رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

التكليف ، فما من نعمة ينعم الله بها عليه باطنة كانت أو ظاهرة ، إلا والتكليف من الله بالشكر عليها يصحبها ، فذلك التكليف ينغص على العارف التنعم بتلك النعمة ، لاشتغاله بموازنة الشكر عليها ، وإذا وفى الشكر عليها ، فالوفاء به نعمة من الله عليه يجب عليه الشكر عليها ، فلا يزال متعوب الخاطر في إقامة الوزن بالقسط ، أن لا يخسر الميزان ، ومن هذه حالته كيف ينعم؟ فظاهرها نعمة وباطنها غصص ، وهو لا يبرح يتقلب في نعم الله ظاهرا وباطنا ، ولا تؤثر عنده إلا ألما وتنغيصا ، والعامة تفرح بتلك النعم وتتصرف فيها أشرا وبطرا ، والعارف مسدود عليه في الدنيا باب الراحة في قلبه ، وإن استراح في ظاهره ، فهو يموت في كل نفس ألف موتة ولا يشعر به ، يقول عمر بن الخطاب : ما ابتلاني الله بمصيبة إلا رأيت لله عليّ فيها ثلاث نعم ، إحداها أن لم تكن في ديني ، الثانية حيث لم تكن أكبر منها ، الثالثة ما وعد الله عليها من الثواب ، ومن كان في مصيبة واحدة يرى ثلاث نعم ، فقد انتقل إلى مصيبة أعظم من تلك المصيبة ، فإنه يتعين عليه إقامة ميزان الشكر على ثلاث نعم ، فابتلاه الله بمصيبة واحدة ليصبر عليها ، وابتلته معرفته في تلك المصيبة بثلاث مصائب كلفه الله الشكر عليها ، حيث أعلمه بتلك النعم في تلك المصيبة الواحدة ، فانظر إلى معرفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كيف أوجب على نفسه مثل هذا ، وانظر إلى ما فيها من الأدب ، حيث عدل عن النظر من كونها مصيبة إلى رؤية النعم ، فتلقاها بالقبول ، لأن النعمة محبوبة لذاتها ، فرضي فكان له مقام الرضا والاستسلام والتفويض والصبر والاعتماد على الله ، وأين الناس من هذا الذوق الشريف (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) الطيب من الرزق ليس في أكله تنغيص بل لذة ونعيم في الدنيا والآخرة ، ولذلك قال تعالى : (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) فلو كان مناقشة حساب لم تكن خالصة ، ولا وقعت للمؤمن بها لذة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) فاعلم أن ذلك في مجرد الأكل الحلال ، والحساب إنما يقع والسؤال في كسبه والوصول إليه ، لا في أكله إذا كان حلالا ، فإنه يغمض هذا المعنى على أكثر الناس ـ تحقيق ـ زينة الله أسماؤه ، فمن تخلق بأسماء الله وصفاته على الحد المشروع ، فقد تحلى بزينة الله التي أخرج لعباده في كتابه وعلى ألسنة رسله ، جاء في الحديث [ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به] فمن كان الحق سمعه وبصره وجمع قواه

١٤١

فإن عينه ثابتة ، ولهذا أعاد الضمير عليه لوجوده في قوله : كنت سمعه ، فهذه الهاء هي عينه الذي الحق سمعها وبصرها ، وهذه القوى قد أخبر الحق أنه لما أحبك كان سمعك وبصرك ، فهو قواك ، فبه سلكت في طاعته التي أمرك أن تعمل نفسك فيها ، وتحلي ذاتك بها ، وهي زينة الله ، وهو سبحانه الجميل والزينة جمال ، فهو جمال هذا السالك ، فزينته ربه ، فبه يسمع ، وبه يبصر ، وبه يسلك ، ولا مانع من ذلك ، ولهذا قال : (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) لما أحبهم حين تقربوا إليه بنوافل الخيرات ، زينهم به ، فكان قواهم التي سلكوا بها ما كلفهم من الأعمال.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

قوله تعالى : (وَالْإِثْمَ) قد يكون هنا الإثم اسم الخمر ، فإن العرب تسمي الخمر الإثم ، قال الشاعر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذلك الإثم يذهب بالعقول

وثبت بهذه الآية أن الفاحشة هي فاحشة لعينها ، ولهذا حرمها الله ، فقيل لمحمد عليه‌السلام : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما علم وما لم يعلم إلا بالتوقيف ، لغموض إدراك الفحش ، فكل محرم حرمه الله على عباده فهو فحش ، وما هو عين ما أحله في زمان آخر ولا في شرع آخر ، فهذا هو الذي بطن علمه ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن سعدا لغيور ، وأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، ومن غيرته حرم الفواحش] فجعل الفواحش حراما محرما ، كما حرم مكة وغيرها ، فتخيل من لا علم له أن ذلك إهانة ، وهو تعظيم ، إذ هو من شعائر الله وحرماته ، والله يقول : (مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فالتحريم دليل على التعظيم ، فما أمرك الله إلا بما هو خير لك وهو عند الله عظيم ، وما نهاك إلا عما هو تركه خير لك لعظيم حرمته عنده ، فمن غيرته حرم الفواحش ليفتضح المحبون في دعواهم محبته ، فغار أن يدعي الكاذب دعوى الصادق ، ولا يكون ثم ميزان يفصل بين الدعوتين ، فحرم الفواحش ، فمن ادعى محبته وقف عند حدوده ، فتبين الصادق من

١٤٢

الكاذب ، وليس الفحش إلا ما ظهر ، وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له. واعلم أن أعظم فاحشة باطنة هو اعتقاد العبد الربوبية لنفسه ، ولما حرّم الله ذلك ، ختم على كل قلب أن تدخله ربوبية الحق فتكون نعتا له ، فما من أحد يجد في قلبه أنه رب إله ، بل يعلم كل أحد من نفسه أنه فقير محتاج ذليل ، فجعل البواطن كلها في كل فرد فرد مختوما عليه أن لا يدخلها تأله ، ولم يعصم الألسنة أن تتلفظ بالدعوى بالألوهية ، ولا عصم النفوس أن تعتقد الألوهية في غيرها ، بل هي معصومة أن تعتقدها في نفسها لا في أمثالها ، لأنه ما كل أحد عالم بالأمور على ما هي عليه ، ولا يعلم كل أحد أن الأمثال حكمها في الماهية واحد.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) وهو الموت الاضطراري في العموم والعرف (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) على تلك الساعة فهي الآجال في الأشياء.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ

١٤٣

ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

(وَقالَتْ أُولاهُمْ) وهم رؤساؤهم الذين أضلوهم وجعلوهم يشركون بالله ، وهو قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي من الذين اتبعوهم وهو قوله : (لِأُخْراهُمْ) (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) حتى تنظروا وتبحثوا عن وجه الحق بل كنتم مجرمين (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) فما حكم فيهم إلا بهم فأعمالهم عذبتهم ، وما حكم فيهم غيرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠)

هذه أرجى آية في كتاب الله في حق أهل الشقاء ، في إسبال النعيم عليهم وشمول الرحمة ، وهذا جزاء المجرمين على التعيين ، فليس في القدرة عجز ، فإن دخول الجمل في سم الخياط ليس من قبيل المحال ، لأن الصغر والكبر العارضين في الشخص لا يبطلان حقيقته ، ولا يخرجانه عنها ، والقدرة صالحة أن تخلق جملا يكون من الصغر بحيث لا يضيق عنه سم الخياط ، فكان في ذلك رجاء لهم أن يدخلوا جنة النعيم.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢)

ـ إشارة ـ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، تقسمت العوالم فتقسمت التكاليف وطمست المعالم فجهلت التصاريف ، فعالم كلفتهم في أداء العبادة ، وعالم كلفتهم في حيرتهم

١٤٤

في موافقة الأمر والإرادة ، وعالم كلفتهم في توجيه الخطاب الإلهي ، على هذا العالم الكياني ، مع رد الأفعال إليه ، واستحالة التكليف إليه ، فتاهت الألباب في هذا الباب ، واستوى فيه البصير والأعمى ، وزادهم في ذلك حيرة وعمى ، قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) لكن ثم رقيقة ، وهي لعمر التصوف دقيقة ، أنه ما وجد شيء إلا وفيه منه حقيقة ، اسمع يا مربوب ربّ القدم ، امتنع المحدث أن تقوم به حقائق القدم ، وامتنع القديم أن تقوم به حقائق الحدوث لئلا يتقدم على وجوده العدم ، لكن تبلى جميع الصفات ، وإلا فمن أين ظهرت المتضادات والمتماثلات والمختلفات ، وليس القدم بصفة إثبات عين ، ولا الحدوث بوصف إثبات كون ، لكن لما تعذرت الأسباب في الوجودين ، ولم يكن للمعلوم الواحد تحصيل المعرفتين ، وأراد تمام الوجود ليعلم من الطريقين ، فظهر في الإيجاد تكليف محقق ، وعناء لا يتحقق ، فظهرت بينهما ، برازخ التكليف ، في مشهد التخيير والتوقيف ، ولهذا جاء الخبر بالعماء ، ما فوقه هواء وما تحته هواء ، فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قال ابن عباس : (ليعرفون) فلو عرف نفسه بمعرفتهم دونهم ، ما أوجد عيونهم ، فصح التكليف في القدم ، والخلق في حال العدم ، ومن هذه الحقيقة تكليف العباد ، وإن لم يكن لهم مدخل في الإيجاد ، عصمنا الله وإياكم من العناد ، وأمننا وإياكم من الفزع يوم التناد ، بكرمه.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) فإن أهل الدنيا كانوا أهل بغي وحسد وتدابر وتقاطع وغل وشحناء ، فأبدلهم الله بأهل الآخرة التي ينقلب المؤمنون إليها بمن وصفهم الله تعالى ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) إخوانا على سرر متقابلين ، فإن الجنة ليست بمحل تعن ولا تعد «وتودوا أن تكلم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» اعلم أيدنا الله وإياك أن الجنة جنتان جنة محسوسة ، وجنة معنوية ، والعقل يعقلهما معا ، فالنفس الناطقة المخاطبة المكلفة

١٤٥

لها نعيم بما تحمله من العلوم والمعارف ، من طريق نظرها وفكرها وما وصلت إليه من ذلك بالأدلة العقلية ، ونعيم بما تحمله من اللذات والشهوات مما يناله بالنفس الحيوانية من طريق قواها الحسية ، من أكل وشرب ونكاح ولباس وروائح ونغمات طيبة تتعلق بها الأسماع ، وجمال حسي في صورة حسنة معشوقة يعطيها البصر ، في نساء كاعبات ووجوه حسان وألوان متنوعة وأشجار وأنهار ، كل ذلك تنقله الحواس إلى النفس الناطقة ، فتلتذ به من جهة طبيعتها ، وهذه الجنات ثلاث جنان : جنة اختصاص إلهي وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل ، وحدهم من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخا إلى انقضاء ست أعوام ، ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء ، ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا ، ومن أهلها أهل التوحيد العملي ، ومن أهلها أهل الفترات ومن لم تصل إليهم دعوة رسول ، والجنة الثانية جنة ميراث ، ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين ، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها ، والجنة الثالثة جنة الأعمال ، وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم ، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر ، وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن ، غير أنه فضله في هذا المقام بهذه الحالة ، فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة ، ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما يقتضي أحوالهم ، ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لبلال : [يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ، فما وطئت منها موضعا إلا سمعت خشخشتك أمامي؟ فقال : يا رسول الله ما أحدثت قط إلا توضأت ، ولا توضأت إلا صليت ركعتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بهما] فعلمنا أنها كانت جنة مخصوصة بهذا العمل ، فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبلال : بم نلت أن تكون مطرّقا بين يدي تحجبني؟ من أين لك هذه المسابقة إلى هذه المرتبة؟ فلما ذكر له ذلك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بهما ، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ، والتفاضل على مراتب ، فمنها بالسن ولكن في الطاعة والإسلام ، فيفضل الكبير السن على الصغير السن إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل بالسن فإنه أقدم منه فيه ، ويفضل أيضا بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر الأزمان ، وكل زمان عيّنه الشارع ، وتقع المفاضلة بالمكان ، كالمصلي في المسجد الحرام أفضل من صلاة

١٤٦

المصلي في مسجد المدينة ، وكذلك الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في المسجد الأقصى ، وهكذا فضل الصلاة في المسجد الأقصى على سائر المساجد ، ويتفاضلون أيضا بالأحوال ، فإن الصلاة في الجماعة في الفريضة أفضل من صلاة الشخص وحده ، وأشباه هذا ، ويتفاضلون بالأعمال ، فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى ، وقد فضل الله الأعمال بعضها على بعض ، ويتفاضلون أيضا في نفس العمل الواحد ، كالمتصدق على رحمه ، فيكون صاحب صلة رحم وصدقة ، والمتصدق على غير رحمه دونه في الأجر ، وكذلك من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل ممن أهدى لغير شريف أو بره أو أحسن إليه ، ووجوه المفاضلة كثيرة في الشرع ، والرسل عليهم‌السلام إنما ظهر فضلها في الجنة على غيرها بجنة الاختصاص ، وأما بالعمل فهم في جنات الأعمال بحسب الأحوال كما ذكرنا ، وكل من فضل غيره ممن ليس في مقامه فمن جنات الاختصاص لا من جنات الأعمال ، ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالا كثيرة ، فيصرف سمعه فيما ينبغي في زمان تصريفه بصره ، في زمان تصريفه يده ، في زمان صومه ، في زمان صدقته ، في زمان صلاته ، في زمان ذكره ، في زمان نيّته من فعل وترك ، فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة ، فيفضل غيره ممن ليس له ذلك ، ولذلك لما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثمانية الأبواب من الجنة أن يدخل من أيها شاء ، قال أبو بكر : يا رسول الله وما على الإنسان أن يدخل من الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرجوا أن تكون منهم يا أبا بكر. فأراد أبو بكر بذلك القول ما ذكرنا ، أن يكون الإنسان في زمان واحد في أعمال كثيرة تعم أبواب الجنة ، واعلم أن جنة الأعمال مائة درجة لا غير ، كما أن النار مائة درك ، غير أن كل درجة تنقسم إلى منازل.

ـ إشارة ـ من تسلل لواذا ، واعتصم عياذا ، واتخذ لا مقام ملاذا ، وصير الأصنام جذاذا ، وأمطر وابلا ورذاذا ، وجب أن يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) ـ شرح هذه الإشارة ـ قوله : «من تسلل لواذا» أي من انتزع عن نفسه انتزاعا خفيا لا يشعر به في العامة ولا في الخاصة ، ولاذ بالله تعالى ، كالمتصدق بيمينه لا تعرف بها شماله ، قوله : «واعتصم عيا ذا» أي اتخذ الله من حيث جمعية هذا الاسم أمرا يتعوذ به ، كما قال : «وأعوذ بك منك» لأنه لم ير في مقابلة الحق إلا الحق «واتخذ لا مقام ملاذا» أراد ميراثا محمديا (١) ،

__________________

(١) راجع معنى «لا مقام» في كتابنا شرح كلمات الصوفية ص ١٦٠ عند شرح كلمة أبي يزيد البسطامي «لا صباح لي ولا مساء».

١٤٧

«وصير الأصنام جذاذا» أي كل من قال له : أنا الله ، قال له : أنت بالله ، قوله : «وامطر وابلا ورذاذا» يريد أصناف العلوم ، يلقيها على قلوب المتعلمين على قدر قواهم ، فالرذاذ منه هو الرش ، وهو الخفيف من المطر ، والوابل هو كل علم يرد على قلب مريض ذي علة فيبريه من تلك العلة ، فكأنه علم مختص بإزالة الشبهات ، يقال : بل المريض وأبلّ واستبلّ ، إذا صح من مرضه.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦)

الأعراف سور بين الجنة والنار ، باطنه فيه الرحمة وهو ما يلي الجنة منه ، وظاهره من قبله العذاب وهو ما يلي النار منه ، فجعل النار من قبله أي يقابله ، والمقابل ضد ، فلم يجعل السور محلا للعذاب ، وجعله محلا للرحمة بقوله باطنه فيه الرحمة ، فأهل الأعراف في محل رحمة الله ، وذلك هو الذي أطمعهم في الجنة وإن كانوا بعد ما دخلوها ، والأعراف يكون عليه رجال تساوت كفتا ميزانهم ، فهم ينظرون إلى النار وينظرون إلى الجنة ، وما لهم رجحان بما يدخلهم أحد الدارين ، لأنه لم ترجح في الوزن كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم ، فلم تثقل موازينهم ولا خفت ، فإنه ما وضع الله لأحد منهم في ميزانه تلفظه بلا إله إلا الله ، فإنه ما ثمّ سيئة تعادلها إلا الشرك ، ولما لم يجتمع الشرك والتوحيد في قلب شخص واحد ، كذلك لا يدخل في الميزان إلا لصاحب السجلات ، ويرى أصحاب الأعراف أن موطن

١٤٨

القيامة قد سجد فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما طلب من ربه فتح باب الشفاعة تعظيما لله وهيبة وإجلالا ، فعلموا أنه موطن سجود ، فلما دعوا إلى السجود هناك وهو الذي يبقى يوم القيامة من التكليف سجد أصحاب الأعراف امتثالا لأمر الله ، فرجحت كفة حسناتهم بهذه السجدة وثقلت ، فسعدوا ، لأنها سجدة تكليف مشروعة في ذلك الموطن عن أمر الله ، فيدخلون الجنة ، وكانوا ينظرون إلى النار بما لهم من السيئات وينظرون إلى الجنة بما لهم من الحسنات ، ولذلك أشار الحق تعالى بأن ختم سورة الأعراف بسجدة للتالي عند ذكر سجود الملأ الأعلى ، وهي سجدة اقتداء بهدي الملائكة (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) فذكر الحق عن أصحاب الأعراف أن لهم المعرفة بمقام الخلق ، فقال : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي بما جعلنا فيهم من العلامة ، فإن الآخرة دار تمييز ، فأهل الجنة مميزون وأهل النار مميزون ، فبالسمات يفرق بين الأشخاص يوم التنادي ، ولات حين مناص (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) فإنهم في مقام الكشف للأشياء ، فلو دخلوا الجنة استتر عنهم بدخولهم فيها وسترتهم ، لأنها جنّة ، عن كشف ما هم له كاشفون (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية إقبال عليهم لمعرفتهم بهم ، وتحية لانصرافهم عنهم إلى جناتهم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فإنهم يرون رحمة الله ، فيطمعون ، وسبب طمعهم أيضا أنهم من أهل لا إله إلا الله ، ولا يرونها في ميزانهم ، ويعلمون أن الله لا يظلم مثقال ذرة ، ولو جاءت ذرة لإحدى الكفتين لرجحت بها ، لأنهما في غاية الاعتدال ، فيطعمون في كرم الله وعدله ، وأنه لا بد أن يكون لكلمة لا إله إلا الله عناية بصاحبها ، يظهر لها أثر عليهم كما نادوا أيضا.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧)

والظلم هنا الشرك لا غير.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ

١٤٩

أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١)

ذم الله قوما اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وهم في هذا الزمان أصحاب السماع ، أهل الدف والمزمار ، نعوذ بالله من الخذلان.

ما الدين بالدف والمزمار واللعب

لكنما الدين بالقرآن والأدب

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

ليس من نعوت الكمال أن يكون في علم الله إجمال ، والإجمال في المعاني محال ، ومحل الإجمال الألفاظ والأقوال ، فإذا جعل قول عبده قوله اتصف عند ذلك بالإجمال ، وكان من نعوت الكمال ، فالعلوم في اللوح مفصلة ، وقد كانت في العلم مجملة ، وما فصلها القلم ولا كان ممن علم ، وإنما اليمين حركته لتفصيل المجمل ، وفتح الباب المقفل ، فكمال العارف ، علمه بتفصيل المعارف.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

١٥٠

قال بعض المفسرين إن السموات والأرض وما بينهما خلقهما الله في ستة أيام مقدرة لا موجودة ، على تقدير لو كانت ثمّ أيام كان هذا المقدار ، وهذا خطأ ، فإن السموات والأرض وما بينهما إنما خلقهم الله في هذه الستة الأيام الموجودة المعلومة عندنا ، وإنها كانت موجودة قبل خلق السماء والأرض ، فإن السموات السبع والأرضين ليست الأيام لها ، وإنما لفلك النجوم الثوابت ، وقد كان قبل السموات دائرا ، فاليوم دورته ، غير أن النهار والليل أمر آخر معلوم في اليوم ، لا نفس اليوم ، فحدث النهار والليل بحدوث السموات والأرض لا الأيام ، والله ما قال في ستة أنهار ولا في ست ليال ، وإنما ذكر الأيام ، ووقع ابتداء الخلق في يوم الأحد ، وانته الخلق في يوم الجمعة ، وقال في يوم السبت وقد وضع إحدى الرجلين على الأخرى : أنا الملك (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) راجع البقرة آية رقم (٢٩) وطه آية رقم (٥) واعلم أن الله أوجد العرش إظهارا لقدرته ، لا محلا لذاته ، وأوجد الوجود لا حاجة إليه ، إنما هو إظهار لأسمائه وصفاته ، فهو تعالى مقدس في وجوده عن ملامسة ما أوجده ، ومجانبته ومواصلته ومفاصلته ، لأنه كان ولا كون ، وهو الآن كما كان لا يتصل بكون ، ولا ينفصل عن كون ، لأن الوصل والفصل من صفات الحدوث لا من صفات القدم ، لأن الاتصال والانفصال يلزم منه الانتقال والارتحال ، ويلزم من الانتقال والارتحال التحول والزوال والتغيير والاستبدال ، هذا كله من صفات النقص لا من صفات الكمال ، فسبحانه سبحانه ، وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، ولكن اقتضت مرتبة من لا يقبل المكان أن يخلق سماء جعله عرشا ، ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج ، فلا يبقى العبد حائرا لا يدري أين يتوجه ، لأن العبد خلقه الله ذا جهة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يغطيه وهو النكاح والإيلاج ، لظهور أعيان المولدات وما يحدث الله في الليل والنهار من المخلوقات عن هذا الإيلاج والغشيان ، لإيجاد ما سبق في علمه أن يظهر فيه ، من الأحكام والأعيان في العالم العنصري ، فنحن أولاد الليل والنهار ، فما حدث في النهار ، فالنهار أمه والليل أبوه ، لأن لهما عليه ولادة ، وما ولد في الليل فالليل أمه والنهار أبوه ، فإن لهما عليه ولادة ، فلا يزال الحال في الدنيا ما دام الليل والنهار يغشي أحدهما الآخر ، فنحن أبناء أم وأب لمن ولد معنا في يومنا أو في ليلتنا خاصة ، وما ولد في الليلة الثانية والنهار الثاني فأمثالنا ، ما هم إخواننا ، لأن الليل والنهار جديدان (يَطْلُبُهُ

١٥١

حَثِيثاً) هذا الطلب منهما لإبراز أعيان الحوادث (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) فكانت منافع الحيوانات بها وعن أحكامها بما أودع الله فيها. واعلم أن الفلك عندنا متحرك تحرك الإنسان في الجهات ، لأنه يعقل ويكلّف ويؤمر ، كما قال عليه‌السلام في ناقته إنها مأمورة ، وقال عليه‌السلام في الشمس إنها تستأذن في الطلوع ، فالفلك متحرك بالإرادة ليعطي ما في سمائه من الأمر الإلهيّ الذي يحدث الأشياء في الأركان والمولدات بما أودع الله فيها من العقل والروح والعلم ، فتعطي أشخاص كل نوع من المولدات على التعيين من معدن ونبات وحيوان وجن وملك مخلوق من عمل أو نفس بقول من تسبيح وذكر أو تلاوة ، وذلك لعلمها بما أودع الله لديها ، وهو قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) فمن لا كشف له يرى أن ذلك كله الكائن من سريانها أنها مسخرات في حركاتها لإيجاد هذه الأمور ، كتحريك الصانع للآلات لإيجاد صورة ما يريد إيجادها ، كالصورة في الخشب وغيره ، ولا تعرف الآلات شيئا من ذلك ولا ما صدر عنها ، وعندنا كل جزء من الكون عالم بما يراد منه ، فهو على بصيرة ، حتى أجزاء بدن الإنسان ، فما يجهل منه إلا لطيفته المكلفة الموكلة إلى استعمال فكرها ، أو تنظر بنور الإيمان حتى يظهر ذلك النور على بصرها ، فيكشف ما كان خبرا عندها ، فما من متحرك في العالم إلا وهو عالم بما إليه يتحرك إلا الثقلين ، فقد يجهلون ما يتحركون إليه ، بل يجهلون (وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) بما في حركة كل كوكب ، وما له من اقترانات مع الكواكب بما يحدث عنها من الأمور المختلفة ، بحسب الأقاليم وأمزجة القوابل ومساقط نطفه في أشخاص الحيوان ، فيكون القران واحدا ويكون أثره في العالم العنصري مختلفا بحسب الأقاليم وما يعطيه طبيعته ، فهي حوادث أمّن الله عليها هذه الكواكب المسخرة (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الخلق خلقان : خلق تقدير ، وهو الذي يتقدم الأمر الإلهي ، كما قدمه الحق ، وأخّر عنه الأمر ، فقال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) والخلق الآخر بمعنى الإيجاد ، وهو الذي يساوق الأمر الإلهي ، وإن تقدمه الأمر الإلهي بالرتبة ، فالأمر الإلهي بالتكوين بين خلقين ، خلق تقدير وخلق إيجاد ، فمتعلق الأمر خلق الإيجاد ، ومتعلق خلق التقدير تعيين الوقت لإظهار عين الممكن ، فيتوقف الأمر عليه ، فالأمر الإلهي يساوق الخلق الإيجادي في الوجود ، فعين قول كن ، عين قبول الكائن للتكوين فيكون ، فالفاء في قوله فيكون جواب أمره كن ، وهي فاء التعقيب ، وليس الجواب

١٥٢

والتعقيب إلا في الرتبة ، وما من ممكن من عالم الخلق إلا وله وجهان : وجه إلى سببه ، ووجه إلى الله تعالى ، فكل حجاب وظلمة تطرأ عليه فمن سببه ، وكل نور وكشف فمن جانب حقه ، وكل ممكن من الأمر فلا يتصور فيه حجاب ، لأنه ليس له إلا وجه واحد ، فهو النور المحض ، فعالم الخلق طبيعي ، وعالم الأمر أنوار ، والوجه الخاص الإلهي الخارج عن الخلق هو الأمر الإلهي ، فما كان من الوجه الخاص الذي لله تعالى في كل موجود يلقي إليه منه ما يشاء ، مما لا يكون لغيره من الوجوه ، فذلك الأمر ، وما كان من غير ذلك الوجه فهو الخلق ، فإن الله سبحانه يعطي بسبب وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه ، ويعطي بغير سبب ، وهو ما يعطيه من الوجه الخاص ، فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق ، فعالم الأمر هو الوجه الخاص الذي في عالم الخلق ـ وجه آخر ـ كل موجود عند سبب حادث مخلوق مما سوى الله هو عالم الخلق ، فالغيب فيه مستور ، وكل ما لم يوجد عند سبب حادث مخلوق فهو عالم الأمر ، والكل على الحقيقة عالم الأمر ، إلا أنا لا يمكننا رفع الأسباب من العالم ، فإن الله قد وضعها ولا سبيل إلى رفع ما وضعه الله ، فقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) هو كل ما يوجده عند سبب ، أو بسبب ، كيف شئت قل ، من غير مشافهة الأمر التي هي الكلمة ، وقوله (وَالْأَمْرُ) ما لا يوجده بسبب ، أي كل من صدر عن الله بلا واسطة إلا بمشافهة الأمر العزيز مثل الروح ، فالله قادر من حيث الأمر ، مقتدر من حيث الخلق ، وعالم الخلق وعالم الأمر ، خص بالاسم الرب دون غيره من قوله تعالى : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) إشارة إلى أنه سيد العالم وخالقه ومربيه. واعلم أن الأمور التي يكرهها الإنسان طبعا وشرعا هي أمور مخصوصة بعالم الخلق والتركيب الطبيعي لا بعالم الأمر ، فكان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته لتركيبه من طبائع متنافرة ، والتنافر هو عين التنازع ، والنزاع أمر مؤد إلى الفساد ، وعالم الأمر هو الخير الذي لا شر فيه ، فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته ، وما ظهر منه من خير فمن روحه الإلهي ، فالشرور كلها مضافة إلى عالم الخلق ، والخير كله مضاف إلى عالم الأمر ، ولما كان عالم الخلق الموجود من الطبيعة موجودا فيه الفساد والتغيير ، ولو لا هذا النور الذي من عالم الأمر هلك عالم الخلق جملة واحدة ، أمر الله سبحانه أن يلجأ إليه بالدعاء في دفع هذه المكاره ، فيؤيد الله الروح بما يعطيه من النور من الاسم الرب ليدفع به ما تقع به المضرة من جانب ظلمة الطبع ـ إشارة ـ قال

١٥٣

تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فجعل العبادة المقصود منه بخلقهم وقال تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) هذا أمر بالعبادة ، فإن كان العبد مطيعا طائعا فقد فاز بوقوع ما قصد له في الخلق والأمر ، فإن لله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، وأما العاصي فهو مخالف لأمر الله ، فلم يقم بما قصد له من الخلق والأمر.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥)

تضرعا ذلة وفقرا وانكسارا.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

اعلم أن المؤمن من استوى خوفه ورجاؤه ، فهو يدعو ربه خوفا من زوال النعمة ، وطمعا في بقائها ، فلا يزال بين شكر وفقر ، فإنه بين نعمة وبلاء ، وشدة ورخاء.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧)

ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ (هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) وهو بشائر التوفيق (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وهي العناية بعبده (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) وهو ترادف التوفيق (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) وهو العبد المعتنى به (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وهو ما يظهر عليه من أنوار القبول والعمل الصالح والتعشق به ، ثم مثّل فقال : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يشير بذلك إلى خبر ورد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البعث ، أعني حشر الأجسام ، من أن الله يجعل السماء تمطر مثل منّي الرجال ـ الحديث ـ.

١٥٤

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) وليس سوى الموافقة والسمع والطاعة ، لطهارة المحل (وَالَّذِي خَبُثَ) وهو الذي غلبت عليه نفسه والطبع ، وهو معتنى به في نفس الأمر (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) مثل قوله : إن لله عبادا يقادون إلى الجنة بالسلاسل ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه ، هو النفس التي تسارع إلى إجابة الداعي ، وهي من النفوس الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ، وأما الذي خبث فلا يخرج إلا نكدا ، فهي النفس التي تجيب مضطرة مثل من قال فيه تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ).

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢)

الرسالة موهوبة غير مكسوبة ، وطالبة غير مطلوبة ، وليس لها بدايات ، فتوجد عند الغايات.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤)

١٥٥

ـ إشارة ـ الرجل من جعل نفسه سفينة نوح.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢)

وها قد حلت بكم المثلات ، وما توعدناكم به عند مخالفتكم آت.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣)

١٥٦

فلا تتعرضوا بالمخالفة لسطوتنا ، ولا تستبطئوا عند اعتداءكم نقمتنا.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ

١٥٧

وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧)

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإن له الحكم الأعم ، يحكم على كل حكم وعلى كل حاكم بكل حكم.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) لمغاليق غيوبه.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ

١٥٨

يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٦)

ـ فائدة ـ لما كان الرسول من الجنس ، ومن عادة الجنس الحسد إذا ظهر التفوق ، وقد ارتفع عن المتشرعين المنكسرة قلوبهم الحسد ، وهم ناظرون إلى الرسول دائما بعين حق مع شهود بشريته ، فتح الله لهم البركات من السماء والأرض.

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩)

من أراد الطريق إلى العصمة من المكر الإلهي فليلزم عبوديته في كل حال ولوازمها ، فتلك علامة على عصمته من مكر الله ، وذلك بأن لا يضع ميزان الشرع من يده وشهود حاله ، وهذه حالة المعصوم ، ويبقى كونه لا يأمنه في المستقبل بمعنى أنه ما هو على أمن أن تبقى له هذه الحالة في المستقبل إلا بالتعريف الإلهي الذي لا يدخله تأويل ، ولا يحكم عليه إجمال (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) فلا يأمن أحد مكر الله حتى الخاصة وخاصة الخاصة ، فينبغي للعاقل أن لا يأمن مكر الله في إنعامه ، فإن المكر فيه أخفى منه

١٥٩

في البلاء ، وأدنى المكر فيه أن يرى نفسه مستحقا لتلك النعمة ، وأنها من أجله خلقت ، فإن الله ليس بمحتاج إليها ، فهي له بحكم الاستحقاق ، ويغيب عن أن الأشياء إنما خلقت له تعالى ، لتسبح بحمده ، وكان انتفاعنا بها بحكم التبعية لا بالقصد الأول ، فمكر العموم الإلهي هو إرداف النعم على إثر المخالفات ، وزوالها عند الموافقات ، وقد يكون المكر الإلهي في حق بعض الناس من الممكور بهم يعطي الشقاء وهو في العامة ، وقد يكون يعطي نقصان الحظ وهو المكر بالخاصة وخاصة الخاصة ، فالمؤمن ما هو في أمان إلا في دار الحيوان ، وأما في هذه الدار فهو في محل الاختبار ، فإما إلى دار القرار وإما إلى دار البوار ، مما روينا أن جبريل وميكائيل عليهما‌السلام بكيا ، فأوحى الله إليهما ما شأنكما تبكيان؟ فقالا : لا نأمن مكرك ، قال : كذلك فكونا لا تأمنا مكري.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي عن الوفاء بالعهد ، قال تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) وقال تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ).

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ

١٦٠