وجعل ذلك عادة مستمرة ابتلاء من الله ابتلى بها عباده ، فمن الناس من جعل ذلك الأثر عند هذا السير لله تعالى ، ومن الناس من جعل ذلك لحركة الكوكب وشعاعه ، لما رأى أن عالم الأركان مطارح شعاعات الكواكب ، فأما الذين آمنوا بالله فزادتهم إيمانا بالله ، وأما الذين آمنوا بالباطل فزادتهم إيمانا بالباطل وكفروا ، وهم الخاسرون الذين ما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥)

الأنعام من الإنعام ، تحمل الأثقال والرحال ، وعليها تمتطي الرجال ، ومن أعجب ما يكون أن الوضوء من أكل لحومها مسنون ، لشربها من بئر شطون.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ

٤٧٢

لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧)

(لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) وهو نصف ذاتك ، أي ما كنت تصل إليه إلا بالوهم والتخيل لا بالحس إلا بواسطة هذه المراكب.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨)

فهي من زينة الله التي قال فيها (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ).

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

أوجب الحق على نفسه أن يعرّف طريق سعادة العباد ـ وهو الإيمان بالله ، وبما جاء من عند الله ، مما ألزمنا فيه الإيمان به ، فإن العالم في حال جهل بما في علم الله من تعيين تلك الطريق ـ عن طريق الرسول ، لذلك قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) أي هذا الذي أوجبته على نفسي ، كأن الله يقول : الذي يلزم جانب الحق منكم أن يبيّن لكم السبيل الموصل إلى سعادتكم ، وقد فعلت ، فإنكم لا تعرفونه إلا بإعلامي لكم به وتبييني ، وجاء بالألف واللام للشمول في السبيل ، فإنها كلها سبل يراها من جاهد في الله ، فأبان له ذلك الجهاد السبل الإلهية ، فسلك منها الأسدّ في نفسه ، وعذر الخلق فيما هم عليه من السبل وانفرد بالله ، فهو على نور من ربه (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أنتم قابلون لذلك ، ولكن حقت الكلمة وسبق العلم ونفذت المشيئة ، فلا راد لأمره ولا معقّب لحكمه ، إن الله فعال لما يريد.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ

٤٧٣

مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢)

اعلم أن الله تعالى لما رفع السماء ووضع الميزان في سباحة الكواكب في أفلاكها التي هي طرق السموات ، لتجري بالمقادير الكائنة في العالم على قدر معلوم لا تتعداه ، فهي تعطي وتمنع بذلك الميزان الذي وضع الحق لها ، لأنها تشاهد الميزان الذي بيد الحق حين يخفض به ويرفع ، فإذا نظرت إلى من رفعه الحق بميزانه أعطته ما يستحقه مقام الرفع ، وإذا رأت الحق يضع بميزانه من شاء أعطته ما يستحقه مقام الوضع ، وذلك هو التسخير الذي ورد في القرآن في النجوم أنها مسخرات بأمره ، فيقول العالم والمؤمن : مطرنا بفضل الله ورحمته ، بالوزن الذي جعله في سباحة كوكب من الكواكب وما قدره الله له من المنازل التي ينزل فيها ، والمحجوب والكافر يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فيذكر الكوكب المجبور في ذلك ، ويضيف ما ظهر من المطر الصائب إليه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الذين يعقلون عن الله كل شيء في العادة عندهم فيه تعجب ، وأما أصحاب العوائد فإنهم لا تعجب عندهم إلا فيما ظهر فيه خرق العادة.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥)

فالأرض هي الثابتة الراسية ، سكّن ميدها جبالها التي جعلها الله أوتادها ، لما تحركت من خشية الله آمنها الله بهذه الأوتاد ، فسكنت سكون الموقنين.

(وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١٦)

٤٧٤

العامة لا ترى الأنوار التي في كواكب السماء إلا زينة خاصة ، ويراها العلماء بمنازلها وسيرها وسباحتها في أفلاكها موضوعة للاهتداء بها ، فاتخذوها علامات على ما يبغونه في سيرهم في ظلمات البر والبحر.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٧)

لما كانت القدرة الحادثة التي للمخلوق الذي اتّخذ إلها ، لا تزيد على قدرة العابد إياه ، فهي قاصرة عن سريانها في جميع الأفعال ، فإن القدرة الحادثة لا تخلق المتحيزات من أعيان الجواهر والأجسام ، فعبدوا من لم يخلق أعيانهم ، لهذا وبخهم تعالى بقوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فالخلق هنا بمعنى الإيجاد ، ولذلك تمدح به تعالى ، وجعله فرقانا بين من ادعى الألوهية أو ادعيت فيه ، وفيه رد على عبدة الأوثان ، فنفى الخلق عن الخلق ، فلو لم يرد عموم نفي الخلق عن الخلق لم تقم به حجة على من عبد فرعون وأمثاله ممن أمر من المخلوقين أن يعبد من دون الله ، فإن الخلق من خصوص وصف الإله ، فلو وقعت المشاركة في الخلق لما صح أن يتخذها تمدحا ولا دليلا مع الاشتراك في الدلالة ، هذا لا يصح فيعلم قطعا أن الخالق صفة أحدية لله لا تصح لأحد غير الله ، وما جعل الله الخلق دليلا عليه من جملة الأدلة على توحيده إلا لانفراده بالخلق ، فيقول تعالى لمن يدعي الخلق أو ينسب الفعل إلى نفسه (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فلما تمدح بالخلق دل من مضمون الكلام أن لا خالق للأشياء كلها إلا هو ، من أفعال العباد وغيرها ، ولو كانت أفعال العباد خلقا لهم ، لم يكن ذكره للخلق تمدحا خاصا لوقوع الاشتراك ، فتحقق مذهب أهل الحق في أن لا موجد ولا فاعل إلا هو ، فنسبة الأفعال إلى نفس الإنسان ألوهية خفية في نفس كل إنسان ، وهو الشرك الخفي المعفو عنه.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨)

اتبع الحق الخلق الذي هو الإيجاد بقوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فإن أول نعمة عقلتها من ربك إخراجك من العدم إلى الوجود ، وقد عدد هذا المقام عليك من

٤٧٥

جملة نعمه فقال : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فهذه أول نعمة أنعم بها عليك ، لو كلّفك الله شكر هذه النعمة وحدها ، وجعل معك أهل السموات والأرض بعبادتهم مؤيدين لك عمرك الأخروي الذي لا نهاية له ، ما قمت بشكرها ، كيف وقد انضاف إليها نعم كثيرة؟! منها كونه أوجدك متغذيا ناميا ، ولم يجعلك جمادا صلدا ، فكانت القدرة ممكنة لما أوجدتك ولم تك شيئا ، أن تنزلك في أمة الجمادات ، ولكن مقام النبات أعلى ، وأمته أفضل ، فجعلك متغذيا ولم يجعلك جمادا ، وهذه نعمة كبيرة ولا يؤدى شكرها ولا يقدّر قدرها ، ثم زادك الله نعمة على هذه النعمة بأن نقلك من أمة النبات والشجر ، إلى أمة الحيوان ، فجعلك حساسا ، فوجب عليك من الشكر والعبادة ما وجب على الجماد والنبات والحيوان ، فإنك قد جمعت حقائقهم وزدت على كل واحد منهم ، ثم زادك الله تبارك وتعالى ، نعمة أخرى إلى هذه النعم ، فجعلك ناطقا ، وفضلك على الحيوان الحساس خاصة ، فزدت معرفة بما لا يعرفه الحيوان ، فأعطاك بنطقك حقيقة الملك ، وهو الاشتراك في العقل الإلهي ، فوجب عليك ما وجب على الملك من جهة روحك ، فأنت مطالب بالحضور الدائم ، ثم أنعم الله عليك بنعمة الاختصاص ، فجعلك موحدا ولم يجعلك مشركا ، لا ليد تقدمت لك عليه ، فهذا اختصاص ، إذ قد قسّم جنسك إلى موحد وإلى مشرك وجعلك من حزب الموحدين ، ثم زادك إلى هذه النعمة نعمة أخرى ، وهي إيمانك بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يجعلك مكذبا برسوله كما فعل بغيرك من أبناء جنسك حيث كفر برسوله ، فقد حبانا الله بإلايمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خذل غيرنا ، ثم نعمة أخرى لما جعلك مؤمنا بنبي جعلك من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يجعلك من أمة غيره من الأنبياء ، وهنا نعم منها أن ألحق هذه الأمة بدرجة الأنبياء باتباعهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعيسى عليه‌السلام من جملة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو رسول الله وروحه وكلمته ، والنعمة الأخرى أن جعلك شهيدا على سائر الأمم ، وهي مرتبة النبوة ، فإنهم الشهداء على أممهم ، فهذه مواطن تحشر فيها غدا مع النبيين ، ونعمة أخرى لم يعطها أحدا قبلك من الأمم ، فإنك مؤمن بنبيك آخر الأنبياء وبمن تقدم إلى آدم ، ولكل نعمة شكر يخصها وعمل يطابقها ، ثم أنه حفظك من البدعة وميزك في ديوان السنة ، فهذا اختصاص ، ثم أهل السنة قسمهم قسمين : عالم وجاهل ، فجعلك عالما بما تعبدك به من شريعته ولم يجعلك جاهلا بذلك ، فهذه نعمة يجب أيضا شكرها ،

٤٧٦

ثم جعل العالمين على قسمين : طائع وعاصي ، فجعلك من الطائعين ولم يجعلك من العاصين ، فهذه نعمة عظيمة ، فقد غمرتك النعم ، ولا يتسع الليل والنهار لأداء شكر واجبات هذه النعم ، وأنه إن اشتغلنا بواحدة منها ، فغايتنا أن نقطع ضياءنا وظلامنا ببعض ذرة من واحدة ، فعلى هذا يجب علينا الذي يمكننا أن نفعله أن لا يرانا الله وقتا واحدا بطالين ولا متصرفين في مباح إلا حاضرين بقلوبنا على الدوام ، مكفوفي الجوارح عن التصرف المحظور علينا ، مطلوقي الألسنة بالذكر ، وبإظهار العلم والشكر عليه ، والاعتراف بالتقصير دائما ، وتوبيخ النفوس الذي أراده الحق منا ، لا تعديلها وتزكيتها ، وعطايا الحق كلها نعم ، إلا أن النعم في العموم موافقة الغرض وعوارف الحق مننه ونعمه على عباده ، فما أطلعك منها على شيء إلا ليردك ذلك الشيء منك إليه ، فهو دعاء الحق في معروفه ، لما رأى عندك من الغفلة عنه ، فتحبب إليك بالنعم (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٢٢)

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فنؤمن به من حيث ما جاء به الخبر ، لا من حيث الدليل ، فذلك التصديق هو الإيمان.

(لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ

٤٧٧

الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢٩)

اعلم أنه ما تكبر أحد من خلق الله على أمر الله غير الثقلين ، ولا عصى الله أحد من خلق الله سوى الثقلين ، واعلم أن السبب الموجب لتكبر الثقلين دون سائر الموجودات ، أن سائر الموجودات توجه على إيجادهم من الأسماء الإلهية أسماء الجبروت والكبرياء والعظمة والقهر والعزة ، فخرجوا أذلاء تحت هذا القهر الإلهي ، وتعرف إليهم حين أوجدهم بهذه الأسماء ، فلم يتمكن لمن خلق بهذه المثابة أن يرفع رأسه ولا أن يجد في نفسه طعما للكبرياء على أحد من خلق الله ، فكيف على من خلقه؟ وقد أشهده أنه في قبضته وتحت قهره ، وشهدوا كشفا نواصيهم ونواصي كل دابة بيده ، فمن كان حاله في شهوده نظره إلى ربه كيف يتصور منه عزّ وكبرياء على خالقه مع هذا الكشف؟ وأما الثقلان فخلقهم بأسماء اللطف والحنان والرأفة والرحمة والتنزل الإلهي ، فعندما خرجوا لم يروا عظمة ولا عزا ولا كبرياء ، ورأوا نفوسهم مستندة في وجودها إلى رحمة وعطف وتنزل ، ولم يبد الله لهم من جلاله ولا كبريائه ولا عظمته في خروجهم إلى الدنيا شيئا يشغلهم عن نفوسهم ، فلو أشهدهم أن نواصيهم بيد الله شهادة عين ، أو إيمان كشهادة عين ـ كشهادة الأخذ من الظهور ـ ما عصوا الله طرفة عين ، وكانوا مثل سائر المخلوقات يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فلما ظهروا عن هذه الأسماء الرحمانية ، قالوا : يا ربنا لم خلقتنا؟ قال : (لتعبدون) أي لتكونوا أذلاء بين يدي ، فلم يروا صفة قهر ولا جناب عزة تذلهم ، بل نظروا إلى الأسماء التي وجدوا عنها ، فما رأوا اسما إلهيا منها يقتضي أخذهم وعقوبتهم إن عصوا أمره ونهيه وتكبروا على أمره ، فلم يطيعوه وعصوه.

٤٧٨

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) (٣٠)

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) فكل شيء من الله حسن ساء ذلك الشيء أم سر.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) (٣١)

إذا كانت الآخرة ، عاد الحكم فيما تحوي عليه الخزائن التي عند الله إلى العبد الذي كمّل الله سعادته ، فيدخل فيها متحكما ، فيخرج منها ما يشاء بغير حساب ولا قدر معلوم ، بل يحكم بما يختاره في الوقت ، فإنه يعطى التكوين ، فكل ما خطر له تكوينه كوّنه ، فلا يزال خلّاقا دائما ، فلا بد أن الآخرة تطلب حشر الأجساد وظهورها ، ولا بد من إمضاء حكم التكوين فيها ، فإن الأمر فيها على أتم الوجوه وأكملها ، ففي الدنيا في العموم تقول للشيء كن فيكون في التصور والتخيل ، لأن موطن الدنيا ينقص في بعض الأمزجة عن التكوين في العين في الظاهر ، وفي الآخرة تقول ذلك بعينه لما تريد أن يكون كن فيكون في عينه من خارج ، كوجود الأكوان هنا عن كن الإلهية عند أسبابها ، فكانت الآخرة أعظم كمالا من هذا الوجه ، لتعميم الكلمة في الحضرتين الخيال والحس.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣٣)

٤٧٩

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) فإنهم لا يرجعون عند ما يبصرون ، ولا يعقلون عند ما يسمعون ، ولا يصيبون عند ما يتكلمون (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فكانوا هم الظالمين ، فإنهم ظلموا الحقوق أهلها ، فإن لهم قلوبا يعقلون ويفقهون بها ، وإن لهم أعينا يبصرون بها ، وإن لهم آذانا يسمعون بها ، فأنزلوا أنفسهم منزلة الأنعام بل أضل سبيلا.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠)

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) الإرادة هنا التوجه الإلهي بالإيجاد ، فنفى الأثر فيه عن السبب إن كان أوجده عند سبب مخلوق ، ولما توقف حكم الإرادة على حكم العلم قال : (إِذا أَرَدْناهُ) فجاء بظرف الزمان المستقبل في تعليق الإرادة ، والإرادة واحدة العين ، فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها بترجيح ظهوره في شيئية وجوده ،

٤٨٠