رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩)

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) كناية عن البخل (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) كناية عن السرف (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١)

شكى شخص إلى بعض الصالحين كثرة العائلة فقال له : ادخل إلى بيتك وانظر كل من ليس له رزق على الله فأخرجه ، فقال له : كلهم رزقهم على الله. فقال له : ما تضرك كثرتهم أو قلتهم.

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤)

ما أعجب قوله تعالى (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي الصفة المسماة بالعهد هي التي تسأل ، فيقال لها : هل وفّى بك هذا العبد؟ تجيب وذلك أنه يتصور من المعاهد والمعاهد أن يصدقا أو أن ينكرا ، ولا يتصور ذلك في العهد الذي هو الصفة ، فلذلك سئل العهد لتحققه بقيامه بالقسط وبما عهد إليه من أمانة وخيانة.

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)

٥٤١

وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦)

تعتبر هذه الآية منعا من النظر في ذات الله ، فهي لا تعلم ، فهو تعالى عن الإدراك فلم يدرك بعقل كنه جلاله ، ولم يدرك ببصر كنه ذاته عند تجليه حيثما تجلى لعباده ، فهو تعالى المتجلي الذي لا يدرك ـ الإدراك الذي يدرك فيه هو نفسه ـ لا علما ولا رؤية ، فلا ينبغي أن يقفو الإنسان علم ما قد علم أنه لا يبلغ إليه ، لذلك قال الصديق رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك.

تعالى عن التحديد بالفكر والخبر

كما جل عن حكم البصيرة والبصر

فليس لنا منه سوى ما يرومه

على كل حال في الدلالات والعبر

فأعلم أني ما تحققت غيره

وأعلم أني ما علمت سوى البشر

لذا منع الرحمن في وحيه على

لسان رسول الله في ذاته النظر

فقال ولا تقف الذي لست عالما

به فيكون الناظرون على خطر

فلم يولد الرحمن علما ولم يلد

وجودا فحقق من نهاك ومن أمر

(كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) اسم كان هو النفس المدبرة ، تسأل النفس عن سمعه وبصره وفؤاده ، وتدل هذه الآية على أن الأعضاء المكلفة طاهرة بحكم الأصل ، لا تزول عنها تلك الطهارة والعدالة ، وتستشهد يوم القيامة وتقبل شهادتها لزكاتها الأصلية ، وبدأ الحق في هذه الآية بالسمع وإن كان من خدم القلب ، لأن السمع إنما يكون بالقلب ، ولأنه أعم الأعضاء فائدة في الشرائع ، إذ لا بد للإنسان من معلم مرشد ، داخل فيه أو خارج عنه ، وجميع التكليف الوارد على القلب بذاته أو بواسطة الأعضاء إنما يوجد من قبل السمع ، ويدخل في ذلك قلب غير المؤيد بالوحي الإلهي أو المؤيد إذ قيل : فبهداهم اقتده ، وثنّى بالبصر ، لأنه أعظم شاهد بتصديق المسموع منه ، وبه حصول ما به التفكر والاعتبار غالبا ، تنبيها على عظمة ذلك ، وإن كان البصر هو القلب ، ثم رجع إلى الفؤاد الذي هو العمدة في ذلك ، فتقديمهما على جهة التعظيم له ، كما يقال : الجناب والمجلس ، وهما المبلغان إليه وعنه ، وفي تكليفه تكليف جميع خدمه ، وإنما شاركاه بالذكر تنبيها على عظيم مشاركتهما

٥٤٢

إياه في الوزارة ، ولولاهما ما أمكن أن يبلغ قلب في الغالب. في هذا العالم ما يريد إبلاغه إليه ، فهما معه في عالم التكليف كالجسد والنفس مع الروح في عالم الخلافة ، ولا يتم لأحدهما ذلك إلا بالآخرين وإلا نقص بقدره ، والمراد في جميع التكليف سلامة القلب ، والخطاب إليه من جهة كل عضو على انفراده ، ومن جهة المجموع ، ثم على انفراده (راجع سورة ق آية ٣٧) ـ نصيحة ـ قف مع الظاهر في كل الأحوال ، ولا تقف ما ليس لك به علم من ظاهر الأقوال.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (٣٧)

(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) فإن الله ما جعلها تقبل الكثافة والظلمة والصلابة إلا لستر ما أودع الله فيها من الكنوز لما جعل فيها من الغيرة ، فحار السعاة في الأرض فلم يخرقوها ولم يبلغوا جبالها طولا.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤)

التسبيح تنزيه ، وراعى الحق في هذا الموطن تسبيح السموات والأرض ، فإن لكل عالم ثناء خاصا لا يكون لغيره (وَمَنْ فِيهِنَّ) يعني الملائكة وإن كان البعض من العالم ، وجمع

٥٤٣

السموات والأرض جمع من يعقل ، وهذا التسبيح بوحي ذاتي تقتضيه ذواتهم ، وهو أنهم يسبحون بحمد الله لا يحتاجون في ذلك إلى تكليف ، بل هو لهم مثل النفس للمتنفس ، وذلك لكل عين على الانفراد ، فذكر سبحانه في كل حال ومن كل عين ، فالوجود كله حي ناطق بتعظيم الحق سبحانه ، لكنه يختلف نطقهم باختلاف حقائقهم ، وقوله تعالى (وَمَنْ فِيهِنَّ) ردّ على من يقول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه يقول أهل السموات السبع وأهل الأرض ، فنفى هذا الاحتمال بقوله (وَمَنْ فِيهِنَّ) إذ قد ورد مثل ذلك في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ) وليس هذا كذلك ، وقوله عليه‌السلام في أحد [هذا جبل يحبنا ونحبه] وقوله [يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس] وقوله [وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة] وهذه أمور كلها تقتضي العلم وهو مشروط بالحياة ، ولكن الحياة منها ما ظهر للحس ومنها ما لم يظهر ، فما لم يظهر بالعادة ظهر بخرق العادة ، فالكل حي ناطق بتسبيح الله وحمده ، ومعلوم أن ما هنا صوت معه د ولا حرف من الحروف المعلومة عندنا ، ولكنّ كلام كل جنس مما يشاكله ، وعلى حسب ما يليق بنشأته ويعطيه استعداد القبول للروحانية الإلهية السارية في كل موجود ، فالكل حي في نفس الأمر ذو نفس ناطقة ، ولا يمكن أن يكون في العالم صورة لا نفس لها ولا حياة ولا عبادة ذاتية وأمرية ، سواء كانت تلك الصورة مما يحدثها الإنسان من الأشكال أو يحدثها الحيوان ، ومن أحدثها من الخلق عن قصد وعن غير قصد ، فما هو إلا أن تتصور الصورة كيف تصورت وعلى يد من ظهرت ، إلا ويلبسها الله تعالى روحا من أمره ، ويتعرف إليها من حينه فتعرفه منها وتشهده فيها ، هكذا هو الأمر دنيا وآخرة ، فأكد ذلك بقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وزاد في التوكيد بقوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وأتى بلفظة من في قوله (وَمَنْ فِيهِنَّ) ولم يأت بما ، وأتى في الحشر بما ولم يأت بمن ، فإن سيبويه يقول : إن اسم ما يقع على كل شيء إلا أنه لم يعم الموجودات ، فوجلت قلوب من بقي منها ولم يقع له ذكر في التسبيح ، فجبر الله كسرها وأزال وجلها بقوله عقيب هذا القول (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وزاد في الثناء عليهم بجهل الناس تسبيحهم بقوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فأخبر تعالى أن كل شيء يسبح بحمده كما هو الأمر عليه في نفسه ، وسد خلل الانكسار بقوله (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) بحرف الاستدراك وهو قوله (وَلكِنْ) طمعا في أن ينفردوا

٥٤٤

دون من سواهم بهذا التسبيح الخاص ، وهذه الآية دليل على أنه تعالى ما خلق العالم لنفس العالم ، وإنما خلقه لنفسه ، فقال فيه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فإن الله لما أوجد العالم ما خلقهم إلا ليعبدوه ويسبحوه ، فما من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحه ، ففطر العالم كله على تسبيح الله وحمده وعبادته بالقصد الأول ، وكان انتفاعنا بالأشياء بحكم التبعية ، فما من شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمد خالقه ، فلنفسه أوجده لأنه ما شغله إلا به ، وقال فيمن جعل فيه استعدادا يمكن أن يسعى به لنفسه ولغير الله ، فنبه أنه ما خلقهم إلا لعبادته فقال (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فكونهم ما فعل بعضهم ما خلق له ، لا يلزم منه بالقصد المذكور أنه خلق لما تصرف فيه ، ولذلك يسأل ويحاسب ، ومن ذلك نعلم أن كل مخلوق ما سوى الإنس والجان مفطورون على تعظيم الحق والتسبيح بحمده ، وكذلك أعضاء جسد الإنس والجان كلها ولكن لا على جهة التقريب وابتغاء المنزلة العظمى ، بل التسبيح لهم كالأنفاس من المتنفسين لما تستحقه الذات ، وهكذا يكون تسبيح الإنس والجان في الجنة والنار لا على طريق القربة ولا ينتج لهم قربة ، بل كل واحد منهم على مقام معلوم ، فتصير العبادة طبيعية تقتضيها حقائقهم ، ويرتفع التكليف ولا يتصور منهم مخالفة لأمر الله إذا ورد عليهم ، ولا يبقى هنالك نهي أصلا بعد قوله لأهل النار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وكلامنا إذا نزل الناس منازلهم في كل دار وغلقت الأبواب واستقرّت الداران بأهلها الذين هم أهلها ، وعلى ذلك فكل جزء من العالم مسبح لله تعالى ، وكل شيء ينزه ربه من كافر وغير كافر ، فإن أعضاء الكافر كلها مسبحة لله ، ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جلده وسمعه وبصره ويده ورجله ، غير أن العالم لا يفقهون هذا التسبيح وسريان هذه العبادة في الموجودات ، فلم يبق كافر ولا مؤمن إلا وقد شملت تفاصيله هذه الآية ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، لأنهم لا يسمعون ولا يشهدون ، وعلماء الرسوم يخرجون هذا على أنه لسان حال ، وكذلك قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) فجعلوا هذه الإباية والإشفاق حالا لا حقيقة ، وكذلك قوله عنهما (أَتَيْنا طائِعِينَ) قول حال لا قول خطاب ، وهذا كله ليس بصحيح ولا مراد في هذه الآيات ، بل الأمر على ظاهره كما ورد ، ولو كان تسبيح حال كما يزعم بعض علماء النظر لم تكن فائدة في قوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) يريد بذلك التسبيح الثناء على الله لا للجزاء ، لأنه في عبادة ذاتية لا يتصور معها طلب مجازاة ، وقد يعذر علماء

٥٤٥

الرسوم فإن التسبيح هنا نسب إلى من لا ينسب إليه قول ولا نطق ، وهو التسبيح الذي لا يفقه ، وما قال لا يسمع ، إذ الكلام أو القول هو الذي من شأنه أن يتعلق به السمع ، والتسبيح لو كان قولا أو كلاما لنفى عنه سمعنا ، وإنما نفى عنه فقهنا وهو العلم ، والعلم قد يكون عن كلام وقول وقد لا يكون ، والتحقيق أن كل ما سوى الله حي ، فإنه ما من شيء إلا يسبح بحمده ، ولا يكون التسبيح إلا من حي عاقل عالم بمسبحه ، فإذا ما ثمّ إلا من يسبح الله بحمده ، ولا يسبحه إلا حي سواء كان ميتا أو غير ميت فإنه حي ، لأن الحياة للأشياء فيض من حياة الحق عليها ، فهي حية في حال ثبوتها ، ولو لا حياتها ما سمعت قوله (كُنْ) بالكلام الذي يليق بجلاله فكانت ، وقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) والشيء أنكر النكرات ، وإن كان الله قد أخذ بأسماعنا عن تسبيح الجمادات والنبات والحيوان الذي لا يعقل كما أخذ بأبصارنا عن إدراك حياة الجماد والنبات ، إلا لمن خرق الله له العادة كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حضره من أصحابه حين أسمعهم الله تسبيح الحصى ، فما كان خرق العادة في تسبيح الحصى وإنما انخرقت العادة في تعلق أسماعهم به ، روي في الصحيح أن الحصى سبح في كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل الناس خرق العادة في تسبيح الحصى ، وأخطؤوا ، وإنما خرق العادة في سمع السامعين ذلك ، فإنه لم يزل مسبحا كما أخبر الله ، فالذي سمع السامع كونه سمع نطق ما لم تجر العادة أن يسمعه ، فقوله تعالى (يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) تسبيح نطق يليق بذلك الشيء لا تسبيح حال ، ولهذا قال (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لاختلاف ما يسبحون به إلا لمن سمعه ، فهذا التسبيح لا يفقه بالنظر العقلي من جهة الفكر والنظر إلا أن يمنّ الله على بعض عباده بعلم ذلك ، فالكل ناطق وتقع العين على ناطق وصامت ، فالمؤمن يدرك ذلك إيمانا وصاحب الكشف يدرك الكيفية ، والكشف منحة من الله يمنحها الله من شاء من عباده ، فكل نطق في الوجود تسبيح وإن انطلق عليه اسم الذم ، وجاء بضمير الجمع في (تَفْقَهُونَ) وما يشير إليه هذا الضمير إنما هم الناس خاصة ، فجميع المخلوقات عبدوا الله إلا بعض الناس ، فالخلق عبد بالذات أثرت فيه العوارض ولا سيما الشخص الإنساني ، بل ما أثرت العوارض إلا في الشخص الإنساني وحده دون سائر الخلق ، وما سواه فعلى أصله من تنزيه خالقه عن الشريك (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) فلم يعجل عليكم بالعقوبة ، وبإمهالكم حيث لم يؤاخذكم سريعا بما رددتم من ذلك وقلتم إنه تسبيح حال ، فإن الله ما خلق شيئا

٥٤٦

من الكون إلا حيا ناطقا جمادا كان أو نباتا أو حيوانا في العالم الأعلى والأسفل ، فكل شيء من عالم الطبيعة جسم متغذ ، فهو حيوان ناطق بين جلي وخفي ، والكل حيوان ناطق مسبح بحمد الله تعالى ، ولما كان الأمر هكذا ، جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها من سماء وأرض وجبال وشجر وغير ذلك من الموجودات ، ووصفها بالطاعة لما أمرها به والإباية لقبول عرضه ، وأسجد له كل شيء ، لأنه تجلى لكل شيء وأوحى إلى كل شيء بما خاطب ذلك الشيء به ، تقول الجلود يوم القيامة (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فعمّت فكانت الجلود أعلم بالأمر ممن جعل النطق فصلا مقوما للإنسان خاصة ، وعرى غير الإنسان عن مجموع حده من الحيوانية والنطق ، فإن الله تعالى ما قال (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) إلا في معرض الرد على من يقول إنه تسبيح حال ، فإن العالم كله قد تساوى في الدلالة ، فمن يقول بتسبيح الحال فقد أكذب الله في قوله تعالى (لا تَفْقَهُونَ) ولذلك قال تعالى (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) وأما قوله تعالى (غَفُوراً) حيث ستر عنكم تسبيح هؤلاء فلم تفقهوه ، فكان غفورا أي ساترا نطقهم عن أن تتعلق به الأسماع إلا لمن خرق الله له العادة ، ومن هذه الآية نعلم أن سر الحياة الإلهية سرى في جميع الموجودات فحييت بحياة الحق ، فمنها ما ظهرت حياتها لأبصارنا ومنها ما أخذ الله بأبصارنا عنها في الدنيا ، إلا الأنبياء وبعض أولياء الله فإنه كشف لهم عن حياة كل شيء ، ولسريان هذه الحياة في أعيان الموجودات نطقت كلها مسبحة بالثناء على موجدها ، وهذه الحياة وباقي الصفات نسب وإضافات وشهود حقائق ، فإن الله هو العلي الكبير عن الحلول والمحل ، وعن ذلك نزهته الأشياء في تسبيحها فإن التسبيح تنزيه ، فإن المولدات في عالم العناصر ثلاثة عوالم طبيعية ، ويسري في كل عالم مولد من هذه الثلاثة أرواح ، هي نفوس هذه المولدات ، بها تعلم خالقها ومنشئها ، وبها سرت الحياة فيها كلها ، وبها خاطبها الحق وكلفها ، وهو رسول الحق إليها وداع كل شخص منه إلى ربه ، فما بطنت حياته سمّي جمادا ونباتا ، وانفصل هذان المولدان ، وتميزوا بالنمو والغذاء ، فقيل في النامي منه نبات وفي غير النامي جماد ، وما ظهرت حياته وحسه سمي حيوانا ، والكل قد عمته الحياة ، فنطق بالثناء على خالقه من حيث لا نسمع ، وعلّمهم الله الأمور بالفطرة من حيث لا نعلم ، فلم يبق رطب ولا يابس ولا حار ولا بارد ولا جماد ولا نبات ولا حيوان إلا وهو مسبح لله تعالى بلسان خاص بذلك الجنس ، فكل جسم في

٥٤٧

العالم مقيد بصورة روح إلهي يلازم تلك الصورة ، به تكون مسبحة لله ، فمن الأرواح ما تكون مدبرة لتلك الصورة لكون الصورة تقبل تدبير الأرواح ، وهي كل صورة تتصف بالحياة الظاهرة والموت ، فإن لم تتصف بالحياة الظاهرة والموت فروحها روح تسبيح لا روح تدبير ، فما من صورة في العالم ـ وما العالم إلا صور ـ إلا وهي مسبحة خالقها بحمد مخصوص ألهمها إياه ، وما من صورة في العالم تفسد إلا وعين فسادها ظهور صورة أخرى في تلك الجواهر ، عينها مسبحة لله تعالى حتى لا يخلو الكون كله عن تسبيح خالقه ، فتسبحه أعيان أجزاء تلك الصورة بما يليق بتلك الصورة ، والأرواح الجزئية متفاضلة بالعلم بالأشياء ، فمنهم من له علم بأشياء كثيرة ، ومنهم من لا يعلم إلا القليل ، ولا أعلم بالله من أرواح الصور التي لا حظ لها في التدبير ، لكون الصورة لا تقبل ذلك وهي أرواح الجماد ، ودونهم في رتبة العلم بالله أرواح النبات ودونهم في العلم بالله أرواح الحيوان ، وكل واحد من هؤلاء مفطور على العلم بالله والمعرفة به ، ولهذا ما لهم همّ إلا التسبيح بحمده تعالى ، ودون هؤلاء في العلم بالله أرواح الإنس ، وأما الملائكة فهم والجمادات مفطورون على العلم بالله لا عقول لهم ولا شهوة ، والحيوان مفطور على العلم بالله وعلى الشهوة ، والإنس والجن مفطورون على الشهوة والمعارف من حيث صورهم لا من حيث أرواحهم ، وجعل الله لهم العقل ليردوا به الشهوة إلى الميزان الشرعي ويدفع عنهم به منازعة الشهوة في غير المحل المشروع لها ، لم يوجد الله لهم العقل لاقتناء العلوم ، والذي أعطاهم الله لاقتناء العلوم إنما هي القوة المفكرة ، فلذلك لم تفطر أرواحهم على المعارف كما فطرت أرواح الملائكة وما عدا الثقلين ، فإذا علمت هذا علمت أن العالم كله ما عدا الإنس والجان مستوفي الكشف لما غاب عن الإحساس البشري ، فلا يشاهد أحد من الإنس والجن ذلك الغيب إلا في وقت خرق العوائد لكرامة يكرمه الله بها ، كما أن كل جماد ونبات وحيوان في العالم كله ، وفي عالم الإنسان والجن وأجسام الملائكة والأفلاك ، وكل صورة يدبرها روح محسوسا كان ذلك التدبير فيمن ظهرت حياته أو غير محسوس فيمن بطنت حياته ـ كأعضاء الإنسان وجلوده وما أشبه ذلك ـ كل هؤلاء في محل كشف الغيوب الإلهية ، المستورة عن الأرواح المدبرة لهذه الأجسام من ملك وإنس وجن لا غير ، فإنها محجوبة عن إدراك هذا الغيب الإلهي ، وهو من الغيوب الإلهية فيجهل كل روح مثل هذا إلا أن يعرفه الله به إلا من ذكرناهم ، فإنهم يعرفونه بالفطرة التي فطرهم

٥٤٨

الله عليها. واعلم أن الكشف لا سبيل إلى حصوله إلا بعناية أزلية تعطيك استعدادا تاما لقبوله ، برياضات نفسية ومجاهدات بدنية وتخلق بأسماء إلهية ، وتحقق بأرواح طاهرة ملكية وتطهير بطهارة شرعية مشروعة لا معقولة ، وعدم تعلق بأكوان وتفريغ محل عن جميع الأغيار ، لأن الحق ما اصطفى لنفسه منك إلا قلبك حين نوّره بالإيمان فوسع جلال الحق ، فعاين من هذه صفته الممكنات بعين الحق ، فكانت له مشهودة وإن لم تكن موجودة ، فما هي له مفقودة ، وقد كشف لبصيرته بل لبصره وبصيرته نور الإيمان حين انبسط على أعين الممكنات أنها في حال عدمها مرئية رائية مسموعة سامعة برؤية ثبوتية وسمع ثبوتي لا وجود له ، فعيّن الحق ما شاء من تلك الأعيان ، فوجه عليه دون غيره من أمثاله قوله المعبر عنه باللسان العربي المترجم بكن ، فأسمعه أمره ، فبادر المأمور فتكون عن كلمته ، لا بل كان عين كلمته ، ولم تزل الممكنات في حال عدمها الأزلي لها تعرف الواجب الوجود لذاته وتسبحه وتمجده بتسبيح أزلي وتمجيد قديم ذاتي ولا عين لها موجودة ولا حكم لها مفقود ، فإذا كان حال الممكنات كلها على ما ذكرناه من هذه الصفات التي لا هل معها ، فكيف تكون في حال وجودها وظهورها لنفسها ، جمادا لا ينطق؟ أو نباتا بتعظيم خالقه لا يتحقق؟ أو حيوانا بحاله لا يصدق؟ أو إنسانا بربه لا يتعلق؟ هذا محال ، فلا بد أن يكون كل ما في الوجود من ممكن موجود يسبح الله بحمده بلسان لا يفقه ، ولحن ما إليه كل أحد يتنبه ، فيسمعه أهل الكشف شهادة ، ويقبله المؤمن إيمانا وعبادة ، فقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فجاء باسم الحجاب والستر ، وهو قوله غفورا ، وجاء بالاسم الذي يقتضي تأخير المؤاخذة إلى الآجل وعدم حكمها في العاجل ، وهو الحليم ، لما علم أن في عباده من حرم الكشف والإيمان ، وهم العقلاء عبيد الأفكار ، والواقفون مع الاعتبار ، فجازوا من الظاهر إلى الباطن مفارقين الظاهر ، فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف ولا إيمان ، لما حجب الله أعينهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها ، ولا رزقوا إيمانا في قلوبهم يكون له نور يسعى بين أيديهم. وأما المؤمنون الصادقون أولوا العزم من الأولياء ، فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلى الباطن ، وبالحرف عينه إلى المعنى ، ما عبروا عنه ، فرأوا الأمور بالعينين ، وشهدوا بنور إيمانهم النجدين ، فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوا ، ولا جحدوا ما تيقنوه ، فأسمعهم الله نطق

٥٤٩

الموجودات ، لا بل نطق الممكنات قبل وجودها ، فإنها حية ناطقة درّاكة بحياة ثبوتية ونطق ثبوتي ، إذ كانت في أنفسها أشياء ثبوتية ، فلما قبلت الوجود قبلته بجميع نعوتها وصفاتها ـ وليس نعتها سوى عينها ـ فهي في حال شيئية وجودية حية بحياة وجودية ناطقة بنطق وجوديّ درّاكة بإدراك وجودي ، فلو لا أن الله أسرى بسر الحياة في الموجودات ما كانت ناطقة ، ولو لا سريان العلم فيها ما كانت ناطقة بالثناء على الله موجدها ، ولهذا قال (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فأتى بلفظ النكرة وما خص شيئا ثابتا من شيء موجود ، لأنها قبلت شيئية الوجود على الحال التي كانت عليها في شيئية الثبوت ، إلا أن الله أخذ بأبصار بعض عباده عن إدراك هذه الحياة السارية والنطق والإدراك الساري في جميع الموجودات ، كما أخذ الله ببصائر أهل العقول والأفكار عن إدراك ما ذكرناه في جميع الموجودات وفي جميع الممكنات ، وأهل الكشف والإيمان على علم مما هو الأمر عليه في هذه الأعيان في حال عدمها ووجودها ، فمن ظهرت حياته سمي حيا ومن بطنت حياته فلم تظهر لكل عين سمي نباتا وجمادا ، فانقسم عند المحجوبين الأمر وعند أهل الكشف والإيمان لم ينقسم ، فأما أصحاب الكشف والشهود أهل الاختصاص فقد أعطاهم الشهود ، وما أعطى المحجوبين شهودهم ، فيقول أهل الشهود : سمعنا ورأينا. ويقول المحجوبون : ما سمعنا ولا رأينا. ويقول أهل الإيمان : آمنا وصدقنا ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وشيء نكرة وقال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) فذكر الجماد والنبات والحيوان الذين وقع فيهم الخلاف بين المحجوبين من أهل العقول والأفكار وبين أهل الشهود والإيمان ، وغير ذلك من الآيات القرآنية ، وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس] وقال في أحد : [هذا جبل يحبنا ونحبه] وقال : [إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث] ثم أنه قد صح أن الحصى سبح في كفه ، وصح حنين الجذع إليه ، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة ، فكل شيء حي مسبح بحمد الله ولا يسبح إلا من يعقل من يسبحه ، ويثني عليه بما يستحقه ، فالله تعالى يرزقنا الإيمان إذا لم نكن من أهل العيان والكشف والشهود لهذه الأمور ، التي أعمى الله عنها أهل العقول الذين تعبدتهم أفكارهم وغير المؤمنين الذين طمس الله على قلوبهم ، فمن علم أن كل شيء ناطق ناظر إلى ربه لزمه الحياء من كل شيء ، حتى من نفسه

٥٥٠

وجوارحه ، فكل شيء في العالم يقال فيه عند أهل النظر وفي العامة إنه ليس بحي ولا حيوان ، فإن الله عندنا قد فطره لمّا خلقه على المعرفة به والعلم ، وهو حي ناطق بتسبيح ربه ، يدركه المؤمن بإيمانه ويدركه أهل الكشف عينا ، وأما الحيوان ففطره الله على العلم به تعالى ونطّقه بتسبيحه ، وجعل له شهوة لم تكن لغيره من المخلوقات ، وفطر الملائكة على المعرفة والإرادة لا الشهوة ، وفطر الجن والإنس على المعرفة والشهوة ـ وهو تعلق خاص في الإرادة ـ لأن الشهوة إرادة طبيعية ، فليس للإنس والجن إرادة إلهية كما للملائكة بل إرادة طبيعية تسمى شهوة ، وفطرهما على العقل لا لاكتساب العلم ، ولكن جعله الله آلة للإنس والجن ليردعوا به الشهوة في هذه الدار خاصة لا في الدار الآخرة ، فإذا استفاد الإنسان أو الجان علما من غير كشف فإن ذلك مما جعل الله فيه من قوة الفكر ، فكل ما أعطاه الفكر للنفس الناطقة وكان علما في نفس الأمر فهو من الفكر بالموافقة ، فالعلوم التي في الإنسان إنما هي بالفطرة والضرورة والإلهام ، والكشف الذي يكون له إنما يكشف له عن العلم الذي فطره الله عليه ، فيرى معلومه وأما بالفكر فمحال الوصول به إلى العلم ، وأما الإلهام والإعلام الإلهي فتتلقاه النفس الناطقة من ربها كشفا وذوقا من الوجه الخاص الذي لها ولكل موجود سوى الله ، فالفكر الصحيح لا يزيد على الإمكان وما يعطي إلا هو ، ومن علم البهائم بالله ولما خلقت له ، ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن بقرة في زمن بني إسرائيل حمل عليها صاحبها ، فقالت : ما خلقت لهذا ، وإنما خلقت للحرث ، فقال الصحابة : أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر] ومر بعض أهل الله على رجل راكب على حمار وهو يضرب رأس الحمار حتى يسرع في المشي ، فقال له الرجل : لم تضرب على رأس الحمار؟ فقال له الحمار : دعه فإنه على رأسه يضرب. فهذا حمار قد علم ما تؤول إليه الأمور بالفطرة ، وكان ابن عطاء راكبا على جمل فغاصت رجل الجمل ، فقال ابن عطاء الله : جل الله ، فقال الجمل : جل الله يزيد على إجلالك. فكان الجمل أعلم بالله من ابن عطاء ، فاستحى ابن عطاء ، فهذه البهائم تعرفك وتعرف ما يؤول إليه أمرك ، وتعرف ما خلقت له ، وأنت جهلت هذا كله مع قول الله تعالى لك (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فانظر يا محجوب أين مرتبتك من البهائم؟ فكم بيّن الله لنا ما هي المخلوقات عليه من العلم بالله والطاعة له والقيام بحقه ولا نؤمن ولا نسمع ، ورجحنا حسّنا على الإيمان بما عرّفنا به

٥٥١

ربنا ، لما لم نشاهد ذلك مشاهدة عين ، فكل ما سوى الله مسبح بحمد الله ، وقد وردت الأخبار بحياة كل رطب ويابس وجماد ونبات وأرض وسماء ، وهنا وقع الخلاف بين أهل الكشف والإيمان وبين من لا يقول بالشرائع أو من يتأول الشرائع على غير ما جاءت له ، فيقولون إنه تسبيح حال ، وأما ما أدرك الحس حياته فلا خلاف في حياته ، وإنما الخلاف في سبب حياته ما هو؟ وفي تسبيحه بحمد ربه لماذا يرجع؟ إذ لا يكون التسبيح إلا من حي عاقل يعقل ذلك ، وما عدا الإنسان والجن من الحيوان ليس بعاقل عند المخالف ، بخلاف ما يعتقده أهل الكشف والإيمان الصحيح ، فيدرك المكاشف الحياة الذاتية التي في الأجسام ، وهي صفة نفسية لها بها تسبح ربها دائما ، سواء كانت أرواحها المدبرة فيها أو لم تكن ، فالحياة الذاتية لكل جوهر فيه غير زائلة ، وبتلك الحياة الذاتية التي أخذ الله بأبصار بعض الخلق عنها ، بها تشهد الجلود يوم القيامة على الناس والألسنة والأيدي والأرجل ، وبها تنطق فخذ الرجل في آخر الزمان فتخبر صاحبها بما فعل أهله ، وبها تنطق الشجرة في آخر الزمان إذا اختفى اليهود حين يطلبهم المسلمون للقتل ، وإنما كانت هذه الحياة في الأشياء ذاتية لأنها عن التجلي الإلهي للموجودات كلها ، لأنه خلقها لعبادته ومعرفته ، ودوام التجلي أعطاها الحياة الذاتية الدائمة ، وبهذه الحياة يسبح كل شيء ، فالعالم كله ـ الذي هو عبارة عن كل ما سوى الله ـ حيوان ناطق ، لكن تختلف أجسامه وأغذيته وحسه ، فهو الظاهر بالصورة الحيوانية وهو الباطن بالحياة الذاتية ، فأنطق الحق العالم كله بالتسبيح بحمده بلسان فصيح ينسب إليه بحسب ما تقتضيه حقيقته ، وكل موجود من الأجسام له لطيفة روحانية إلهية تنظر إليه من حيث صورته لا بد من ذلك ، والتسبيح تنزيه ما هو ثناء بأمر ثبوتي ، لأنه لا يثنى عليه إلا بما هو أهل له ، وما هو له لا يقع فيه المشاركة ، وما أثني عليه إلا بأسمائه ، وما من اسم له سبحانه عندنا معلوم إلا وللعبد التخلق به والاتصاف به على قدر ما ينبغي له ، فلما لم يتمكن في العالم أن يثني عليه بما هو أهله ، جعل الثناء عليه تسبيحا من كل شيء ، ولهذا أضاف الحمد إليه فقال (يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي بالثناء الذي يستحقه وهو أهله ، وليس إلا التسبيح ، فإنه سبحانه يقول (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) والعزة المنع من الوصول إليه بشيء من الثناء عليه الذي لا يكون إلا له (عَمَّا يَصِفُونَ) وكل مثن واصف ، فذكر سبحانه تسبيحه في كل حال ومن كل عين ، فقال (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ

٥٥٢

وَمَنْ فِيهِنَّ) وما ثم إلا هؤلاء ، ولما كان الأمر بالثناء على الله على ما قررناه لم يتمكن لنا أن نستنبط له ثناء ، فإن كان التسبيح ثناء ، فقد قيد ثناء كل موجود في العالم بقوله تعالى «بحمده» فقيد تسبيح كل شيء بحمده المضاف إليه ، أي الثناء الذي أثنى به على نفسه ، وهو الذي أنزله من عنده ، في كتبه وعلى ألسنة رسله ، على حد ما يعلمه هو لا على حد ما نفهمه ، فإنه تعالى نبّه بقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إلا هذا الإنسان فإن بعضه يسبحه بغير حمده ، فنحن نكون في الثناء عليه بما أثنى به على نفسه حاكين تالين ، لأن الثناء على المثنى عليه مجهول الذات ، لا يقبل الحدود والرسوم ، ولا يدخل تحت الكيفية ، ولا يعرف كما هو عليه في نفسه ، وهو الغني عن العالمين ، فلا تدل على المعرفة به الدلالات ، وإنما تدل على استنادنا إليه من حيث لا يشبهنا أو لا يقبل وصفنا ، وما من اسم إلهي إلا ونتصف به ، فما تلك هي المعرفة المقصودة التي يعلم بها نفسه ، فشرع التسبيح وفطر عليه كل شيء ، وهو نفي عن كل وصف لا إثبات ، فالتسبيح تنزيه ونفي لا إثبات ، والثناء على الله بالتسبيح لا تكل به الألسنة ، وهو تسبيح كل ما سوانا ، أي الأنفس الناطقة ، فإنا لا نفقه تسبيحهم إلا إذا أعلمنا به ، فالمحامد لا تقف عند حد ، والمسبّح لا يسبحه إلا بحمده ، بخلاف الثناء بالأسماء ، فإن الألسنة (أي ألسنة الأنفس الناطقة) تكل وتعيا وتقف فيها ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما عند الإعياء والحصر [لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك] ، وتتبعنا الكتاب والسنّة في التسبيح إذا سبح به المسبح ـ أعني بلفظه الخاص به الدال عليه ـ فوجدناه أنه لا بد أن يقيد باسم من الأسماء الإلهية الظاهرة أو المضمرة والمضافة والمطلقة ، فطلبنا هذه الأسماء فوجدناها تدور على الله ، والرب المضاف ، والاسم الناقص ، والاسم المضمر كالهاء ، والملك والعلي ، فالله يقول (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) والرب قوله (سُبْحانَ رَبِّكَ) والاسم الناقص (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) والمضمر قوله (سبحانه وتعالى) والملك مثل الذي ورد في السنة (سبحان الملك القدوس) والعلي كما ورد في السنة (سبحان العلي الأعلى) وقد ورد من غير تقييد في السنة مثل قول (سبوح) وهذا ذكر المذكور ، ونتيجته أعظم النتائج ، لأنه كناية عن عين المسبّح بالتسبيح ، فاسمه هنا عينه ، وهذا أكمل تسبيح العارفين ، لأنه غاب عن الاسم فيه بالمسمّى ، ولما كان التسبيح بحمده قربة به ، فقال في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [سبحان الله والحمد لله أنهما يملآن أو يملآ ما بين

٥٥٣

السماء والأرض] وأراد قوله : سبحان الله وبحمده ، فإن الحمد لله تملأ الميزان ، فإنها آخر ما يجعل في الميزان فبها يمتلىء ، فالعارف من سبح الله بما أثنى به على نفسه وما استنبط شيئا ، ولهذا قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فدل على أن كل شيء يسبح إلهه بما تقرر عنده منه مما ليس عند الآخر ، فلو كان تسبيحهم راجعا إلى أمر واحد لم يجهل أحد تسبيح غيره ، وفي ذلك إشارة إلى الذين استنبطوا الثناء عليه تعالى بعقولهم فنسوا قوله تعالى «بحمده» فحجبهم عن ذلك أدلة عقولهم ، إذ ستر الله عنها ذلك بستر أفكارهم فلم يؤاخذهم على ذلك لقوله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) فلم يؤاخذ مع القدرة على ما تركتم من الثناء عليه بما أثنى به على نفسه ، ولم يعجل عليكم بالعقوبة فيمن يزعم أنه على وصف كذا خاصة وما هو على وصف كذا ، فكان حليما مع ما في ذلك من سوء الأدب منكم (غَفُوراً) بما ستره عنكم من علم ذلك ممن هو بهذه المثابة ، فوصف نفسه تعالى في آخر هذه الآية بأنه غفور لما ستر به قلوبهم عن العلم به إلا من شاء من عباده ، فإنه أعطاه العلم به على الإجمال ، فإذا أراد العبد نجاة نفسه وتحصيل أسباب سعادته ، فلا يحمد الله إلا بحمده ، كان ما كان ، على علم الله في ذلك من غير تعيين ، فإذا قام فضول بالإنسان واستنبط له ثناء لم يجىء بذلك اللفظ خطاب إلهي فما سبحه بحمده بل بما استنبطه من عنده ، فينقص

عن درجة ما ينبغي ، فقل ما قاله عن نفسه ولا تزد في الرقم وإن كان حسنا تكن من أهل الحق ، فإن الله خلق العالم للتسبيح بحمده لا لأمر آخر ، فالعالم لا يفتر عن التسبيح طرفة عين لأن تسبيحه ذاتي كالنفس للمتنفس ، وهذه الآية إخبار من الحق عن الأشياء أنها تنزه بحمده أي بالثناء عليه ، والتنزيه البعد ، وما ذكر الله أنه أمرهم بتسبيحه ، بل أخبر أنهم يسبحون بحمده ، فاجعل بالك لقول الله في تلاوتك لما يقول ربك عن نفسه وما يقوله العالم عنه ، وفرّق ، ولا تحتج فيه إلا بما قاله عن نفسه لا بما يحكيه من قول العالم فيه ، تكن من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته ـ نصيحة ـ لما كان المؤمن لا يشك في أن كل شيء مسبح ، وكل مسبح حي عقلا ، فإن أهل الورع يتورعون عن صيد الحيوان كما يفعل الملوك ومن لا حاجة له بذلك ، للفرجة واللهو واللعب ، فقد ورد أن العصفور يأتي يوم القيامة فيقول : يا رب سل هذا لم قتلني عبثا؟ وكذلك من يقطع شجرة لغير منفعة أو ينقل حجرا لغير فائدة تعود على أحد من خلق الله.

٥٥٤

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٤٦)

من قرأ هاتين الآيتين كانتا له أمانا من الوسواس ، وقوله تعالى : (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) لأنهم لم يسمعوا بذكر شركائهم واشمأزت قلوبهم ، هذا مع علمهم بأنهم هم الذين وضعوها آلهة ، ولهذا قال : سموهم ، فإنهم إن سموهم قامت الحجة عليهم.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥)

٥٥٥

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) مع أن النبوة موجودة ، فما زالوا في النبوة مع فضل بعضهم على بعض ، فتفضل منازلهم بتفاضلهم وإن اشتركوا في الدار ، فقوله تعالى (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بما يقتضيه الشرف مع اجتماعهم في درجة النبوة ، أي يزيد كل واحد على صاحبه برتبة تقتضي المجد والشرف ، أي جعلنا عند كل واحد من صفات المجد والشرف ما لم نجعل عند الآخر ، فقد زاد بعضهم على بعض في صفات الشرف والمراتب التي فضلوا بها بعضهم على بعض ، أي أعطينا هذا ما لم نعط هذا ، وأعطينا هذا ما لم نعط من فضله ولكن من مراتب الشرف ، فمنهم من كلم الله ، وآتينا عيسى البينات وأيدناه بروح القدس ، ومنهم من فضل بأن خلقه بيديه وأسجد له الملائكة ، ومنهم من فضل بالكلام القديم الإلهي بارتفاع الوسائط ، ومنهم من فضل بالخلة ، ومنهم من فضل بالصفوة وهو إسرائيل يعقوب ، فهذه كلها صفات شرف ومجد ، ولا يقال : إن خلّته أشرف من كلامه ولا أن كلامه أفضل من خلقه بيديه ، بل كل ذلك راجع إلى ذات واحدة لا تقبل الكثرة ولا المفاضلة ، ومذهب الجماعة أن كل واحد من الأنبياء فاضل مفضول ، فخص آدم بعلم الأسماء الإلهية ، وخص موسى بالكلام ، وخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذكر عن نفسه ، وخص عيسى بكونه روحا ، ومع علمنا بأن الله فضّل بعضهم على بعض ، فله سبحانه أن يفضل بين عباده بما شاء ، وليس لنا ذلك ، فإنا لا نعلم ذلك إلا بإعلامه ، فإن ذلك راجع إلى ما في نفس الحق سبحانه منهم ، ولا يعلم أحد ما في نفس الحق ، ولا دخول هنا للمراتب الظاهرة والتحكم ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نفضل بين الأنبياء وأن نفضله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم إلا بإعلامه أيضا ، وعيّن يونس عليه‌السلام وغيره ، فمن فضّل من غير إعلام الله فقد خان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعدى ما حده له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجه في هذه المفاضلة ـ الرسالة ونبوة الشرائع المتعدية إلى الأمم ، والخاصة بكل نبي ، اختصاص إلهي في الأنبياء والرسل لا ينال بالاكتساب ولا بالتعمل ، وخطاب الحق قد ينال بالتعمل ، والذي يخاطب به إن كان شرعا يبلّغه أو يخصه ، ذلك هو الذي نقول فيه : لا ينال بالتعمل ولا بالكسب ، وهو الاختصاص الإلهي المعلوم ، فكل شرع ينال به عامله هذه المرتبة فإن نبي ذلك الشرع من أهل هذا المقام ، وهو زيادة على شريعة نبوته له ، فضلا من الله ونعمة ، وكل شرع لا ينال العامل به هذا المقام فإن نبي ذلك الشرع لم يحصل له هذا المقام الذي

٥٥٦

حصل لغيره من أنبياء الشرائع ، فهذا وجه من الوجوه التي قال تعالى فيها : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وقوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) قال الخضر لموسى في هذا المقام (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فإن موسى عليه‌السلام في ذلك الوقت لم يكن له هذا المقام الذي نفاه عنه العدل بقوله ، وتعديل الله إياه بما شهد له به من العلم ، وما رد عليه موسى في ذلك ولا أنكر عليه بل قال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦)

ـ تحقيق ـ تعلم الخصام ، فإن الحق سيجعلك بين المشتركين ، فلا تتخلص منهم إلا بالحجة ، فانظر من عبد غير الحق فقل له : مالك وكذا؟ اطلب منه كذا. ولا يكون هذا القول إلا غيرة منك في حق الحق ، فإن الذي يطلبه منهم لا يكون ، فتبقى حجتهم داحضة ، وإن قلت ذلك لا من أجل الغيرة يكون ما طلبت منهم ، فيزداد الكافر كفرا ، وقد ترتاب أنت ، فلا تتعرض للفتن إلا بقدم راسخة عند الحق ، ومن لا قدم له عند الحق لا صدق له ، ومن لا صدق له سقط حظه من الحق.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧)

(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) إن الرجاء مقام مخوف ، يحتاج صاحبه إلى أدب حاضر حاصل ومعرفة ثابتة لا يدخلها شبهة ، فإنه مقام على جانب الطريق ما هو في نفس الطريق ، تحته مهواة بأدنى زلة يسقط صاحبه من الطريق ، وهو على طريق الحياة الدائمة التي بها بقاء العالم في النعيم ، والحال التي ينبغي أن يظهر سلطانه فيها عند الاحتضار ، وأما قبل ذلك فيساوى بين حكمه وحكم الخوف إن كان مؤمنا حقيقة ، قال الله تعالى : [أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا] وكذلك ينبغي أن يظن بنفسه شرا لا بربه ، إلا عند الموت يشتغل بربه في تلك الحال ويظن به خيرا ، ويعرض عن ظنه بنفسه جملة واحدة ، بخلاف حاله في دنياه.

٥٥٧

إن الرجاء كمثل الخوف في الحكم

فاعزم عليه وكن منه على علم

إن الرجاء مقام ليس يعلمه

إلا أولوا العلم بالرحمن والفهم

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

الشجرة مشتقة من التشاجر لتداخل أغصانها بعضها على بعض ، كالمتشاجرين يدخل كلام بعضهم في كلام بعض بالمخالفة والمنازعة ، ولذلك ما ذكر الله تعالى في القرآن إلا ثمرات الجنة ، فإنه جعلها منزل موافقة ، فقد يكون أغصانها تخرج على الاعتدال والاستقامة ، وذكر ذلك في النار فقال : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) وقال : [إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم] فإن جهنم دار نزاع وتشاجر.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٦١)

اعلم أن كل مخلوق ما عدا بني آدم في مقام الخشوع والتواضع إلا الإنسان ، فإنه يدعي الكبرياء والعزة والجبروت على الله تعالى ، وأما الجن فتدعي ذلك على من دونها في زعمها من المخلوقين ، كاستكبار إبليس من حيث نشأته على آدم عليه‌السلام ، ولذا قال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) لأنه رأى عنصر النار أشرف من عنصر التراب ، وقال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فلم يتكبر على الله عزوجل ، فاختص الإنسان وحده من سائر المخلوقات بهذه الصفة. واعلم أن سبب سجود الملائكة لآدم إنما كان لأجل الصورة ، لا لأن علّمهم الأسماء ، فأمروا بالسجود قبل أن يعرفوا فضله عليهم بما علمه الله من الأسماء ،

٥٥٨

ولو كان السجود بعد ظهوره بالعلم ما أبى إبليس ولا قال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ولا استكبر عليه ، ولهذا قال (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ثم بعد ذلك أعلم الله الملائكة بخلافته فقالوا ما أخبر الله عنهم ، ولهذا قال تعالى في بعض ما كرره من قصته (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فأتى بالماضي من الأفعال ، وبأداة إذ وهي لما مضى من الزمان ، فاجعل بالك لهذه المسئلة ، لتعلم فضل آدم بعلمه على فضله بالسجود له لمجرد ذاته ، ولماذا نهي في الشرع أن يسجد إنسان لإنسان ، فإنه سجود الشيء لنفسه ، فإنه مثله من جميع وجوهه ، والشيء لا يخضع لنفسه ، ولهذا لما سئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرجل إذا لقي الرجل أينحني له؟ قال : لا ، قيل له : أيصافحه؟ قال : نعم.

(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) (٦٢)

فقال تعالى من كرمه لإبليس وعموم رحمته.

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣)

ومن الأمر اللطيف الذي تجعله قرائن الأحوال وعيدا وتهديدا ، والظاهر تعلق بالحكم ، لاستواء الرحمن على العرش ، واتساع الرحمة وعمومها حيث لم تبق شيئا إلا حكمت عليه ، ومن حكمها كان قوله تعالى.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً) (٦٤)

لما كان للجن ـ شياطينهم وغير شياطينهم ـ الإغواء ، أمرهم الله من خلف حجاب البعد بالاستفزاز والمشاركة في الأموال والأولاد ، ابتلاء لهم وامتحانا ، فيقول الشيطان للإنسان اكفر ، فإذا كفر يقول الشيطان (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ولو أن هذه الآية وأمثالها فيما يختص بإبليس أوامر إلهية ، فإنها لم تكن ابتداء من الله ، فلو كانت ابتداء ما شقي إبليس ، ولكن لما كانت إجابة لإبليس لما قال (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)

٥٥٩

(لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) شقي بها ، كما تعب المكلف فيما سأله من التكليف ، فإبليس مصدّق لله فيما أخبر به عنه ممتثل أمر الله بشبهة في أمره في قوله (وَعِدْهُمْ) فأخبر الله تعالى عنه (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) فما جاء إبليس إلا بأمر الله تعالى ، وهو أمر إلهي يتضمن وعيدا وتهديدا ، ولكن لطف الله بإبليس بأن جعل له متعلقا يتعلق به في موطن خاص ، فأدرج الرحمة من حيث لا يشعر بها ، ولو شعر إبليس بهذا الاستدراج الرحماني ، ما طلب الرحمة من عين المنة ، ولكن حجبته قرائن الأحوال عن اعتبار صفة الأمر الإلهي ، وكان ابتلاء شديدا في حقنا ، ليريه تعالى أن في ذرية آدم من ليس لإبليس عليه سلطان ولا قوة فقال تعالى.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥)

كلّما قربت أحوالك من أحوال الأنبياء أي باتباع الرسول والجري على سنته ، كنت في العبودة أمكن ، وكانت لك الحجة ، ولم يكن للشيطان عليك سلطان ، كما قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) وقال (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) فلا أثر للشيطان فيهم ، فإن السجدة القلبية إذا حصلت للإنسان حالة مشاهدة عين فقل كمل وكملت معرفته وعصمته فلم يكن للشيطان عليه سبيل ، وتسمى هذه العصمة في حق الولي حفظا كما تسمى في حق النبي والرسول عصمة ، ليقع الفرق بين الولي والنبي ، فالأنبياء محفوظون ظاهرا وباطنا ، والولي محفوظ من الأمر الذي يقصد الشيطان عند إلقائه في قلب الولي ما شاء الله أن يلقي إليه ، فيقلب عينه بصرفه إلى الوجه الذي يرضي الله ، فيحصل بذلك على منزلة عظيمة عند الله ، ولو لا حرص إبليس على المعصية ما عاد إلى هذا الولي مرة أخرى ، فإنه يرى ما جاءه به ليبعده بذلك من الله يزيده قربا وسعادة ، والأنبياء معصومون أن يلقي الشيطان إليهم ، فلهم العصمة من الشيطان ظاهرا وباطنا ، وهم المحفوظون من الله في جميع حركاتهم ، وذلك لأنهم قد نصبهم الله للناس ، ولهم المناجاة الإلهية ، فالأنبياء المرسلون معصومون من المباح أن يفعلوه من أجل نفوسهم ، لأنهم يشرعون بأفعالهم وأقوالهم ، فإذا فعلوا مباحا يأتونه للتشريع ليقتدى بهم ، ويعرفون الأتباع عين الحكم الإلهي فيه ، فهو واجب عليهم ليبينوا للناس ما أنزل إليهم. فهذا الفرق بين العصمة والحفظ ، وإنما جعلوا الحفظ للولي أيضا أدبا مع النبي ، فإن الشيطان ما له سبيل على قلوب بعض الأولياء من

٥٦٠