رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

١
٢

(١٨) سورة الكهف مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١)

القرآن له الاعتدال فلم يكن فيه عوج ولا تحريف ، ولما كان له الاعتدال الذي هو حفظ بقاء الوجود على الموجود كان له الديمومية والبقاء.

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦)

ما أحد أكشف للأمور وأشهد للحقائق وأعلم بالطرق إلى الله من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ومع هذا ما سلموا من الشؤون الإلهية ، فعرضت لهم الأمور المؤلمة النفسية من رد الدعوة في وجهه ، وما يسمعه في الحق تعالى مما نزّه جلاله عنه ، وفي الحق الذي جاء به ، فقال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧)

ـ إشارة ـ ما تنعمت الأبصار في أحسن من زهرة الروض ، وأحسن زينة على الأرض رجال الله ، فاجعلهم منتزهك حتى تكون منهم.

٣

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١٠)

الفتوة ليس فيها شيء من الضعف ، إذ هي حالة بين الطفولة والكهولة ، وهو عمر لإنسان من زمان بلوغه إلى تمام الأربعين من ولادته.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣)

الفتى هو من آثر أمر ربه على هوى نفسه ، والفتوة أن يؤثر الإنسان العلم المشروع الوارد من الله على ألسنة الرسل على هوى نفسه ، وعلى أدلة عقله وما حكم به فكره ونظره ، إذا خالف علم الشارع المقرر له ـ بحث في الفتوة ـ الفتيان أهل علم وافر ، وهم الذين حازوا مكارم الأخلاق أجمعها ، ولا يتمكن أحد أن يكون حاله مكارم الأخلاق ما لم يعلم المحال التي يصرفها فيها ويظهر بها ، ولما لم يكن في وسع الإنسان أن يسع العالم بمكارم أخلاقه ، إذ كان العالم كله واقفا مع غرضه أو إرادته ، لا مع ما ينبغي ، فاختلفت الأغراض والإرادات وطلب كل صاحب غرض أو إرادة في الفتى أن يعامله بحسب غرضه وإرادته ، والأغراض متضادة ، فلما رأينا الأمر على هذا الحد وأنه لا يعمّ ، ولم يتمكن عقلا ولا عادة أن يقوم الإنسان في هذه الدنيا أو حيث كان في مقام يرضي المتضادين ، انبغى للفتى أن يترك هوى نفسه ويرجع إلى خالقه الذي هو مولاه وسيده ، ويقول : أنا عبد ، وينبغي للعبد أن يكون بحكم سيده ، لا بحكم نفسه ولا بحكم غير سيده ، يتبع مراضيه ويقف عند حدوده ومراسمه ، ولا يكن ممن جعل مع سيده شريكا في عبوديته ، فيكون مع سيده بحسب ما يحدّ له ، ويتصرف فيما يرسم له ، ولا يبالي وافق أغراض العالم أو خالفهم ، فإن وافق

٤

ما وافق منها فذلك راجع إلى سيده. والفتى من وقر الكبير في العلم أو في السن ، والفتى من رحم الصغير في العلم أو السن ، والفتى من آثر المكافىء في السن أو في العلم ، وينبغي للفتى أن يوفّي السلطان حقه الذي أوجبه الله له عليه ، ولا يطلب منه حقه الذي جعله الله له قبل السلطان ، مما له أن يسامحه فيه إن منعه منه ، فتوة عليه ورحمة به وتعظيما لمنزلته ، إذ كان له أن يطلبه به يوم القيامة ، فالفتى من لا خصم له ، لأنه فيما عليه يؤديه ، وفيما له يتركه ، فليس له خصم ، والفتى من لا تصدر منه حركة عبثا جملة واحدة ، وإن كانت الحركة في غيره فلا ينظرها عبثا ، فإن الله خلقها أي قدّرها ، وإذا قدرها فلا تكون عبثا ولا باطلا ، فيكون حاضرا مع هذا عند وقوعها في العالم ، فإن فتح له بالعلم في الحكمة فيها فبخ على بخ ، وهو صاحب عناية ، وإن لم يفتح له في العلم بالحكمة فيها فيكفيه حضوره في نفسه أنها حركة مقدرة منسوبة إلى الله ، وأن لله فيها سرا يعلمه الله ، فالفتيان هم السلاطين في صور العبيد ، يعرفهم الملأ الأعلى ، فليس أحد مما سوى الأنس والجان إلا ويقول بفضله ، إلا بعض الثقلين ، فإن الحسد يمنعهم من ذلك ، وهم يعاملون الخلق بالإحسان إليهم مع إساءتهم لهم ، فلهم القوة العظمى على نفوسهم حيث لم يغلبهم هواهم ، ولا ما جبلت النفس عليه من حب الثناء والشكر والاعتراف (راجع سورة الأنبياء آية ٦٠) (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) اعلم أن الإيمان بالربوبية يزيد في الهدى ، والإيمان بالله هو الهدى.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ

٥

ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧) فالكل بيده وإليه يرجع الأمر كله.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

انظر إلى قوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي ليس من شأنه ولا من شأن الأنبياء عليهم‌السلام أن ينهزم ، ولا أن يقتل في مصاف (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) فوصفه بالانهزام ، وقوله صدق ، أترى ذلك عن رؤية أجسامهم؟ أليسوا أناسي مثله ، فما ينهزم إلا من أمر يريد إعدامه ، ولا يملأ مع شجاعته وحماسته رعبا إلا من شيء يهوله ، فلو لم ير منهم ما هو أهول مما رآه ليلة إسرائه ما امتلأ رعبا مما رآه ـ ولا يملأ رعبا من صور أجسامهم ـ فذلك الذي كان يملؤه رعبا ، وما ذكر الله إلا رؤية عينهم ، لأنه قال (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) فوصفه بالاطلاع ، فهم أسفل منه بالمقام ، ومع هذا كان يولي منهم فرارا ، خوفا أن يلحق بهم فينزل من مقامه ، ويملأ منهم رعبا لئلا يؤثروا فيه ، من تأثير الأدنى في الأعلى ، ومن علم الأمر على هذا حقيق عليه أن يولي فرارا ويملأ رعبا ، هل رأيتم عاقلا يقف على جرف مهواة إلا ويفر خوفا من السقوط ، فانظر فيما تحت هذا النعت الذي وصف الله به نبيه لو اطلع على الفتية ، مع علو رتبتهم وشأنهم ، فعلوّه أعلى ورتبته أسنى ، فعرّفنا الله بذلك ، ينبهنا على علو رتبة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانظر إلى ما ذا ترجع صور العالم هل لأنفسهم أو لرؤية الناظر ، وانظر ما ترى ، واعلم ما تنظر ، وكن بحيث تعلم لا بحيث ترى ، فإن الله ينكر بالرؤية ولا ينكر بالعلم ، فإذا لم ينكر بالرؤية فبشاهد العلم لم ينكر.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ

٦

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

(رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي ما هم على تحقيق فيما يخبرون به من عددهم ، لأنهم ما شاهدوهم ، فهو من رجمات الظنون ، والظن رجم بالغيب ، والعلم ما فيه شك ولا ريب ، ولهذا جاء بفعل الاستقبال فقال (سَيَقُولُونَ) وأما قوله تعالى (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) لا يقال ثامن ثمانية إلا في الجنس الواحد ، فإذا انتفت المثلية لم يقل فيه : إنه ثامن ثمانية إذا كان معهم ، وإنما يقال : ثامن سبعة ، ألا ترى إلى الكلب لما لم يكن من النوع الإنساني قالوا (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، ولم يقولوا ثمانية ثامنهم كلبهم ، (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ) يعني كم عددهم (إِلَّا قَلِيلٌ) إما من شاهدهم ممن لا يغلب عليه الوهم ، وإما من أعلمه الله بعدتهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من ذلك القليل الذين يعلمونهم.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤)

٧

هذه الآية مذكورة باللسان العبراني في التوراة ، فالله أخّر الاستثناء ، فالمحمدي يؤخره ، فإن الله أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، والله تعالى يمقت من يقول ما لا يعمل من غير أن يقرن به المشيئة الإلهية ، فإذا علق المشيئة الإلهية بقوله أن يعمل فلا يكون ذلك العمل ، لم يمقته الله ، فإن العبد غاب عن انفراد الحق في الأعمال كلها التي تظهر على أيدي المخلوقين بالتكوين ، وأنه لا أثر للمخلوق فيها من حيث تكوينها ، وإن كان للمخلوق فيها حكم لا أثر. ولما علم الحق أن هذا لا بد أن يقع من عباده وأنهم يقولون ذلك ، شرع لهم الاستثناء الإلهي ليرتفع المقت الإلهي عنهم ، ولهذا لا يحنث من استثنى إذا حلف على فعل مستقبل ، فإنه أضافه إلى الله لا إلى نفسه.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (٢٥)

ثلاث مائة وتسع سنين قمرية ، وهذه تعدل ثلاث مائة سنة شمسية.

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨)

كان سبب هذه الآية أن زعماء الكفار من المشركين كالأقرع بن حابس وأمثاله ، قالوا : ما يمنعنا من مجالسة محمد إلا مجالسته لهؤلاء الأعبد ، يريدون بلالا وخباب بن الأرت وغيرهما ، فكبر عليهم أن يجمعهم والأعبد مجلس واحد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمان مثل هؤلاء ، فأمر أولئك الأعبد إذا رأوه مع هؤلاء الزعماء أن لا يقربوه إلى أن يفرغ

٨

من شأنهم ، أو إذا أقبل الزعماء والأعبد عنده أن يخلوا لهم المجلس ، فأنزل الله هذه الآية غيرة لمقام العبودية والفقر أن يستهضم بصفة عز وتأله ظهر في غير محله ، فإن الله يغار لعبده المنكسر الفقير أشد مما يغار لنفسه ، وهو من أعظم دليل على شرف العبودة والإقامة عليها ، فأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أن يحبس نفسه مع الأعبد والفقراء من المؤمنين مثل خباب بن الأرت وبلال وابن أم مكتوم وغيرهم ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى هؤلاء الأعبد وأمثالهم أو جالسهم يقول [مرحبا بمن عاتبني فيهم ربي] فكلما جلسوا عنده جلس لجلوسهم ، لا يمكن له أن يقوم ولا ينصرف حتى يكونوا هم الذين ينصرفون ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [إن الله أمرني أن أحبس نفسي معهم] فكانوا إذا أطالوا الجلوس معه يشير إليهم بعض الصحابة مثل أبي بكر وغيره أن يقوموا حتى يتسرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض شؤونه ، ولما علموا ذلك منه وأنه عليه‌السلام قد تعرض له أمور يحتاج إلى التصرف فيها ، فكانوا يخففون فلا يلبثون عنده إلا قليلا ، وينصرفون حتى ينصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأشغاله ، وأبان الحق لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية أن مقام العبودة هو الذي تدعو له الناس ، فإن جميع النفوس يكبر عندهم رب الجاه ورب المال ، لأن العزة والغنى لله تعالى ، فحيثما تجلت هذه الصفة تواضع الناس وافتقروا إليها ، ولا يفرقون بين ما هو عز وغنى ذاتي وبين ما هو منهما عرضي إلا بمجرد مشاهدة هذه الصفة ، فإذا حضر ملك مطاع نافذ الأمر وقد جاءك مع عظم مرتبته زائرا ، وجاءك فقير ضعيف في ذلك الوقت زائرا أيضا فليكن قبولك على الفقير وشغلك به إلى أن يفرغ من شأنه الذي جاء إليه ، فما عتب الله نبيه سدى ، بل أبان والله في ذلك عن أرفع طريق الهدى ، وزجر عن طريق الردى ، فقال (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ردعا وزجرا لحالة تحجبك ، فإن عزة الإيمان أعلى ، وعزة الفقر أولى ، فليكن شأنك تعظيم المؤمن الفقير على المؤمن الغني بماله ، العزيز بجاهه ، المحجوب عن نفسه ، فإن الفقير المؤمن هو مجلى حقيقتك (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) وأنت مأمور بمشاهدة نفسك حذر الخروج عن طريقها ، فالمؤمن الفقير مرآتك ترى فيه نفسك ، والمؤمن الغني بالمال عنك هو مرآة لك صدئت فلا ترى نفسك فيها ، فلا تعرف ما طرأ على وجهك من التغيير. واعلم أن لله عبادا كانت أحوالهم وأفعالهم ذكرا يتقرب به إلى الله ، وينتج من العلم بالله ما لا يعلمه إلا من ذاقه ، فإن كل ما أمر الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهاه عنه كان عين أحوالهم

٩

وأفعالهم ، مع كون هذه الطائفة التي نزل فيهم هذا القرآن من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما نالوا ما نالوه إلا باتباعه وفهم ما فهموا عنه ، ومع هذا عاتب الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حضروا لا تعدو عيناه عنهم ، ولما كان دعاؤهم بالغداة والعشي ، وهو زمان تحصيل الرزق في المرزوقين ، فكان رزق هؤلاء بالغداة والعشي ما ينتج لهم معرفة وجه الحق في كل شيء ، فلا يرون شيئا إلا ويرون وجه الحق فيه ، فيحصل لهم معرفة الوجه الذي كان مرادهم ، لأنه تعالى يقول (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يعني بذلك الدعاء بالغداة والعشي وجه الحق ، لما علموا أن كل شيء هالك إلا وجهه ، فطلبوا ما يبقى وآثروه على ما يفنى ، فكانوا في حضرة شهود أو طالبين لهذه الحضرة ، ولذا قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) فكانت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تعدوان عنهم إلى غيرهم ما داموا حاضرين ، ومن هنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة أولياء الله [وهم الذين إذا رؤوا ذكر الله] لما حصل لهم من نور هذا الوجه الذي هو مراد لهؤلاء ، والأنبياء وإن شاهدوا هؤلاء في حال شهودهم للوجه الذي أرادوه من الله تعالى بدعائهم ، فإنهم من حيث إنهم أرسلوا لمصالح العباد لا يتقيدون بهم على الإطلاق ، وإنما يتقيدون بالمصالح التي بعثوا بسببها ، فوقتا يعتبون مع كونهم في مصلحة مثل هذه الآية ، ومثل آية الأعمى ، ومن وجه آخر قيل في هذه الآية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق الأعبد (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي وانظر فيهم صفة الحق ، فإنها مطلوبك في الكون ، فإني أدعو عبادي بالغداة والعشي وفي كل وقت ، أريد وجههم أي ذاتهم أن يسمعوا دعائي فيرجعوا إليّ (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) فإنهم ظاهرون بصفتي كما عرفتك (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذه الزينة أيضا في هؤلاء وهي في الحياة الدنيا فهنا أيضا مطلوبك (وَلا تُطِعْ) فإنهم طلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم مجلسا ينفردون به معه ، لا يحضره هؤلاء الأعبد ، فأجابهم حرصا على إيمانهم (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي جعلنا قلبه في غلاف فحجبناه عن ذكرنا ، فإنه إن ذكرنا علم أن السيادة لنا وأنه عبد ، فيزول عنه هذا الكبرياء ، والصفة التي ظهر بها التي عظمتها أنت لكونها صفتي وطمعت في إزالتها عن ظاهرهم ، فإني أعلمت أني قد طبعت على كل قلب متكبر جبار فلا يدخله كبر وإن ظهر به (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي غرضه الذي ظهر به (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي ما هو نصب عينيه له وهو مشهود له ، لا يصرف نظره عنه إلى ما يقول له الحق على لسان

١٠

رسوله وما يريده منه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقبل عليه هؤلاء الأعبد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [مرحبا بمن عتبني فيهم ربي] ويمسك نفسه معهم في المجلس حتى يكونوا هم الذين ينصرفون ، ولم تزل هذه أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إلى أن مات ، فما لقيه أحد بعد ذلك فحدثه إلا قام معه حتى يكون هو الذي ينصرف ، وكذلك إذا صافحه شخص لم يزل يده من يده حتى يكون الشخص هو الذي يزيلها ، هكذا رويناه من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فائدة ـ إن كان العبد قوي الإيمان ، غير متبحر في التأويل ، خائضا في بحر الظاهر ، لا يصرفه للمعاني الباطنة صارف ، انتفع بالذكرى ، فإن تأول تردى وأردى من اتبعه ، وكان من الذين اتبعوا أهواءهم ، وكان أمر من هذه صفته فرطا فإن النفوس مجبولة على حب إدراك المغيبات ، واستخراج الكنوز وحل الرموز ، وفتح المغاليق والبحث عن خفيات الأمور ودقائق الحكم ، ولا ترفع بالظاهر رأسا ، فإن ذلك في زعمها أبين من فلق الصبح ، ومن أحكم الظاهر كشف الله له عند ذلك في هذه الظواهر ما لا يخطر بخاطر أحد ، ويعظم قدره وتظهر حكمته وكثرة خيره ، ويعلم الجاهل عند ذلك أنه ما كان يحسبه هينا هو عند الله عظيم ، فإن الجاهل بالظاهر بالباطن أجهل ، فإنه الدليل عليه ، وإن فرط في تحصيل الأول كان في تحصيل الآخر أشد تفريطا ـ نصيحة ـ الزم باب الله واصبر نفسك مع أحبابه الذين تحقرهم العيون ، فذلك الذي رفعهم عند الحق.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩)

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ الوجه الأول ـ أي لا تأخذكم في الله لومة لائم ، وهو قوله تعالى (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) و (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ـ الوجه الثاني ـ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء الله أن يكفر فليكفر ، فإنهم ما يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ، ثم ذكر تعالى ما للظالمين عند الله في الآخرة فقال تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً

١١

أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) الآية ـ فإذا اجتمع في مجلس أهل الله من هو فقير ذليل منكسر وغني بماله ذو جاه في الدنيا ، أظهر الداعي إلى الله القبول والإقبال على الفقير أكثر من إظهاره على الغني ذي الجاه ، لأنه المقصود بالأدب الذي أدب الله تعالى به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير أن صاحب هذه الصفة يحتاج إلى ميزان الحق في ذلك ، فإن غفل عنه كان الخطأ أسرع إليه من كل شيء ، وصورة الوزن فيه أن لا يرى في نفسه شفوفا عليه ، ولا يخاطب الغني ولا ذا الجاه بصفة قهر تذله ، فإنه لا يذل تحتها بل ينفر ويزيد عظمة ، وإذا رأى من الأغنياء بالعرض ـ من جاه أو مال ـ الفقر والذلة نزولا عن هاتين المرتبتين ، وجب على أهل الله الإقبال عليهم ، قال تعالى : ـ

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣٠)

الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه أو تعلم أنه يراك ، فهذا هو الحد الضابط للإحسان في العمل ، وما عدا هذا فهو سوء عمل ، إما ببذل الوسع في الاجتهاد فيكون وفّى الأمر حقه ، ولكنه أخطأ وهو صاحب عمل حسن ، فيكون رؤية سوء العمل حسنا بعد الاجتهاد ، وإما أن يكون في المشيئة فلا يدري بما يختم له إذا لم يكن عن استيفاء الاجتهاد بقدر الوسع ورآه حسنا عن غير اجتهاد ، فقوله تعالى (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أحسن عملا هنا من الإحسان ، وهو الحضور مع الله تعالى في ذلك العمل ، وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإحسان [أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك] وذلك الحضور مع الله هو حياة ذلك العمل ، وبه سمّي عبادة ، فالإحسان في العبادة كالروح في الصور يحييها ، وإذا أحياها لم تزل تستغفر لصاحبها ، ولها البقاء الدائم ، فلا يزال مغفورا له ، فإن الله صادق ، وقد أخبر أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأحسن العمل ما عمل بشرطه وفي زمانه وتمام خلقه وكمال رتبته ، وأصحاب هذا المقام ـ مقام الإحسان ـ يشرعون في العمل على الحجاب (اعبد الله كأنك تراه) فإذا رأوا المعمول له رأوا العمل صادرا منه فيهم ما هم العاملين ، فيخافون من مزلة القدم فيما سماه من أفعاله حسنا وسيئا. ـ تحقيق ـ إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، كيف يضيعه وهو الذي شرعه ووعد عليه بالأجر ، ووعده صدق؟.

١٢

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (٣٢)

قصة هذين الرجلين هنا في الدنيا هو ما قصه الحق في سورة الكهف ، وذكر حديثهما في الآخرة في سورة الصافات (قال قائل منهم : إني كان لي قرين) إلى آخر الحديث وفيها ذكر المعاتبة.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦)

فيقول له صاحبه في الآخرة لما اطلع فرآه في سواء الجحيم (تالله إن كدت لتردين) ورد في الأخبار الإلهية الصحاح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن ربه عزوجل فيما يقوله لعبده يوم القيامة [أظننت أنك ملاقي].

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩)

١٣

فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (٤٢)

ـ إشارة ـ تحفظ من الصاحب فإنه العدو الملازم ، فدلّه على الحق وإن ثقل عليه ، فيشكر لك عند الله.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥)

الاقتدار حكم القادر في ظهور الأشياء بأيدى الأسباب ، والأسباب هي المتصفة بكسب القدرة ، فهي مقتدرة أي متعملة في الاقتدار ، وليس إلا الحق تعالى ، فهو المقتدر على كل ما يوجده عند سبب أو بسبب ، فالله القادر من حيث الأمر ، ومقتدر من حيث الخلق ، ومن وجه آخر ، القادر في مقابلة القابل للأثر فيه مع كونه معدوما في عينه ، ففيه ضرب من الامتناع وهي مسألة مشكلة ، لأن تقدم العدم للممكن قبل وجوده لا يكون مرادا ، ولا هو صفة نفسية للممكن ، فهذا هو الإشكال فينبغي أن يعلم ، والمقتدر لا يكون إلا في حال تعلق القدرة بالمقدور لأنه تعمل في تعلق القدرة بالمقدور لإيجاد عينه.

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً

١٤

وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦)

جمع المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات من الخير عند ربه وهو الثواب ، ومن الخير المؤمل وهو المال والبنون ، لأنهما من الباقيات الصالحات ، أعني المال والبنين إذا كان المال الصالح والولد الصالح والعلم الذي ينتفع به ، وهو ما سنه من سنة حسنة قال عليه الصلاة والسلام [يموت ابن آدم وينقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم يبثه في الناس أو ولد صالح يدعو له].

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧)

يكون عموم الحشر لعموم ما ضمنته الدار الدنيا ، من معدن ونبات وحيوان وإنس وجان وسماء وأرض.

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) (٤٨)

أول موقف إذا خرج الناس من قبورهم ، يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة عراة حفاة جياعا عطاشا.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

فالغافل هو الذي لا حفظ له يحضر له ما فعله ، لأنه استولى عليه سلطان الغفلة والسهو والنسيان ، فيكون الحق يحفظ له أو عليه.

١٥

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠)

الملائكة رسل من الله إلى الإنسان ، موكلون به حافظون كاتبون أفعالنا ، والشياطين مسلطون على الإنسان بأمر الله ، فهم مرسلون إلينا من الله ، فلما شرّك بينهم في الرسالة أدخل تعالى إبليس في الأمر بالسجود مع الملائكة فقال (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فأدخله معهم في الأمر بالسجود فصح الاستثناء ، وجعله منصوبا بالاستثناء المنقطع ، فقطعه عن الملائكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار ، (كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي من الذين يستترون عن الإنس مع حضورهم معهم فلا يرونهم ، كالملائكة ، وليس إبليس أول الجن بمنزلة آدم من الناس ، بل هو واحد من الجن ، وإن الأول فيهم بمنزلة آدم في البشر إنما هو غيره ، ولذلك قال تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي من هذا الصنف من المخلوقين ، كما كان قابيل من البشر وكتبه الله شقيا ، فهو أول الأشقياء من البشر ، وإبليس أول الأشقياء من الجن (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وهو قوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) فهو من الفاسقين الخارجين عن أمر الله ، فسماه كافرا.

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٥١)

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وهو حال الفعل عند تعلق الفاعل بالمفعول ، وكيفية تعلق القدرة الأزلية بالإيجاد الذي حارت فيه المشاهد والعقول ، وكل من رام الوقوف نكص على عقبه ورجع إلى مذهبه ، وقد قال تعالى في أنفسهم وأقدسهم حين قال (رب أرني كيف تحيي الموتى) فلما أراه آثار القدرة لا تعلقها عرف كيفية الأشياء والتحام الأجزاء حتى قام شخصا سويا ، ولا رأى تعلق القدرة ولا تحققها ، فقد تفرد الحق بسر نشأة خلقه ونشره ، فإنه ليس في حقائق ما سوى الله ما يعطي ذلك ، فلا فعل لأحد

١٦

سوى الله ، فهذه الآية دليل على عدم تجلي الحق في الأفعال ، أعني نسبة ظهور الكائنات عن الذات التي تتكون عنها ، فما أشهدهم خلق السموات ولا الأرض ولا خلق أنفسهم ، أي صدورها إلى الوجود ، أراد حالة الإيجاد ، فما شاهد أحد تعلق القدرة الإلهية بالأشياء عند إيجادها ، فإن الخلق يريد به المخلوق في موضع ، مثل قوله (هذا خلق الله) ويريد به الفعل في موضع ، مثل قوله (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ) فهنا يريد به الفعل بلا شك ، لأنه ليس لمخلوق فعل أصلا ، فما فيه حقيقة من الله يشهد بها فعل الله ، وما لمخلوق مما سوى الله ولا العقل الأول أن يعقل كيفية اجتماع نسب يكون عن اجتماعها عين وجودية مستقلة في الظهور وغير مستقلة في الغنى ، مفتقرة بالإمكان المحكوم عليها به ، وهذا علم لا يعلمه إلا الله تعالى ، وليس في الإمكان أن يعلمه غير الله تعالى ، ولا يقبل التعليم ، أعني أن يعلّمه الله من شاء من عباده ، فأشبه العلم به العلم بذات الحق ، والعلم بذات الحق محال حصوله لغير الله ، فمن المحال حصول العلم بالعالم أو بالإنسان نفسه أو بنفس كل شيء لنفسه لغير الله ، فتفهم هذه المسئلة فإني ما سمعت ولا علمت أن أحدا نبه عليها وإن كان يعلمها ، فإنها صعبة التصور ، مع أن فحول العلماء يقولون بها ولا يعلمون أنها هي (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) يعتضد بهم.

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤)

الصمت حكمة وقليل فاعله ، فمن تكلم بالله كانت الحجة له ، فإن الحجة البالغة لله ، ومن تكلم بنفسه كان محجوبا ، كما أن الحق إذا تكلم بعبده كان كلامه ظاهرا بحيث يقتضيه مقام عبده ، فإذا رد الجواب عليه عبده به لا بنفسه ، وظهر حكمه على كلام ربه ، نادى الحق عليه (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) وإن قال الحق ، ولكن ما كل حق يحمد ،

١٧

ولا كل ما ليس بحق يذم ، فالأدباء يعرفون المواطن التي يحمد فيها الحق فيأتون به فيها ، ويعرفون المواطن التي يحمد فيها ما ليس بحق فيأتون به فيها ، ويتعلق بذلك تعلق الإرادة بالأمر التكليفي وموافقتها أو عدم الموافقة ، وأقوى الجدال ما يجادل به الله ، ومن أراد العصمة من ذلك فلينظر إلى ما شرع الله له ، وأتى على ألسنة رسله ، فيمشي معه حيث مشى ويقف عنده حيث وقف من غير مزيد ، وإن تناقضت الأمور وتصادمت فذلك له لا لك ، وقل : لا أدري هكذا جاء الأمر من عنده ، وارجع إليه وقل : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧)

الإعراض عن الآيات التي نصبها الحق دلائل عليه دليل على عدم الإنصاف واتباع الهوى المردي ، وهو علة لا يبرأ منها صاحبها بعد استحكامها حتى يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب ، فعند ذلك يريد استعمال الدواء فلا ينفع ، كالتوبة عند طلوع الشمس من مغربها.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (٦٠)

١٨

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) وهو صديقه (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) الحقبة السنة ، وإنما كان الحوت عند يوشع للمناسبة ، لأن يوشع هو ابن نون ، ولهذه المناسبة كان الحوت الذي هو النون.

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) (٦٢)

ولم يكن قبل ذلك أصابه النصب ليتذكر دلالة الحوت ـ إشارة ـ مجمع البحرين إشارة إلى علم الباطن وعلم الظاهر.

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (٦٣)

من أدب يوشع فتى موسى إضافة النسيان إلى الشيطان ، وما أضافه إلى الله الذي أنساه أن يعرّف موسى عليه‌السلام بحياة الحوت ، لما أراد الله من تمام ما سبق به العلم الإلهي من زيادة الأقدام التي قدر له أن يقطع بها تلك المسافة ، ويجاوز المكان الذي كان فيه خضر ـ إشارة ـ كان الدليل حوتا ولم يكن غير ذلك لأنه من الحيوان الذي يتكون في الماء ، فليس بينه وبين الأصل واسطة ، لأنه سبحانه جعل من الماء كل شيء حي ، فهو أصل الحياة ، فكذلك جعله دليلا على الخضر ، إذ كان حيا بما أعطاه الله تعالى ، لا موت عنده ولا جهل ، فكان الدليل مناسبا للمدلول ، ولهذا جعلت حياته دليلا على وجود خضر ، أي قد وصلت إلى معدن الحياة ـ أما اتخاذه البحر مسلكا فهو إشارة لرجوع الأشياء إلى أصلها.

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤)

أي يتبعان الأثر إلى أن عادا إلى المكان.

١٩

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥)

ـ تفسير من باب الإشارة ـ (فَوَجَدا) تنبيها من الله وتأديبا لموسى عليه‌السلام لما جاوزه من الحد في إضافة العلم إلى نفسه بأنه أعلم من في الأرض في زمانه ، فلو كان عالما لعلم دلالة الحق التي هي عين اتخاذ الحوت سربا ، وما علم ذلك وقد علمه يوشع ، ونسّاه الله التعريف بذلك ليظهر لموسى عليه‌السلام تجاوزه الحد في دعواه ولم يردّ ذلك إلى الله في علمه في خلقه (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) فأضافه إلى نون الجمع وهو خضر ، واسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه‌السلام ، كان في جيش فبعثه أمير الجيش يرتاد لهم ماء ، وكانوا قد فقدوا الماء ، فوقع بعين الحياة فشرب منه فعاش إلى الآن ، وكان لا يعرف ما خص الله به من الحياة شارب ذلك الماء ، والخضر هو الشاب الذي يقتله الدجال في زعمه لا في نفس الأمر ، وهو فتى ممتلىء شبابا ، هكذا يظهر له في عينيه (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) الرحمة تتقدم بين يدي العلم تطلب العبد ، ثم يتبعها العلم ، فالعلم يستصحب الرحمة بلا شك ، فإذا رأيت من يدعي العلم ولا يقول بشمول الرحمة فما هو صاحب علم ، وهذا هو علم الذوق لا علم النظر ، قال تعالى في حق عبده خضر (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) فقدم الرحمة على العلم ، وهي الرحمة التي في الجبلة ، جعلها فيه ليرحم بها نفسه وعباده ، فيكون في حق الغلام رحمة أن حال بينه وبين ما يكتسبه لو عاش من الآثام إذ قد كان طبع كافرا ، وأما رحمته بالملك الغاصب حتى لا يتحمل وزر غصب تلك السفينة من هؤلاء المساكين ، فالرحمة إنما تنظر من جانب الرحيم بها لا من جانب صاحب الغرض ، فإنه جاهل بما ينفعه ، وإن أراد الله تعالى أنه أعطاه رحمة من عنده أي رحمناه ، فأعطيناه هذا العلم الذي ظهر به ، وهو ما أعطاه من الفهم ، وهو مقام يحصل من وجهين : وجه اختصاص كالخضر وأمثاله من غير تعمل وكالقائم في آخر الزمان ، ووجه آخر من طريق التعمل طريق الكسب ، فقال تعالى في خضر (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) جودا ورحمة من الله ، فإنه لم يذكر له تعملا في تحصيل شيء من ذلك ، وجعل الكل منه امتنانا وفضلا ، فهو علم الوهب لا علم الكسب ، فإنه لو أراد العلم المكتسب لقال تعالى : وعلمناه طريق اكتساب العلوم ، فالعلم الموهوب هو العلم اللدني علم الخضر وأمثاله ، وهو

٢٠