رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وليس ينبغي لعاقل أن يدعو إلى أمر حتى يكون من ذلك الأمر على بصيرة ، وهو أن يعلمه رؤية وكشفا بحيث لا يشك فيه ، وما اختصت بهذا المقام رسل الله ، بل هو لهم ولأتباعهم الورثة ، ولا وارث إلا من كمل له الاتباع في القول والعمل والحال الباطن خاصة ، فإن الوارث يجب عليه ستر الحال الظاهر ، فإن إظهاره موقوف على الأمر الإلهي الواجب ، فإنه في الدنيا فرع والأصل البطون ، ولهذا احتجب الله في العموم في الدنيا ، وفي الآخرة يتجلى عامة لعباده ، فإذا تجلى لمن تجلى له على خصوصه كتجليه للجبل ، كذلك ما ظهر من الحال على الرسل من جهة الدلالة على صدقه ليشرّع لهم ، والوارث داع لما قرره هذا الرسول ، وليس بمشرع ، فلا يحتاج إلى ظهور الحال كما احتاج إليه المشرع ، فالوارث يحفظ بقاء الدعوة في الأمة عليها ، وما حظه إلا ذلك ، حتى إن الوارث لو أتى بشرع ـ ولا يأتي به ـ ولكن لو فرضناه ما قبلته منه الأمة ، فلا فائدة لظهور الحال إذا لم يكن القبول كما كان للرسول ، فما أظهر الله عليهم من الأحوال فذلك إلى الله لا عن تعمد ولا قصد من العبد ، وهو المسمى كرامة في الأمة ، فالذي يجهد فيه ولي الله إنما هو فتح ذلك الباب ليكون من الله في أحواله عند نفسه على بصيرة ، لا أنه يظهر بذلك عند خلقه ، فكرامة مثل هذا النوع علمه بالله وما يتعلق به من التفضيل في أسمائه الحسنى وكلماته العليا ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة ، فجعل الله التابع هنا على صورة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نوره وإمداده ، فإن المؤمن إذا أجاب ومشى إلى ربه على الطريقة التي شرع له هذا الرسول فإنه يصل إلى الله ، فيتلقاه الحق تلقي إكرام وهبات ومنح وعطايا ، فصار يدعو إلى الله على بصيرة كما دعا ذلك الرسول ، فكل من أخذ عن النبوة النور ودعا إلى الله على بصيرة فذلك الدعاء والنور الذي يدعو به هو نور الإمداد الإلهي ، لا النور الذي اقتبسه من سراج النبوة ، فينسب إلى الله في ذلك لا إلى الرسول ، فيقال عبد الله ، وهو الداعي إلى الله عن أمر الله بوساطة رسول الله ، بحكم الأصل لا بحكم ما فتح الله به عليه في قلبه من العلوم الإلهية التي هي فتح عين فهمه لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن والأخبار ، لا أن هذا الداعي يأتي بشرع جديد ، وإنما يأتي بفهم جديد في الكتاب العزيز لم يكن غيره يعرف أن ذلك المعنى في ذلك الحرف المتلو أو المنقول ، فللرسل صلوات الله عليهم وسلامه العلم ولنا الفهم وهو علم أيضا ، فالبصيرة هي الدرجة التي تقع فيها المشاركة مع الأنبياء

٤٠١

عليهم‌السلام ، وهي هنا الكشف ، فالمتبع على كشف مثل كشف الرسل ، فإن العلم الصحيح لا يعطيه الفكر ولا ما قررته العقلاء من حيث أفكارهم ، إنما هو ما يقذفه الله في قلب العالم ، وهو نور إلهي يختص به من يشاء من عباده من ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن ، ومن لا كشف له لا علم له ، ولهذا جاءت الرسل والتعريف الإلهي بما تحيله العقول فتضطر إلى التأويل في بعضها لتقبله ، وتضطر إلى التسليم والعجز في أمور لا تقبل التأويل أصلا ، وغايته أن يقول له وجه لا يعلمه إلا الله لا تبلغه عقولنا ، وهذا كله تأنيس للنفس لا علم حتى لا ترد شيئا مما جاءت به النبوة ، هذا حال المؤمن العاقل ، وأما غير المؤمن فلا يقبل شيئا من ذلك ، وقد وردت أخبار كثيرة مما تحيلها العقول في الجناب العالي مما وصف الحق به نفسه في كتابه وعلى لسان رسله مما يجب الإيمان به ، ولا يقبله العقل بدليله على ظاهره إلا إن تأوله بتأويل بعيد ، فإيمانه إنما هو بتأويله لا بالخبر ، ولم يكن له كشف إلهي كما كان للنبي فيعرف مراد الحق في ذلك الخبر ، فوصف نفسه سبحانه بالظرفية الزمانية والمكانية ، ووصفه بذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع الرسل ، وكلهم على لسان واحد في ذلك ، لأنهم يتكلمون عن إلّ واحد ، والعقلاء أصحاب الأفكار اختلفت مقالاتهم في الله تعالى على قدر نظرهم ، فالإله الذي يعبد بالعقل مجردا عن الإيمان كأنه بل هو إله موضوع بحسب ما أعطاه نظر ذلك العقل فاختلفوا ، والرسل عليهم‌السلام ما نقل عنهم اختلاف فيما ينسبونه إلى الله من النعوت ، بل كلهم على لسان واحد في ذلك ، والكتب التي جاؤوا بها كلها تنطق في حق الله بلسان واحد ما اختلف منهم اثنان ، يصدق بعضهم بعضا مع طول الأزمان وعدم الاجتماع ، وما بينهم من الفرق المنازعين لهم ، ما اختل نظامهم ، وكذلك المؤمنون بهم على بصيرة المسلمون المسلّمون الذين لم يدخلوا نفوسهم في تأويل ، فهم أحد رجلين ، إما رجل آمن وسلم وجعل علم ذلك إليه إلى أن مات وهو المقلد ، وإما رجل عمل بما علم من فروع الأحكام ، واعتقد الإيمان بما جاءت به الرسل والكتب ، فكشف الله عن بصيرته وصيره ذا بصيرة في شأنه كما فعل بنبيه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل عنايته ، فكاشف وأبصر ودعا إلى الله عزوجل على بصيرة ، كما قال الله تعالى في حق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخبرا له (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وهؤلاء هم العلماء بالله العارفون ، وإن لم يكونوا رسلا ولا أنبياء ، فهم على بينة من ربهم في علمهم به وبما جاء من عنده ، وكذلك وصف نفسه

٤٠٢

بكثير من صفات المخلوقين في كل خبر صحيح ورد في كتاب أو سنة ، والأخبار أكثر من أن تحصى ، مما لا يقبلها إلا مؤمن بها من غير تأويل ، أو بعض أرباب النظر من المؤمنين بتأويل اضطره إليه إيمانه ، فانظر مرتبة المؤمن ما أعزها ، ومرتبة أهل الكشف ما أعظمها ، حيث ألحقت أصحابها بالرسل والأنبياء عليهم‌السلام فيما خصوا به من العلم الإلهي ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ، وما ورثوا دينارا ولا درهما بل ورثوا العلم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة] وهذا العلم المأخوذ من الكشف إنما هو على صورة الإيمان سواء ، فكل ما يقبله الإيمان عليه يكون كشف أهل الله ، فإنه حق كله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء ما ورثوا دينارا ولا درهما ، ورثوا العلم] فالوارث الكامل من انقطع إلى الله بشريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن فتح الله له في قلبه في فهم ما أنزل الله عزوجل على نبيه ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتجل إلهي ، فرزق الفهم في كتابه عزوجل وجعله من المحدثين في هذه الأمة ، فقام له هذا مقام الملك الذي جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رده إلى الخلق يرشدهم إلى صلاح قلوبهم مع الله ، ويفرق لهم بين الخواطر المحمودة والمذمومة ، ويبين لهم مقاصد الشرع وما ثبت من الأحكام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما لم يثبت ، بإعلام من الله ، آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما ، فيرقي هممهم إلى طلب الأنفس بالمقام الأقدس ، ويرغبهم فيما عند الله كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغ رسالته ، غير أن الوارث لا يحدث شريعة ولا ينسخ حكما مقررا ، لكن يبين ، فإنه على بينة من ربه وبصيرة في علمه ويتلوه شاهد منه بصدق اتباعه ، وهو الذي شركه الله تعالى مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصفة التي يدعو بها إلى الله ، فأخبر وقال (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وهم الورثة ، يدعون إلى الله على بصيرة ، وكذلك شركهم مع الأنبياء عليهم‌السلام في المحنة وما ابتلوا به فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وهم الورثة ، فشرك بينهم في البلاء كما شرك بينهم في الدعوة إلى الله ، فمتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخطىء ، فإنّه يقفو أثره ، وما أفرد نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ذكر أتباعه معه ، فإنهم لا يكونون أتباعه إلا حتى يكونوا على قدمه ، فيشهدون ما يشهد ويرون ما يرى ، فقوله (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) هم أهل المجاهدات الذين اتبعوه في أفعاله أسوة واقتداء ، فأوصلهم ذلك الاتّباع إلى البصيرة ، وهو الكشف ، فكان ما أتوا به علما لهم ، فدعوا

٤٠٣

إلى الله في أحكامه على بصيرة ، وغاية المجتهدين من علماء الرسوم ، الذين لم يتبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أفعاله ولا اقتدوا به ، الحكم بغلبة الظن ، فكان ما أتوا به علما في نفسه ظنا لهم ، فدعوا إلى الله على غير بصيرة ، والبصيرة التي يكون عليها الداعي والبينة إنما ذلك فيما يدعو إليه ، وليس إلا الطريق إلى السعادة ، لا إلى العلم بالله ، فإنه إذا دعا إلى العلم أيضا إنما يدعو إلى الحيرة على بصيرة أنه ما ثم إلا الحيرة في الله ، لأن الأمر عظيم والمدعو إليه لا يقبل الحصر ولا ينضبط ، فليس في اليد منه شيء ، فما هو إلا ما تراه في كل تجل ، والحق لا يتجلى في صورة مرتين ، فهؤلاء الأتباع هم العلماء بالله من أهل الله الذين أقامهم الحق مقام الرسل في الدعوة إلى الله بلسان حق عن نبوة مطلقة ، اعتنى بهم في أن وصفهم بها لا نبوة الشرائع ، بل نبوة حفظ لأمر مشروع على بصيرة من الحافظ لا عن تقليد ، (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

اعلم أن جميع هذا القصص إنما هو قناطر وجسور موضوعة نعبر عليها إلى ذواتنا وأحوالنا المختصة بنا ، فإن فيها منفعتنا ، إذ كان الله نصبها لنا معبرا ، لذلك قال تعالى (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فإن اللب يحجب بصورة القشر ، فلا يعلم اللب إلا من علم أن ثم لبا ، ولو لا ذلك ما كسر القشر ، فيكون هذا القصص يذكرك بما فيك (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

٤٠٤

(١٣) سورة الرّعد مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١)

أشار تعالى بقوله (ذلِكَ الْكِتابُ) في أول البقرة أولا لوجود الجمع أصلا قبل الفرق ثم أوجد الفرق فإن الكتاب للجمع والآيات للتفرقة.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢)

الوجه الأول ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يدل ذلك على أن هناك عمدا قائما عليه اعتماد السبع الشدائد لكنه عن البصر محجوب فهو ملحق بالغيوب ، فقال من أوجد عينها ، فأقامها بغير عمد ترونها ، فما نفى العمد ، لكن ما يراه كل أحد ، فلا بد لها من ماسك ، وما هو إلا المالك ، فمن أزالها بذهابه ، فهو عمدها المستور في إهابه ، وليس إلا الإنسان الكامل ، وهو الأمر الشامل ، الذي إذا قال : الله ، ناب بذلك القول عن جميع الأفواه ، فهو المنظور إليه ، والمعول عليه ، فأقام سبحانه الصورة الإنسانية بالحركة المستقيمة صورة العمد الذي للخيمة ، فجعله لقبة هذه السموات ، فهو سبحانه يمسكها أن تزول بسببه ، فعبرنا عنه بالعمد ، فإذا فنيت هذه الصورة ولم يبق منها على وجه الأرض أحد يتنفس انشقت السماء فهي يومئذ واهية لأن العمد زال وهو الإنسان ، ولما انتقلت العمارة إلى الدار

٤٠٥

الآخرة بانتقال الإنسان إليها وخربت الدنيا بانتقاله عنها ، علمنا قطعا أن الإنسان هو العين المقصودة لله من العالم ، وأنه الخليفة حقا ، وأنه محل ظهور الأسماء الإلهية ، فالإنسان الكامل عمد السماء الذي يمسك الله بوجوده السماء أن تقع على الأرض ، فإذا زال الإنسان وانتقل إلى برزخ دار الحيوان مارت قبة السماء وانشقت وهوت ، فكانت شعلة نار سيال كالدهان ، فالعمد لقبة السماء المعنى الماسك ، فإن لم ترد أن يكون الإنسان فاجعله قدرة المالك. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) فهو يثبت إلى وقت معين ثم يزول حكمه لا عينه ، فإذا بلغ جريانه الأجل زال جريانه وإن بقي عينه ، ولما كان الاسم الرب من خصائصه الإصلاح ـ فقد حد الاسم الرب الحدود ووضع المراسم لإصلاح المملكة وفعل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان الممكنات ـ اتخذ وزيرين يعينانه على ما أمر به ، الوزير الواحد الاسم المدبر ، والوزير الآخر المفصل ، فكان أصل وضع الشريعة في العالم وسببها طلب صلاح العالم ومعرفة ما جهل من الله مما لا يقبله العقل ، أي لا يستقل بإدراكه العقل من حيث نظره ، فنزلت بهذه المعرفة الكتب المنزلة ونطقت بها ألسنة الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، لذلك قال تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) عامة (يُفَصِّلُ الْآياتِ) بالكلام (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) ـ الوجه الثاني ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) اعلم أن حكم المدبر في الأمور إحكامها في موضع الجمع والشهود وإعطاؤها ما تستحقه ، وهذا كله قبل وجودها في أعيانها وهي موجودة له ، فإذا أحكمها كما ذكرناه أخذها المفصل وهذا الاسم مخصوص بالمراتب ، فأنزل كل كون وأمر في مرتبته ومنزلته ، فالمعنى المراد من قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) هو التقدير والإيجاد فالتدبير للتقدير ، والتفصيل للإيجاد من فصلت الشيء عن الشيء إذا قطعته منه وفصلت بينه وبينه حتى تميز ، فإن كان الفصل عن تقدير فهو على صورته وشكله ، وإن كان عن غير تقدير فقد لا يكون على صورته وإن أشبهه في أمر ما ـ الوجه الثالث ـ قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يعني أن الحق على الحقيقة هو مدبر العالم ، وما وصف الحق نفسه بأنه يدبر الأمر إلا أن يعرفنا أنه ما عمل شيئا إلا ما تقتضيه حكمة الوجود وأنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها ، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يعني الدلالات على توحيده ، فيعطي كل خلق دلالة تخصّه على توحيد موجده ، ويفصل الآيات أي يقسمها على خلقه

٤٠٦

بحسب ما فطرهم الله تعالى عليه ، فإن الآيات معتادة وغير معتادة ، فالخواص العالم كله عندهم آيات بينات ، والعامة ليست الآيات عندهم إلا التي هي عندهم غير معتادة ، فتلك تنبههم إلى تعظيم الله ، والله قد جعل الآيات المعتادة لأصناف مختلفين من عباده فمنها للعقلاء وآيات للموقنين وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي النهي وآيات للسامعين ، وآيات للعالمين وآيات للعالمين وآيات للمؤمنين ، وآيات للمتفكرين وآيات لأهل الذكر ، فهؤلاء كلهم أصناف نعتهم الله بنعوت مختلفة وآيات مختلفة ذكرها لنا في القرآن إذا بحثت عليها وتدبرتها علمت أنها آيات ودلالات على أمور مختلفة ترجع إلى عين واحدة ، غفل عن ذلك أكثر الناس ، ولهذا عدد الأصناف ، فيتلوها جميع الناس ولا يتنبه لها إلا الأصناف الذين ذكرهم في كل آية خاصة ، فكأن تلك الآيات في حق أولئك أنزلت ، وفي حق غيرهم لمجرد التلاوة ليؤجروا عليها (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي انتقالكم من وجود الدنيا إلى وجود الآخرة أقرب في العلم إن كنتم توقنون من انتقالكم من حال العدم إلى حال الوجود ، وتوقنون أي تثبتون على موازين الحكم.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣)

وهو الاعتبار والنظر المأمور به شرعا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما أخفاه من غامض حكمته في أحكامه ، فلو لا ما نصب الله الأدلة ما شرع للعقلاء التفكر ولا طالبهم ، وكذلك في معرفتهم به سبحانه ، فإذا تعدى بالفكر حدّه وفكر الإنسان فيما لا ينبغي له أن يفكر فيه عذب يوم القيامة بنار فكره ، ثم إنّ الإنسان يشغله الفكر فيما لم يشرع له التفكر فيه عن شكر المنعم على النعم التي أنعم الله عليه بها ، فيكون صاحب عذاب ، عذاب الفكر فيما لا ينبغي وعذاب عدم الشكر على ما أنعم به عليه ، فإن الله سبحانه قد شاء أن يبرز العالم في الشفعية لينفرد سبحانه بالوترية ، فيصح اسم الواحد الفرد ، ويتميز السيد من العبد ، فقال (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإذا أخذت في الفكر والاعتبار في هذه الآية رأيت أن الإنسان من جملة الثمرات ، ينمو كنمائها ويتغذى كغذائها ، ثم ينتهي كنهايتها ، ويؤخذ منه

٤٠٧

الفوائد كالأخذ منها ، ثم يأخذ في النقص كنقصانها ، ثم يهرم كهرمها ، ثم يموت كموتها ، ثم تراه يولد كتوليدها ، فيؤخذ بذر منها فيزرع فيحدث فيه الشباب كذلك حتى يصير إلى مثل حالها ، فقد يؤخذ منه كما أخذ منها وقد يترك فينقطع النسل من تلك الثمرة المعينة ، وكذلك الإنسان في التوالد والتناسل على ذلك المهيع ، فإن قلت : هذه شجرة ، فأين أختها التي تصح بها شفعيتها وإطلاق هذه الآية عليهما فكرا واعتبارا؟ فإذا تتبعت وجود الحكمة في الإنسان وتفضيله على سائر الحيوان وتقصيت أسراره وحكمه ولطائفه ، رأيتها بأعيانها في العالم المحيط الأكبر قدما بقدم ، حتى تجده كأنه هو ، فتعلم أن الثمرة الواحدة العالم الكبير المحيط ، والثمرة الأخرى الإنسان الذي هو العالم الصغير ، وعلى ذلك نبه الكتاب العزيز بقوله (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وبقوله (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فانظر نوّر الله بصيرتك إلى ما تفرق في العالم الأكبر تجده في هذا العالم الإنساني ، من ملك وملكوت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) اعلم أن الله تعالى ابتلى الإنسان الذي جعله خليفة في الأرض ببلاء ما ابتلى به أحدا من خلقه ، إما لأن يسعده أو يشقيه على حسب ما يوفقه إلى استعماله ، فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر ، وكلف العقل معرفته سبحانه ليرجع إليه في اقتناء العلوم لا إلى غيره ، ففهم العقل نقيض ما أراد به الحق بقوله تعالى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فاستند إلى الفكر وجعله إماما يقتدى به ، وغفل عن الحق في مراده بالتفكر أنه خاطبه أن يتفكر فيرى أن علمه بالله لا سبيل إليه إلا بتعريف الله ، فيكشف له عن الأمر على ما هو عليه ، فلم يفهم كل عقل هذا الفهم إلا عقول خاصة الله من أنبيائه وأوليائه ، يا ليت شعري هل بأفكارهم قالوا بلى حين أشهدهم على أنفسهم في قبضة الذرية من ظهر آدم؟ لا والله ، بل عناية إشهادهم إياه ذلك عند أخذه إياهم عنهم من ظهورهم ، ولما رجعوا إلى الأخذ عن قواهم المفكرة في معرفة الله لم يجتمعوا قط على حكم واحد في معرفة الله ، وذهبت كل طائفة إلى مذهب ، وكثرت القالة في الجناب الإلهي الأحمى ، واجترؤوا غاية الجرأة على الله ، وهذا كله من الابتلاء الذي ذكرناه من خلقه الفكر في الإنسان ، فالخاصة افتقروا إليه فيما كلفهم من الإيمان به في معرفته ، وعلموا أن المراد منهم رجوعهم إليه في ذلك وفي كل حال ، فمنهم القائل ، سبحان من لم يجعل سبيلا إلى معرفته إلّا العجز عن معرفته ، ومنهم من قال : العجز عن درك الإدراك

٤٠٨

إدراك ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لا أحصي ثناء عليك] وقال تعالى (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فرجعوا إلى الله في المعرفة به وتركوا الفكر في مرتبته ووفوه حقه ، لم ينقلوه إلى ما لا ينبغي له التفكر فيه ، وقد ورد النهي عن التفكر في ذات الله ، فوهبهم الله من معرفته ما وهبهم ، وأشهدهم من مخلوقاته ومظاهره ما أشهدهم ، فعلموا أنه ما يستحيل عقلا من طريق الفكر لا يستحيل نسبة إلهية ، فالفكر لا يتعدى النظر في الإله من كونه إلها ، وفيما ينبغي أن يستحقه من له صفة الألوهية من التعظيم والإجلال والافتقار إليه بالذات ، وهذا كله يوجد حكمه قبل وجود الشرائع ، ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا ، فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ، ليكون عبادة يؤجر عليها ، وليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا ، فإن الشرع قد منع من التفكر في ذات الله ، فالفكر يصيب العاقل به ويخطىء ، ولكن خطأه أكثر من إصابته ، لأن له حدا يقف عنده ، فمتى وقف عنده أصاب ولا بد ، ومتى جاوز حدّه إلى ما هو لحكم قوة أخرى يعطاها بعض العبيد قد يخطىء ويصيب ، عصمنا الله وإياكم من غلطات الأفكار.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) والأرض تقلب ما يزرع فيها إلى طبيعتها ، وتختلف الطعوم والروائح ، فإن الثمرة الطيّبة والخبيثة من خبث مزاج البقعة أو طيبها ، أو من خبث البذرة أو طيبها (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) مع كونها تسقى بماء واحد ، وما ثمّ آية أحق بما هو الوجود عليه من التفاضل من هذه الآية حيث قال (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) فظهر الاختلاف عن الواحد في الطعم بطريق المفاضلة ، والواقع من هذا كثير في القرآن من تفضيل كل جنس بعضه على بعض ، ولما كان الماء واحدا ، والماء سبب في ظهور الروائح المختلفة والطعوم المختلفة ، قال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) من العقل ، والعقل القيد ، فقيدهم من

٤٠٩

العقال وهو التقييد ، وما سميت العقول عقولا إلا لقصورها على من عقلته من العقال ، والعاقل يهوله المعتاد وغير المعتاد من الآيات ، ولذلك قال في المعتاد (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) والسعيد من عقله الشرع لا من عقله غير الشرع.

إشارة ـ اللذات في المطاعم ، والمطاعم في الثمر ، والثمر في الأغصان ، والأغصان تتفرع من الأصل ، والأصل واحد ، ولو لا الأرض ما ثبت الأصل ، ولو لا الأصل ما ثبت الفرع ، ولو لا الفرع ما كان الثمر ، ولو لا الثمر ما وجد الأكل ، ولو لا الأكل ما وجدت اللذة ، فالكل متعلق بالأرض ، والأرض مفتقرة إلى الماء ، والماء مفتقر إلى السحاب ، والسحاب مفتقر إلى الريح ، والريح يسخرها الأمر ، والأمر من الحضرة الربانية يصدر ، ومن هنا ارق وانظر وتنزه ولا تنطق ـ إشارة ـ يسقى بماء واحد وفضل بعضها على بعض في الشاهد!! لأن للمزاج أثرا والغذاء واحد ، وتستمد منه القوى على اختلافها فيظهر في كل موطن بما تقتضيه حقيقة ذلك الموطن ، وكل إناء بما فيه ينضح ، انظر إلى بني آدم!!

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧)

(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي رسول من عند الله مبلغ عن الله ، لا هاد بمعنى موفّق ، فهو مبيّن فله الإبانة خاصة.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨)

٤١٠

إن الله تعالى وكّل ملائكة بالأرحام عند مساقط النطف ، فيقلبون النطف من حال إلى حال كما قد شرع لهم الله ، وقدر ذلك التنقل بالأشهر ، وهو قوله تعالى (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي ما تنقص عن العدد المعتاد (وَما تَزْدادُ) عن العدد المعتاد (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) فهو سبحانه يعلم شخصية كل شخص ، وشخصية فعله وحركاته وسكونه ، وربط ذلك بالحركات الكوكبية العلوية ، فنسب من نسب الآثار لها ، وجعلها الله عندها لا لها ، فلا يعلم ما في الأرحام ولا ما تخلّق مما لم يتخلّق من النطف على قدر معلوم إلا الله تعالى ، ومن أعلمه الله تعالى من الملائكة الموكلة بالأرحام (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) فالأمور كلها بيديه ، ومع هذا لو ارتفعت الحاجات ، وزالت الفاقات وانعدمت الشهوات ، وذهبت الأغراض والإرادات ، لبطلت الحكمة ، وتراكمت الظلمة ، وطمست الأنوار وتهتكت الأستار ، ولاحت الأسرار ، وزال كل شيء عنده بمقدار ، فذهب الاعتبار وهذا لا يرتفع ولا يندفع وبقي الحكم للأقدار ، فكل شيء عنده بمقدار.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩)

(الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) الذي لا يحدّه الحد ، ولا يعرفه السيد والعبد ، تقدست الألوهة أن تدرك ، وفي منزلها أن تشرك ، فهو الكبير عن الاتصاف بمثل ما هو عليه الخلق ، وهو تعالى كبير لنفسه (الْمُتَعالِ) على من أراد علوا في الأرض وادعى ما ليس له بحق.

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١)

هؤلاء المعقبات ملائكة تسخير تكون مع العبد بحسب ما يكون العبد عليه ، فهم تبع له ، ويحفظونه من أمر الله ، أي من حيث أن الله أمرهم بحفظه ، أي من أجل أن أمرهم

٤١١

الله ، فهو معصوم محفوظ ، وقد يحفظونه من الأمر النازل به فيدفعونه ، كما فعل بالزاني في حين زناه ، أخرج عنه الإيمان حتى صار عليه كالظلّة ، يحفظه من أمر الله النازل به حيث تعرض بالمخالفة لنزول البلاء ، فهؤلاء المعقبات يتبعون العبد حيث تصرف ، فهو مطلق التصريف في إرادته ، وإن حجر عليه بعض التصرف ، فإنه يتصرف فيما حجر عليه ، ولا يستطيع الملك منعه من ذلك لأمرين : الواحد لكون الحق قد ذهب بسمع هذا العبد عن قوله وببصره عن شهوده ، والأمر الآخر لكون الملك الحافظ الموكل به لا يمنعه لشهوده الحق معه في تصرفه الذي أمره بحفظه ، فهؤلاء المعقبات يحفظون العبد في تصرفه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) وهذا لمناسبة التحويل ، فيطلب العباد التحويل بالتحويل ، ولسان الأفعال أفصح من لسان الأقوال ، وإلى هذه الآية يشار بتحويل الرداء في صلاة الاستسقاء ، إشارة إلى تحويل الحال الذي أخرج العباد من الجدب إلى الخصب ، ومن حال شظف العيش إلى رغده ، فإنّ تحول أهل المصر في خروجهم إلى الاستسقاء إنما هو تحول من حال البطر والأشر وكفران النعم إلى حال التوبة والافتقار وإظهار الفاقة والمسكنة ، فطلبوا التحويل بالتحويل ، فإنهم القائلون بهذا الفعل ، أي ربنا إنا هدنا إليك ورجعنا عما كنا عليه من مخالفتك ، فإن التنعم بالنعم وما كنا فيه من الخصب على جهة البطر أوجب لنا الجدب والقحط ، ونرجو بكرمك أن توجب لنا بالافتقار والذلة والمسكنة والخشوع الخصب (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) الوالي هو الذي يلي الأمور بنفسه ، فإن وليها غيره بأمره فليس بوال ولا إمام ، وإنّما الوالي والإمام هو المنصوب للولاية ، وإنما سمي واليا لأنه يوالي الأمر من غير إهمال لأمر ما مما له عليه ولاية ، وإن لم يفعل فليس بوال ، والوالي لا يكون أبدا إلا في الخير ، لا بد من ذلك ، فإنه موجد على الدوام ، فلا تراه أبدا إلا في فضل وإنعام وإقامة حد لتطهير ، والتطهير خير ، فإن الوالي على الحقيقة هو الله.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣)

٤١٢

الملك المسمى بالرعد مخلوق من الهواء ، كما خلقنا نحن من الماء ، وذلك الصوت المسمى عندنا بالرعد تسبيح ذلك الملك ، وفي ذلك الوقت يوجده الله ، فعينه نفس صوته ، ويذهب كما يذهب البرق وذوات الأذناب (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) المحال الشدة والقوة.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥)

السجود من كل ساجد مشاهدة أصله الذي غاب عنه حين كان فرعا عنه ، فلما اشتغل بفرعيته عن أصليته قيل له : اطلب ما غاب عنك ، وهو أصلك الذي عنه صدرت ، فسجد الجسم إلى التربة التي هي أصله ، وسجد الروح إلى الروح الكل ، وسجد السر إلى ربه الذي به نال المرتبة ، والأصول كلها غيب ، ألا تراها قد ظهرت في الشجر ، أصولها غيب ، كذلك الحق أصل وجود الأشياء ، وهو غيب لها ، والسجود تحية الملوك لما كان السوقة دون الملك ، فالملك له العلو والعظمة ، فإذا دخل عليه من دونه سجد له ، أي منزلتنا منك منزلة السفل من العلو ، فإنهم نظروا إليه من حيث مكانته ورتبته ، ومن سجد فقد تطأطأ ، والتطأطؤ لا يكون إلا عن رفعة ، والرفعة في حق كل ما سوى الله خروج عن أصله ، فقيل له : اسجد ، أي تطأطأ عن رفعتك المتوهمة ، واخضع من شموخك ، بأن تنظر إلى أصلك فتعرف حقيقتك ، فإنك ما تعاليت حتى غاب عنك أصلك ، ومن عرف أصله عرف عينه أي نفسه ، ومن عرف نفسه عرف ربه ، ومن عرف نفسه لم يرفع رأسه ، فالسجود قربة تعريف وتنزيه بما يستحقه الإله من العلو والرفعة عن صفات المحدثات ، فأخبر تعالى بقوله (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ) وهم الأعلون ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أطت السماء وحق لها أن تئطّ ، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد لله] (وَالْأَرْضِ) أي ومن في الأرض ،

٤١٣

وهم الأسفلون عالم الأجساد ، الذين قاموا بالنشأة العنصرية (طَوْعاً وَكَرْهاً) ويدخل في قوله تعالى (كَرْهاً) المنافقون فإنهم سجدوا كرها ، وآمنوا كرها ، لظهور أهل الإيمان بالسيف عليهم (وَظِلالُهُمْ) ـ الوجه الأول في الظلال ـ الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى هي للأعيان التي يتضمنها برزخ الممكن ، أي حضرة الإمكان بمنزلة الظلالات للأجسام ، بل هي الظلالات الحقيقية ، وهي التي وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود أعيانها ، فما زالت تلك الأعيان ساجدة له قبل وجودها ، فلما وجدت ظلالها وجدت ساجدة لله تعالى لسجود أعيانها التي وجدت عنها ، وظل الأشخاص أشكالها ، فهي أمثالها ، وهي ساجدة بسجود أشخاصها والسجود لا يكون إلّا مع الشهود والمعرفة ، لا غير ذلك ـ الوجه الثاني ـ من أسرار العالم أنه ما من شيء يحدث إلا وله ظل يسجد لله ليقوم بعبادة ربه على كل حال ، سواء كان ذلك الأمر الحادث مطيعا أو عاصيا ، فإن كان من أهل الموافقة كان هو وظله على السواء ، وإن كان مخالفا ناب ظله منابه في الطاعة لله ، والظلالات أبدا تابعة للصورة المنبعثة عنها حسا ومعنى ، فالحس قاصر ، لا يقوى قوة الظل المعنوي للصورة المعنوية ، لأنه يستدعي نورا مقيدا ، لما في الحس من التقييد والضيق وعدم الاتساع ـ الوجه الثالث ـ ظلال الأرواح أجسادها ، فالأجساد ظلال الأرواح ، فإنها لا تتحرك إلا بتحريك الأرواح إياها تحريكا ذاتيا ، وأظهر الله الظلال عن أشخاصها بالأنوار المحصورة ، ضرب مثال لأنوار العقائد المحصورة ، فإله كل معتقد محصور في دليله ، فأراد الحق منك أن تكون معه كظلك معك من عدم الاعتراض عليه فيما يجريه عليك ، والتسليم والتفويض إليه فيما تصرف فيك به ، وينبهك بذلك أن حركتك عين تحريكه ، وأن سكونك كذلك ، ما الظل يحرك الشخص ، كذلك فلتكن مع الله ، فإن الأمر كما شاهدته ، فهو المؤثر فيك ، لذلك سجدت الظلال لمشاهدتها من خرجت عنه ، وهي الأشخاص ، يتستر ظل الشخص عن النور بأصله الذي انبعث عنه لئلا يفنيه النور ، فلم يكن له بقاء إلا بوجود الأصل ، فلا بقاء للعالم إلا بالله ، فأخبر تعالى عمّن ذكر أنهم يسجدون (طَوْعاً) للأرواح من حيث علمهم ومقامهم ، فسجدت الملائكة لمرتبة العلم فكان سجودها (لا عِلْمَ لَنا) وللأجسام من حيث ذواتهم وأعيانهم (وَكَرْهاً) في الأرواح من حيث ذواتهم ، وفي الأجسام من حيث رياستهم وتقدمهم على أبناء جنسهم ، ولما كان هذا السجود سجود إخبار ، تعيّن على العبد أن يصدّق

٤١٤

الله في خبره عمن ذكر ، فإنه من أهل الأرض بجسده ومن أهل السموات بعقله ، فيسجد لربه طوعا وكرها ، من تقييده بجهة خاصة لا يقتضيها علمه ، وإن كان ساجدا في نفس الأمر سجودا ذاتيا وإن لم يشعر بذلك ، فيوقعها عبادة ، فإن ذلك أنجى له. وذكر (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) لامتداد الظلال في هذه الأوقات ، فجعل امتدادها سجودا ، فهي في الغدو تتقلص رجوعا إلى أصلها الذي منه انبعثت ، وفي الآصال تمتد وتطول بالزيادات ، والغدو والآصال من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ، فأخرج حكم السجود في هذه الأوقات عن حكم النافلة ، وجعل حكمه حكم الفرائض ، أو المقضي من النوافل ، فتعيّن على التالي في هذه الآية السجود ، فيجازى من باب من صدّق ربه تعالى في خبره ، فهي سجدة تصديق بتحقيق ـ نكتة ـ أنفت الظلال من السجود للشمس لما هي عليه من شرف النفس ، فاستدبرتها في هذه الأوقات ، وامتدت ساجدة لمن بيده ملكوت الأرض والسموات ، حين سجد لها من يزعم أنه من أهل التمكين ، وتعبدت من يدعي العقل الرصين ، ألا ترى تبعية ظلال الأشخاص لها ، ما أحسنها وما أكملها ، ولقد أخبر سبحانه عن الظلال أنها تسجد له بالغدو والآصال ، فمن أولى بهذه الصفة في علمك؟ أنت أم الظلال التي هي جماد في زعمك؟! هيهات ، لشغلك بالترهات.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

كما لا تستوي الظلمات ولا النور ، كذلك لا يستوي الأعمى وهو الذي لا يفهم فيعلم ولا البصير الذي يفهم فيعلم (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فما في الوجود إلا الله ونحن ، وإن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به ، ومن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم ، لأن العالم من حيث ذاته عدم ،

٤١٥

ولا يكتسب الوجود إلا من كونه قابلا ، وذلك لإمكانه واقتدار الحق المخصص المرجّح وجوده على عدمه ، فلو زال القبول من الممكن لكان كالمحال لا يقبل الإيجاد ، وقد اشترك المحال والممكن قبل الترجيح بالوجود في العدم ، كما أنه مع قبوله لو لم يكن اقتدار الحق ما وجد عين هذا المعدوم الذي هو الممكن ، فلم تظهر الأعيان المعدومة للوجود إلا بكونها قابلة ، فإذا اطلعت على حقيقتك وجدت نفسك عبدا محضا عاجزا ميتا ضعيفا عدما لا وجود لك ، وأول اسم تلبسه الوجود ، فتظهر موجودا لنفسك حتى تقبل جميع ما يمكن أن يقبله الموجود من حيث ما هو موجود ، فتقبل جميع ما يخلع عليك الحق من الأسماء الإلهية ، فتتصف عند ذلك بالحي والقادر والعليم والمريد والسميع والبصير والمتكلم والشكور والرحيم والخالق والمصور وجميع الأسماء ، ومع وجود هذه الصفات لا يزول عن الإنسان حقيقة كونه عبدا إنسانا مع وجود هذه الأسماء الإلهية فيه (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الواحد من حيث ألوهته ، فلا إله إلا هو (الْقَهَّارُ) من نازعه من عباده بجهالة ولم يتب.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) فجعله كالباطل كما قال (وَزَهَقَ الْباطِلُ) (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ) أي يثبت (فِي الْأَرْضِ) ضربه مثلا للحق (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) فالأمثال كلها للاعتبار ليست مرادة لأنفسها ، وإنما هي مرادات لما رمزت له ، ليعلم منها ما ضربت له وما نصبت من أجله ، وهذا المثل ضربه الحق للقلوب ، مثلها بالأودية تسيل بقدرها في نزول الماء ، ليقرب تصورها على من لا يتصور المعاني من غير ضرب مثل ، فالعالم كله بما فيه ضرب مثل ليعلم أنه هو ، فجعله دليلا عليه وأمرنا بالنظر فيه ـ إشارة ـ الوادي محل التكليم والمناجاة حيث وقع لموسى عليه‌السلام ما وقع ، وما سالت به الأودية

٤١٦

إشارة إلى المعارف الإلهية القدسية الموسوية ، فالوادي مسيل المعارف في قلوب العباد من حيث هم عباد.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠)

وهم الذين لا يغدرون إذا عهدوا ، فلا ينقضون عهدا مع الله كان ما كان ، من قليل الخير وكثيره ، ولا لرخصة تظهر تسقط الإثم ، فيوفي العهد ولا ينقضه تماما للمقام الأعلى وكمالا ، فإن النفس إذا تعودت نقض العهد واستحلته لا يجيء منها شيء أبدا ، ومن جملة ما سأل قيصر ملك الروم عنه أبا سفيان بن حرب حين سأله عن صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يغدر؟ فالوفاء من شيم خاصة الله ، فمن أتى في أموره التي كلفه الله أن يأتي بها على التمام ، وكثر ذلك في حالاته كلها ، فهو وفّي ، وقد وفّى ، يقال : وفى الشيء وفيّا ، على فعول بضم فاء الفعل ، إذا تم وكثر ، وأوفى على الشيء إذا أشرف.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٢١)

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يعني من صلة الأرحام ، وأن يصلوا من قطعهم من المؤمنين بما أمكنهم من السلام عليهم فما فوقه من الإحسان ، ولا يؤاخذ بالجريمة التي له الصفح عنها والتغافل ، ولا يقطعون أحدا من خلق الله إلا من أمرهم الحق بقطعه فيقطعونه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [الرحم شجنة من الرحمن] أي هذه اللفظة أخذت من الاسم الرحمن ، فمن وصلها وصله الله ، ومن قطعها قطعه الله ، وقطعه إياها هو قطع الله ، وقد

٤١٧

ورد في الخبر [لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا] فنهوا عن التقاطع ، فالواصلون ما أمر الله به أن يوصل ذلك عين وصلتهم بالله تعالى ، فأثنى عليهم.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٢)

ولنا في الصبر والرضا :

إن التحرك عن ضجر

سخط على حكم القدر

الساكنون لحكمنا

قوم أعزاء صبر

فهمو لنا وأنا لهم

وهم المراد من البشر

لا تركنن لغيرنا

واصبر تعش مع من صبر

إني لكل مسلّم

عرف الحقيقة فاعتبر

في كل ما يجري عليه

من المكاره والضرر

قل للذين تحركوا

من حكمنا أين المفر؟

ما ثمّ إلا حكمنا

عند الإقامة والسفر

فاربح قعودك تسترح

فتكون من أهل الظفر

فالله ليس بغائب

وهو الكفيل لمن نظر

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢٣)

الجنات الثمانية أعلاها جنة عدن ، وهي قصبة الجنة وقلعتها ، وحضرة الملك وخواصه ، لا تدخلها العامة إلا بحكم الزيارة ، فيها الكثيب الذي يكون اجتماع الناس فيه لرؤية الحق تعالى ، وهي أعلى الجنة في الجنات ، وهي في الجنات بمنزلة دار الملك ، يدور عليها ثمانية أسوار ، بين كل سورين جنة ، فالتي تلي جنة عدن إنما هي جنة الفردوس ، وهي أوسط

٤١٨

الجنة التي دون جنة عدن وأفضلها ، ثم جنة الخلد ، ثم جنة النعيم ، ثم جنة المأوى ، ثم دار السلام ، ثم دار المقامة ، وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤)

هذا الصنف المذكور هنا هم الصابرون أهل البلاء من البشر ، وأما الملائكة التي تدخل على أصحاب النعيم الشاكرين فلم يجر لهم ذكر ، مع أنه لا بد من دخول الملائكة عليهم من كل باب ، ومن رأى أن النعم التي أنعم الله بها على عباده في الدنيا ليست بخالصة من البلاء لما وجه عليهم من التكليف بالشكر عليها ، وهو أعظم البلاء ، إذ كانت النعم أشد في الحجاب عن الله من الرزايا ، فدخل أهل النعيم على هذا في قول الملائكة (بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي حصلتم في دار نعيمها غير مشوب بتكليف ولا طلب حق ، فلذلك لم يجر ذكر لأحوال الملائكة مع الشاكرين ، واقتصروا على ما جاء به الحق من التعريف وهو الصحيح ، فإن الدار تعطي هذا ، وجميع من في الدار الدنيا من مبتلى ومنعم عليه له حال الصبر ، فالصبر أعم من الشكر ، والبلاء أعم من النعم في هذه الدار.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ) (٢٦)

يختلف البسط لاختلاف المحّال والأحوال ، فأما في محل الدنيا فلو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، فأنزل بقدر ما يشاء ، وأطلق في الجنة البسط ، لكونها ليست بمحل تعنّ ولا تعدّ ، فإن الله قد نزع الغل من صدور أهلها.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ

٤١٩

يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨)

ـ الوجه الأول ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) الذي ذكرها به (أَلا بِذِكْرِ اللهِ) الذي ذكرها به ، إذا كانت مؤمنة (تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) في تقلبها فتسكن إلى التقليب مع الأنفاس ، وتعلم أن الثبات على حال واحدة لا يصح ، فهو كل يوم في شأن حيث كان ، فما زال الأمر مذ كان من حال إلى حال ، والقلب له عين تبصر ، ومن أبصر أمرا فقد علمه ، وإذا علمه سكن إليه ، فأبصر التقليب دائما ، فعلمه دائما ، فاطمأن به وسكن إليه ، فهو في كل نفس ينظر إلى آثار ربه في قلبه ـ فيما يقيمه وفيما يخرج عنه ـ ما يعطيه فيه وينبهه به عليه ، فلا يزال صاحب هذا المقام في كل نفس في علم جديد ـ الوجه الثاني ـ القرآن ذكر الله ، والطمأنينة سكينة أنزلها القرآن في قلوب المؤمنين ، فكانت آيات بني إسرائيل ظاهرة ، وآياتنا في قلوبنا ، إذ قال الله تعالى في بني إسرائيل في آية طالوت (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فكانت السكينة شهادة في غير هذه الأمة ، غيبا في هذه الأمة ، وبها وبأمثالها كانت الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس ، فعلامة هذه الأمة في قلوبهم. ومقام الوارث المحمدي في تلاوته كلام ربه عزوجل ، هو سكونه لما يتلوه من كشفه واطلاعه على معانيه ، فهو في حال تلاوته يستذكر ما عنده ، فيطلع على نفسه ، ويسمعه الله نثر كلامه بتأييد الروح القدسي ، فكل من تلا وسكن لما تلا بصدق ، بصورة ظاهر وحكمة باطن ، فذلك تال وصاحب سكينة ، فإن هو تلا وسكن ظاهرا ولم يسكن باطنا ـ والسكون الباطن فهم المعنى الساري في الوجود من تلك الآية المتلوة ، لا يقتصر على ما تدل عليه في الظاهر خاصة ـ فمن تلا هكذا فليس بصاحب سكينة أصلا ولا هو وارث محمدي ، وإن كان من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن تلا وسكن باطنا ولم يسكن ظاهرا وتعدى الظاهر المشروع ، فذلك ليس بوارث ولا محمّدي ولا بمؤمن ، وهو أبعد الناس من الله ، فإن الروح القدسي أول من يرميه ويرمي به ، والنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لربه فيه يوم القيامة : سحقا سحقا. والله عند ذلك لا يسعده ولا يساعده.

٤٢٠