رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

دونهما ، وقد سمي عارفا وقال تعالى : «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين» فانظر إلى هذه الدرجات ، ثم لتعلم أن الشهداء الذين رغب العارف أن يلحق بهم هم العاملون على الأجرة وتحصيل الثواب ، وأن الله عزوجل قد برأ الصديقين من الأعواض وطلب الثواب ، إذ لم يقم بنفوسهم ذلك ، لعلمهم أن أفعالهم ليست لهم أن يطلبوا عوضا ، بل هم العبيد على الحقيقة ، والأجراء مجازا قال عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ولم يذكر لهم عوضا على عملهم ، إذ لم يقم لهم به خاطر أصلا ، لتبريهم من الدعوة. ثم قال : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وهم الرجال الذين رغب العارف أن يلحق بهم ، ويرسم في ديوانهم ، وقد جعلهم تعالى في حضرة الربوبية ، ولم يشترط في إيمان الصديقين السماع ، كما فعل بالعارفين حكمة منه سبحانه. وانظر أدب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين جعل العارف حيث جعله الحق فقال : «من عرف نفسه عرف ربه» ولم يقل علم فلم ينزله عن حضرة الربوبية ولا عن حضرة نفسه التي هي صاحبة الجنة كما قال : «وفيها ما تشتهي الأنفس» فالعارف صاحب الشهوة المحمودة تربيه بين يدي العالم الصديق.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨)

ظاهر الشرع يعطي أن العامل في الحال رزقكم ، فإن من هنا في قوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) للتبيين لا للتبعيض ، فإنه لا فائدة للتبعيض ، فإن التبعيض محقق مدرك ببديهة العقل لأنه ليس في الوسع العادي أكل الرزق كله ، وإن كانت للتبيين وهي متعلقة بكلوا فبين أن رزق الله هو الحلال الطيب ، فإن أكل ما حرم عليه فما أكل رزق الله ، فإن رزق الله عند بعض العلماء جميع ما يقع به التغذي من حلال وحرام ، فنهانا عن التغذي بالحرام ، فلو كان رزق الله في الحرام ما نهانا عنه ، فإذا ما هو الحرام رزق الله وإنما هو رزق ، ورزق الله هو الحلال.

٤١

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

لا قسم إلا بالله ، وما عدا ذلك من الأقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه ، ولهذا قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) واللغو : الساقط فمعناه لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي أسقط الكفارة فيها إذا حنثتم ، (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) فلما سقط العقد بالقلب عند اليمين ، سقطت الكفارة إذا وقع الحنث ، ولا خلاف بين العلماء أن الكفارة في الأيمان المذكورة في القرآن أنها في اليمين بالله لا بغيره. وجاء بالأيمان معرفة بالإضافة والألف واللام ، وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهي عن اليمين بغير الله. ـ أنواع الأقسام ـ راجع سورة الحاقة آية ٣٨ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) فكفارته إطعام عشرة مساكين. إنما عوقب بالكفارة لأنه أمر بمكارم الأخلاق ، واليمين على ترك فعل الخير من مذام الأخلاق ، فعوقب بالكفارة. ومن وجه آخر ، إن المسيء في حقنا الذي خيرنا الله بين جزائه بما أساء وبين العفو عنه ، أنه لما أساء إلينا أعطانا من خير الآخرة ما نحن محتاجون إليه ، حتى لو كشف الله الغطاء بيننا وبين ما لنا من الخير في الآخرة في تلك المساءة حتى نراه عيانا لقلنا : إنه ما أحسن أحد في حقنا ما أحسن هذا الذي قلنا عنه : إنه أساء في حقنا ، فلا يكون جزاؤه عندنا الحرمان ، فنعفو عنه فلا نجازيه ونحسن إليه مما عندنا من الفضل على قدر ما تسمح به نفوسنا ، فإنه ليس في وسعنا ولا يملك مخلوق في الدنيا ما يجازي به من الخير من أساء إليه ، ولا يجد ذلك الخير ممن أحسن إليه في الدنيا ، ومن كان هذا عقده ونظره كيف يجازي المسيء بالسيئة إذا كان مخيّرا فيها؟ فلما آلى وحلف من أسيء إليه فما وفى المسيء حقه وإن لم يقصد المسيء إيصال ذلك الخير إليه ، ولكن الإيمان قصده ، فينبغي له أن يدعو له إن كان مشركا بالإسلام ، وإن كان مؤمنا بالتوبة والصلاح. ولو لم يكن ثم إخبار من

٤٢

الله بالخير الأخروي لمن أسيء إليه إذا صبر ولم يجاز ، لكان المقرر في العرف بين الناس كافيا فيما في التجاوز والعفو والصفح عن المسيء ، فإن ذلك من مكارم الأخلاق ، ولو لا إساءة هذا المسيء إلّي ما اتصفت أنا ولا ظهرت مني هذه المكارم من الأخلاق ، كما أني لو عاقبته انتفت عني هذه الصفات في حقه ، وكنت إلى الذمّ أقرب مني إلى أن أحمد على العقاب ، فكيف والشرع قد جاء في ذلك! بأن أجر من يعفو ويتجاوز ولا يجازي أنه على الله فلا تدخل ابتداء في اليمين ، فأهل الله في كل نفس مع ما يكشف لهم ، فلا يدرون حكم النفس الثاني ، فلا يحسن بهم التقيد باليمين على أمر في المستقبل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٩٠)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل مسكر حرام ، فالحكم التحريم ، والعلة الإسكار ، فالحكم أعمّ من العلة الموجبة للتحريم ، فإن التحريم قد يكون له سبب آخر غير السكر في أمر آخر. ولا يطرب الشارب إلا إذا شرب خمرا وإذا شرب خمرا فقد جاء شيئا إمرا ، لأنه يخامر العقول فيحول بينها وبين الأفكار ، فيجعل العواقب في الأخبار فيبدي الأسرار برفع الأستار فحرمت في الدنيا لعظيم شأنها ، وقوة سلطانها. الأزلام : قداحة الميسر ، واحده زلمة وقد أمرنا باجتناب عمل الشيطان في قوله : «فإنه رجس من عمل الشيطان» وهو البعيد من رحمة الله «فاجتنبوه» أي كونوا مع الاسم القريب من الرحمة.

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا

٤٣

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٤)

اعلم أن الخوف من الله هو الخوف الأعظم ، فإنه المسلّط وبيده ملكوت كل شيء فأين الأمان؟ فالإنسان إذا كان في أمان في دنياه وفي ماله وعلى نفسه مما يؤذيه ، فعليه أن يخاف من الله مما في غيبه ، مما لا يعلمه ولا يعلم أوانه ، ولو كان الخائف يخاف الله مطلقا لتعلق خوفه على دينه ، فإن سبيل الشيطان إلى قلبه ليست آمنة ، كما أمنت السبل الظاهرة التي تمر فيها السفار من الناس. وإذا خاف الله شغله خوفه عن ماله ونفسه ، فإنه يخاف على دينه أن يسلبه منه الشيطان ، فالعاقل يجب أن يكون في حال أمنه خائفا من الله تعالى ، وأما قوله تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ) فاعلم أن علم الله في الأشياء سابق لا يحدث له علم ، بل يحدث التعلق لا العلم ، ولو حدث العلم لم تقع الثقة بوعده لأنا لا ندري ما يحدث له. فإن قلت فهذا أيضا يلزم في الوعيد ، قلنا : كذا كنا نقول ، ولكن علمنا أنه ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه ، وبما تواطؤوا عليه في كل ما هو محمود ، فيعاملهم بذلك في شرعهم كذا سبق علمه ، وهذا لسان عربي مبين ومما يتمدح به أهل هذا اللسان ، بل هو مدح في كل أمة ، التجاوز عن إنفاذ الوعيد في حق المسيء ، والعفو عنه ، والوفاء بالوعد الذي هو في الخير. وهو الذي يقول فيه شاعر العرب :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فكان إنزال الوعيد بعلم الله الذي سبق بإنزاله ، ولم يكن في حق قوم إنفاذه في علم الله ، ولو كان في علم الله لنفذ فيهم كما ينفذ الوعد الذي هو في الخير ، لأن الإيعاد لا يكون إلا في الشر ، والوعد يكون في الخير وفي الشر معا. يقال : أوعدته في الشر ، ووعدته في الشر والخير. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فمما بين لهم تعالى ، التجاوز عن السيئات في حق من أساء من عباده ، والأخذ بالسيئة من شاء من عباده ،

٤٤

ولم يفعل ذلك في الوعد بالخير فأعلمنا ما في علمه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٩٥)

هذه الآية محكمة ، فحرم قتل الصيد في الحرم ، وإن كان الإنسان خارج الحرم حرم عليه قتل الصيد ما دام محرما. فالآية هنا في قتله لا في صيده في الحرم كان أو في الحل ، فالصيد قتل تعديا بغير حق ، والحرم صفة المحرم والبقعة ، فمن تعمّد قتله محرما أو في الحرم فقد تعدّى عليه ، فكلّف المعتدي بجزاء مثل ما قتل من النعم (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فيه رائحة أن الجائر في الحكم يسمى حكما شرعا ، إلا أن الحاكم لما شرع له أن يحكم بغلبة ظنه وليس علما فقد يصادف الحق في الحكم ، وقد لا يصادف وليس بمذموم شرعا ويسمى حكما ، وإن لم يصادف الحق ويمضي حكمه عند الله وفي المحكموم عليه وله ، فإنه حكم بما شرع له من إقامة الشهود أو الإقرار. وقد تكون الشهادة زورا ، ويكون الإقرار ليس بحق. (أَوْ كَفَّارَةٌ) إنما شرعت الكفارات لتكون حجبا بين العبد وبين ما عرض إليه نفسه من حلول البلايا بالمخالفات التي عملها ، مأمورا كان بذلك أو منهيا عنه ، فإذا جاء المنتقم بالبلاء المنزل الذي تطلبه هذه المخالفة ، وجدت هذه الأعمال قد سترته في ظل جناحها واكتنفته ، وصارت عليه جنة ووقاية ، فلم يجد البلاء منفذا ، فلم ينفذ فيه الوعيد لغلبة سلطان هذا العمل المسمّى كفارة ، والكفر : الستر ، ومنه سمى الزارع كافرا لأنه يستر البذر في الأرض ويغطيه بالتراب. (طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) والكفارة هنا يخير الحكمان الذي عليه الجزاء ، فإن كلمة ـ أو ـ تقتضي التخيير ، ولو أراد الحق الترتيب في الكفارة لقال وأبان ، كما فعل في كفارات الترتيب فمن لم يجد ، ومذهبنا في المثل المذكور هنا هو أن في كل شيء مثله ، فإن كان نعامة اشترى نعامة صادها حلال في حلّ ، وكذلك

٤٥

كل مسمى صيد مما يحل صيده وأكله من الطير وذوات الأربع. أو كفارة بإطعام ، وحدّ ذلك أن ينظر قيمة ما يساوي ذلك المثل ، فيشتري بقيمته طعاما فيطعمه للمساكين. (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) يعني أو مثل ذلك صياما ، إذ العدل : المثل فننظر إلى أقرب الكفارات شبها بهذه الكفارة الجامعة لهدي أو إطعام أو صيام ، فلا نجد إلا من حلق رأسه وهو محرم لأذى نزل به ، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ، فذكر الثلاثة المذكورة في كفارة قتل الصيد ، فجعل الشارع هنالك في الإطعام ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وجعل الصيام ثلاثة أيام ، فجعل لكل صاع يوما ، فننظر القيمة فإن بلغت صاعا أو أقل فيوم ، فإن الصوم لا يتبعض وإن بلغت القيمة أن نشتري بها صاعين ، أو دون الصاعين أو أكثر من الصاع ، فيومان وهكذا ما بلغت القيمة وأعني بالقيمة قيمة المثل ، يشتري بها طعاما فيطعم ، والصيام محمول على ما حصل من الطعام بالشراء على ما قررناه ، فهو مخيّر بين المثل والإطعام بقيمة المثل والصيام بحسب ما حصل من الطعام من قيمة المثل ، والحكمة في ذلك أن المثل على مذهبنا صيد صاده حلال في حلال ، فيطلقه القاتل عند الكعبة فهو إحياء للمثل من القتل الجائز عليه من الحلال في الحلّ ، والحكمة في المثل على المذاهب الأخرى وهو ما يقدم من النعم الأنسي ، وكذا في الطعام فإن تناوله سبب في بقاء حياة المتغذي به لأنه أتلف نفسا ، وأزال حياة فجبرها وكفر ذلك بما يكون سببا لإبقاء حياة ، فكأنه أحياها زمان بقائها بحصول ذلك الغذاء من المثل أو الطعام ، وأما الصيام فإنه صفة ربانية ، فكلّف أن يأتي بها هذا القاتل إن لم يكفر بالمثل أو الإطعام ، أن يكفر بالصوم ، حتى يكون القاتل غير محجور عليه ، فيتلبس بصفة الحق وهو الصوم ، من قوله تعالى : «الصوم لي» فلا يتصف الحق بالحجر عليه ، فيتلبس القاتل بصفة هي للحق ، فيحصل في الحمى عن الحجر عليه ، فإذا صام كان الصوم للحق والجوع للقاتل ، فبما في الصوم من الجوع في حقه الذي ليس للحق يكون كفارة ، لأن الجوع من الأسباب المزيلة للحياة من الحي ، فأشبه القتل الذي هو سبب مزيل للحياة من الحي ، ولم تزل حياة القاتل لأنه جوع صوم ، والصوم من صفات الحق وهو غير مؤثر في الحياة الأزلية ، فلهذا لم يجع جوع إتلاف فقال تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ومن عاد لمثل ذلك الفعل فينتقم الله منه إما بإعادة الجزاء فإنه وبال ، والوبال : الانتقام وإما أن يسقط عنه في الدنيا

٤٦

هذا الوبال المعين ، وينتقم الله منه بمصيبة يبتليه بها ، إما في الدنيا وإما في الآخرة فإنه لم يعيّن. (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أما من قتل صيدا خطأ فلا شيء عليه ، وإذا اشترك جماعة من المحرمين في قتل الصيد ، فإن عرف كل واحد من الشركاء أنه ضربه في مقتل ، كان على كل من ضربه في مقتل جزاء ، ومن جرحه في غير مقتل فلا جزاء عليه ، وهو آثم حيث تعرض بالأذى لما حرم عليه ، ولا يجوز للقاتل أن يكون أحد الحكمين ، وأما عن الإطعام فحيثما أطعم أجزأه لأن الله ما عيّن ، وأما الحالّ يقتل الصيد في الحرم فلا شيء عليه وهو آثم ، والمحرم إذا قتل الصيد وأكله فعليه كفارة واحدة.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩٦)

اتفقوا على تحريم الصيد برا ، ويغلب على الظن الخبر الصحيح الوارد : أنه إذا لم يكن للمحرم في صيده تعمل وصاده حلال فله أكله ، فإن كلمة «صيد» في الآية تحتمل الفعل وقد يراد به المصيد ، فصيد البر حرام ما داموا حرما في المكان الحلال والحرام ، وسكانا في الحرام وإن كانوا حلالا أو حراما ـ الإشارة والاعتبار في الإحرام ـ لما أمر الله تعالى الإنسان أن يدخل في الإحرام فيصير حراما بعد ما كان حلالا ، وصفه بصفة العزة أن يصل إليه شيء من الأشياء التي كانت تصل إليه قبل أن يتصف بهذه المنعة ، إذ الأشياء تطلب الإنسان لأنها خلقت من أجله ، فهي تطلبه بالتسخير الذي خلقها الله عليه ، والإنسان مخلوق على الصورة ، ومن حقيقة الصورة التي خلق عليها العزة أن تدرك أو تنال بأكثر الوجوه ، فجعل لمن حصل الصورة بخلقه عزة وتحجيرا في عبادات من صوم وحج وصلاة ، أن يصل إليه بعض ما خلق من أجله ، فاعتز وامتنع عن بعض الأشياء ، ولم يمتنع عن أن يناله بعضها ، فما حرّمت عليه الأشياء على الحقيقة ، وإنما هو الحرام على الأشياء ، لأنه ما خلق إلا لربه ، والأشياء خلقت له ، فهي تطلبه ، كما أنه يطلب ربه ، فامتناع في وقت كامتناع ، ووصول في وقت كوصول ، فأبان سبحانه لك عن مرتبتك لتعرف موطن ذلتك من موطن عزتك ، وأنت ما اعتززت ولا صرت حراما على الأشياء منك ، بل هو جعلك حراما على الأشياء

٤٧

أن تنالك ، فأمرك أن تحرم ، فدخلت في الإحرام ، فصرت حراما ، وما جعل ذلك لك عن أمره سبحانه إلا ليكون ذلك قربة إليه ، ومزيد مكانة عنده تعالى ، وحتى لا تنسى عبوديتك التي خلقت عليها بكونه تعالى جعلك مأمورا في هذه المنعة ، دواء لك نافعا ، يمنع من علة تطرأ عليك لعظيم مكانتك ، فلا بد أن يؤثر فيك خلقك على صورته عزة في نفسك ، فشرعها لك في طاعته بأمر أمرك فيه أن تكون حراما ، لا احتجارا عليك بل احتجارا لك ، فالإنسان عبد عينا ورتبة ، كما هو سيد عينا لا رتبة ، ولهذا إذا ادّعى الرتبة قصم وحرم ، وإذا ادّعى العين عصم ورحم ، والإنسان واحد في الحقيقة ، غير أنه ما بين معتنى به وغير معتنى به.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٩٧)

جعل الله تعالى لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة أركان ، لأنه شكل مكعب ، الركن الواحد الذي يلي الحجر مكعب الشكل ولأجل ذلك سمي كعبة تشبيها بالكعب ، خرج مسلم عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه ، فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فركب راحلته فخطب فقال : «إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، ألا وإنها لا تحل لأحد قبلي ، ولن تحلّ لأحد بعدي ، ألا وإنها أحلّت لي ساعة من نهار ، ألا وإنها ساعتي هذه ، وهي حرام لا يخبط شوكها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يلقط ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يعطى ـ يعني الدية ـ وإما أن يقاد أهل القتيل ـ الحديث ـ ، فهذا هو حمى الله وحرمه ، ولا موجود أعظم من الله ، فلا حمى ولا حرم أعظم من حرم الله ولا حماه في الأماكن ، فإن مكة حرّمها الله ولم يحرمها الناس.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٨)

٤٨

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٩٩)

الداعي إلى الله ما يجب عليه إلا البلاغ ، وما يلزمه خلق القبول والهداية في نفس السامع. فدرجة الرسالة إنما هي التبليغ خاصة ، فليس للرسول التحكم في المخالف ، إنما له تشريع الحكم عن الله أو بما أراه الله ، فإذا أعطاه الله التحكم فيمن أرسل إليهم فذلك هو الاستخلاف والخلافة ، والرسول الخليفة. فما كل من أرسل حكم ، فإذا أعطي السيف وأمضى الفعل حينئذ يكون له الكمال ، وإن ظهر إنسان بالتحكم من غير نبوة ، فهو ملك وليس بخليفة ، فلا يكون خليفة إلا من استخلفه الحق على عباده ، لا من أقامه الناس وبايعوه وقدموه لأنفسهم وعلى أنفسهم.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٠١)

قال الصحابة نهينا أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم كانوا يسألونه عن الأشياء حتى نهوا عن ذلك رحمة بهم وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : اتركوني ما تركتكم ، وقال لو قلت : نعم ـ للسائل عن الحج في كل عام ـ لوجبت. وكانت الأحكام تحدث بحدوث السؤال عن النوازل ، فكان غرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين علم ذلك أن يمتنع الناس عن السؤال ، ويجرون مع طبعهم حتى يكون الحق هو الذي يتولى من تنزيل الأحكام ما شاء ، فكانت الواجبات والمحظورات تقل ، وتبقى الكثرة من قبيل المباحات التي لا يتعلق بها أجر ولا وزر ، وما كان ربك نسيا.

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ

٤٩

وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) بما عرفتكم به مني في كتابي ، وعلى لسان رسولي ، فعرفتموني بما وصفت لكم به نفسي فلم تضلوا ، فكانت لكم هدايتي نورا تمشون به على صراطنا المستقيم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (١٠٦)

قوله تعالى : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يعني : مؤمنين (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) يعني من غير المؤمنين ، وذلك فيمن حضره الموت في السفر.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا

٥٠

إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١٠٩)

ـ الوجه الأول ـ من لا ينطق عن الهوى لا يسئل عما يقول سؤال مناقشة وحساب ، ولكن قد يسئل سؤال استفهام لإظهار علم يستفيده السامعون ، كسؤال الحق رسله وهم لا ينطقون عن الهوى يوم يجمعهم فيقول : (ما ذا أُجِبْتُمْ) فيقولون : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، فيعلم أهل الموقف أصحاب الكشف أنّ الرسل هم أتم العالم كشفا ، ومع هذا فما أطلعهم الله على إجابة القلوب من أممهم ، ولا إجابة من وصلت إليهم دعوتهم ولم يكونوا حاضرين ، ولا من كان حاضرا وأجابه بلسانه ، هل أجابه بقلبه كما أجابه بلسانه؟ فإن قلت : فقد سمع إجابة من أجابه بلسانه وما أجابه به ، قلنا : لقرائن الأحوال حكم لا يعرفه إلا من شاهدها ، وقد عرفنا من عين جواب الرسل عليهم‌السلام أنهم فهموا عن الله عند هذا السؤال أنه أراد إجابة القلوب ، فإنهم قالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فلو فهموا من سؤاله تعالى إجابة الألسنة لفصّلوا بين من سمعوا إجابته بإقراره بلسانه ، وبين من لم يسمعوا ذلك منه ، فلما ذكروا في الجواب (الْغُيُوبِ) علمنا أن السؤال كان عن جواب القلوب ، واستفدنا من هذا أنّ الذي يكشف له ما يلزم أن يعم كشفه كل شيء ، لكن عنده استعداد الكشف لا غير ، فما جلى له الحق من أسرار العالم في مرآة قلبه إن كان معنى ، أو في مرآة بصره إن كان صورة كشفه ورآه لا غير. وأما عن سؤال الحق الرسل وطلبه منهم العلم فإنهم أصحاب الكشف الأتم ، ولكنهم لا يعرفون ما آل إليه أمر المبصرات في زمان رفع الكشف هل بقوا على ما كانوا عليه؟ أو هل انتقلوا عن ذلك فقالوا : (لا عِلْمَ لَنا) والجواب بالظنون لا يليق ، ثم تمموا فقالوا : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فقيدوه بالغيوب فإنه في يوم تبلى فيه السرائر ، والسرائر غيوب العالم بعضهم عن بعض ، فعلمنا الحق بهذه الآية التأدب مع أصحاب الكشف ، وأن نعلم مراتب الكشف لئلا ننزل صاحب

٥١

الكشف فوق منزلته ، ونطلب منه ما لا يستحقه حاله ، فنتعبه ولا نعذره ونصفه بالجهل في ذلك ولا علم لنا بأنا جهلنا ، فتكون جهالتان ـ الوجه الثاني ـ لما يعلم الرسل عليهم‌السلام بقرينة الحال أن السؤال سؤال استفهام عن إجابتهم بالقلوب فيقولون (لا عِلْمَ لَنا) أي لم نطلع على القلوب (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تأكيد وتأييد بأن الحكم في الآخرة للعلم لا للقول ، وعلمنا نحن من هذه الآية من قول الرسل عليهم الصلاة والسلام أن العلم بالإجابة من علوم الغيوب ، فلا يعلم من أجاب إلا من هويته غيب ، وليس إلا الله. ـ الوجه الثالث ـ من هنا علمنا أن الرسل لما وجهوا دعوا إلى الله تعالى أممهم ظاهرا وباطنا بدعوة واحدة ، فلو كلفوا الظواهر لم يكن قولهم (لا عِلْمَ لَنا) جوابا ، ومن هنا لم يصح جميع فروع أحكام الشريعة من المنافق ، لأنه ما أجاب بباطنه لدعوته ، مثل ما أجاب بظاهره ، وصحت فروع أحكام الشريعة من العاصي المؤمن بباطنه ، فعلمنا أن المقصود للشرع الباطن ، ولكن بشرط مخصوص ، وهو أن يعم الإيمان جميع فروع الأحكام وأصولها ـ الوجه الرابع ـ أن الرسل ما تسأل يوم القيامة إلا لأجل إنكار الأمم التبليغ الذين لم يجيبوا في الدنيا إذا رأوا العذاب نازلا بهم ، أو اعترافهم بالإجابة ولم تقع منهم ، لذلك قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) وقد أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه غير داخل في هذا الجمع بقوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي ما عليك سؤال ، هل أجابوك أم لا؟ فيكون مزيد درجة راحة للنبي عليه‌السلام يوم القيامة على سائر الرسل. ـ تحقيق ـ صدق الرسل عليهم‌السلام حيث قالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فإنه كذا هو الأمر فلا علم لأحد إلا أن يعلمه الله ، وما عدا الطريقة الإلهية في التعليم وهي قوله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فإنما هو غلبة ظن ، أو مصادفة علم ، أو جزم على وهم ، وأما علم فلا ، فإن جميع الطرق الموصلة إلى العلم فيها شبه ، لا تثق النفس الطاهرة التي أوقفها الله على هذه الشبه أن تقطع بحصول علم منها إلا بالطريقة الإلهية المذكورة.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

٥٢

وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (١١٠)

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) فخلق عيسى عليه‌السلام للطير كان بإذن الله ، فكان خلقه له عبادة يتقرب بها إلى الله ، لأنه مأذون في ذلك ، فلا يكون من المصورين الذين يعذبون يوم القيامة بأن يقال لهم : أحيوا ما خلقتم ولا قدرة لهم على ذلك. فما أضاف خلق عيسى عليه‌السلام للطائر إلا لإذن الله ، والمأمور عبد ، والعبد لا يكون إلها ، ولما كان يستحيل أن يكون للأسباب أثر في المسببات ، فإن ذلك لسان الظاهر كما قال في عيسى عليه‌السلام : (فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) لا بنفخك ، والنفخ سبب التكوين الظاهر ، وليس في الحقيقة إلا عن الإذن الإلهي ، وهذا وجه لا يطلع عليه من العبيد نبي مرسل ولا ملك مقرب. وقوله تعالى : (بِإِذْنِي) متعلق بقوله : (فَتَنْفُخُ) فكان عيسى عليه‌السلام ينفخ في الطائر الذي خلقه روحا فيكون طائرا بالصورة والمعنى وقيل ليس إلا صورة طائر لا طائر ، ولذلك قال عزوجل : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) وما قال طيرا حتى حصل فيه الروح ، وأضاف الحق النفخ إلى عيسى عليه‌السلام فيما خلقه من الطين ولم يضف نفخا في إعطاء الحياة لغير عيسى بل لنفسه تعالى ، إما بالنون أو بالتاء التي هي ضمير المتكلم عن نفسه ، فالنفخ من عيسى لوجود الروح الحيواني ، إذ كان النفخ أعني الهواء الخارج من عيسى هو عين الروح الحيواني ، فدخل في جسم هذا الطائر وسرى فيه ، إذ كان هذا الطائر على استعداد يقبل الحياة بذلك النفس ، كما قبل العجل الحياة مما رمى فيه السامري ، فطار الطائر بإذن الله ، كما خار عجل السامري بإذن الله ، فكل من أنشأ صورة بغير روح فذلك هو المصور الذي يعذب بما صوره يوم القيامة ، بأن يقال له هنالك : أحي ما خلقت ، وليس بمحيي ، ويقال له : انفخ فيها روحا ، وليس بنافخ. هذا من حكم الموطن لأن ذلك

٥٣

الموطن أعني موطن الحشر يعطي ظهور عجز العالم عما كان ينسب إليه في موطن الدنيا من الاقتدار عليه. «وتبرئ الأكمه والأبرص وإذ تخرج الموتى بإذني» أي بأمري لما كنت لسانك وبصرك تكونت عنك الأشياء التي ليست بمقدوره لمن لا أقول على لسانه ، فالتكوين في الحالين لي (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) السحر : مشتق من السحر ، وهو اختلاط الضوء والظلمة ، فلا يتخلص لأحد الجانبين ، فالسحر له وجه إلى الحق فيشبه الحق ، وله وجه إلى غير الحق فيشبه الباطل ، والسحر هو الرئة وهي التي تعطي الهواء الحار الخارج والهواء البارد الداخل وبها ينفث الساحر في العقد.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١٤)

اللهم : يا الله أقصد فحذفت الهمزة واكتفي بالهاء لقربها من المخرج والمجاورة ومعنى (اللهُمَّ) أي يا الله أمنا بالخير أي اقصدنا ، والعيد يوم فرح وزينة وسرور وشغل بأحوال النفوس وحظوظها من أكل وشرب وبعال.

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥)

ـ إشارة ـ المائدة إشارة إلى أي حاجة طلبت ، فلا تطلبها حتى تعلم ما الذي يترتب

٥٤

عليك من الحقوق من جانب الله تعالى ، فإن علمت أنك تقوم به فحينئذ ، وإلا فدعه سبحانه يختار لك ما يعلم فيه صلاحك ، وانظر في قوله تعالى في شرط المائدة : «فمن كفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» وذلك بمنزلة من يطلب الإمارة فيوكل إليها ، وإن جاءته من غير طلب بعث الله إليه ملكا يسدده ، وإلى ذلك أشرنا بقولنا : لا تطلب مائدة حتى تعرف شرطها ، ولا تقصد رفعها وحطها ، حتى تعرف معناها ، وما أراد بها مولاها.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١١٦)

هذا القول لا يكون إلا يوم القيامة ، فما وقع ، فعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه ولا بد ، وزوال حكم الإمكان فيه إلى حكم الوجوب ، وكل ما كان بهذه المثابة فحكم الماضي والمستقبل فيه على السواء ، وسياقه بالماضي آكد في الوقوع وتحققه من بقائه على الاستقبال (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟) هذا سؤال تقرير واستفهام ، فإن الاستفهام لا يكون إلا مع عدم العلم في نفس الأمر ، أو مع إظهار عدم العلم لتقرير المستفهم من استفهمه على ما استفهمه مع علم المستفهم بذلك ، فعلة الاستفهام عدم العلم ، والباعث على الاستفهام يختلف باختلاف المستفهم ، فإن كان عالما بما استفهم عنه فالمقصود به إعلام الغير ، حيث ظنوا وقالوا خلاف ما هو الأمر عليه. وأداة الاستفهام هذه لا ينبغي أن تكون إلا من الأعلى في حق الأدنى ، فقوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)؟ قد يكون تقريرا للحجة على من عبد عيسى عليه‌السلام وأمه وقالوا إنهما إلهان ، فإن من الاستفهام ما يكون إيهاما ، وهو استفهام العالم عما هو به عالم ، وبه يقع من العالم لإقامة الحجة في الجواب فقال تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ بحضور من نسب إليه ذلك من العابدين له من النصارى ، فتبرأ عيسى بحضورهم من هذه النسبة ، فيقول : «سبحانك» ، فقدّم التنزيه وحدد بالكاف التي

٥٥

تقتضي المواجهة والخطاب (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) والمدعي يسمع ذلك ، وقد علم بقرينة الحال والموطن ذلك المدعي أن عيسى عليه‌السلام ليس من أهل الكذب ، وأن إنكاره لما ادعوه صحيح ، علمنا عند ذلك أنه تعالى أراد توبيخهم وتقريرهم. فالاستفهام لعيسى عليه‌السلام ، والتقرير والتوبيخ لمن عبده من أمته وجعله إلها ، وقد وقع في الصورة ، صورة الاستفهام ، وهو في الحقيقة توبيخ فإن الاستفهام لا يصح من الله جملة واحدة ، ويصح منه تعالى التقرير لإقامة الحجة والتوبيخ ، فإن الاستفهام على الحقيقة لا يكون إلا ممن لا يعلم ما استفهم عنه. ومثل هذا في صناعة العربية إذا أعربوه في الاصطلاح يعربونه همزة تقرير وإنكار لا استفهام ، وإن قالوا فيه همزة استفهام والمراد به الإنكار ، فلهم في إعراب مثل هذا طريقتان (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) لأنك أنت القائل ، ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلم به ، كما أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه في الخبر الإلهي ، فقال : (كنت لسانه الذي يتكلم به) فجعل هويته عين لسان المتكلم ، ونسب الكلام إلى عبده ، ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ـ الوجه الأول ـ اعلم أن علم الحق بنا قد يكون معلوما لنا ، وأما علمه بنفسه فلا يعلم لعلو قدسه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي نفس الحق ـ الوجه الثاني ـ (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) من القضاء والقدر فإنه لا يعلم ما في نفس الله ـ الوجه الثالث ـ أن تكون النفس هنا نفس عيسى عينه ، فإذا جهل العبد ما هي عليه نفسه من حكم الاستعداد ، فهو بما هو عليه في المستأنف أجهل ، فأضاف عيسى عليه‌السلام نفسه إليه من وجه ما هي له ، وأضافها إلى الله من وجه ما هي لله ، فقال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي نفسي هي نفسك وملكك ، فإنك اشتريتها وما هي ملكي ، فأنت أعلم بما جعلت فيها ، فأضاف نفسه إليه من حيث عينها هي له ، ومن حيث وجودها هي لله لا له ، فقال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) من حيث عينها (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) من حيث وجودها ، وهو من حيث ما هي لك. فهذه إضافة تشريف ، كمثل عبد الملك وخديمه وهو أتم في الثناء على الله والتبري مما نسب إليه ثم قال : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ما غاب عنا من ذلك تعلمه أنت ولا أعلمه أنا ، فإنه ما يكون فيها إلا ما تجعله أنت ، فكيف يستفهم من له الخلق والأمر؟ ولما لم يتصور في حق الله غيب ، علمنا أن الغيب أمر

٥٦

إضافي لما غاب عنا ، ـ الوجه الرابع ـ (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) والمتكلم الحق ، ولا أعلم ما فيها فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته لا من حيث أنه قائل وذو أثر (إِنَّكَ أَنْتَ) فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ لا يعلم الغيب إلا الله. ـ الوجه الخامس ـ من المتشابه صفة النفس في قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) لأن النفس في اللغة تستعمل لمعان كلها تتعذر في الظاهر ها هنا ، وقد أوّلها العلماء بتأويلات منها أن النفس عبر بها عن الذات والهوية ، وهذا وإن كان سائغا في اللغة ولكن تعدى الفعل إليها بواسطة «في» المقيدة للظرفية محال ، لأن الظرفية يلزمها التركيب ، والتركيب في ذاته محال. وقد أولها بعضهم بالغيب أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك وهذا حسن لقوله (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وإذا كنا قد فسرنا ظلل غمامه وظلة غمام آياته بالصورة التي يأتي فيها ربنا يوم القيامة ، فنفسه هي أم كتابه وهي الآيات المحكمات ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) والآيات المحكمات هي الآيات الدالة على وحدانيته كما سبق أن أوضحناه ، فقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) إذا أخرجته على هذا تطلع على أسرار بديعة ، وذلك أن السياق اشتمل على سؤال عيسى عليه‌السلام عما بلغه لبني إسرائيل ، هل أمرهم بتوحيد ربهم؟ أو بأن يعبدوا له ولأمه؟ ومن المعلوم أنه : لم يكن أمرهم إلا بالتوحيد ، فلما أراد أن يخبر بذلك تلطف في الإخبار به إجمالا وتفصيلا ، أما تفصيلا فبقوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ـ الآية ـ وأما إجمالا فبقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) فقوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي أم كتابك المشتمل على سر قدرك ، وأن القلم جرى فيه بكفرهم. وقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي ما في أم كتابي ، وهو ما كتبه الله له من بينات التوحيد ، وأيده به من روح القدس ، ومن شأن المحجوبين عن الله تعالى من أرباب الرياسة موادعة من عبدهم ، وعبد أقاربهم لأجلهم ، وأهل القلوب المؤمنة يبرؤون من ذلك بمقتضى قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ومن المعلوم أن عيسى عليه‌السلام كتب في قلبه الإيمان وأيد بالروح ، فلهذا قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي ما كتبته من الإيمان في قلبي ، وأيدتني به من الروح ، وأن ذلك ثمرة كوني لم أوادد هؤلاء الذين عبدوني وعبدوا أمي من دونك.

٥٧

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧)

ـ الوجه الأول ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ما زدت على ذلك شيئا ، وإذا قال القائل ما أمر به أن يقوله فقد خرج من العهدة بما بلغ. وقول عيسى عليه‌السلام (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ولم يقل به أمرت مع أن الأمر بالتوحيد لم يختص به بل أمر به جميع الأنبياء ، في ذلك تنبيه لنا على سر القدر وأن الأمر أمران : أمر حقيقة ، وأمر شريعة ، فأمر الحقيقة : هو المشار إليه بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهو متوجه إلى جميع الكائنات ، فما من كفر ولا إيمان إلا وهو مأمور به بهذا الاعتبار لأنه لا يكون إلا بأمره ، وأما أمر الشريعة فهو الذي ربط به الثواب والعقاب وقامت به الحجة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فمن هذا يفهم السر في قول عيسى عليه‌السلام : (أَمَرْتَنِي بِهِ) خصصه بالإضافة إليه تنبيها على أمر الشريعة ، ولم يقل أمرت تنبيها على أمر الحقيقة ـ الوجه الثاني ـ تفسير من مقام المحبوبية : (ما قُلْتُ لَهُمْ) فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو ، ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم فقال : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وأنت المتكلم على لساني ، وأنت لساني ، وأثبت نفسه مأمورا ، وليس سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل ، فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) فجاء بالاسم «الله» لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ، لم يخص اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكل «ربي وربكم» ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر ، فلذلك فصل بقوله : «ربي وربكم» ، كناية المتكلم ، وكناية المخاطب. (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي رقيبا ، ولم يقل على نفسي معهم ، كما قال : (ربي وربكم) (ما دُمْتُ فِيهِمْ) لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني إليك وحجبتهم عني وحجبتني عنهم (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) في غير مادتي بل في موادهم ، إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ، فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه ، وجعله بالاسم الرقيب لأنه جعل الشهود له ، فأراد أن يفصل بينه وبين

٥٨

ربه ، حتى يعلم أنه هو لكونه عبدا ، وأن الحق هو الحق لكونه ربا له ، فجاء لنفسه بأنه شهيد ، وفي الحق بأنه رقيب ، وقدمهم في حق نفسه فقال : (عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) إيثارا لهم في التقدم وأدبا ، وأخّرهم في جانب الحق عن الحق في قوله : (الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) لما يستحقه الرب من التقديم بالرتبة. ثم اعلم أن للحق الرقيب الاسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو الشهيد في قوله : (عَلَيْهِمْ شَهِيداً) فقال : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فجاء بكل» للعموم وبشيء» لكونه أنكر النكرات ، وجاء بالاسم الشهيد ، فهو الشهيد على كل مشهود ، بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك المشهود ، فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) فهي شهادة الحق في مادة عيسوية ، كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ، ثم قال كلمة عيسوية ومحمدية ، أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى بإخبار الله عنه في كتابه ، وأما كونها محمدية فلوقعها من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمكان الذي وقعت منه ، فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجر (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) و«هم» ضمير الغائب كما أن «هو» ضمير الغائب ، فقال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بضمير الغائب وهو عين الحجاب الذي هم فيه من الحق ، فذكرهم الله قبل حضورهم حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين فصيرته مثلها ، (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ، ولا ذلّة أعظم من ذلة العبيد لأنهم لا تصرف لهم في أنفسهم ، فهم بحكم ما يريده بهم سيدهم ، ولا شريك له فيهم ، فإنه قال : (عِبادُكَ) فأفرد ، والمراد بالعذاب إذلالهم ولا أذل مما هم فيه من كونهم عبيدا (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم عن ذلك ويمنعهم منه ، (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي المنيع الحمى ، وجاء بالفصل والعماد أيضا تأكيدا للبيان ، ولتكون الآية على مساق واحد في قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وقوله (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فجاء أيضا (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فكان سؤلا من النبي عليه‌السلام ، وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر ، يرددها طلبا للإجابة ، فلو سمع الإجابة في أول سؤال ما كرر ، فكان الحق يعرض عليه فصول ما استوجبوا به العذاب عرضا مفصلا ، فيقول له في عرض عرض ، وعين عين (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ

٥٩

الْحَكِيمُ) فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم ، فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله ، والتعريض لعفوه ، وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخّر الإجابة عنه حتى يتكرر ذلك منه ، حبا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم الحكيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، ولا يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله تعالى ، فمن تلا فهكذا يتلو وإلا فالسكوت أولى به.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨)

عرض عيسى عليه‌السلام بالمغفرة لقومه لما عصوا الله ولم يتوبوا بقوله هذا ، وذلك لما علم أن رحمته تعالى سبقت غضبه ، وقد قام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية ليلة كاملة ما زال يرددها حتى طلع الفجر ، إذ كانت كلمة غيره فكان يكررها حكاية وقصده معلوم في ذلك ، كما قيل في المثل : إياك أعني فاسمعي يا جارة ، ولما كان في هذا اشتباه على المحجوبين من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون : إن كفر العبد منسوب إلى اختراعه ، غير مستند إلى إرادة ربه سبحانه ، وإلا لما جاز أن يعاقبه عليه ، لا جرم بين الله تعالى جوابهم على لسان نبيه عيسى عليه‌السلام في قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) علل جواز تعذيبه لهم بأنهم عباده ، تنبيها على أن التعذيب لا يحتاج في جوازه عقلا إلى معصية ولا كفر ، ولهذا لم يقل : فإنهم عصوك ، وإنما مجرد كونهم عبادا يجوز للمالك أن يفعل بهم ما يشاء ، حتى وليس عليه حق ، ومهما قال فالحسن الجميل (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يقل : «إنك أنت الغفور الرحيم» أدبا مع الجناب الإلهي ، فتأدب العبد الصالح مع الله في هذا القول لما عصى قومه الله ولم يتوبوا ـ نصيحة ـ لا تدخل بين الله وبين عباده ، ولا تسع عنده في خراب بلاده ، هم على كل حال عباده ، قل كما قال العبد الصالح ، صاحب العقل الراجح ، (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) انظر في هذا الأدب النبوي أين هو مما نسب إليه من النعت البنوي! هو عين روح الله وكلمته ، ونفخ روحه وابن أمته ، ما بينه وبين ربه سوى النسب العام ، الموجود لأهل الخصوص من الأنام ، وهو التقوى لا أمر زائد ، في غير واحد ـ مناجاة ـ إلهي جلّت عظمتك أن يعصيك عاص أوينساك

٦٠