رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

١
٢

(٤٠) سورة غافر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

(غافِرِ الذَّنْبِ) بنسبة اليسير إليه (وَقابِلِ التَّوْبِ) لمن يرجع إليه من المخالفة ، ولو رجع ألف مرة في كل يوم فهو تائب (شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) لما تجلى الحق في شديد العقاب ، تجلى في الطول الأعم المؤيد بغافر الذنب وقابل التوب ، ولم يجعل للشديد العقاب مؤيدا ، ومن شدته في ذلك أعقب أهل النار حسن المآب (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) هذا هو التوحيد الثامن والعشرون في القرآن وهو توحيد الصيرورة ، وهو من توحيد الهوية ، وهو على الحقيقة مقام الإيمان ، لأن المؤمن من اعتدل في حقه الخوف والرجاء ، واستوت فيهما قدماه ، فلم يحكم فضله في عدله ، ولا عدله في فضله ـ إشارة وتنبيه ـ لم يجعل للشديد العقاب مؤيدا وذلك للدعوى في الشدة ، فوكل إلى ما ادّعاه فهو غير معان ، ومن لم يدع فهو معان ، فلما جاء بالشدة في العقاب ولم يجيء في الطول مثل هذه الصفة ، لهذا شد أزره بغافر الذنب وقابل التوب ، فأشار إلى ذوي الأفهام من عباده بإعانة ذي الطول بغافر الذنب وقابل التوب على الشديد العقاب إلى ترك الدعوى ، فإن الشديد في زعمه أنه لا يقاوم ، ولو علم أن ثمّ ما يقاومه ما ادعى ذلك ، فنبه تعالى عباده على ترك الدعوى فيكون الحق يتولى أمورهم بنفسه ، وعصمهم في حركاتهم وسكناتهم ليقفوا عند ذلك ، ويعلموا أنه الحق.

(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ

٣

حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٨)

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) هؤلاء الملائكة من ملائكة التسخير ، أثنى الله عليهم بأنهم يسبحون بحمد ربهم استفتاحا إيثارا لجناب الله ، ثم بعد ذلك يستغفرون ، وهو الذي يليق بهم تقديم جناب الله ، فسخرهم الله لنصرة المؤمنين إذا أذنبوا وتوجهت عليهم أسماء الانتقام الإلهية ، وتوجهت في مقامات تلك الأسماء أسماء الغفران والعفو والتجاوز عن السيئات ، فتقول الملائكة ـ كما أخبرنا الله بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أيضا تصلي عليكم بما شرع لها من ذلك ـ مستغفرة في حق المؤمن العاصي غير التائب (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) إتكالا على علم الله فيما قصدوه من ذلك الكلام ، أدبا مع الله سبحانه ، حيث أنه استحق جناب الله أن يغار من أجله ، ويدعى على من عصاه ولم يقم بأمره وما ينبغي لجلاله ، فإن الملائكة أهل أدب مع الله فقالوا : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) بقولك (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وهؤلاء العصاة من الداخلين في عموم لفظة [كل] فقام هذا الصنف من الملائكة في مقام الأدب ، الذي حكم عليهم بهذا القول إيثارا للجناب الإلهي على الخلق ، ولهذا قدموا وأخروا فيما أخبر الله عنهم في قوله (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) وأخروا أيضا قولهم (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) وفيه روائح طلب المغفرة للمسيئين ، لأن الله ما علق المغفرة إلا بالذنب ، حيث علّقها ، وقدمت الملائكة الرحمة على العلم لأنه تعالى أحب أن يعرف وقال (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وأما قولهم [علما] فمن قوله تعالى (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) وهذا تعريض تنبيه على أن الحق بهذه المثابة ، كما أخبر عن نفسه ، وقدمت ذكر الرحمة على العلم في دعائها لموضع حاجة العباد إليها ، وأدبا مع الله ، فإن الله قدمها في العطاء على العلم ، فقال لما ذكر عبده خضر : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) قدمت

٤

الملائكة الرحمة ، وسكتت عن ذكر العصاة في دعائها ، فإن الله وسع كل شيء رحمة وعلما ، وهو القائل (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ولم يجر للغضب ذكر في هذه السعة الإلهية والرحمانية ، فلابد من مآل العالم إلى الرحمة ، لأنه لابد للعالم من الرجوع إلى الله ، فإنه القائل (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فإذا انتهت رجعته إليه عاد الأمر إلى البدء والمبدأ والمبدي ، والمبدأ رحمة وسعت كل شيء ، والمبدىء وسع كل شيء رحمة وعلما ، فعرف الأمر في عوده في الرحمة ، فيأمن من تسرمد العذاب على خلق الله ، فمن علم سعة الله علم سعة رحمته فلم يدخلها تحت الحجر ولا قصرها على موجود دون موجود ، فمنتهى علمه سبحانه منتهى رحمته فيمن يقبل الرحمة ، وكل ما سوى الله قابل لها بلا شك ، ولو لا سبق الرحمة الشاملة العامة الامتنانية لتسرمد العذاب على من ينفي رحمة الله من هذه السعة التي ذكر الله فيها ، ولكن سبق الرحمة جعله أن يبدو له من الله من الرحمة به مع هذا الاعتقاد ما لم يكن يحتسبه ، فما آخذه الله بجهله ، لأنه صاحب شبهة في فهمه ، فعين بصيرته مطموس ، وعقله في قيد جهله محبوس ، ثم دعت الملائكة لمن تاب من المؤمنين بقولهم : «ربنا (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) فصرحوا بذكرهم لما كان هؤلاء قد قاموا في مقام القرب الإلهي بالتوبة ، وقرعوا بابها في رجعتهم إلى الله ، والملائكة حجبة الحق ، فطلبوا من الله المغفرة لهم لما اتصفوا بالتوبة ، فقدموا الدعاء بالمغفرة للذين تابوا واتبعوا سبيل الله ، والله يقول : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وأي إحسان أعظم ممن تاب واتبع سبيله. ثم إن الملائكة لما عرفت أن بين الجنة والنار منزلة متوسطة وهي الأعراف ، فمن كان في هذه المنزلة ما هو في النار ولا في الجنة ، وعلمت من لطف الله بعباده أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، فقالت : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فالملائكة أهل علم وأدب ، فإنهم علموا أصل الأدب الإلهي الذي طلبه الحق من عباده ، فوقفوا على مقصود الحق من خلقه الخلق ، وهو إنما خلق الخلق له تعالى ، وإنه أعطى كل شيء خلقه ، فما أعطاه إلا ما يصلح أن يكون له تعالى ، ولو لم يكن الأمر كما وقع لتعطل من الحضرة الإلهية أسماء كثيرة لا يظهر لها حكم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ، فيستغفرون فيغفر الله لهم] فنبه أن كل أمر يقع في العالم إنما هو لإظهار حكم اسم إلهي ، ثم قالت الملائكة.

(رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ

٥

وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٨)

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) أي لا تنزلهم في الأعراف (وَمَنْ صَلَحَ) الواو هنا بمعنى مع ، يقولون مع من صلح (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أدبا مع الله ، فلم تقل إنك أنت الغفور الرحيم ، ثم زادت الملائكة في نصرتها للملائكة الموكلين بقلوب بني آدم وهم أصحاب اللمات ، ينصرونهم بالدعاء على أعدائهم من الشياطين ، أصحاب اللمات الموكلين المسلطين على قلوب العباد ، المنازعين لما تلقي الملائكة على قلوب بني آدم في لماتها ، فقالوا : ـ

(وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) ـ الوجه الأول ـ نصرة للملائكة على الشياطين ـ الوجه الثاني ـ اعلم أن للمغفرة درجتين : الواحدة ستر المذنبين عن أن تصيبهم عقوبة ذنوبهم ، والدرجة الأخرى سترهم عن أن تصيبهم الذنوب ، وهذا الستر هو ستر العصمة ، فقال تعالى في الستر الواحد : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وقال في الستر الآخر في المغفرة : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أن تقوم بهم فإنه أتم في العناية ، وما ثم للمغفرة ستر آخر ، فالستر الحائل بين المذنب والعذاب ، ستر كرم وعفو وصفح وتجاوز ، والستر الحائل بين العبد والذنب ستر عناية إلهية واختصاص وعصمة ، يوجب ذلك خوفا أو رجاء أو حياء ، كما جاء في صهيب [نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه] ثم تلطفت الملائكة في السؤال بقولهم (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) يعني القيامة والمعصومين من وقوع السيئات منهم أي يوم تقيه (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) وهو قولهم (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) فجاء ما ذكروه في الوسط بين هذين ، كأنه إيثار للجناب الإلهي (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) (١١)

٦

إن الله سيذكّر عباده يوم القيامة بما شهدوا به على أنفسهم في أخذ الميثاق فيقولون : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)؟ أي كما قبلنا حياة بعد موت ، وموتا بعد حياة مرتين ، فليس بمحال أن نقبل ذلك مرارا ، فطلبوا من الله أن يمن عليهم بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا ما يورثهم دار النعيم ، وحين قالوا هذا لم يكن الأمد المقدر لعذابهم قد انقضى ، ولما قدر الله أن يكونوا أهلا للنار ، وأنه ليس لهم في علم الله دار يعمرونها سوى النار ، قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) ليدخلوا النار باستحقاق المخالفة.

(ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢)

فهو تعالى (الْعَلِيِّ) الظاهر إلى عباده بنعوت الجلال (الْكَبِيرِ) ليعلم العبد أنه محل للتوفيق ونقيضه ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله على ما أمر به ونهى عنه ، فالحكم لله العلي الكبير ـ راجع سورة سبأ آية ٢٣.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (١٥)

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) فالرفعة له سبحانه بالذات ، وهي للعبد بالعرض ، وجعل له سبحانه درجات يظهر فيها لعباده ، فإن لكل اسم من الأسماء الإلهية مرتبة ليست للآخر ، والمراتب لا تتناهى وهي الدرجات ، وفيها رفيع وأرفع ، وما ثمّ رتبة إلا رفيعة ، وتقع المفاضلة في الرفعة ، ودرجات الحق ليست لها نهاية ، لأن التجلي فيها وليس له نهاية ، ومن جهة أخرى

٧

فإن قوله (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) إنما ذلك على خلقه ، فبالرتبة علم الفاضل والمفضول ، وبها ميز بين الله والعالم ، وبها ظهرت حقائق ما هي عليه الأسماء الإلهية من عموم التعلق وخصوصه (ذُو الْعَرْشِ) ـ الوجه الأول ـ ومن هذه المنزلة تنزل النبوة ، ينزلها رفيع الدرجات ذو العرش على العبد ، بأخلاق صالحة ، وأعمال مشكورة حسنة في العامة ، تعرفها القلوب ، ولا تنكرها النفوس ، وتدل عليها العقول ، وتوافق الأغراض ، وتزيل الأمراض ، فإذا حصل العبد في تلك المنزلة من رفيع الدرجات ذي العرش ، ونظر الحق من هذا الواصل إلى تلك المنزلة نظر استنابة وخلافة ، ألقى الروح بالإنباء من أمره على قلب ذلك الخليفة المعتنى به ، فتلك نبوة التشريع ، وهي قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) فالإنذار أبدا مقرون بنبوة التشريع ـ الوجه الثاني ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) لما كان العلم تحيا به القلوب ، كما تحيا بالأرواح أعيان الأجسام كلها ، سمى العلم روحا ، تنزل به الملائكة على قلوب عباد الله وتلقيه وتوحي به ، مثل قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فهذا نزول للروح بالواسطة ، ولله إلقاء للروح من غير واسطة في حق عباده أيضا ، فأما إلقاؤه ووحيه به فقوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) وقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وأما قوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) جاء بمن وهي نكرة ، فالروح بينه تعالى وبين من شاء من عباده بالبشارة والنذارة ، فإذا نزل هذا الروح في قلب العبد بتنزيل الملك أو بإلقاء الله ووحيه ، حيي به قلب المنزل عليه ، فكان صاحب شهود ووجود ، لا صاحب فكر وتردد ، ولا علم يقبل عليه دخلا فينتقل صاحبه من درجة القطع إلى حال النظر ، فالعبد المجتبى إما يعرج فيرى ، أو ينزل عليه في موضعه (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) فجاء بما ليس بشرع ولا حكم ، بل بإنذار ، فقد يكون الولي بشيرا ونذيرا ، ولكن لا يكون مشرعا ، فإن الرسالة والنبوة بالتشريع قد انقطعت ، فلا رسول بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نبي ، أي لا مشرع ولا شريعة ؛ واعلم أن الأرواح النورية المسخرة ـ لا المدبرة ـ تنزل على قلوب العارفين بالأوامر والشؤون الإلهية والخيرات بحسب ما يريده الحق بهذا العبد ، فترقيه بما نزلت به إليه ترقية وتخليصا إلى الحجاب الأقرب من الحجب البعيدة ، إلى أن يتولاه الله بارتفاع الوسائط ، وهو قوله تعالى في هذه الآية (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أما قوله تعالى في سورة النحل : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ

٨

بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ولم يقل هو ، فكان الروح هو الملقى من عند الله إلى قلوب عباده ، ويكون أمر الله هو الذي ألقاه ، ويكون ذلك الروح صورة قوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) فارتفعت الوساطة إذ كان عين الوحي المنزل هو عين الروح ، وكان الملقي هو الله لا غيره ، فهذا الروح ليس عين الملك ، وإنما هو عين المألكة ، ومثل هذا الروح لا تعرفه الملائكة لأنه ليس من جنسها ، فإنه روح غير محمول ، ليس نورانيا والملك روح في نور ، وأما الملائكة فقد يكونون ممن اختص بهم الرسل وهو قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) فهو رسول الرسول ، وأما تنزل الأرواح الملكية على قلوب العباد ، فإنهم لا ينزلون إلا بأمر الله الرب ، وليس معنى ذلك أن الله يأمرهم من حضرة الخطاب بالإنزال ، وإنما يلقي إليهم ما لا يليق بمقامهم في صورة من ينزلون عليه بذلك ، فيعرفون أن الله قد أراد منهم الإنزال والنزول بما وجدوه في نفوسهم من الوحي الذي لا يليق بهم ، وأن ذلك الوحي من خصائص البشر ، ويشاهدون صورة المنزل عليه في الصور التي عندهم تسبيحها [يا من أظهر الجميل وستر القبيح] للستور التي تسدل وترفع ، فيعرفون من تلك الصور من هو صاحبها في الأرض ، فينزلون عليه ويلقون إليه ما ألقي إليهم ؛ فعلوم الغيب تنزل بها الأرواح على قلوب العباد ، فمن عرفهم تلقاهم بالأدب وأخذ منهم بالأدب ، ومن لم يعرفهم أخذ علم الغيب ولا يدري ممن ، كالكهنة وأهل الزجر وأصحاب الخواطر وأهل الإلهام ، يجدون العلم بذلك في قلوبهم ولا يعرفون من جاءهم به ، وأهل الله يشاهدون تنزل الأرواح على قلوبهم ، ولا يرون الملك النازل إلا أن يكون المنزل عليه نبيا أو رسولا ، قال تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فالولي يشهد الملائكة ولكن لا يشهدها ملقية عليه أو يشهدون الإلقاء ويعلمون أنه من الملك من غير شهود ، فلا يجمع بين رؤية الملك والإلقاء منه إلا نبي أو رسول ، وبهذا يفترق ويتميز النبي من الولي ، أعني النبي صاحب الشرع المنزل ، وقد أغلق الله باب التنزل بالأحكام المشروعة ، وما أغلق باب التنزل بالعلم بها على قلوب أوليائه ، وأبقى لهم التنزل الروحاني بالعلم بها ، ليكونوا على بصيرة في دعائهم ، إلى الله بها ، كما كان من اتبعوه وهو الرسول ، ولذلك قال : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فهو أخذ لا يتطرق إليه تهمة عندهم. وأما كيفية الإلقاء فموقوفة على الذوق وهو الحال ، ولابد أن يكون قلب الملقى

٩

إليه مستعدا لما يلقى إليه ، ولولاه ما كان القبول ، وليس الاستعداد في القبول ، وإنما ذلك اختصاص إلهي ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن حفظ القرآن : [إن النبوة قد أدرجت بين جنبيه] وهو من استظهر القرآن ، فله ذوق الإنزال على قلبه من تنزل الروح به وهو استظهار القرآن ، أي أخذه عن ظهر ، فهذا التنزل مستمر فيمن شاء الله من عباده ، وهو تنزل القرآن على قلوب الأولياء ، ما انقطع مع كونه محفوظا لهم ولكن لهم ذوق الإنزال.

(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (١٦)

لأنه لم يبق مدع ـ كان يدعي الألوهية ـ موجودا ، فإنه تعالى لم يجعل سبيلا إلى رؤيته في هذه الدار لحصول دعاوى الكون في المرتبة الإلهية ، وبظهوره تعالى في الآخرة لا يجرأ أحد يدعيها ، فإن في الدار الآخرة يظهر حكم الجبر فلا يبقى منازع هناك أصلا ويكون الملك هناك لله الواحد القهار ، وتذهب الدعاوى من أربابها.

(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩)

أي يعلم أنها خيانة وكيف هي خيانة ، ولم يقل : يعلم ما أشارت به الأعين وما أومأت ، فإن المشار إليه يعلم ذلك فلا يكن مدحا ، ولكن لا يعلم كل أحد أنها خيانة إلا من أعلمه الله بذلك ، فهي في الخير خيانة محمودة ، وفي الشر خيانة مذمومة ، وما زالت عن كونها خيانة في الحالين ، وخائنة الأعين لا يسلم منها ، وغاية أن يسلم منها من سلم في الشر ، وأما في الخير فإنهم ربما اتخذوها في الخير طريقا محمودة ، فيومىء الكبير في حق الحاضر إلى بعض من يمتثل أمره أن يجيء إليه بخلعة أو بمال يهبه لذلك الحاضر ، يكون ذلك إيماء بالعين لا تصريحا باللفظ ، من غير شعور من يومىء في حقه بذلك الخير ، وإنما سميت خائنة عين

١٠

لأن الإفصاح عما في النفس إنما هو صفة الكلام ، ليس هو من صفة العين ، وإن كان في قوة العين الإفصاح بما في النفس بالإشارة ، ولكن إنما لها النظر ، والذي عندها من صفة الكلام إنما هو أمانة بيدها للكلام ، فإذا تصرفت في تلك الأمانة بالإيماء والإشارة لمن تومىء إليه في أمر ما ، فقد خانت الكلام فيما أمنها عليه من ذلك ، فلهذا سميت خائنة الأعين ، فوصفت بالخيانة ، والخيانة التصرف في الأمانة ، فإن الأمانة ليست بملك لك ، وإنك مأمور بأدائها إلى أهلها ، فإذا اقتضى الحال الأمر بخير أو شر في حق شخص ، وفي قوة العين الإفصاح عن ذلك لمن يشير إليه به ، فعلمت أن ذلك صفة الكلام فلم تفعل ، وردت تلك الأمانة إلى اللسان فنطق ، فقد أدت هذه العين الأمانة إلى أهلها ولم تخن فيها ، قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فتح مكة ، لما وقف بين يديه رجل ممن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد قتله ، فلما قضى حاجته منه وانصرف ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لم لم تقتلوه حين وقف بين يدي؟] فقال له أصحابه [هلا أو مأت إلينا بطرفك] فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ما كان لنبي أن تكون له خائنة عين] ولا تقع خائنة العين في الخير وإن كان خيرا من نبي ، وسببه أن لا تعتاده النفس ، فربما تستعمله في الشر لاستصحابها إياه في الخير ، إذا كانت النفس من طبعها أن تسترقها العادة ، وبعد أن بينا لك هذا الأمر ، فتحفظ من خائنة الأعين ما استطعت أن تفعلها مع الحضور ، فإنك لست بمعصوم ، فإن قلت : قد أشارت من شهد لها بالكمال ، ومنعت من الكلام ، وهي مريم إلى عيسى عليه‌السلام أن يسألوه عن شأنه ؛ قلنا : بعد ذلك نالت الكمال لا في ذلك الوقت ، ألا ترى زكريا عليه‌السلام قيل له : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) والرمز ما يقع بالإشارة ، فإن الإشارة صريحة في الأمر المطلوب ، بل هي أقوى في التعريف من التلفظ باسم المشار إليه في مواطن يحتاج المتكلم فيها إلى قرينة حال ، حتى لو قال شخص لآخر : كلم زيدا بكذا وكذا ، وزيد حاضر ، احتمل أن يفهم السامع زيدا آخر غير هذا ، والمتكلم إنما أراد الحاضر ، فإذا ترك التلفظ باسمه وأشار إليه بيده أو بعينه فقال : كلّم هذا ، مشيرا إليه ، كان أفصح وأبعد من الإبهام والنكر ، والحرف إنما هو لفظ مجمل يحتمل التوجه فيه إلى أمور.

(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ

١١

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (٢١) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (٢٧)

لا يتكبر على الأمثال إلا من جهل أنهم أمثال ، فكما لا يتكبر الشيء على نفسه ، كذلك لا يتكبر على أمثاله ، ومن لم يتكبر على خلق الله فقد أعطاهم حقهم الذي وجب لهم عليه ، كما أعطاه الله خلقه الذي لم يكن إلا به.

(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ

١٢

فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) (٣٢)

وهو عندما يفر الناس خوفا من جهنم ، وفرقا لعظيم ما يرون من الهول يوم القيامة ، حين يجدون الملائكة صفوفا لا يتجاوزونهم ، فتطردهم الملائكة وزعة الملك الحق سبحانه وتعالى إلى المحشر ، وتناديهم أنبياؤهم : ارجعوا ارجعوا ، فينادي بعضهم بعضا ، فذلك يوم التناد.

(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (٣٣)

أي تلجأون إليه ، ففكر في يوم القيامة وهو له ، وما يلقى الناس فيه.

(وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥)

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) وهذا من رحمة الله الخفية ، فإنه طبع على قلب كل من ظهر في ظاهر لقومه بصفة الكبرياء والجبروت ، وما جعل ذلك في قلوبهم بسبب

١٣

طابع العناية ، فهم عند نفوسهم بما يجدونه من العلم الضروري أذلاء صاغرون لذلك الطابع ، فما دخل الكبرياء على الله قلب مخلوق أصلا ، وإن ظهرت منه صفات الكبرياء فثوب ظاهر لا بطانة له منه ، فالله يطبع على قلب كل متكبر جبار أن يدخله كبرياء إلهي أصلا ، إذ لا ينبغي ذلك الوصف إلا لمن لا يتقيد وهو الحق تعالى ، فلا يدخل القلب الكبرياء والجبروت وإن ظهر بهما ، فإن الإنسان يعرف في قلبه أنه لا فرق بالأصالة بينه وبين من تكبر عليهم وتجبر ، فلا يدخله كبر وإن ظهر به ، فإنه مجبول على الذلة والافتقار والحاجة بالأصالة ، لا يقدر أن ينكر هذا من نفسه ؛ وذلك يعني أن الطابع الإلهي يمنع أن تدخل هذه الصفات القلب ، فيظهر المدعي في ظاهره الكبرياء والجبروت على من استحق من قومه ـ إما في زعمه وتخيله ، وإما في نفس الأمر ـ وهو في قلبه معصوم من ذلك الكبرياء والجبروت ، لأنه يعلم عجزه وذلته وفقره لجميع الموجودات ، وأن قرصة البرغوث تؤلمه ، والمرحاض يطلبه لدفع ألم البول والخراء عنه ، ويفتقر إلى كسيرة خبز يدفع بها عن نفسه ألم الجوع ، فمن صفته هذه كل يوم وليلة ، كيف يصح أن يكون في قلبه كبرياء وجبروت؟! وهذا هو الطابع الإلهي على قلبه فلا يدخله شيء من ذلك ، فإن الاسم الغيور ختم على كل قلب أن تدخله ربوبية الحق نعتا له ، فما من أحد يجد في قلبه أنه رب إله ، بل يعلم من نفسه أنه فقير محتاج ذليل. وأما ظهور ذلك على ظاهره فمسلّم ، وجعل الله لهذه الصفات مواطن يظهر فيها بهذه الأوصاف ولا يكون مذموما ، وجعل لها مواطن يذمه فيها ، جاء في الخبر قوله تعالى [الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحدا منهما قصمته]. فالكبرياء والعظمة من النعوت التي غار الله عليها أن تكون لغير الله فحجرها ، ولذلك قال : (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فلا يدخل مع هذا الطابع قلب كون من الأكوان تكبر على الله ولا جبروت لأجل هذا الطبع ، فعلم كل من أظهر من المخلوقين دعوى الألوهية كفرعون وغيره ، وتكبر وتجبر ، كل ذلك في ظاهر الكون ، وهذا الذي ظهرت منه صفة الكبرياء مطبوع على قلبه أن يدخل فيه الكبرياء على الله ، فإنه يعلم من نفسه افتقاره وحاجته وقيام الآلام به من ألم جوع وعطش وهواء ومرض ، التي لا تخلو هذه النشأة الحيوانية عنه في هذه الدار ، وتعذر بعض الأغراض أن تنال مرادها ، وتألمه لذلك ، ومن هذه صفته من المحال أن يتكبر في نفسه على ربه ، فهذا معنى الطابع الذي طبع الله على قلب المتكبر الذي يظهر لكم به من الدعوى

١٤

(الْجَبَّارُ) بجبركم على ما يريد ، فلا يتكبر على الله فيما بينه وبين الله أحد من خلق الله هذا محال وقوعه ، والقدر الذي وقع عليه التحجير الظاهر ، عليه وقع الذم لمن انتهكه وأضافه إلى نفسه ، وكذبوا على الله فيه ، فلا يدخل قلب إنسان الكبر على الله ، ولكن يدخله الكبر على خلق الله ، وهو الذي يزال منه ، وحينئذ يدخل الجنة ، فإنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر على غير الله حتى يزال ، وأما على الله فمحال ، فإن الله قد طبع على القلوب التواضع له وإن ظهر من بعض الأشخاص صورة الكبرياء على الله ، وهو الذي جاءت به الوسائط وهم الرسل عليهم‌السلام من الله لا على الله ، فإنه يستحيل الكبرياء من المخلوق عليه ، لأن الافتقار ذاتي ولا يمكن للإنسان أن يجهل ذاته :

العلم أفضل ما يقنى ويكتسب

والعلم أزين ما حلّى النفوس به

بالعلم يطبع رب العالمين على

قلب العبيد فلا كبر يحل به

لأنه يجد الأبواب مغلقة

بفطرة هو فيها أو مكسبه

قل كيف شئت فإن الأمر يقلبه

ولا تخف من غوي في تطلبه

وكيف يدخل كبر من حقيقته

فقر وعجز وموت عند منتبه؟

شخص يرى قرصة البرغوث تؤلمه

إلى مكاره يلقى في تقلبه

فالحس يعلم هذا من يقوم به

لدى إقامته أو حال مذهبه

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فهو المتكبر سبحانه الجبار ، والعبد إذا اتصف بما تناقض حقيقته من أوصاف العظمة والكبرياء التي تستحقها الربوبية ، يقع في سخط الله ، فلهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أعوذ بك منك] أي أن أكون متكبرا جبارا ، فهو يستعيذ من كبريائه أن يقوم به بكبريائه سبحانه.

لقد طبع الله القلوب بطابع

من الطبع حتى لا يداخلها الكبر

وكيف يكون الكبر في قلب عاجز

ذليل له من ذاته العجز والفقر

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ

١٥

عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) (٣٧)

حكى الله لنا ما قاله فرعون على المعنى ، فإنه قال ما قال بلسان القبط ، ووقعت الترجمة عنه باللسان العربي والمعنى واحد.

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (٣٨)

فإنه نظر بنور الإيمان الذي وهبه الله إياه فأشهده الأمور كما هي عليه في نفسها ، وكشف له عن الحق ورزقه اتباعه ، وكشف له عن الباطل ورزقه الاجتناب عنه.

(يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (٤٠)

اعلم أن صورة عملك مقدار للجزاء الذي عيّنه الحق لك عليه ، سواء كان ذلك العمل محمودا أو مذموما ، فإن أدخل الله العمل المذموم ميزان الجزاء فإنه لا يزيد عليه في المقدار وزن ذرة أصلا ، هذا إذا أقام الوزن عليه بالجزاء ، وكان عذابه في النار جزاء على قدر عمله لا يزيد ولا ينقص ، لا في العمل ولا في مقدار الزمان ، والإصرار من الأعمال المنهي عن عملها ، ولا يزيله إلا التوبة ، فإن مات عليه خيف عليه ولا يقطع ، وإذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء رجحت عليه صورة الجزاء أضعافا مضاعفة ، وخرجت عن الحد والمقدار ، منة من الله وفضلا ، وهو قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وقال في الأخرى : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) وهو قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ولم يجعل للتضعيف في الخير مقدارا يوقف عنده ، بل وصف نفسه بالسعة فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

١٦

(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢)

فإن الفكر أراهم الحق باطلا فحققوه ، فاجتنبوا الحق واتبعوا الباطل ، ولا علم لهم بذلك أن الباطل في جبلة كل أحد اجتنابه ، فكان مؤمن آل فرعون يدعو أهل الشرك إلى التوحيد ، فيقول إذا دعاهم إلى ذلك ودعوه إلى ما هم عليه (ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) واعتبار هذه القصة في دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الشرك إلى التوحيد ، أنهم قد أثبتوا بكونهم مشركين عين ما دعاهم إليه هذا الرسول ، وهو ما أثبت الشريك وهم قالوا : (إنما ندعوهم (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فأثبتوا له سبحانه وتعالى التعظيم والمنزلة العظمى التي ليست لشركائهم ، وهم علماء بما دعاهم الرسول إليه ، فلما دعاهم دعاهم بحالهم ولسانهم ، من حيث ما أثبتوا عين ما دعاهم إليه ، وزادوا الشريك الذي لا علم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم به وهو قوله : (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ).

(لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (٤٤)

قال الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لقومه حين ردوا دعوته (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) وهو من فاض ، ولا يفيض حتى يمتلىء بالفيض زيادة على ما يحمله المحل ، وذلك أن المحل لا يحمل إلا ما في وسعه أن يحمله ، وهو القدر والوجه الذي يحمله المخلوق ، وما فاض من ذلك ـ وهو الوجه الذي ليس في وسع المخلوق أن يحمله ـ يحمله الله ، فما من أمر إلا وفيه للخلق نصيب ولله نصيب ، فنصيب الله أظهره التفويض ، فينزل الأمر جملة واحدة وعينا واحدة إلى الخلق ، فيقبل كل خلق منه بقدر وسعه ، وما زاد على ذلك وفاض انقسم الخلق فيه على قسمين : فمنهم من جعل الفائض من ذلك إلى

١٧

الله تعالى فقال : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) وينسب ذلك الأمر إلى نفسه ، لأنه لما جاءه ما تخيل أن يفضل عنه وتخيل أنه يقبله كله ، فلما لم يسعه بذاته رده إلى ربه ، ومنهم من لم يعرف ذلك فرجع الفائض إلى الله من غير علم من هذا الذي حصل منه ما حصل ، فهو إلى الله على كل وجه ، وما بقي الفضل إلا فيمن يعلم ذلك ، فيفوض أمره إلى الله فيكون له بذلك عند الله يد ، ومنهم من لا يعلم ذلك فليس له عند الله بذلك منزلة ولا حق يتوجه ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) واعلم أن العبد القابل أمر الله لا يقبله إلا باسم خاص إلهي ، وأن ذلك الاسم لا يتعدى حقيقته ، فهذا العبد ما قبل الأمر إلا بالله ، من حيث ذلك الاسم ، فما عجز العبد ولا ضاق عن حمله ، فإنه محل لظهور أثر كل اسم إلهي ، فعن الاسم الإلهي فاض لا عن العبد ، فلما فوضه بقوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ما عيّن اسما بعينه : وإنما فوضه إلى الاسم الجامع ، فيتلقاه منه ما يناسب ذلك الأمر من الأسماء في خلق آخر. وغاية العارفين أنهم يعلمون بالجملة أن الظاهر في الوجود والواقع إنما هو في قبضة الحكمة الإلهية ، فيزول عن العارف التسخط والضجر ، ويقوم به التسليم والتفويض إلى الله في جميع الأمور ، كما جاء (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) هذا هو حكم الحكمة لمن عقل عن الله ، فلا تجعل زمامك إلا بيد ربك ، فإن له كما قال يدين ، فكما أنه أخبرك أن يده بناصيتك اضطرارا ، فاجعل زمامك بيده اختيارا ، فتجني ثمرة الاختيار والاضطرار بجمعك بين اليدين ؛ ولا شك ولا خفاء أن من ألقى زمامه بيدك ، وفوض أمره إليك ـ وإن لم يتكلم ـ فقد خاطبك بأفصح الألسنة أن تسلك به طريق الصلاح والأصلح ، لما جلبت عليه النفوس من جلب المنافع ودفع المضار.

(فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (٤٦)

اعلم أن الله سبحانه إذا قبض الأرواح من هذه الأجسام الطبيعية ـ حيث كانت ـ والعنصرية ، أودعها صورا جسدية في مجموع الصور الذي هو قرن من نور ، وفي تلك

١٨

الصور قوم فرعون يعرضون على النار غدوة وعشية ولا يدخلونها ، فإنهم محبوسون في ذلك القرن وفي تلك الصور ، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب ، وهو العذاب المحسوس لا المتخيل الذي كان لهم في حال موتهم بالعرض ، ففي البرزخ يكون العرض ، وفي الدار الآخرة يكون الدخول ، فقال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) يريد خاصته لأنهم هم الذين تولوا عذاب بني إسرائيل ، قال تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) ثم قال تعالى : (أَشَدَّ الْعَذابِ) في مقابلة سوء ، وقرىء بكسر الخاء ، فقد يمكن أن يقال لبني إسرائيل يوم القيامة ذلك ليولوهم أشد العذاب بأنفسهم كما فعلوا هم بهم في الدنيا حين ساموهم سوء العذاب. وآل الرجل أهله وخوله وأنصاره وأتباعه.

(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ

١٩

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (٥٧)

ـ الوجه الأول (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) يريد في المعنى ، فإن أكبر هنا للمفاضلة ، وليس إلا أن السموات والأرض هما الأصل في وجود الهيكل الإنساني ونفسه الناطقة ، فالسموات ما علا ، والأرض ما سفل ، فهو منفعل عنهما ، فإن الإنسان والعالم الكبير يشتر كان في العالمية ، فليس للعالم على الإنسان درجة من هذه الجهة ، ولكن الدرجة التي فضل بها السماء والأرض على الإنسان هما أن الإنسان منفعل عن السماء والأرض ومولد بينهما ومنهما ، والمنفعل لا يقوى قوة الفاعل ، فالناس في رتبة الانفعال عن حركة الأفلاك وقبول التكوين الذي في العناصر ، فكان المراد المعنى لا الجرمية ، فإن الجرمية غير معتبرة هنا ، فمن طريق المعنى أن نسبة الأرض والسماء إلى جانب الحق أكبر من خلق الناس من حيث ما فيهم من سماء وأرض ، فإنها في السماء والأرض معنى وصورة ، وهما في الناس معنى لا صورة ، والجامع بين المعنى والصورة أكبر في الدلالة ممّن انفرد بأحدهما ، لذا قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مع الاشتراك في الدلالة والعلامة على وجود المرجح ، ويدل ذلك على أن بعض الناس يعلم ذلك ، فالقليل من الناس من يعلم أن خلق السموات وهي الأسباب العلوية لوجود الإنسان ، والأرض وهي الأسباب السفلية لوجود الإنسان ، أكبر من خلق الناس قدرا ، لأن لها نسبة الفاعلية وللناس نسبة الانفعال ، فإنه ما من أحد إلا وهو يعلم حسا أن خلق السموات والأرض أكبر في الجرم من خلق الناس ، فما ثمّ إلا انفعال الجسم الطبيعي عنهما لا غير. فأراد الحق بهذه الآية المنزلة ، فإن الجرم يعلمه كل أحد ، ولهذا يصدر عن حركات السموات والأرض أعيان المولدات والتكوينات ، والإنسان من حيث جرمه من المولدات ، ولا يصدر من الإنسان هذا ، وطبيعة العناصر من ذلك ، فلهذا كانا أكبر من خلق الإنسان ، إذ هما له كالأبوين ، فلهما درجة الأبوة فلا يلحقهما أبدا ، فرفع الله مقدارهما ، والإنسان من الأمر الذي ينزل بين السماء والأرض ، ولا يمنع ذلك من أن الإنسان الكامل أكمل نشأة ظهرت في الموجودات ، لأن الإنسان الكامل وجد على الصورة لا الإنسان الحيوان ، والصورة لها الكمال ، ولكن لا يلزم من

٢٠