رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله الذي علّم القرآن من حضرة اسمه الرحمن ، وخلق الإنسان علمه البيان ، وأبان ما في محكم تنزيله ، وشرّف العلماء بمكنون تأويله ، فأعربوا عنه بأفصح لسان ، لكل قاص ودان ، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن ، سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذو الخلق العظيم ، والنور المبين ، الركن المكين ، بحر المعاني ، وصاحب السبع المثاني ، الذي أوتي علم الأولين والآخرين ، وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى لمن اقتدى ، وعلى تابعيهم بإحسان من الورثة الكرام ، والعلماء الأعلام.

أما بعد فقد ترجم عن هذا القرآن العظيم ، جماعة من أئمة الدين ، كل قد اجتهد الغوص في معانيه ، والإعراب عن إعجاز مبانيه ، فجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين ما هو أهله. ومن هؤلاء العلماء ورثة الأنبياء الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ، فإن له على القطع تفسيرين على الأقل ، هما : كتاب الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل ، والثاني هو إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ، فيقول عن الأول في الفتوحات المكية ، الجزء الأول ص ٥٩ عند الكلام على حروف المعجم في أوائل سور القرآن : «ذكرناه في كتاب الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل» ، ويقول في ص ٦٣ : «وقد أشبعنا القول في هذا الفصل عندما تكلمنا على قوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) في كتاب الجمع والتفصيل» ويقول في نفس الصفحة عند كلامه على مراتب الحروف : «هذه كلها أسرار تتبعناها في كتاب المبادي والغايات وفي كتاب الجمع والتفصيل» ويقول في ص ٧٧ عند كلامه على حروف المعجم : «من أراد التشفي منها فليطالع تفسير القرآن الذي سميناه الجمع والتفصيل ، وسنوفي الغرض من هذه الحروف إن شاء الله في كتاب المبادي والغايات لنا ، وهو بين أيدينا». أما عن التفسير الثاني «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن» فيقول في الجزء الثالث

٣

من الفتوحات المكية ص ٦٤ عن علم الإصرار وبما يتعلق : «قد بيناه في كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن في قوله تعالى في آل عمران (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) فانظره هناك».

هذا يؤكد وجود التفسيرين للشيخ رضي الله عنه ، ولا نعلم هل الإشارة بقوله «التفسير» أو «التفسير الكبير» أيشير بذلك إلى أحد هذين التفسيرين أو إلى كليهما ، أم أن هناك تفسيرين آخرين له ، حيث يقول عند كلامه عن الذكر في الفتوحات المكية الجزء الرابع ص ١٩٤ «اعلم أن كل ذكر ينتج خلاف المفهوم الأول منه فإنه يدل ما ينتجه على حال الذاكر ، كما شرطناه في التفسير الكبير لنا» ويقول في الفتوحات المكية الجزء الأول ص ٨٦ عندما يتكلم عن الذات والحدث والرابطة وأنه يدخل تحت كل منها أنواع كثيرة ، يقول «وقد اتسع القول في هذه الأنواع في تفسير القرآن لنا» ويقول في نفس الجزء ص ١١٤ عند شرحه لقوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) يقول : «وقد ذكرناه أيضا في تفسير القرآن لنا» ويقول في الجزء الثالث من الفتوحات المكية ص ٦٤ عند كلامه على علم الجزاء الدنياوي والأخراوي : «وقد بيناه في التفسير لنا في فاتحة الكتاب في قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)» فأشار الشيخ إلى بعض كتبه بكلمة «التفسير» تارة ، وبكلمة «التفسير الكبير» تارة أخرى ، ولقد فقدت المكتبة الإسلامية للأسف الشديد هذا التراث العظيم ضمن ما فقدته ، فإنه لا يوجد أثر لهذه التفاسير المشار إليها إلا تفسير فاتحة الكتاب وجزءين من سورة البقرة من تفسير [إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن] أما التفسير الأكبر وهو [الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل] فإنه لم يبق منه أثر ، ومما يدل على احتمال إكمال تفسير «إيجاز البيان» أن الشيخ يشير فيه إلى أنه سيأتي على تفسير آيات في مواضعها من سورة النساء والمائدة والأعراف ، وسورة محمد وطه وفصلت وص ، كما نص في الفتوحات المكية وأحال إلى الرجوع إلى سورة آل عمران من هذا التفسير ، كما سبق أن أوضحنا.

أما تفسير القرآن المطبوع باسمه والذي يتداول بين أيدي الناس في مجلدين ، فقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا التفسير ليس للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ، ولا صلة له به ، وإنما هو لعبد الرزاق الكاشاني المتوفى عام ٧٣٠ ه‍ أي بعد وفاة الشيخ الأكبر بحوالي مائة عام ، والنسخة الخطية لهذا التفسير موجودة بالمكتبة السليمانية بتركيا تحت رقم ١٧ ـ ١٨ وتحمل خاتم المؤلف عبد الرزاق الكاشاني ، وسيرى القارئ والباحث عن الحقيقة الفرق

٤

الكبير بين أسلوب الشيخ رضي الله عنه في تفسيره «إيجاز البيان» وفي التفسير الذي قمت بجمعه من كلامه وبين هذا التفسير المزور والمنسوب إليه ، كما يقف القارئ على الفرق بين المعاني الجميلة والإشارات اللطيفة في كلام الشيخ وبين الكلام في تفسير الكاشاني الذي لا يكاد يفهم منه شيء ، لأنه ينحو إلى الفكر والاتجاه الباطني الذي يرمي القارئ في متاهات الحيرة فلا يعرف الخروج منها.

ومن أجل ذلك ولمحاولة الوقوف على فهم الشيخ الأكبر رضي الله عنه للقرآن الكريم ، قمت بالعمل أكثر من خمس وعشرين سنة في جمع وتصنيف وترتيب ما كتبه الشيخ الأكبر في كتبه التي بين أيدينا ، مما يصلح أن يكون تفسيرا لبعض آيات القرآن سواء من الناحية الظاهرة على نسق التفاسير الأخرى من الأحكام الشرعية والمعاني العربية ، أو ما يصلح أن يكون تفسيرا صوفيا لبعض آيات القرآن وهو ما يسمى بالاعتبار والإشارة ، في التوحيد والسلوك وسميته «رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن» تمشيا مع عقيدة الشيخ الأكبر في شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب وقد أثبت بعض المعاني الجميلة مع قلتها من بعض الكتب التي لا نقطع بصحة نسبتها إلى الشيخ مثل كتاب «رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات» وكتاب «تلقيح الأذهان» وكتاب «فصوص الحكم» فإنها معان لا تتعارض مع ما جمع من كتب ثابتة للشيخ ، وقد قمت بإثبات الموجود من تفسير «إيجاز البيان» على هامش هذا التفسير تأكيدا لاتفاق المعاني وتوضيحا لأسلوب الشيخ ومنهاجه العلمي ، كما سيجد القارئ كثيرا من المعاني التي انفرد بها الشيخ رضي الله عنه في تفسير القرآن وهي من السهل الممتنع التي تطرب لها الأرواح ويرتاح إليها كل ذي رحمة تدعو إلى رفع الجناح ، وقد أفردت في نهاية كل مجلد فهرسا لمراجع جمع تفسير الآيات ، مشيرا إلى مصادر جمعها المتعددة ليسهل على المحقق الرجوع إليها والله أسأل أن ينفعني والمسلمين بهذا العلم الشريف.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

دمشق ٦ صفر ١٤٠٩ ه

محمود محمود الغراب

١٧ أيلول ١٩٨٨ م.

ص. ب ٣٣٣

٥

٦

الافتتاح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ليس لأوليته افتتاح كما لسائر الأوليات ، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الأزليات ، الكائن ولا عقل ولا نفس ولا بسائط ولا مركبات ، ولا أرض ولا سموات ، العالم في العماء بجميع المعلومات ، القادر الذي لا يعجز عن الجائزات ، المريد الذي لا يقصر فتعجزه المعجزات ، المتكلم ولا حرف ولا أصوات ، السميع الذي يسمع كلامه ولا كلام مسموع إلا بالحروف والأصوات والآلات والنغمات ، البصير الذي رأى ذاته ولا مرئيات مطبوعة الذوات ، الحي الذي وجبت له صفات الدوام الأحدي ، والمقام الصمدي ، فتعالى بهذه السمات ، الذي جعل الإنسان الكامل أشرف الموجودات ، وأتم الكلمات المحدثات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير البريات ، وسيد الجسمانيات والروحانيات ، صاحب الوسيلة في الجنات الفردوسيات ، والمقام المحمود في اليوم العظيم البليات ، الأليم الرزيات.

اعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ، وأنزله قرآنا في شهر رمضان ، كل ذلك إلى السماء الدنيا ، ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا ، نجوما ذا آيات وسور ، لتعلم المنازل وتتبين المراتب ، فمن نزوله إلى الأرض في شهر شعبان يتلى فرقانا ، ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا. واعلم أن الله أنزل هذا القرآن حروفا

____________________________________

إيجاز البيان

في الترجمة عن القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، فمما جاءت به صلوات الله عليهم الصحف المطهرة والكتب المنزلة المشرفة ، وكل صحيفة وكتاب بلسان قوم الرسول الذي أنزلت عليه تلك الصحيفة أو الكتاب ، ومن جملة الكتب المنزلة هذا القرآن العربي المنزل على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على طريق الإعجاز عن المعارضة ، فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فهو محفوظ عن أن يزاد فيه

٧

منظومة من اثنتين إلى خمسة أحرف متصلة ومفردة ، وجعله كلمات وآيات وسورا ونورا وهدى وضياء وشفاء ورحمة وذكرا وعربيا ومبينا وحقا وكتابا ومحكما ومتشابها ومفصلا ، ولكل اسم ونعت من هذه الأسماء معنى ليس للآخر ، وكله كلام الله ، ولما كان جامعا لهذه الحقائق وأمثالها استحق اسم القرآن ، فإنه ما سمي قرآنا إلا لحقيقة الجمعية التي فيه ، فإنه يجمع ما أخبر الحق به عن نفسه ، وما أخبر به عن مخلوقاته وعباده مما حكاه عنهم ، فالقرآن هو الذي له صفة الجمع ، من قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، وفي الجمع عين الفرقان ، إذ الجمع دليل الكثرة ، والكثرة آحاد ، فهو عين الافتراق من عين الجمع ، فهو الفرقان القرآن ، فلنذكر مراتب بعض نعوته لتعلم منزلته.

فمن ذلك كونه حروفا ، والمفهوم من هذا الإسم أمران : الواحد المسمى قولا وكلاما ولفظا ، والأمر الآخر يسمى كتابا ورقما وخطا ، والقرآن يخط فله حروف الرقم ، وينطق به فله حروف اللفظ ، فلماذا يرجع كونه حروفا منطوقا بها؟ هل لكلام الله الذي هو صفته أو هل للمترجم عنه؟ فاعلم أن الله قد أخبرنا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سبحانه يتجلى في القيامة في صور مختلفة فيعرف وينكر ، ومن كان حقيقته تقبل التجلي في الصور ، فلا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماة كلام الله لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله ، فكما نقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله ، كذلك نقول تكلم بصوت وحرف كما يليق بجلاله ، ونحملها محمل الفرح والضحك والعين والقدم واليد واليمين وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة ، مما يجب الإيمان به على المعنى المعقول من غير كيفية ولا تشبيه ، فإنه يقول «ليس كمثله شيء» فنفى أن يماثل مع عقل المعنى وجهل النسبة ، فإذا انتظمت الحروف سميت كلمة ، وإذا انتظمت الكلمات سميت آية ، وإذا انتظمت الآيات سميت سورة ، فلما وصف نفسه بأن له نفسا كما يليق بجلاله ، ووصف نفسه بالصوت والقول ، وقال (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) كان النفس المسمى صوتا ، وكان انقطاعه من الصوت حيث انقطع يسمى حرفا ، وكل ذلك معقول مما وقع الإخبار الإلهي به لنا ، مع نفي المماثلة والتشبيه كسائر

____________________________________

أو ينقص منه بطريق التغيير لكونه معجزة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التغيير والتبديل والتحريف ، ولم يكن ذلك لغيره من الكتب لأن سائر الكتب لم تنزل على طريق الإعجاز ، فلذلك حرّف فيها من حرف وبدّل من بدل ، ومع هذا فإذا حدثنا أهل الكتاب بحديث عن كتابهم فلا

٨

الصفات ، ولما وصف نفسه بالصورة عرفنا معنى قوله إنه الظاهر والباطن ، فالباطن للظاهر غيب ، والظاهر للباطن شهادة ، ووصف نفسه بأن له نفسا ، فهو خروجه من الغيب وظهور الحروف شهادة ، والحروف ظروف للمعاني التي هي أرواحها ، والتي وضعت للدلالة عليها بحكم التواطؤ ، وقال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) وأبلغ من هذا الإفصاح من الله لعباده ما يكون ، فلا بد أن يفهم من هذه العبارات ما تدل عليه في ذلك اللسان بما وقع الإخبار به عن الكون ، فيعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكلام وتعرف النسبة ، وما وقع الإخبار به عن الله يعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكلام وتجهل النسبة ، لما أعطى الدليل العقلي والدليل الشرعي من نفي المماثلة ، فإذا تحققت ما قررناه ، تبينت أن كلام الله هو هذا المتلو المسموع ، المتلفظ به المسمى قرآنا ، فحروفه تعيّن مراتب كلمه من حيث مفرداتها ، ثم للكلمة من حيث جمعيتها معنى ليس لآحاد حروف الكلمة ، فللكلمة أثر في نفس السامع لهذا سميت كلمة في اللسان العربي ، مشتقة من الكلم وهو الجرح ، وهو أثر في جسم المكلوم ، كذلك للكلمة أثر في نفس السامع ، أعطاه ذلك الأثر استعداد السمع لقبول الكلام بوساطة الفهم ، لا بد من ذلك ، فإذا انتظمت كلمتان فصاعدا سمى المجموع آية ، أي علامة على أمر لم يعط ذلك الأمر كل كلمة على انفرادها ، مثل الحروف مع الكلمة ، إذ قد تقرر أن للمجموع حكما لا يكون لمفردات ذلك المجموع ، فإذا انتظمت الآيات بالغا ما أراد المتكلم أن يبلغ بها ، سمى المجموع سورة ، معناها منزلة ظهرت عن مجموع هذه الآيات ، لم تكن الآيات تعطى تلك المنزلة على انفراد كل آية منها ، وليس القرآن سوى ما ذكرناه من سور وآيات وكلمات وحروف ، هذا من كونه كلاما ، فإن أنزلناه كتابا ، فهو نظم حروف رقمية لانتظام كلمات ، لانتظام آيات ، لانتظام سور ، كل ذلك عن يمين كاتبة ، كما كان القول عن نفس رحماني ، فصار الأمر على مقدار واحد وإن اختلفت الأحوال ، لأن حال التلفظ ليس حال الكتابة ، وصفة اليد ليست صفة النفس ، فكونه كتابا كصورة الظاهر والشهادة ، وكونه كلاما كصورة الباطن والغيب ،

____________________________________

نصدقهم ولا نكذبهم ، بل نقول آمنا بالله ورسوله ، وإن كانوا صادقين لم نكذبهم وإن كانوا كاذبين لم نصدقهم ، كذا أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما طهر الله سبحانه كتابنا هذا وقدسه عن التحريف سماه قرآنا مهموزا ، ولما جمع فيه ما تفرق في سائر الصحف والكتب وجميع ما يحتاج إليه من المعارف

٩

فالقرآن في الصدور قرآن ، وفي اللسان كلام ، وفي المصاحف كتاب ، والمترجم عن الله هو كل من كلّمه الله في الإلقاء والوحي ، فيكون المترجم خلاقا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة التي يوجدها ، ويكون روح تلك الصور كلام الله لا غير.

ثم إن الله قد جعل للقرآن سورة من سوره قلبا ، وجعل هذه السورة تعدل القرآن عشرة أوزان ، وجعل لآيات القرآن آية أعطاها السيادة على آي القرآن ، وجعل من سور هذا القرآن سورة تزن ثلثه ونصفه وربعه ، وذلك ما أعطته منزلة تلك السورة ، والكل كلامه ، فمن حيث هو كلامه لا تفاضل ، ومن حيث ما هو متكلم به وقع التفاضل لا ختلاف النظم ، والقرآن من الكتب والصحف المنزلة بمنزلة الإنسان من العالم ، فإنه مجموع الكتب والإنسان مجموع العالم ، وأعني بذلك الإنسان الكامل ، وليس ذلك إلا من أنزل عليه القرآن من جميع جهاته ونسبه.

وأما كون القرآن نورا : فبما فيه من الآيات التي تطرد الشبه المضلة ، مثل قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وقوله (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وقوله (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وقوله (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) وكل ما جاء في معرض الدلالة فهو من كونه نورا ، لأن النور هو المنفر الظلم ، وبه سمى نورا ، إذ كان النور النفور.

وأما كونه ضياء : فلما فيه من الآيات الكاشفة للأمور والحقائق ، مثل قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) و (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) وقوله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وما أشبه ذلك مما يدل على مجرى الحقائق.

وأما كونه شفاء : فكفاتحة الكتاب وآيات الأدعية كلها.

وأما كونه رحمة : فلما فيه مما أوجبه على نفسه من الوعد لعباده بالخير والبشرى ، مثل قوله (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) وقوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وكل آية رجاء.

وأما كونه هدى : فكل آية محكمة ، وكل نص ورد في القرآن مما لا يدخله الاحتمال

____________________________________

والعلوم سماه قرانا بغير همز ، ولهذا قال النبي عليه‌السلام «أوتيت جوامع الكلم» جمع كلمة ، ولما ضم حروفه بآية وسورة ومعانيه بهذا النظم المعجز سماه كتابا ، ولما أزال به شبه الضلالات وظلمة الشكوك وأوضح به المشكلات سماه نورا ، ولما أبان به عن الحق المطلوب وحسن نظمه

١٠

ولا يفهم منه إلا الظاهر بأول وهلة ، مثل قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وقوله (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وأمثال هذه الآيات مما لا يحصى كثرة.

وأما كونه ذكرا : فلما فيه من آيات الاعتبارات وقصص الأمم من إهلاكهم بكفرهم ، كقصة نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس.

وأما كونه عربيا : فلما فيه من حسن النظم ، وبيان المحكم من المتشابه ، وتكرار القصص بتغيير ألفاظ من زيادة ونقصان ، مع توفية المعنى المطلوب في التعريف والإعلام مع إيجاز اللفظ ، مثل قوله (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) وقوله (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) وقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) كل ذلك في آية واحدة ، تحتوي على بشارتين وأمرين بعلم نافع ، وتبيين ببشرى من الله.

وأما كونه مبينا : فبما أبان فيه من صفات أهل السعادة وأهل الشقاء ونعوت أهل الفلاح من غيرهم ، كقوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى آخر الآيات ، وكل آية أبان بها عن أمر ليعرف.

فلهذا سماه بهذه الأسماء كلها ، وجعله قرآنا أي طاهرا جامعا لهذه المعاني كلها ، التي لا توجد إلا فيه.

تفسير القرآن

اعلم أن الآية المتلفظ بها من كلام الله بأي وجه كان ، من قرآن أو كتاب منزل أو صحيفة أو خبر إلهي ، فهي آية على ما تحتمله تلك اللفظة من جميع الوجوه ، أي علامة مقصودة لمن أنزلها بتلك اللفظة الحاوية في ذلك اللسان على تلك الوجوه ، فإن منزلها عالم بتلك الوجوه كلها ، وعالم بأن عباده متفاوتون في النظر فيها ، وأنه ما كلفهم في خطابه

____________________________________

وبلاغته وجعله مغايرا لسائر الكتب بما حفظه به من التحريف جعله عربيا ، ولما ذكر فيه قصص الأولين والآخرين وشرائع المتقدمين ومنازلهم ومراتبهم وسابقتهم ومآلهم جعله ذكرا وسماه به ، ولم يجمع لغيره من الكتب هذه الأسماء كلها. وسائر أسماء الكتب مندرجة في هذه الأسماء التي

١١

سوى ما فهموا عنه فيه ، فكل من فهم من الآية وجها فذلك الوجه هو مقصود بهذه الآية في حق هذا الواجد له ، وليس يوجد هذا في غير كلام الله وإن احتمله اللفظ ، فإنه قد لا يكون مقصودا للمتكلم به ، لعلمنا بقصور علمه عن الإحاطة بما في تلك اللفظة من الوجوه ، ولهذا كان كل مفسر فسر القرآن ولم يخرج عما يحتمله اللفظ فهو مفسر ، ومن فسره برأيه فقد كفر ، كذا ورد في حديث الترمذي ، ولا يكون برأيه إلا حتى يكون ذلك الوجه لا يعلمه أهل ذلك اللسان في تلك اللفظة ولا اصطلحوا على وضعها بإزائه ، فالقرآن هو البحر الذي لا ساحل له ، إذ كان المنسوب إليه يقصد به جميع ما يطلبه الكلام من المعاني ، بخلاف كلام المخلوقين ، فكلام الله إذا نزل بلسان قوم فاختلف أهل ذلك اللسان في الفهم عن الله ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختلاف مدلولاتها ، فكل واحد منهم وإن اختلفوا فقد فهم عن الله ما أراده ، فإنه عالم بجميع الوجوه تعالى ، وما من وجه إلا وهو مقصود لله تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين ، ما لم يخرج من اللسان ، فإن خرج من اللسان ، فلا فهم ولا علم ، وكل وجه تحتمله كل آية من كلام الله من فرقان وتوراة وزبور وإنجيل وصحيفة عند كل عارف بذلك اللسان ، فإنه مقصود لله تعالى في حق ذلك المتأول ، لعلمه الإحاطي سبحانه بجميع الوجوه ، فلا سبيل إلى تخطئة عالم في تأويل يحتمله اللفظ ، فإن مخطئه في غاية القصور في العلم ، ولكن لا يلزمه القول به ولا العمل بذلك التأويل ، إلا في حق ذلك المتأول خاصة ومن قلده.

وإذا وردت الآية أو الخبر بلفظ ما من اللسان ، فالأصل أن يؤخذ بما هو عليه في لغة العرب فإن أطلقه الشارع على غير المفهوم من اللسان ، كاسم الصلاة واسم الوضوء واسم الحج واسم الزكاة ، صار الأصل ما فسره به الشارع ، ولم يحمل عليه ما هو عليه في اللسان حتى يرد من الرسول في ذلك اللفظ أنه لما هو عليه من اللسان ، فيعدل عند ذلك إليه في ذلك الخبر على التعيين ، فإن الشارع إذا عيّن ما أراده باللفظ ، صار ذلك الوصف بذلك اللفظ أصلا ، فمتى ورد اللفظ به من الشارع فإنه يحمل على المفهوم منه في الشرع حتى

____________________________________

اختص بها كتابنا ، فالحمد لله الذي جعلنا من حامليه ومن أهله ومن خوطب به ، وشرفنا باتباع من أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسميت هذا الكتاب «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن» فلله الشكر حق الشكر الذي ينبغي له برؤية ذلك منه ، وله الحمد في الآخرة والأولى ، وبه أتأيد وأستعين.

١٢

يدل دليل آخر من الشارع أو من قرائن الأحوال أنه يريد بذلك اللفظ المفهوم منه في اللغة أو أمرا آخر بعينه أيضا ، هذا مطرد في جميع ما تلفظ به الشارع.

أما المفسرون الذين يأخذون حكايات اليهود في تفسير القرآن فقد أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا نصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم ، فمن فسر القرآن برواية اليهود فقد ردّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ردّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد رد أمر الله ، فإنه أمر أن نطيع الرسول وأن نأخذ ما أتانا به ، وأن ننتهي عما نهانا عنه ، إذ لا يوصلنا إلى أخبار الأنبياء الإسرائليين إلا نبي فنصدقه ، أو أهل كتاب فنقف عند أخبارهم ، إذ لم يكن في كتابنا ولا قول رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في أدلة العقول ما يرده ولا يثبته ، ولا نقضي فيه بشيء ، وينبغي للمفسر أن يتحرى الصدق ولا يتعرض لما ذكره المؤرخون عن اليهود من زلات من أثنى الله عليهم واجتباهم ، ويجعل ذلك تفسيرا لكتاب الله ، وما ينبغي أن يقدم على تفسير كلام الله بمثل هذه الطوام ، كقصة يوسف وداود وأمثالهم عليهم‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بتأويلات فاسدة ، وأسانيد واهية ، عن قوم قالوا في الله ما قد ذكر الله عنهم ، فيجد الذي في دينه نقص رخصة يلجأ إليها في معصيته ، ويقول : إذا كانت الأنبياء قد وقعت في مثل هذا ، فمن أكون أنا؟ وحاشا والله الأنبياء مما نسبت إليهم اليهود لعنهم الله ، فهؤلاء المفسرون الذين يرددون افتراءات اليهود ، نقلة عن اليهود لا عن كلام الله ، لما غلب عليهم من الجهل ، فواجب إقامة حرمة الأنبياء عليهم‌السلام ، والحياء من الله أن لا يقلد اليهود فيما قالوا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المثالب.

المناسبة بين آي القرآن

لا بد من مناسبة بين آي القرآن من نسق بعضها إلى بعض ، فيعرف الجامع بين الآيتين وإن كان بينهما بعد ظاهر ، فذلك صحيح ، ولكن لا بد من وجه جامع بين الآيتين مناسب هو الذي أعطى أن تكون هذه الآية مناسبة لما جاورها من الآيات ، لأنه نظم إلهي ، وما رأينا أحدا ذهب إلى النظر في هذا إلا الرماني من النحويين ، فإن له تفسيرا للقرآن ، أخبرني من وقف عليه أنه نحا في القرآن هذا المنحى ، ولذلك نقول إن كل آية في الهجيرات تؤخذ على انفرادها كما سطرت ، وعند أهل التحقيق هذا المأخذ وإن كان عالي الأوج ، فإن مسمى

١٣

الآية إذا لزمتها أمور من قبل أو بعد ، يظهر من قوة الكلام أن الآية تطلب تلك اللوازم ، فلا تكمل الآية إلا بها ، وهو نظر الكامل من الرجال ، فمن ينظر في كلام الله على هذا النمط ، فإنه يفوز بعلم كبير وخير كثير ، فإن الحق سبحانه لا يعيّن لفظا ولا يقيد أمرا إلا وقد أراد من عباده أن ينظروا فيه من حيث ما خصصه وأفرده لتلك الحالة ، أو عيّنه بتلك العبارة ، ومتى لم ينظر الناظر في هذه الأمور بهذه العين ، فقد غاب عن الصواب المطلوب.

المجاز في القرآن

الذي ينبغي من الكلام أن لا يقدّر فيه المحذوف إلا عند الحاجة إليه ولا بد ، لاختلال المعنى ، وأن لا ينتقل في الكلمة من الحقيقة إلى المجاز إلا بعد استحالة حملها على الحقيقة ، وكلام العرب مبني على الحقيقة والمجاز عند الناس ، وإن كنا خالفناهم في هذه المسألة بالنظر إلى القرآن ، فإنا ننفي أن يكون في القرآن مجاز بل في كلام العرب عند المحققين أهل الكشف والوجود ؛ وأما من حيث النظر والاعتبار فيجري مجرى العرب في كلامها من استعارات ومجاز بأدنى شبهة وأيسر صفة ، ففي القرآن من هذا القبيل كثير ، إذ القرآن جاء على لغة العرب كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين» وعلى هذا يفرق بين التفسير على الحقيقة لأهل الكشف والوجود ، فلا مجاز عندهم ، وبين التفسير لأهل النظر والاعتبار بالأنكار ، فهو على مجرى لسان العرب فيكون فيه المجاز.

نصيحة وتنبيه

التأيه على نوعين : تأيه بالصفة مثل قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وتأيه بالذات مثل قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فمتى سمعت التأيه فلتنظر ما أيّه به ، لا من أيه به ، فاعمل بحسب ما أيه به من اجتناب أو غير اجتناب ، فإنه قد يؤيه بأمر ، وقد يؤيه بنهي ، كما يقول في الأمر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وكما يقول في النهي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وكذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فهذا تأيه إنكار ، فإذا أتى هذا كان له وجه للأمر ووجه للنهي ، فيأخذه السامع بحسب ما يقع له في الوقت ، وأي وجه أخذ به من أمر أو نهي أصاب ، وإن جمع بينهما جمع ثمرة ذلك فيكون له أجران ، فإذا أيه الله بأحد في كتابه فكن أنت ذلك المؤيه به ، فإن أخبر

١٤

فافهم واعتبر ، فإنه ما أيه بك إلا لمّا سمعت ، وإن أمرك أو نهاك فامتثل ، وما ثم قسم رابع ، إنما هو خبر أو أمر أو نهي.

واعلم يا أخي أن القرآن العزيز خاطبنا الحق به على طريقين : منه آيات خاطبنا بها يعرفنا فيها بأحوال غيرنا وما كان منهم ، وإلى أين كان مبدؤنا ، وإلى أين كانت غايتنا ، وهو الطريق الواحد ، ومنه آيات خاطبنا بها لنخاطبه بها ، وهي على قسمين : خاطبنا بآيات لنخاطبه بها مخاطبة فعلية ، مثل قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ـ و (آتُوا الزَّكاةَ) ـ و (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وغير ذلك ، ومخاطبة لفظية مثل قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا)(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) وأشباه ذلك كثير ، وليس القرآن يحوي على غير هذا ، وينبغي لك أن تتنبه للتفرقة في كلام الله تعالى إذا قرأته مثل قوله (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) وقف هنا وبين قوله (آمَنَّا) وقف ، ثم قل (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) وقف ثم قل (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وقف ، ثم قل (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فإنك إذا قرأته على هذا الحد عرفت أسراره ، وميزت مواقع الخطاب ، وحكايات الأحوال والأقوال والأعمال وتناسب الأشياء.

الإشارة

اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه ، أنه ما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل الله المختصين بخدمته ، العارفين به من طريق الوهب الإلهي ، الذي منحهم أسراره في خلقه ، وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطابه ، ولما كان الأمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم ، عدل أصحابنا إلى الإشارات ، كما عدلت مريم عليها‌السلام من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة ، فكلامهم رضي الله عنهم في شرح كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إشارات ، وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرا لمعانيه النافعة ، ورد ذلك كله إلى نفوسهم ، مع تقريرهم إياه في العموم وفيما نزل فيه ، كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل الكتاب بلسانهم ، فعم به سبحانه عندهم الوجهين ، فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ، ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك ، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير ، وقاية لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه ، وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق ، واقتدوا في ذلك بسنن الهدى ، فإن الله كان قادرا على تنصيص ما تأوله أهل الله

١٥

في كتابه ، ومع ذلك ما فعل ، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية التي نزلت بلسان العامة علوم معاني الاختصاص التي فهمها عباده ، حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم ، ولو كان علماء الرسوم ينصفون لا عتبروا في نفوسهم إذا نظروا في الآية بالعين الظاهرة التي يسلمونها فيما بينهم ، فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك ، ويعلو بعضهم على بعض في الكلام في معنى تلك الآية ، ويقر القاصر بفضل غير القاصر فيها ، وكلهم في مجرى واحد ، ومع هذا الفضل المشهود لهم فيما بينهم في ذلك ينكرون على أهل الله إذا جاؤوا بشيء مما يغمض عن إدراكهم ، قال الله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) وهو العلم ، وجاء بمن وهى نكرة ، فلله عباد تولى تعليمهم في سرائرهم بما أنزله في كتبه وعلى ألسنة رسله ، وهو العلم الصحيح عن العالم المعلم الذي لا يشك مؤمن في كمال علمه ولا غير مؤمن ، فتولى الله بعنايته لبعض عباده تعليمهم بنفسه بإلهامه وإفهامه إياهم ، وكذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الباب «ما هو إلا فهم يؤتيه الله من شاء من عباده في هذا القرآن» فجعل ذلك عطاء من الله ، يعبر عن ذلك العطاء بالفهم عن الله ، فسلم أهل الله لعلماء الرسوم أحوالهم ، لأنهم علموا من أين تكلموا ، وصانوا عنهم أنفسهم بتسميتهم الحقائق إشارات ، فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات.

فأصحابنا ما اصطلحوا على ما جاء به في شرح كتاب الله بالإشارة دون غيرها من الألفاظ إلا بتعليم إلهي ، جهله علماء الرسوم ، وذلك أن الإشارة لا تكون إلا بقصد المشير بذلك أنه يشير ، لا من جهة المشار إليه ، فلما رأى أهل الله أنه قد اعتبر الإشارة استعملوها ، فإدراك أصحاب الأخذ بالإشارات في كلام الله خاصة فهم فيه ، لأنه مقصود لله تعالى في حق هذا المشار إليه بذلك الكلام ، وكلام المخلوق ما له هذه المنزلة ، فمن أوتي الفهم عن الله من كل وجه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب.

فاغطس في بحر القرآن العزيز إن كنت واسع النفس ، وإلا فاقتصر على مطالعة كتب المفسرين لظاهره ، ولا تغطس فتهلك ، فإن بحر القرآن عميق ، ولولا الغاطس ما يقصد منه المواضع القريبة من الساحل ما خرج لكم أبدا ، فالأنبياء والورثة الحفظة هم الذين يقصدون هذه المواضع رحمة بالعالم ، وأما الواقفون الذين وصلوا ومسكوا ، ولم يردوا ولا انتفع بهم أحد ، ولا انتفعوا بأحد ، فقصدوا بل قصد بهم ثبج البحر ، فغطسوا إلى الأبد لا يخرجون.

١٦

(١) سورة الفاتحة

هي فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم ، وأم القرآن ، وأم الكتاب ، والكافية ، وتسمى سورة الحمد ، والبسملة آية منها ، وقد قيل في الفاتحة إن الله أعطاها نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة دون غيره من الرسل ، من كنز من كنوز العرش ، لم توجد في كتاب منزل من عند الله ولا صحيفة إلا في القرآن خاصة ، وبهذا سمي قرآنا لأنه جمع بين ما نزل في الكتب والصحف وما لم ينزل ، ففيه كل ما في الكتب كلها المنزلة ، وفيه ما لم ينزل في كتاب ولا صحيفة ، وهي فاتحة الكتاب ، لأن الكتاب يتضمن الفاتحة وغيرها ، ولأنها منه ، وإنما صح لها اسم الفاتحة من حيث أنها أول ما افتتح به كتاب الوجود ، وجعلها الله مفتاحا له ، وهي أم القرآن لأن الأم محل الإيجاد ، والموجود فيها هو القرآن ، وهي أم الكتاب الذي عنده ، في قوله (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) لأن الأم هي الجامعة ، ومنها أم القرى ، والرأس أم الجسد ، يقال أم رأسه لأنه مجموع القوى الحسية والمعنوية كلها التي للإنسان ، وكانت الفاتحة أما لجميع الكتب المنزلة ، وهي القرآن العظيم ، أي المجموع العظيم الحاوي لكل شيء ، ولما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ، والناس من آدم إلى آخر إنسان ، فجميع الرسل نوابه بلا شك ، فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إلا له ، ولا حاكم إلا راجع إليه ، واقتضت مرتبته أن تختص بأمر عند ظهور عينه في الدنيا ، لم يعطه أحد من نوابه ، ولا بد أن يكون ذلك الأمر من العظم بحيث أنه يتضمن جميع ما تفرق في نوابه وزيادة ، فأعطاه أم الكتاب ، فتضمنت جميع الصحف والكتب ، وظهر بها فينا مختصرة ، سبع آيات تحتوي على جميع الآيات ، فأم الكتاب ألحق الله بها جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء نواب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فادخرها له ولهذه الأمة ، ليتميز على الأنبياء بالتقدم ، وإنه الإمام الأكبر ، وأمته التي ظهر فيها خير أمة أخرجت للناس ، لظهوره بصورته فيهم ، وهي السبع المثاني والقرآن

١٧

العظيم الصفات ، فظهرت في الوجود في واحد وواحد ، فحضرة تفرد ، وحضرة تجمع ، فمن البسملة إلى «الدين» إفراد إلهي ، ومن «اهدنا» إلى «الضالين» إفراد العبد المألوه ، وقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تشمل وما هي العطاء ، وإنما العطاء ما بعدها ، و «إياك» في الموضعين ملحق بالإفراد الإلهي ، فصحت السبع المثاني ، يقول العبد ، فيقول الله ، (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الجمع ، وليس سوى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وسميت الفاتحة الكافية ، لأن بقراءتها وحدها تصح الصلاة ، وهي قرآن من حيث ما اجتمع العبد والرب في الصلاة ، وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الرب ، مما اختص به في القراءة من الصلاة ، والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ، وأنه لا صلاة للعبد إلا بها ، فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ، وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب كما ثبت ، وتسمى الفاتحة سورة الحمد ، فإنها الجامعة للمحامد كلها ، وما أنزلت على أحد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينبغي أن تنزل إلا على من له لواء الحمد ، فهي الجامعة للمحامد كلها فإنه سبحانه لا ينبغي أن يحمد إلا بما يشرع أن يحمد به ، من حيث ما شرعه لا من حيث ما تطلبه الصفة الحمدية من الكمال ، فذلك هو الثناء الإلهي ، ولو حمد بما تعطيه الصفة لكان حمدا عرفيا عقليا ، ولا ينبغي مثل هذا الحمد لجلاله. إشارة وتحقيق : اعلم أن الفاتحة لها طرفان وواسطة ، ومقدمتان ورابطة ، فالطرف الواحد بالحقائق الإلهية منوط ، والطرف الآخر بالحقائق الإنسانية منوط ، والواسطة تأخذ منهما على قدر ما تخبر به عنهما ، والمقدمة الواحدة سماوية ، والمقدمة الأخرى أرضية ، والرابطة لهما هوائية ، فهي الفاتحة ، للتجليات الواضحة ، وهي المثاني ، لما في الربوبية والعبودية من المعاني ، وهي الكافية ، لتضمنها البلاء والعافية ، وهي السبع المثاني ، لاختصاصها بصفات المعاني ، وهي القرآن العظيم ، لأنها تحوي صورة المحدث والقديم ، وهي أم الكتاب ، لأنها الجامعة للنعيم والعذاب ـ إشارة : هي فاتحة الكتاب لأن الكتاب عبارة من باب الإشارة عن المبدع الأول. وكذلك الروح ازدوج مع النفس بواسطة العقل ، فصارت النفس محل الإيجاد حسا ، فهذه النفس هو الكتاب المرقوم لنفوذ الخط ، فظهر في الإبن ما خط القلم في الأم ـ إشارة : الأم أيضا عبارة عن وجود المثل محل الأسرار ، فهو الرق المنشور الذي أودع فيه الكتاب المسطور المودعة فيه تلك الأسرار الإلهية.

١٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)

الوجه الأول : البسملة آية مستقلة ، ونقول فيها في سورة النمل إنها جزء من آية «بسم الله» هو الله من حيث هويته وذاته «الرحمن» بعموم رحمته التي وسعت كل شيء «الرحيم» بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده ، فقدم سبحانه في كتابه العزيز (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في كل سورة ، إذا كانت السورة تحتوي على أمور مخوفة ، تطلب أسماء العظمة والاقتدار ، فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى ، فإنه تعالى القائل (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) لهذا ليس في البسملة شيء من أسماء القهر ظاهرا ، بل هو الله الرحمن الرحيم وإن كان يتضمن الاسم «الله» القهر ، فكذلك يتضمن الرحمة ، فما فيه من أسماء الغلبة والقهر والشدة ، يقابله بما فيه من الرحمة والمغفرة والعفو والصفح ، وزنا بوزن في الاسم «الله» من البسملة ، ويبقى لنا فضل زايد على ما قابلنا به الأسماء في الاسم «الله» وهو قوله (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فأظهر عين «الرحمن» وعين «الرحيم» خارجا زائدا على ما في الاسم الله الجامع من البسملة ، فرجح ، فكأن الله عرفنا بما يحكمه في خلقه ، وأن الرحمة بما هي في الاسم الله الجامع من البسملة ، هي رحمته بالبواطن ، وبما هي ظاهرة في (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هي رحمته بالظواهر ، فعمت ، فعظم الرجاء للجميع ، وما من سورة من سور القرآن إلا والبسملة في أولها ، فأولناها أنها إعلام من الله بالمآل إلى الرحمة ، فإنه جعلها ثلاثة : الرحمة المبطونة في الاسم «الله» و «الرحمن» و «الرحيم» ولم يجعل للقهر سوى المبطون في الاسم «الله» فلا عين له موجودة في الظاهر. واعلم أن اختصاص البسملة في أول كل سورة ، تتويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة ، أنها تنال كل مذكور فيها ، فإنها للسورة كالنية

____________________________________

سورة الفاتحة

الترجمة عن فاتحة الكتاب

(١) (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) البسملة عندي آية من القرآن حيث ما وقعت منه إذا تكررت للفصل بين السور ، فقد تكررت قصة آدم وموسى وغيرهما وذكر الأنبياء في مواضع كثيرة من القرآن ، ولم يقل أحد أن ذلك ليس من القرآن ، وإن أسقطت في بعض الروايات كقراءة حمزة

١٩

للعمل ، فكل وعيد ، وكل صفة توجب الشقاء مذكورة في تلك السورة ، فإن البسملة بما فيها من «الرحمن» في العموم و «الرحيم» في الخصوص ، تحكم على ما في تلك السورة من الأمور التي تعطي من قامت به الشقاء ، فيرحم الله ذلك العبد ، إما بالرحمة الخاصة ، وهي الواجبة ، وإما بالرحمة العامة ، وهي رحمة الامتنان ، فالمآل إلى الرحمة لأجل البسملة ، فهي بشرى.

والبسملة فاتحة الفاتحة ، وهي آية أولى منها ، أو ملازمة لها ، كالعلاوة ، على الخلاف المعلوم بين العلماء ، و (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) عندنا ، خبر ابتداء مضمر ، وهو ابتداء العالم وظهوره ، لأن الأسماء الإلهية سبب وجود العالم ، وهي المسلطة عليه والمؤثرة ، فكأنه يقول : ظهور العالم بسم الله الرحمن الرحيم ، أي باسم الله الرحمن الرحيم ظهر العالم ، والبسملة التي تنفصل عنها الكائنات على الإطلاق هي بسملة الفاتحة ، لا بسملة سائر السور ، فإن بسملة سائر السور لأمور خاصة ، واختص الثلاثة الأسماء لأن الحقائق تعطي ذلك ، فالله هو الاسم الجامع للأسماء كلها ، والرحمن صفة عامة ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ، بها رحم كل شيء من العالم في الدنيا ، ولما كانت الرحمة في الآخرة لا تختص إلا بقبضة السعادة ، فإنها تنفرد عن أختها ، وكانت في الدنيا ممتزجة ، يولد كافرا ، ويموت مؤمنا ، أي ينشأ كافرا في عالم الشهادة ، وبالعكس ، وتارة وتارة ، وبعض العالم تميز بإحدى القبضتين بإخبار صادق ، فجاء الاسم «الرحيم» مختصا بالدار الآخرة لكل من آمن ، وتم العالم بهذه الثلاثة الأسماء ، جملة في الاسم «الله» وتفصيلا في الاسمين «الرحمن

____________________________________

ابن حبيب الزيات وكإسقاط هو من سورة الحديد (١) ، والباء من بالزبر (٢) ، ولم يجرح إسقاطها في قراءة من أثبتها من القرآن ، وأما في الفاتحة وفي النمل فما أحد من القراأ أسقطها رأسا ، إلا بسملة الفاتحة في الصلاة ، فمنع مالك قراءتها سرا وجهرا ، في المكتوبة ، وأجازها في النافلة ، وأما الثوري وأبو حنيفة فقالا يقرأها سرا في كل ركعة ، وقال الشافعي يقرأها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا ، وهي عندي آية من الفاتحة وهو مذهب أبي ثور وأحمد ، ومن بعض أقوال الشافعي أن البسملة

__________________

(١) (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) قرأ المدنيان وابن عامر بغير (هو) وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام ، وقرأ الباقون بزيادة (هو) وكذلك في مصاحفهم ـ سورة الحديد.

(٢) (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ) قرأ ابن عامر «وبالزبر» بزيادة باء بعد الواو والباقي بحذفها ـ آل عمران.

٢٠