رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

أجل العلم الذي أعطاه التجلي الإلهي لقلوبهم ، وهذا لا يكون لأحد من الأولياء إلا لمن سجد قلبه ، فإن الشيطان لا يعتزل عن الإنسان إلا في حال سجوده في الظاهر والباطن ، فإن لم يسجد قلب الولي فليس بمحفوظ (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) فيحفظ الله أولياءه من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، إذ لا دخول للشيطان على بني آدم إلا من هذه الجهات ، والأديب من عباد الله خلّاق في هذه الدار بالعمل ببسم الله الرحمن الرحيم ، ليسلم عمله من مشاركة الشيطان ، حيث أمره الله بالمشاركة في الأموال والأولاد ، فهو ممتثل هذا الأمر حريص عليه ، ونحن مأمورون باتقائه في هذه المشاركة ، فطلبنا ما نتقيه به لكونه غيبا عنا لا نراه ، فأعطانا الله اسمه ، فلما سمينا الله على أعمالنا عند الشروع فيها توحدنا بها ، وعصمنا من مشاركة الشيطان ، فإن الاسم الإلهي هو الذي يباشره ويحول بيننا وبينه ، وإن بعض أهل الكشف ليشهدون هذه المدافعة التي بين الاسم الإلهي من العبد في حال الشروع وبين الشيطان ، وإذا كان العبد بهذه الصفة كان على بينة من ربه وفاز ونجا من هذه المشاركة ، وكان له البقاء في الحفظ والعصمة في جميع أعماله وأحواله.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (٦٧)

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) نبه بذلك على موضع انقطاع الأسباب (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) يعني الأسباب ، ضل منكم وتلف ، فلم تجدوه ، وما وجدتم عند فقده إلا الله ، فحيث تفنى الأسباب هناك يوجد الله ، فقال (إِلَّا إِيَّاهُ) فتدعونه في دفع الشدائد ، فكان هو السبب الذي ينجي في أوقات الضرورات المهلكة ، التي يقطعون فيها أن آلهتهم لا تغني عنهم فيها شيئا ، فيلجؤون إلى الله في رفعها ، فإن الإنسان بحكم الطبع يجري إذا مسه الضر إلى طلب من يزيله عنه وليس إلا الله ، فما من شيء إلا ويرجع في ضرورته إذا انقطعت به الأسباب إليه (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) فلما نجاه الله وأغاثه

٥٦١

واستقل ، قال : هذا أيضا من جملة الأسباب التي يقوم بعضها عن بعض فيما تريده ، فجعله واحدا من الأسباب وهو المشرك.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢)

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) يعني في الدنيا ، وسماها دنيا لأنها أقرب إلينا من الآخرة (أَعْمى) وهو حال الجهل بالله كما هو في نفس الأمر (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) كما هو في الدنيا ، فإن الإنسان إنما يموت على ما عاش عليه ، فإذا كان أعمى في الدنيا ـ والعمى هنا الجهل بالله ـ ويموت على ذلك فيجيء في الآخرة بذلك الجهل ، فهو ما عاش إلا حائرا ، فإذا وقع الكشف هناك زاد حيرة ، وهو قوله تعالى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي أشد عمى ، فهو أضل من كونه في الدنيا ، فإنه كان يترجى في الدنيا لو كشف له أن تزول عنه الحيرة ، والسبيل هو الطريق ، وليس إلا الفكر فيما منع التفكر فيه (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) الدنيا (أَعْمى) عن إدراك أنوار ما جاءت به الشرائع من الحق (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) كذلك هم في النار عمي عن إدراك أنوار السيارة وغيرها من الكواكب (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) وإنما كان أضل سبيلا ، فإنه كان في الدنيا يجد من يرشده إلى الطريق ولكن لا يسمع ، وفي النار ما يجد من يرشده إلى الطريق ، فإنه ما ثمّ طريق ، لكن يجد من يندّمه على ما فاته ليزيده حسرة إلى حسرته ، فكما تكون

٥٦٢

اليوم تكون غدا ، فاجهد أن تكون هنا ممن أبصر الأمور على ما هي عليه.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٧٣)

وما سامحه سبحانه في طمعه باستدراجهم بذلك ليؤمنوا بقوله تعالى.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤)

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) بما أوحينا إليك في ذلك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥)

هذا مع القصد الحسن ، فكيف بغير ذلك؟ والضعف أشد من العذاب المستحق بالأصالة وسببه الركون.

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨)

دلوك الشمس هو زوالها عن استوائها ـ تحقيق وإشارة في معنى إقامة الصلاة ـ يا عقل ، ربك قد دعاك إلى الدخول عليه ، والوقوف بين يديه ، فتسوك بعود أراك تفاؤلا ، فإن الفأل مشروع ، فهو خير من سبعين صلاة ، وفي رواية من أربعمائة كما جاء في الموضوع ، فالزم الأدب واحضر مع النسب ، فإن علم النسب يوجب أدبك ، وينهج مذهبك وهذا أنت خلف الباب ، تريد رفع الحجاب ، فقل :

٥٦٣

الله أكبر الله أكبر ، إثباتا لمن تكبر عليه وإعظاما ، ونزولا عليه وإلماما ، وقهرا له وإرغاما ، ورحمة به وإكراما.

أشهد أن لا إله إلا الله : إثباتا لمن ادعى الألوهية في نفسه ، حين أوجدها له في يومه دون أمسه ، فتنعم بها في حسه ، وظهر بها عند أبناء جنسه ، فحال بينه وبين دوام أنسه.

أشهد أن محمدا رسول الله : تحققا أن الرسالة في الثرى ، وأن كل الصيد في جوف الفرا ، فسرت سريان النفس في الورى ، فمنهم من تقدم ومنهم من طلب الورا ، وعند الصباح يحمد القوم السرى.

حي على الصلاة : إثباتا للغفلات ، وتعشق الغافلين بالكائنات ، فاتحدوا بها في عالم الكلمات ، وانفصلوا عنها في عالم السموات ، انفصال الروحانيات الملكوتيات.

حي على الفلاح : تعينا للبقاء (١) ، ونجاة السعداء ، وعدمها من الأشقياء ، والفصل بين الأرض والسماء ، يوم الفصل والقضاء.

قد قامت الصلاة : فقاموا إجلالا لقيامها ، وبادروا إليها تعظيما لإمامها ، فوهبتهم الأسرار القدسية ، بين افتتاحها بتكبيرها ، وتمامها بسلامها ، فمن فارح بقدومها ، جزع من إقدامها ، ومن فارح بقضائها ، إذ كان على بيّنة من تمامها ، ومن محب في دوامها للتلذذ بكلامها.

الله أكبر الله أكبر : تكبيرا من غير مفاضلة ، وقربا من غير مواصلة ، وبعدا من غير مفاصلة ، وإنباء من غير مراسلة ، وإنعاما بمعاملة وغير معاملة ، ورؤية من غير مقابلة.

لا إله إلا الله : إثباتا للشرك والتوحيد في عالم الجمع والوجد ، في عالم الفرق والفقد ، سر التعطيل والوجود ، والنسبة والتمجيد ، لانفراد الوعد والوعيد ، من القريب والبعيد ، بمحل التعظيم والتأييد.

وأنت يا حس ، فقل :

الله أكبر الله أكبر : تنفي تكبير المتكبرين من غير طريق دعوى المدعين ، وإرغاما لأنوف الحاسدين ، ودحضا لحجة المبطلين ، وإقامة لبرهان المؤمنين.

__________________

(١) الفلاح هو البقاء لغة.

٥٦٤

أشهد أن لا إله إلا الله : ردا على من قال : إنه الله ، فإن الحكيم الأواه ، من قال بنفي الأشباه ، وساوى في الذكر بين القلوب والأفواه ، وفي السجود بين الأقدام والجباه.

أشهد أن محمدا رسول الله : إثباتا لقربه من ربه ، بعالم تربه ، ومن حبّه بعالم قلبه ، لصحة حبّه ، فاتّخذ حبيبا وخليلا ، وعبدا ورسولا ، فصحت له السيادة على صحبه.

حي على الصلاة : إثباتا للإيمان ، وتعشقا في العيان ، بالبصر والجنان ، في الإساءة والإحسان ، والجحيم والجنان ، فليس العجب من ورد في بستان ، إنما العجب من ورد في قعر النبران (١).

حي على الفلاح : إقبالا على الإحسان بالأمان ، فإن البقاء بقاءان ، والنجاة نجاتان ، وكل ذلك قد ظهر في الإنسان.

قد قامت الصلاة : من قعدتها ، وانحلت (لام ألفها) (٢) من عقدتها ، فصارت سلطانة بوحدتها ، وظهرت في المؤمنين بقوتها ونجدتها ، وفي العارفين بترك عددها وعدتها ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.

الله أكبر الله أكبر : مفاضلة روحانية ، ومرتبة ربانية ، ومعادلة رحمانية ، وتكملة إنسانية ، ونكتة رهبانية.

لا إله إلا الله : شرك مقبول (٣) ، في توحيد معلول ، صاحبها مقيد مغلول ، وتاركها في روض مطلول ، لا ملول ولا مملول.

جعلنا الله وإياكم ممن أقامها دائما ، وكان بأسرارها عالما.

يا مقيم الصلاة ما لك تدعو

للمناجاة من حماه العيان

وهي عندي إزاحة لحجاب

قررته عند الحكيم الكيان

ودليلي من قال : قم يا بلال

فأرحنا بها فسر الزمان

فأقام الصلاة فارتاح قلب

جاءه الخوف تارة والأمان

قل لمن يقرأ القرآن : تبحر

في علوم شتى حواها القران

__________________

(١) راجع كتابنا شرح كلمات الصوفية صفحة ٣٥٤.

(٢) راجع الإشارة في لام ألف ص ٤٠٨ الجزء الأول آل عمران آية (١).

(٣) راجع معنى الشرك هنا في كتابنا شرح كلمات الصوفية ص ٤٠٤.

٥٦٥

خلف ستر أدق من وهم سر

شاهد الله إذ أتته الحسان

هو وهم وليس علما ولكن

فيه سر لربنا وامتنان

فإذا ما قرأت قرآن ربي

أظهر القول ما حواه الجنان

للفؤاد الكلام من غير حرف

يا ولي ، وللحروف اللسان

عجبا ألا ترى كل عبادة لا تمنع من قامت به التصرف في بعض أسبابه ، إلا الصلاة ، فإنها تغلق على من قامت به جميع أبوابه ، فمقامها الغيرة ، ومشهدها الحيرة ، إنية المحتد والمولد والمشهد ، وهي أسنى تكليف يقصد ، ولما كانت محل إدراك المنى ، طولب المكلف فيها بالفنا.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩)

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) المتهجد عبارة عمن يقوم وينام ويقوم وينام ويقوم ، فمن لم يقطع الليل في مناجاته ربه هكذا فليس بمتهجد ، فنوم المتهجد لحقّ عينه وقيامه لحق ربه (نافِلَةً لَكَ) لا تصح نوافل الخيرات إلا بعد كمال الفرائض ، ولا تكمل الفرائض إلا باستكمال حقوقها ، ولذلك منعنا أن تصح لأحد على التعيين نافلة إلا بإخبار أو مشاهدة ، وذلك أن الفرائض تستغرقها بالتكميل منها ، فإنه قد ورد في الصحيح عن الله تعالى أنه يقول يوم القيامة [انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع وهو النافلة قال : أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم] فالنافلة لا تكون إلا بعد تمام الفريضة ، فمن كانت فريضته من الصلاة ناقصة فإنها تكمل من نوافله ، فإن استغرقت الفرائض نوافل العبد المتهجد ، لم يبق له نافلة وليس بمتهجد ولا صاحب نافلة ، وهذه الآية نص في إثبات النافلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله ما شهد لأحد بالنوافل إلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له آمرا (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) فشهد الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن له نافلة ، فلا بد أن يكون سمعه الحق ، وبصره الحق ، وكلامه الحق ، ولم يشهد بها لأحد على التعيين ، فعلامة من لم تستغرق فرائضه نوافله وفضلت له نوافل أن يحبه الله تعالى هذه المحبة الخاصة ، وجعل علامتها أن يكون الحق سمعهم وبصرهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٦٦

عن ربه : [لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به] ـ الحديث ـ (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وعسى من الله واجبة ، والمقام المحمود هو الذي له عواقب الثناء والمقامات كلها ، أي إليه يرجع كل ثناء ، وإليه تنظر جميع الأسماء الإلهية المختصة بالمقامات ، وهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويظهر ذلك لعموم الخلق يوم القيامة ، وبهذا صحت له السيادة على جميع الخلق يوم العرض ، فلا يجمع المحامد يوم القيامة كلها إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي عبر عنه بالمقام المحمود ، فإنه لما كان إليه ترجع المقامات كلها ـ وهو الجامع لها ـ لم يصح أن يكون صاحبه إلا من أوتي جوامع الكلم ، لأن المحامد من صفة الكلام ، فإنه موقف خاص بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحمد الله فيها بمحامد لا يعرفها إلا إذا دخل ذلك المقام ، فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده لواء الحمد ، ولآدم عليه‌السلام علم الأسماء ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم الثناء بالمقام المحمود ، فأعطي في القيامة لأجل المقام المحمود العمل بالعلم ، ولم يعط لغيره في ذلك الموطن ، فصحت له السيادة ، فقال : [آدم فمن دونه تحت لوائي] وما له لواء إلا الحمد ، وهو رجوع عواقب الثناء إلى الله ، وهو قوله الحمد لله لا لغيره ، وهذا يدلك أن علوم الأنبياء أذواق لا عن فكر ونظر ، فإن الموطن يقتضي هنالك بآثاره أسماء إلهية يحمد الله بها ، ما يقتضيه موطن الدنيا ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المقام [فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن] وهذا المقام المحمود هو المقام المثنى عليه ، الذي أثنى الحق عليه ، الذي يقيم الحق فيه سبحانه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو الوسيلة ، لأن منه يتوسل إلى الله فيما توجه فيه من فتح باب الشفاعة ، وهو شفاعته للجميع ، فهو مقام شفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشافعين أن يشفعوا يوم القيامة ، فمن المقام المحمود يفتح باب الشفاعة للملائكة فمن دونهم ، وله الأولية في الشفاعة ، وأول شفاعة يشفعها عند الله تعالى في حق من له أهلية الشفاعة من ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن وحيوان ونبات وجماد ، فيشفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ربه لهؤلاء أن يشفعوا ، وأن يخرج الحق من النار أو يدخل الجنة من لم يعمل خيرا قط ، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أهلها ، فيجيبه الله لما سأل فيه ، فكان محمودا بكل لسان وبكل كلام ، فله أول الشفاعة ووسطها وآخرها ، فإنه إذا قام الناس ، ومدّت الأرض ، وانشقت السماء وانكدرت النجوم ، وكورت الشمس وخسف القمر ، وحشرت الوحوش وسجرت البحار ، وزوجت النفوس

٥٦٧

بأبدانها ، ونزلت الملائكة على أرجائها ـ أعني أرجاء السموات ـ وأتى ربنا في ظلل من الغمام ، ونادى المنادي : يا أهل السعادة ، فأخذ منهم ثلاث طوائف إلى الجنة ، وهم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ، والذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ، والطائفة الثالثة هم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ليجزي الصادقين بصدقهم ، ثم يخرج عنق من النار فيقبض ثلاث طوائف إلى النار وهم : كل جبار عنيد ، والطائفة الثانية كل من آذى الله ورسوله ، والطائفة الثالثة أهل التصاوير الذين يصورون صورا في الكنائس لتعبد تلك الصور والذين يصورون الأصنام ، فإذا ماج الناس ، واشتد الحر وألجم الناس العرق ، وعظم الخطب وجل الأمر ، وكان البهت فلا تسمع إلا همسا ، وجيء بجهنم ، وطال الوقوف بالناس ولم يعلموا ما يريد الحق بهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [فيقول الناس بعضهم لبعض تعالوا ننطلق إلى أبينا آدم فنسأله أن يسأل الله لنا أن يريحنا مما نحن فيه فقد طال وقوفنا ، فيأتون آدم فيطلبون منه ذلك ، فيقول آدم : إن الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر خطيئته فيستحي من ربه أن يسأله ، فيأتون إلى نوح بمثل ذلك فيقول لهم مثل ما قال آدم ، ويذكر دعوته على قومه قوله (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ثم يأتون إلى إبراهيم عليه‌السلام بمثل ذلك ، فيقولون له مثل مقالتهم لمن تقدم ، فيقول كما قال من تقدم ، ويذكر كذباته الثلاث ، ثم يأتون إلى موسى وعيسى ويقولون لكل واحد من الرسل مثل ما قالوه لآدم ، فيجيبونهم مثل جواب آدم ، فيأتون إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سيد الناس يوم القيامة ، فيقولون له مثل ما قالوا للأنبياء ، فيقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا لها ، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به يوم القيامة ، فيأتي ويسجد ويحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى إياها في ذلك الوقت لم يكن يعلمها قبل ذلك ، ثم يشفع إلى ربه أن يفتح باب الشفاعة للخلق ، فيفتح الله ذلك الباب ، فيأذن في الشفاعة للملائكة والرسل والأنبياء والمؤمنين ، فبهذا يكون سيد الناس يوم القيامة ، فإنه شفع عند الله أن تشفع الملائكة والرسل ، ومع هذا تأدب صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : [أنا سيد الناس] ولم يقل سيد الخلائق فتدخل الملائكة في ذلك مع ظهور سلطانه في ذلك اليوم على الجميع ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع له بين مقامات الأنبياء عليهم‌السلام كلهم ،

٥٦٨

ولم يكن ظهر له على الملائكة ما ظهر لآدم عليه‌السلام من اختصاصه بعلم الأسماء كلها ، فإذا كان في ذلك اليوم افتقر إليه الجميع من الملائكة والناس من آدم فمن دونه في فتح باب الشفاعة ، وإظهار ما له من الجاه عند الله ، إذ كان القهر الإلهي والجبروت الأعظم قد أخرس الجميع ، وكان هذا المقام مثل مقام آدم عليه‌السلام وأعظم ، في يوم اشتدت الحاجة فيه ، مع ما ذكر من الغضب الإلهي الذي تجلى فيه الحق في ذلك اليوم ، ولم تظهر مثل هذه الصفة فيما جرى في قصة آدم ، فدل بالمجموع على عظيم قدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أقدم مع هذه الصفة الغضبية الإلهية على مناجاة الحق فيما سأل فيه ، فأجابه الحق ، كما جاء في حديث عثمان بن عفان في الصحيح لمسلم بن الحجاج ، وقد أقيم آدم عليه‌السلام في هذا المقام لما سجدت له الملائكة في الدنيا ، وهو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة ، وإنما ظهر به أولا أبو البشر لكونه كان يتضمن جسده بشرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت العاقبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدار الآخرة ، فظهر في المقام المحمود ، ومنه يفتح باب الشفاعات ، فكان لآدم السجود ، ولمحمد المقام المحمود ، بمحضر الشهود ، وأين المقام المحمود من مقام السجود؟ سجد المقربون والأبرار ، لبناء قائم من التراب والأحجار ، فالمجد الطريف والتليد ، فيمن اختص بالمقام الحميد.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) (٨٠)

أمر الحق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يدعوه بهذا الدعاء المعيّن ، وهو قوله له (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) يعني المقام المحمود ، فإنه موقف خاص بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي إذا انتقل عنه إلى غيره من المقامات والمواقف أن تكون العناية به معه في خروجه منه كما كانت معه في دخوله إليه ـ نصيحة ـ الزم الصدق والإخلاص ، فبالصدق تعتصم ولا يؤثر فيك شيء ، وبالإخلاص تصح عبوديتك وربوبيته. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) من أجل المنازعين فيه ، فإن المقام الشريف لا يزال صاحبه محسودا ، فطلب صاحب هذا المقام النصرة بالحجة ـ التي هي السلطان ـ على الجاحدين شرف هذه المرتبة ، وهم القادحون في هذا المقام تعظيما لحالهم التي هم عليها حتى لا ينسب النقص إليهم ، عن هذا

٥٦٩

المقام الشريف فأمره تعالى.

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١)

(إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي لا ثبات له ، وما كان القرآن معجزا إلا لكونه إخبارا عن حق ، فإن المعارض للقرآن أول ما يكذب فيه أنه يجعله من الله وليس من الله ، فيقول على الله ما لا يعلم ، فلا يثمر ولا يثبت ، فلا بد أن يعجز المعارض عن الإتيان بمثله.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً) (٨٢)

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لأن التخلق به والوقوف عنده يزيل المرض النفسي ، لا بد من ذلك ، ولكن للمؤمنين فهو أمان ، ومنه شفاء كفاتحة الكتاب وآيات الأدعية كلها ، وكونه رحمة لما فيه مما أوجب الله على نفسه من الوعد لعباده بالخير والبشرى ، مثل قوله (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) وقوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وكل آية رجاء (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لأنهم يعدلون به عن موطنه ويحرفون الكلم عن مواضعه ، فيعممون الخاص ويخصصون العام ، فسموا ظالمين قاسطين.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤)

الشكل القيد وبه سمي ما تقيد به الدابة في رجلها شكالا ، والمتشكل هو المقيد بالشكل الذي ظهر به ، يقول الله. (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي ما يعمل إلا ما يشاكله ، يعني الذي ظهر منه يدل على أنه في نفسه عليه ، والعالم عمل الحق ، فخلق الله العالم فظهر بصفات الحق ، فكان العالم حيا سميعا بصيرا عالما مريدا قادرا متكلما ، فما في العالم إلا من يسمع الأمر الإلهي في حال عدمه بقوله (كن) وما في العالم إلا حي ، فإن كل شيء مسبح بحمد الله ولا يسبح إلا حي ، وما في العالم جزء إلا وهو يشاهد خالقه من حيث عينه لا من حيث عين خالقه ، وما في العالم جزء إلا وهو يريد ويقصد تعظيم موجده ، وما في الوجود جزء

٥٧٠

إلا وهو متمكن قادر على الثناء على موجده ، وما في العالم جزء إلا وهو يعلم موجده من حيث ذاته لا من حيث ذات موجده ، وما في الوجود جزء إلا وهو متكلم يسبح بحمد خالقه ، وأعلمنا سبحانه أن من أسمائه تعالى الكريم ، ومن نزوله إلينا في كرمه يقول : يا عبدي إن شردت عني دعوتك إليّ ، يا عبدي إن عصيتني سترت عليك ، سترتك عن أعين من وليته إقامة حدودي فيك وفي أمثالك فلم أؤاخذك ، وتحببت إليك بالنعم ، وجررت على خطيئتك ذيل الكرم ، فمحا آثارها كرمي ، ودعوتك إليّ بالقدوم على نعمي فإذا رجعت إليّ قبلتك على ما كان منك ، ومن يفعل معك ذلك مع غناه عنك وفقرك إليه غيري؟ فهذا من معاملة الحق لنا على شاكلته من اسمه الكريم.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٥)

الروح روحان : روح الأمر وهو الذي قال فيه تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) فذكر الإنذار ، وهكذا قوله (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ) وكذلك (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا) فما جاء إلا بالإعلام وفيه ضرب من الزجر ، حيث ساق الإعلام بلفظة الإنذار ، فهو إعلام بزجر ، فإنه البشير النذير ، والبشارة لا تكون إلا عن إعلام ، فغلب في الإنزال الروحاني باب الزجر والخوف ، وأما الروح الثاني فهو الروح المضاف إلى نفس الحق تعالى بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) بياء الإضافة تنبيه على مقام التشريف ، فكان السؤال عن الروح الأول ، روح الأمر ، فإنه قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) أي من أين ظهر؟ فقيل له (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فما كان سؤالا عن الماهية كما زعم بعضهم ، فإنهم ما قالوا ما الروح؟ وإن كان السؤال بهذه الصيغة محتملا ، ولكن قوّى الوجه الذي ذهبنا إليه في السؤال ما جاء في الجواب من قول (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولم يقل هو كذا ، فعلوم الغيب تنزل بها الأرواح على قلوب العباد ، فإن الروح هو الملقي إلى القلب علم الغيب ، قال تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ) الآية (وَما أُوتِيتُمْ) أي أعطيتم (مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فجعله هبة وهو علم الوهب لا علم الكسب ، فإنه لو أراد الكسب لم

٥٧١

يقل أوتيتم ، بل كان يقول أوتيتم الطريق إلى تحصيله ، لا هو ، ونحن نعلم أن ثمّ علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا ، وثمّ علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من الله عزوجل ، أنزله في قلوبنا وعلى أسرارنا فوجدناه من غير سبب آخر ظاهر ، مثل قوله في عبده خضر (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وليست الآية بنص في الوهب ، ولكن له وجهان : وجه يطلبه (أُوتِيتُمْ) ووجه يطلبه (قَلِيلاً) من الاستقلال ، أي ما أعطيتم من العلم إلا ما تستقلون بحمله ، وما لا تطيقونه ما أعطيناكموه فإنكم ما تستقلون به ، فيدخل في هذا العطاء علوم النظر ، فإنها علوم تستقل العقول بإدراكها. وأما إذا كان السؤال عن الماهية فيكون قوله تعالى (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي الروح الذي هو من أمر ربي هو الذي لم يوجد عن خلق ، فإن عالم الأمر كل موجود لا يكون عند سبب كوني يتقدمه ، فقد قال البعض : إن الروح من عالم الأمر وليس من عالم الخلق اصطلاحا ، ومن هنا للتبيين ، وأرادوا بعالم الأمر كل ما صدر عن الله بلا واسطة إلا بمشافهة الأمر العزيز ، وعالم الخلق كل موجود صدر عن سبب متقدم من غير مشافهة الأمر ، التي هي الكلمة التي لا يتصور واسطة في حقه البتة ، وأما من دونه فلا بد من واسطة. ولما أوجد الله تعالى الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع ، أوجدها في مقام الجهل ومحل السلب ، أي أعماه عن رؤية نفسه فبقي لا يعرف من أين صدر ولا كيف صدر ، وكان الغذاء فيه ، الذي هو سبب حياته وبقائه وهو لا يعلم ، فحرك الله همته لطلب ما عنده وهو لا يدري أنه عنده ، فأخذ في الرحلة بهمته ، فأشهده الحق تعالى ذاته فسكن ، وعرف أن الذي طلب لم يزل به موصوفا ، وعلم ما أودع الله فيه من الأسرار والحكم ، وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية ، فكانت تلك المعرفة له غذاء معينا يتقوت به وتدوم حياته إلى غير نهاية ، فقال له عند ذلك التجلي الأقدس : ما اسمي عندك؟ فقال : أنت ربي ، فلم يعرفه إلا في حضرة الربوبية ، وتفرد القديم بالألوهية فإنه لا يعرفه إلا هو ، فقال له سبحانه : أنت مربوبي وأنا ربك ، أعطيتك أسمائي وصفاتي ، فمن رآك رآني ، ومن أطاعك أطاعني ، ومن علمك علمني ، ومن جهلك جهلني ، فغاية من دونك أن يتوصلوا إلى معرفة نفوسهم منك ، وغاية معرفتهم بك العلم بوجودك لا بكيفيتك ، كذلك أنت معي لا تتعدى معرفة نفسك ولا ترى غيرك ، ولا يحصل لك العلم بي إلا من حيث الوجود ، ولو أحطت علما بي لكنت أنت أنا ، ولكنت

٥٧٢

محاطا لك ، وكانت أنيتي أنيتك ، وليست أنيتك أنيتي. فأمدك بالأسرار الإلهية وأربيك بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها ، إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها ، إذ لو عرفتها لا تحدث الإنية ، واتحاد الإنية محال ، فمشاهدتك لذلك محال ، واعلم أن من دونك في حكم التبعية لك كما أنت في حكم التبعية لي ، فأنت ثوبي وأنت ردائي وأنت غطائي. ثم خلق الله من الروح النفس وهي أول مفعول عن الانبعاث ـ بحث ـ في قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) اعلم أن الله خلق الأرواح على ثلاث مراتب لا رابع لها : أرواح ليس لهم شغل إلا تعظيم جناب الحق ، ليس لهم وجه مصروف إلى العالم ولا إلى نفوسهم ، قد هيمهم جلال الله واختطفهم عنهم ، فهم فيه حيارى سكارى ، وأرواح مدبرة أجساما طبيعية أرضية ، وهي أرواح الأناسي وأرواح الحيوانات وأرواح كل شيء ، فإن كل شيء مسبح بحمد ربه ولا يسبح إلا حي ، وأرواح مسخرات لنا وهم على طبقات كثيرة ، فمنهم الموكل بالوحي والإلقاء ، ومنهم الموكل بالأرزاق ، ومنهم الموكل بقبض الأرواح ، ومنهم الموكل بإحياء الموتى ، ومنهم الموكل بالاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم ، ومنهم الموكلون بالغراسات في الجنة جزاء لأعمال العباد ، والأرواح حياتها ذاتية لها ، لذلك لم يصح فيها موت البتة. واعلم أن الأرواح المدبرة للأجسام العلوية والسفلية لها أحكام فيها ، فحكمها في الأجسام النورية هو تشكلها في الصور خاصة ، كما أن حكمها في الأجسام الحيوانية الإنسانية التشكل في القوة الخيالية مع غير هذا من الأحكام ، فإن الأجسام النورية لا خيال لها بل هي عين الخيال ، والصور تقلباتها عن أرواحها المدبرة لها ، فكما لا يخلو خيال الإنسان عن صورة كذلك ذات الملك لا تخلو عن صورة ، وبيد هذه الأرواح تعيين الأمور التي يريدها الحق ، بهذه الأجسام كلها. واعلم أن الناس قد اختلفوا في أرواح صور العالم ، هل هي موجودة عن صورة أو قبلها أو معها؟ ومنزلة الأرواح في صور العالم كمنزلة أرواح صور أعضاء الإنسان الصغير ، كالقدرة روح اليد ، والسمع روح الأذن ، والبصر روح العين ، والتحقيق عندنا أن الأرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة الإجمال غير مفصلة لأعيانها ، مفصلة عند الله في علمه ، فكانت في حضرة الإجمال كالحروف الموجودة بالقوة في المداد ، فلم تتميز لأنفسها وإن كانت متميزة عند الله مفصلة في حال إجمالها ، فلما سوى الله صور العالم ، أي عالم شاء ، كان الروح

٥٧٣

الكلي كالقلم واليمين الكاتبة ، والأرواح كالمداد في القلم ، والصور كمنازل الحروف في اللوح ، فنفخ الروح في صور العالم ، فظهرت الأرواح متميزة بصورها ، فقيل هذا زيد ، وهذا عمرو ، وهذا فرس ، وهذا فيل ، وهذه حية ، وكل ذي روح ، وما ثمّ إلا ذو روح لكنه مدرك وغير مدرك ، فمن الناس من قال : إن الأرواح في أصل وجودها متولدة من مزاج الصورة ، ومن الناس من منع من ذلك ، والطريقة الوسطى ما ذهبنا إليه ، فإذا سوى الله الصورة الجسمية ، ففي أي صورة شاء من الصور الروحية ركبها ، فتنسب إليها ، وهي معينة عند الله ، فامتازت الأرواح بصورها ، فإن الله لمّا سوى جسم العالم ، وهو الجسم الكل الصوري في جوهر الهباء المعقول ، قبل فيض الروح الإلهي الذي لم يزل منتشرا غير معيّن ، إذ لم يكن ثم من يعينه ، فحيي جسم العالم به فكما تضمن جسم العالم أجسام شخصياته ، كذلك تضمن روحه أرواح شخصياته (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ومن هنا قال من قال : إن الروح واحد العين في أشخاص نوع الإنسان ، وإن روح زيد هو روح عمرو وسائر أشخاص هذا النوع ، ولكن ما حقق صاحب هذا الأمر صورة هذا الأمر فيه ، فإنه كما لم تكن صورة جسم آدم جسم كل شخص من ذريته ، وإن كان هو الأصل الذي منه ظهرنا وتولدنا ، كذلك الروح المدبرة لجسم العالم بأسره ، كما أنك لو قدرت الأرض مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وانتشرت الشمس عليها أشرقت بنورها ، ولم يتميز النور بعضه عن بعضه ، ولا حكم عليه بالتجزي ولا بالقسمة ، فلما ظهرت البلاد والديار على الأرض ، وبدت ظلالات هذه الأشخاص القائمة ، انقسم النور الشمسي وتميز بعضه عن بعضه ، لما طرأ من هذه الصور في الأرض ، فإذا اعتبرت هذا علمت أن النور الذي يخص هذا المنزل ليس النور الذي يخص المنزل الآخر ولا المنازل الأخر ، وإذا اعتبرت التي ظهر منها هذا النور وهو عينها من حيث انفهاقه عنها ، قلت : الأرواح روح واحدة ، وإنما اختلفت بالمحال الشمس ، كالأنوار نور عين واحدة غير أن حكم الاختلاف في القوابل مختلف لاختلاف أمزجتها وصور أشكالها ، ويمكن أن يشبه بالماء في النهر لا يتميز فيه صورة ، بل هو عين الماء لا غير ، فإذا حصل ما حصل منه في الأواني تعين عند ذلك ماء الجب من ماء الجرة من ماء الكوز ، وظهر فيه شكل إنائه ولون إنائه ، فحكمت عليه الأواني بالتجزي والأشكال ، مع علمك أن عين ما لم يظهر فيه شكل إذا

٥٧٤

كان في النهر ، عين ما ظهر إذا لم يكن فيه ، غير أن الفرقان بين الصورتين في ضرب المثل ، أن ماء الأواني وأنوار المنازل إذا فقدت رجعت إلى النور الأصلي والنهر الأصلي ، وكذلك هو في نفس الأمر لو لم تبق آنية ولا يبقى منزل ، لأنه لما أراد الله بقاء هذه الأنوار على ما قبلته من التمييز ، خلق لها أجسادا برزخية تميزت فيها هذه الأرواح عند انتقالها عن هذه الأجسام الدنياوية ، في النوم وبعد الموت ، وخلق لها في الآخرة أجساما طبيعية كما جعل لها في الدنيا ذلك ، غير أن المزاج مختلف ، فنقلها عن جسد البرزخ إلى أجسام نشأة الآخرة ، فتميزت أيضا بحكم صور أجسامها ، ثم لا تزال كذلك أبد الآبدين ، فلا ترجع إلى الحال الأول من الوحدة العينية أبدا. فإذا فارقت الأرواح المواد ، فطائفة تقول : إن الأرواح تتجرد عن المواد تجردا كليا وتعود إلى أصلها كما تعود شعاعات الشمس المتولدة عن الجسم الصقيل إذا صدىء إلى الشمس ، واختلفوا هنا على طريقين : فطائفة قالت : لا تمتاز بعد المفارقة لأنفسها كما لا يمتاز ماء الأوعية التي على شاطىء النهر إذا تكسرت فرجع ماؤها إلى النهر ، فالأجسام تلك الأوعية والماء الذي ملئت به من ذلك النهر كالأرواح من الروح الكل. وقالت طائفة بل تكتسب بمجاورتها الجسم هيئات رديئة وحسنة ، فتمتاز بتلك الهيئات إذا فارقت الأجسام ، كما أن ذلك الماء إذا كان في الأوعية أمور تغيره عن حالته إما في لونه أو رائحته أو طعمه ، فإذا فارق الأوعية صحبه في ذاته ما اكتسبه من الرائحة أو الطعم أو اللون ، وحفظ الله عليها تلك الهيئات المكتسبة ، ووافقوا في ذلك بعض الحكماء. وطائفة قالت : الأرواح المدبرة لا تزال مدبرة في عالم الدنيا ، فإذا انتقلت إلى البرزخ دبرت أجسادا برزخية ، وهي الصورة التي يرى الإنسان نفسه فيها في النوم ، وكذلك هو الموت وهو المعبر عنه بالصور ، ثم تبعث يوم القيامة في الأجسام الطبيعية كما كانت في الدنيا (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ـ بحث في العلم ـ اعلم أن العلم بالأشياء واحد ، والكثرة في المعلوم لا في ذاته ، فإن الأشعري يرى ويزعم أنه متعدد في ذاته وصفاته ، والحقيقة أبت ما قاله ، فإن العلم لو تعدد أدى أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى وهو محال ، فإن المعلومات لا نهاية لها فلو كان لكل معلوم علم لزم ما قلناه ، ومعلوم أن الله يعلم ما لا يتناهى ، وعلمه واحد ، فلا بد أن يكون للعلم عين واحدة ، لأنه لا يتعلق بالمعلوم حتى يكون موجودا ، فإن العلم نسبة لا تتصف بالوجود ولا بالعدم كالأحوال ، وما وصف الله العلم بالقلة إلا العلم الذي

٥٧٥

أعطى الله عباده ، وهو قوله (وَما أُوتِيتُمْ) أي أعطيتم ، وقال في حق عبده خضر (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وقال (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فهذا كله يدلك على أنه نسبة ، لأن الواحد في ذاته لا يتصف بالقلة ، ولا بالكثرة لأنه لا يتعدد ، فإن كان العلم نسبة فإطلاق القلة والكثرة عليه إطلاق حقيقي ، فإن النسب لا تتناهى لأن المعلومات لا تتناهى ، فيمكن على هذا أن يكون لكل معلوم علم ، وإن كان غير ذلك فإطلاق القلة والكثرة عليه إطلاق مجازي ، وكلام العرب مبني على الحقيقة والمجاز عند الناس ، وإن كنا خالفناهم في هذه المسئلة بالنظر إلى القرآن ، فإنا ننفي أن يكون في القرآن مجاز بل في كلام العرب ـ رقيقة ـ كان الشيخ أبو مدين يقول إذا سمع من يتلو هذه الآية (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) القليل أعطيناه ما هو لنا بل هو معار عندنا وهبناه عناية منه والكثير منه لم نصل إليه ، فنحن الجاهلون على الدوام فليس لنا شيء ندعيه.

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨)

ما منع المعارض إلا من العربي لا من الأعجمي ، فاختص الإعجاز بالقرآن ، وإن كانت الكتب المنزلة كلام الرحمن ، لكن البيان والشرف والامتنان ، والمجد العظيم الشان ، إنما ظهر في اللسان عند البيان ، فهذا القرآن هو معجزة الرسول ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ثبت أنه معجزته بطلب معارضته والعجز عن ذلك ، ثم قطع أن المعارضة لا تكون أبدا بهذه الآية الإخبارية (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي معينا من الجن والإنس ، وذلك لأنه القول المعجز وهو قول الحق والصدق ، ولأنه أتى من خزائن الحجة ـ محمد خير مبعوث من الرسل ـ

أتى بإعجاز قول لا خفاء به

أعجازه انعطفت منه على الأول

حوى على كل لفظ معجز ولذا

حوى على كل علم جاء من مثل

٥٧٦

أتى به الناطق المعصوم معجزة

إلى الذي كان في الدنيا من الملل

فما يعارضه جن ولا بشر

بسورة مثله في غابر الدول

ولو يعارضه ما كان معجزة

فليس إعجازه يجري إلى أجل

رأيت ربي في نومي فقلت له

ما صورة الصرف في القرآن حين تلي؟

فقال لي اصدق فإن الصدق معجزة

ولا تزوّر أمورا إن أردت تلي

لكن كلامك إن تفعله معجزة

فقلت يا رب غفرا ليس ذلك لي

هذا دليل بأن القول قولكمو

لا قوله وهو عندي أوضح السبل

أتى به روحه من فوق أرقعة

سبع إلى قلبه والقلب في شغل

أتى على سبعة من أحرف نزلت

ميسر الذكر يتلوه على عجل

إذا تكرر فيه قصة ذكرت

تكون أقوى على الإعجاز بالبدل

والكل حق ولكن ليس يعرفه

إلا الذي بدليل العقل فيه بلي

هذا هو الحق لا تضرب له مثلا

فإنه من صفات الحق في الأزل

لا يحجبنك ما تتلوه من سور

بأحرف وأصوات على مهل

فكله قوله إن كنت ذا نظر

فيه على حد إنصاف بلا ملل

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً) (٩٣)

من رحمة الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال له الكفار ذلك أن أعطاه المعراج والقرآن.

٥٧٧

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٩٤)

اعلم أن الله ما بعث الرسل سدى ، ولو استقلت العقول بأمور سعادتها ما احتاجت إلى الرسل ، وكان وجود الرسل عبثا ، ولكن لما كان من استندنا إليه لا يشبهنا ولا نشبهه ، ولو أشبهنا عينا ما كان استنادنا إليه بأولى من استناده إلينا ، فعلمنا قطعا علما لا يدخله شبهة أنه ليس مثلنا ولا تجمعنا حقيقة واحدة ، فبالضرورة يجهل الإنسان مآله وإلى أين ينتقل ، وما سبب سعادته إن سعد أو شقاوته إن شقي عند هذا الذي استند إليه ، لأنه يجهل علم الله فيه ، ولا يعرف ما يريد به ، ولا لماذا خلقه تعالى ، فافتقر بالضرورة إلى التعريف الإلهي بذلك ، فلو شاء تعالى عرّف كل شخص بأسباب سعادته وأبان له عن الطريق التي ينبغي له أن يسلك عليها ، ولكن ما شاء إلا أن يبعث في كل أمة رسولا من جنسها لا من غيرها ، قدّمه عليها وأمرها باتباعه والدخول في طاعته ، ابتلاء منه لها لإقامة الحجة عليها لما سبق في علمه فيها ، ثم أيده بالبينة والآية على صدقه في رسالته التي جاء بها ، ليقوم له الحجة عليها ، وإنما قلنا من جنسها لأنه كذا وقع الأمر ، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو كان الرسول للبشر ملكا لنزل في صورة رجل حتى لا يعرفوا أنه ملك ، فإن الحسد على المرتبة إنما يقع بين الجنس ، فقد علم الإنسان أن البهائم وجميع الحيوانات دونه في المرتبة ، فلو تكلم حيوان ولو كان خنفساء ونطقت وقالت : أنا رسول من الله إليكم ، احذروا من كذا وافعلوا كذا ، لتوفرت الدواعي من العامة على اتباعها والتبرك بها وتعظيمها ، وانقادت لها الملوك ، ولم يطلبوها بآية على صدقها ، وجعلوا نطقها نفس الآية على صدقها ، وإن كان الأمر ليس كذلك ، وإنما لما نال المرتبة غير الجنس لم يقم بهم حسد لغير الجنس ، فأول ابتلاء ابتلى الله به خلقه بعث الرسل إليهم منهم لا من غيرهم ، ومع الدلالات التي نصبها لهم على صدقهم واستيقنوها حملهم سلطان الحسد الغالب عليهم أن يجحدوا ما هم به عالمون موقنون ، ظلما وعلوا.

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥)

٥٧٨

يعني من جنسهم ، فإن كل نذير من جنس من بعث إليه ، وإنما جعل الرسول من الجنس لاستخراج عيب النفس ، وأنزل بلسان قومه لرفع اللبس ، فالرسول من جنس المرسل إليه ، لذلك قال ملكا رسولا ، ولم يقل رجلا ، لأن المرسل إليهم ملائكة ، فإن دعا أمر أن يكون من غير الجنس في الحقيقة ، فلا بد وأن يظهر لهم في صورة الجنس في عالم تمثيل الرقيقة ، مثل تمثل الروح لمريم بشرا سويا ـ

خليفة القوم من أبناء جنسهم

لأن ذلك أنكى في نفوسهم

لو لم يكن منهم لصدقوه ولم

يقم بهم حسد لغير جنسهم

 ـ إشارة ـ الفرق بين الخلافة والرسالة ، ومعرفة النبوة والولاية : الرسالة عرش الرب وسماء المربوب ، ومقام الرسول بينهما ، لأنه طالب مطلوب ، فلو لم ينادى الرسول من مقامه الإلهي ما أجاب ، ولو سقي من غير مشربه ما طاب ، فإن قيل له في ذلك الخطاب : بلغ ما أنزل إليك من ربك فذلك الرسول ، وإن زيد عليه : وقاتلهم إن أبوا القبول ، فذلك الخليفة الرسول ، فله أن يصول ، فقد مضى زمن النبوة المشهورة ، وأنت في زمن النبوة المستورة ، فلو نزلت عليك في عالم الكون والفساد ، لكفرك أهل النظر في الاعتقاد ، فإنّ بغلبة الحال تقول : قلت وقال ، وهنا قد ارتفع الإنكار ، وزال الاضطرار ، فالرسول وجّه إلى قومه ، والنبي تعبد في نفسه إلى يومه ، والولي أيقظه الرسول من نومه ، فالرسول هو الإمام ، والولي هو المأموم ، والنبي إمام مأموم ، محفوظ غير معصوم ، والرسول من هذا النمط هو المطلوب ، ومنه وإليه يكون الهرب المرغوب ، فالمؤمن به صدقه وانصرف ، والعالم قام له البرهان فأقر بصدقه واعترف ، والجاهل نظر فيه وانحرف ، والشاك تحير فيه فتوقف والظان تخيل وما عرف ، والناظر تطلع وتشوف ، والمقلد مع كل صنف تصرف ، إن مشى متبوعه مشى ، وإن وقف وقف ، فهو معه حيثما كان إما في النجاة وإما في التلف (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ ، فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) فأسكنه تقليده دار البوار.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ

٥٧٩

اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٩٧)

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) فالكل بيده وإلى الله يرجع الأمر كله (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) هذه الآية تدل على أن النار محسوسة بلا شك ، فإن النار ما تتصف بهذا الوصف إلا من كون قيامها بالأجسام ، لأن حقيقة النار لا تقبل هذا الوصف من حيث ذاتها ولا الزيادة ولا النقص ، وإنما هو الجسم المحرق بالنار وهو الذي يسجّر بالنارية ، وإن حملنا هذه الآية على الوجه الآخر قلنا : قوله تعالى (كُلَّما خَبَتْ) يعني النار المسلطة على أجسامهم ، أي كلما سكن لهيبها (زِدْناهُمْ) يعني المعذبين (سَعِيراً) بتبديل الجلود ، فإنه لم يقل زدناها ، ومعنى ذلك أن العذاب ينقلب إلى بواطنهم وهو أشد العذاب ، العذاب الحسي يشغلهم عن العذاب المعنوي ، فإذا خبت النار في ظواهرهم ووجدوا الراحة من حيث أجسامهم ، فإن من رحمة الله بأهل النار في أيام عذابهم خمود النار عنهم ، سلّط الله عليهم في بواطنهم التفكر فيما كانوا فرطوا فيه من الأمور التي لو عملوا بها لنالوا السعادة ، وتسلط عليهم الوهم بسلطانه ، فيتوهمون عذابا أشد مما كانوا فيه ، فيكون عذابهم بذلك التوهم في نفوسهم أشد من حلول العذاب بتسلط النار المحسوسة على أجسامهم.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ

٥٨٠