رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

والشيء هو الممكنات ، وأجناسها محصورة في جوهر متحيز وجوهر غير متحيز ، وأكوان وألوان ، وما لا ينحصر هو وجود الأنواع والأشخاص (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فجعل سبحانه نسبة التكوين إلى نفس المأمور به ، والقدرة لا تتعلق بإيجاد الممكن إلا بعد تخصيص الإرادة ، كما لا تتمكن القدرة من الممكن حتى يأتيه أمر الآمر من ربه ، فإذا أمره بالتكوين وقال له (كُنْ) مكّن القدرة من نفسه ، وتعلقت القدرة بإيجاده ، فكونته من حينه ، فالاسم المريد هو المرجح والمخصص جانب الوجود على جانب العدم ـ مسئلة الوجود العيني والأعيان الثابتة ـ ما ورد في الشرع قط أن الله يشهد الغيوب ، وإنما ورد يعلم الغيوب ، ولهذا وصف نفسه بالرؤية فقال : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ووصف نفسه بالبصر وبالعلم ، ففرّق بين النسب وميز بعضها عن بعض ليعلم ما بينها ، ولما لم يتصور أن يكون في حق الله غيب ، علمنا أن الغيب أمر إضافي لما غاب عنا ، وما يلزم من شهود الشيء العلم بحده وحقيقته ، ويلزم من العلم بالشيء العلم بحده وحقيقته ، عدما كان أو وجودا ، وإلا فما علمته ، وقد وصف الحق نفسه بأنه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والأشياء كلها مشهودة للحق في حال عدمها ، ولو لم تكن كذلك لما خصص بعضها بالإيجاد عن بعض ، إذ العدم المحض الذي ليس فيه أعيان ثابتة لا يقع فيه تمييز شهود ، بخلاف عدم الممكنات ، فكون العلم ميز الأشياء بعضها عن بعض وفصل بعضها عن بعض ، هو المعبر عنه بشهوده إياها وتعيينه لها ، أي هي بعينه يراها ، وإن كانت موصوفة بالعدم فما هي معدومة لله الحق من حيث علمه بها ، كما أن تصور الإنسان المخترع للأشياء صورة ما يريد اختراعها في نفسه ثم يبرزها ، فيظهر عينها لها ، فاتصفت بالوجود العيني ، وكانت في حال عدمها موصوفة بالوجود الذهني في حقنا ، والوجود العلمي في حق الله ، فظهور الأشياء من وجود إلى وجود ، من وجود علمي إلى وجود عيني. واعلم أن الطبيعة للأمر الإلهي محل ظهور أعيان الأجسام ، فيها تكونت وعنها ظهرت ، فأمر بلا طبيعة لا يكون ، وطبيعة بلا أمر لا تكون ، فالكون متوقف على الأمرين ، ولا تقل إن الله قادر على إيجاد شيء من غير أن ينفعل أمر آخر ، فإن الله يرد عليك في ذلك بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فتلك الشيئية العامة لكل شيء خاص ـ وهو الذي وقع فيها الاشتراك ـ هي التي أثبتناها ، وإن الأمر الإلهي عليها يتوجه لظهور شيء خاص في تلك الشيئية المطلقة ، فإذا ظهرت الأجسام أو الأجساد

٤٨١

ظهرت الصور والأشكال والأعراض وجميع القوى الروحانية والحسية ، وربما قيل : هو المعبر عنها بلسان الشرع العماء الذي هو للحق قبل خلق الخلق ، ما تحته هواء وما فوقه هواء ، فذكره وسماه باسم موجود يقبل الصور والأشكال ، وعلى ذلك فثبوت عين الممكن في العدم به يكون التهيؤ لقبول الآثار ، وثبوته في العدم كالبذر لشجرة الوجود ، فهو في العدم بذرة وفي الوجود شجرة.

ثبوت العين في الإمكان بذر

ولو لا البذر لم يك ثم نبت

ظهوري عن ثبوتي دون أمر

إلهي محال حين كنت

فلو لا ثبوت العين ما كان مشهودا

ولا قال كن كونا ولا كان مقصودا

فما زال حكم العين لله عابدا

وما زال كون الحق للعين معبودا

فلما كساه الحق حلة كونه

وقد كان قبل الكون في الكون مفقودا

تكونت الأحكام فيه بكونه

فما زال سجّادا فقيدا وموجودا

وحكم الثبوت بين الله والخلق خلاف حكم الوجود ، فبحكم الوجود يكون الخلق هو الذي ثنى وجود الحق ، وليس لحكم الثبوت هذا المقام ، فإن الخلق والحق معا في الثبوت ، وليس معا في الوجود ولنشرح لك ذلك المعنى : اعلم أن المعلومات ثلاثة لا رابع لها ، وهي الوجود المطلق الذي لا يتقيد ، وهو وجود الله تعالى الواجب الوجود لنفسه ، والمعلوم الآخر العدم المطلق الذي هو عدم لنفسه ، وهو الذي لا يتقيد أصلا وهو المحال ، وهو في مقابلة الوجود المطلق ، فكانا على السواء حتى لو اتصفا لحكم الوزن عليهما ، وما من نقيضين إلا وبينهما فاصل ، به يتميز كل واحد من الآخر ، وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة الآخر ، وهذا الفاصل الذي بين الوجود المطلق والعدم المطلق ، لو حكم الميزان عليه لكان على السواء في المقدار من غير زيادة ولا نقصان ، وهذا هو البرزخ الأعلى ، وهو برزخ البرازخ ، له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم ، فهو يقابل كل واحد من المعلومين بذاته ، وهو المعلوم الثالث ، وفيه جميع الممكنات ، وهي لا تتناهى ، كما أنه كل واحد من المعلومين لا يتناهى ، وللممكنات في هذا البرزخ أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق ، ومن هذا الوجه ينطلق عليها اسم الشيء الذي إذا أراد الحق إيجاده قال له : كن فيكون ،

٤٨٢

وليس له أعيان موجودة من الوجه الذي ينظر إليه منه العدم المطلق ، ولهذا يقال له : كن ، وكن حرف وجودي ، فإنه لو أنه كائن ما قيل له : (كُنْ) وهذه الممكنات في هذا البرزخ بما هي عليه وما تكون إذا كانت مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان ، وهذا هو العالم الذي لا يتناهى ، وما له طرف ينته إليه ، ومن هذا البرزخ وجود الممكنات ، وبها يتعلق رؤية الحق للأشياء قبل كونها ، وكل إنسان ذي خيال وتخيل إذا تخيل أمرا ما ، فإن نظره يمتد إلى هذا البرزخ ، وهو لا يدري أنه ناظر ذلك الشيء في هذه الحضرة ، وهذه الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى ، هي للأعيان التي يتضمنها هذا البرزخ بمنزلة الظلالات للأجسام ، ولما كان الظل في حكم الزوال لا في حكم الثبات ، وكانت الممكنات وإن وجدت في حكم العدم سميت ظلالات ، ليفصل بينها وبين من له الثبات المطلق في الوجود ـ وهو واجب الوجود ـ وبين ما له الثبات المطلق في العدم ـ وهو المحال ـ لتتميز المراتب ، فالأعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي ، فإنه ما ثمّ حضرة تخرج إليها ففيها تكتسب حالة الوجود ، والوجود فيها متناه ما حصل منه ، والإيجاد فيها لا يتناهى ، فما من صورة موجودة إلا والعين الثابتة عينها والوجود كالثوب عليها ، والعجب من الأشاعرة كيف تنكر على من يقول : إن المعدوم شيء في حال عدمه وله عين ثابتة يطرأ على تلك العين الوجود ، وهي تثبت الأحوال ، اللهم منكر الأحوال لا يتمكن له هذا ، ثم إن هذا البرزخ الذي هو الممكن بين الوجود والعدم ، سبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرين بذاته ، فالممكن ما هو ـ من حيث ثبوته ـ عين الحق ولا غيره ، ولا هو من حيث عدمه عين المحال ولا غيره ، فكأنه أمر إضافي ، ولهذا نزعت طائفة إلى نفي الممكن وقالت : ما ثمّ إلا واجب أو محال ولم يتعقل لها الإمكان ، فالممكنات على ما قررناه أعيان ثابتة من تجلي الحق ، معدومة من تجلي العدم ، ومن هذه الحضرة علم الحق نفسه فعلم العالم ، وعلمه له بنفسه أزلا ، فإن التجلي أزلا ، وتعلق علمه بالعالم أزلا على ما يكون العالم عليه أبدا مما ليس حاله الوجود ، لا يزيد الحق به علما ولا يستفيد رؤية ، تعالى الله عن الزيادة في نفسه والاستفادة ، وقوله تعالى (إِذا أَرَدْناهُ) هنا الإرادة تعلق المشيئة بالمراد ، قال عليه‌السلام : [ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن] فالممكن ما خرج عن حضرة الإمكان لا في حال وجوده ولا في حال عدمه ، والتجلي له

٤٨٣

مستصحب والأحوال عليه تتحول وتطرأ ، فهو بين حال عدمي وحال وجودي ، والعين هي تلك العين فما في الوجود إلا الله تعالى وأسماؤه وأفعاله ، فهو الأول من الاسم الظاهر ، وهو الآخر من الاسم الباطن ، فالوجود كله حق فما فيه شيء من الباطل ، إذ كان المفهوم من إطلاق لفظ الباطل عدما فيما ادعى صاحبه أنه موجود ، ولو لم يكن الأمر كذلك لانفرد الخلق بالفعل ولم يكن الإقتدار الإلهي يعمّ جميع الكائنات ، بل كانت الإمكانات تزول عنه ، فسبحان الظاهر الذي لا يخفى ، وسبحان الخفي الذي لا يظهر ، حجب الخلق به عن معرفته وأعماهم بشدة ظهوره ، فهم منكرون مقرون ، مترددون حائرون ، مصيبون مخطئون ، ومن أراد أن يعرف حقيقة ما أومأت إليه في هذه المسألة فلينظر خيال الستارة وصوره ، ومن الناطق من تلك الصور عند الصبيان الصغار ، الذين بعدوا عن حجاب الستارة المضروبة بينهم وبين اللاعب بتلك الأشخاص والناطق فيها ، فالأمر كذلك في صور العالم ، والناس أكثرهم أولئك الصغار الذين فرضناهم ، فالصغار في المجلس يفرحون ويطربون ، والغافلون يتخذونه لهوا ولعبا ، والعلماء يعتبرون ويعلمون أن الله ما نصب هذا إلا مثلا لعباده ليعتبروا ، وليعلموا أن أمر العالم مع الله مثل هذه الصور مع محركها ، وأن هذه الستارة حجاب سر القدر المحكّم في الخلائق ، ولما كان تقدم العدم للممكنات نعتا نفسيا ، لأن الممكن يستحيل عليه الوجود أزلا ، فلم يبق إلا أن يكون أزلي العدم ، فتقدم العدم له نعت نفسي ، والممكنات متميزة الحقائق والصور في ذاتها ، لأن الحقائق تعطي ذلك ، فلما أراد الله أن يلبسها حالة الوجود خاطبها من حيث حقائقها ، فقال : (إِنَّما قَوْلُنا) من كونه تعالى متكلما (لِشَيْءٍ) وهو المخاطب من الممكنات في شيئية ثبوتها ، فسماه شيئا في حال لم تكن فيه الشيئة المنفية بقوله ولم يكن شيئا ، فهي الشيئية المتوجه عليها أمره بالتكوين إلى شيئية أخرى ، فإن الممكنات في حال عدمها بين يدي الحق ينظر إليها ويميز بعضها عن بعض بما هي عليه من الحقائق في شيئية ثبوتها ، ينظر إليها بعين أسمائه الحسنى ، وترتيب إيجاد الممكنات يقتضي بتقدم بعضها على بعض ، وهذا ما لا يقدر على إنكاره ، فإنه الواقع ، فالدخول في شيئية الوجود إنما وقع مرتبا بخلاف ما هي عليه في شيئية الثبوت ، فإنها كلها غير مرتبة ، لأن ثبوتها منعوت بالأزل لها ، والأزل لا ترتيب فيه ولا تقدم ولا تأخر ، فتوقف حكم الإرادة على حكم العلم ، ولهذا قال تعالى : (إِذا أَرَدْناهُ) فجاء بظرف الزمان المستقبل في تعليق

٤٨٤

الإرادة ، فأدخل الله تعلق إرادته تحت حكم الزمان ، فجاء بإذا وهي من صيغ الزمان ، والزمان قد يكون مرادا ولا يصح فيه إذا ، لأنه لم يكن بعد فيكون له حكم ، والإرادة واحدة العين ، فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها بترجيح ظهوره في شيئية وجوده ، فقوله تعالى : (إِذا أَرَدْناهُ) هو التوجه الإلهي على الشيء في حال عدمه (أَنْ نَقُولَ لَهُ) وهو قوله لكل شيء يريده وذلك من كون الحق متكلما ، وما يؤمر إلا من يسمع بسمع ثبوتي أو وجودي ، يسمع الأمر الإلهي (كُنْ) بالمعنى الذي يليق بجلاله ، وكن حرف وجودي ، أو إن شئت أمر وجودي ، فما ظهر عنها إلا ما يناسبها ، فلا يكون عن هذا الحرف إلا الوجود ، ما يكون عنه عدم ، لأن العدم لا يكون ، لأن الكون وجود ، وكن كلمة وجودية من التكوين ، فكن عين ما تكلم به ، وهو الأمر الذي لا يمكن للمأمور به مخالفته ، لا الأمر بالأفعال والتروك ، فظهر عن هذا الأمر الذي قيل له (كُنْ) فيكون ذلك الشيء في عينه ، فيتصف ذلك المكوّن بالوجود بعد ما كان يوصف بأنه غير موجود ، فإذا ظهر عن قوله (كُنْ) لبس شيئية الوجود ، وهي على الحقيقة شيئية الظهور ، ظهور لعينه ، وإن كان في شيئية ثبوته ظاهرا متميزا عن غيره بحقيقته ، ولكن لربه لا لنفسه ، فما ظهر لنفسه إلا بعد تعلق الأمر الإلهي من قوله (كُنْ) بظهوره ، فاكتسب ظهوره لنفسه ، فعرف نفسه وشاهد عينه ، فاستحال من شيئية ثبوته إلى شيئية وجوده ، وإن شئت قلت استحال في نفسه من كونه لم يكن ظاهرا لنفسه إلى حالة ظهر بها لنفسه ، فما ثمّ إلا الله والتوجه وقبول الممكنات لما أراد الله بذلك. وأضاف الله التكوين إلى الذي يكون لا إلى الحق ولا إلى القدرة ، بل أمر فامتثل السامع في حال عدم شيئيته وثبوته أمر الحق بسمع ثبوتي ، فأمره قدرته ، وقبول المأمور بالتكوين استعداده ، فإن الممكنات لها الإدراكات في حال عدمها ، ولذا جاء في الشرع أن الله يأمر الممكن بالتكوين فيتكون ، فلو لا أن له حقيقة السمع ، وأنه مدرك أمر الحق إذا توجه عليه لم يتكون ، ولا وصفه الله بالتكوين ، ولا وصف نفسه بالقول لذلك الشيء المنعوت بالعدم ، فتعلق الخطاب بالأمر لهذه العين المخصصة بأن تكون ، فامتثلت فكانت ، فلو لا ما كان للممكن عين ولا وصف لها بالوجود ، يتوجه على تلك العين الأمر بالوجود لما وقع الوجود ، فالمأمور به إنما هو الوجود ، ولذلك أعلمنا الله أنه خاطب الأشياء في حال عدمها ، وأنها امتثلت أمره عند

٤٨٥

توجه الخطاب فبادرت إلى امتثال ما أمرها به ، فلو لا أنها منعوتة في حال عدمها بالنعوت التي لها في حال وجودها ما وصفها الحق بما وصفها به من ذلك ، وهو الصادق المخبر بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، فما ظهرت أعيان الموجودات إلا بالحال التي كانت عليه في حال العدم ، فما استفادت إلا الوجود من حيث أعيانها ومن حيث ما به بقاؤها ، فكل ما هي عليه الأعيان القائمة بأنفسها ذاتي لها ، وإن تغيرت عليها الأعراض والأمثال والأضداد ، إلا أن حكمها في حال عدمها ليس حكمها في حال وجودها من حيث أمر ما ، وذلك لأن حكمها في حال عدمها ذاتي لها ليس للحق فيها حكم ، ولو كان لم يكن لها العدم صفة ذاتية ، فلا تزال الممكنات في حال عدمها ناظرة إلى الحق بما هي عليه من الأحوال لا يتبدل عليها حال حتى تتصف بالوجود ، فتتغير عليها الأحوال للعدم الذي يسرع إلى ما به بقاء العين ، وليست كذلك في حال العدم ، فإنه لا يتغير عليها شيء في حال العدم ، بل الأمر الذي هي عليه في نفسها ثابت ، إذ لو زال لم تزل إلا إلى الوجود ، ولا يزول إلى الوجود إلا إذا اتصفت العين القائم به هذا الممكن الخاص بالوجود ، فالأمر بين وجود وعدم في أعيان ثابتة على أحوال خاصة (فَيَكُونُ) يعني حكم ما توجه عليه أمر (كُنْ) كان ما كان ، فيعدم به ويوجد ، فليس متعلقه إلا الأثر ، فترى الكائنات ما ظهرت ولا تكونت من شيئيتها الثابتة إلا بالفهم لا بعدم الفهم ، لأنها فهمت معنى (كُنْ) فتكونت ، ولهذا قال (فَيَكُونُ) يعني ذلك الشيء ، لأنه فهم عند السماع ما أراد بقوله (كُنْ) فبادر لفهمه دون غير التكوين من الحالات ، وكذلك يكون الانتقال من حال إلى حال ، أي من حال يكون عليه السامع إلى حال يعطيه سماعه عند كلام المتكلم ، وسمي ذلك بالحركة من العدم إلى الوجود ، فكان للأعيان في ظهورها شيئية وجودية ، فسميت هذه الحركة بالوجد لحصول الوجود عندها ، أعني وجود الحكم ، سواء كان بعين ، أي في تقلبه أثناء وجوده من حال إلى حال ، أو بلا عين قبل إبرازه من العدم إلى الوجود ، فإنه عين في نفسه هذا الكائن ، أي له عين ثابتة في العلم يتوجه عليها الخطاب ، فتسمع فتمتثل ، فعندنا قوله تعالى : (فَيَكُونُ) ما هو قبول التكوين وإنما قبوله للتكوين ، أن يكون مظهرا للحق ، فهذا معنى قوله (فَيَكُونُ) لا أنه استفاد وجودا ، وإنما استفاد حكم المظهرية حيث أنه قبل السماع من حيث عينه الثابتة الموجودة فالحق عين كل شيء في الظهور وما هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه وتعالى ، بل هو هو والأشياء

٤٨٦

أشياء ، فلولا الحق ما تميزت الموجودات بعضها عن بعض ولكان الأمر عينا واحدا ، فعين تمييز الحق لها وجودها ، وعين تمييز بعضها عن بعض فلأنفسها ، ولذلك لم تزد كلمة الحضرة في كل كائن عنها على كلمة (كُنْ) شيئا آخر ، بل انسحب على كل كائن عين (كُنْ) لا غير ، فلو وقفنا مع كن لم نر إلا عينا واحدة ، وإنما وقفنا مع أثر هذه الكلمة وهي المكونات ، فكثرت وتعددت وتميزت بأشخاصها ، فلما اجتمعت في عين حدها علمنا أن هذه الحقيقة وجدت كلمة الحق فيها وهي كلمة كن ، وكن أمر وجودي لا يعلم منه إلا الإيجاد والوجود ، ولهذا لا يقال للموجود كن عدما ، ولا يقال له كن معدوما لإستحالة ذلك ، فالعدم نفسي لبعض الموجودات ، ولبعضها تابع لعدم شرطه المصحح لوجوده ، وبهذه الحقيقة كان الله خلاقا دائما وحافظا دائما ، والخلاصة هي أن الله سبحانه يرانا في حال عدمنا في شيئية ثبوتنا كما يرانا في حال وجودنا ، لأنه تعالى ما في حقه غيب ، فكل حال له شهادة ، فيتجلى تعالى للأشياء التي يريد إيجادها في حال عدمها من اسمه النور تعالى ، فينفهق على تلك الأعيان أنوار هذا التجلي فتستعد لقبول الإيجاد ، فيقول له عند هذا الاستعداد «كن» فيكون من حينه من غير تثبط ـ مسائل مستفادة من هذه الآية ـ المسألة الأولى ـ اعلم أن القول والكلام نعتان لله ، فبالقول يسمع المعدوم ، وهو قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وبالكلام يسمع الموجود ، وهو قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) وقد يطلق الكلام على الترجمة في لسان المترجم وينسب الكلام إلى المترجم عنه في ذلك ، فالقول له أثر في المعدوم وهو الوجود ، والكلام له أثر في الموجود وهو العلم ـ المسألة الثانية ـ لم يرد نص عن الله ولا عن رسوله في مخلوق أنه أعطي (كُنْ) سوى الإنسان خاصة ، فظهر ذلك في وقت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فقال : كن أبا ذر ، فكان أبو ذر ، ورد في الخبر في أهل الجنة أن الملك يأتي إليهم فيقول لهم بعد أن يستأذن في الدخول عليهم ، فإذا دخل ناولهم كتابا من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله ، فإذا في الكتاب لكل إنسان يخاطب به ، من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت ، أما بعد فإني أقول للشيء كن فيكون ، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا يقول أحد من أهل الجنة للشيء كن إلا ويكون ـ المسألة الثالثة ـ اعلم أن للأسباب أحكاما في المسببات فهي كالآلة للصانع ، فتضاف

٤٨٧

الصنعة والمصنوع للصانع لا للآلة ، وسببه أن لا علم للآلة بما في نفس الصانع أن يصنع بها على التعيين ، بل لها العلم بأنها آلة للصنع الذي تعطيه حقيقتها ، ولا عمل للصانع إلا بها ، فصنع الآلة ذاتي ، وما لجانب الصانع بها إرادي ، وهو قوله تعالى : (إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) وكن آلة الإيجاد ، فما أوجد إلا بها ، وكون تلك الكلمة ذاته أو أمرا زائدا علم آخر ، إنما المراد هو فهم هذا المعنى وأنه ما حصل الإيجاد بمجرد الإرادة دون القول ودون المريد والقائل ، فظهر حكم الأسباب في المسببات ، فلا يزيل حكمها إلا جاهل بوضعها وما تعطيه أعيانها ـ المسألة الرابعة ـ المعلول لو لا علته ما ظهرت له عين ، والعالم لو لا الله ما وجد في عينه ، والعين عند العرب تذكر وتؤنث وذلك لأجل التناسل الواقع بين الذكر والأنثى ، ولهذه الحقيقة جاء الإيجاد الإلهي بالقول وهو مذكر ، والإرادة وهي مؤنثة ، فأوجد العالم عن قول وإرادة ، فظهر عن اسم مذكر ومؤنث ، فقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) وشي أنكر النكرات والقول مذكر (إِذا أَرَدْناهُ) والإرادة مؤنثة (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فظهر التكوين في الإرادة عن القول ، والعين واحدة بلا شك ، والأمر في نفسه صعب تصوره ، من الوجه الذي يطلبه الفكر ، سهل في غاية السهولة من الوجه الذي قرره الشرع ، فالفكر يقول : ما ثمّ شيء ثم ظهر شيء من لا شيء ، والشرع يقول وهو القول الحق :

بل ثمّ شيء فصار كونا

وكان غيبا فصار عينا

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤٣)

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فألحق أهل الذكر بالعلماء ، وأمرنا الله أن نسأل أهل الذكر وهم أهل القرآن ، لأنهم ما يخبرون إلا عنه ، لأنهم جلساء الحق ، فما يخبر الذاكر الذي يشهد الله فيه أنه ذاكر له إلا عن جليسه ، فيخبر بالأمر على ما هو عليه ، وذلك

٤٨٨

هو العلم ، فإنه على بينة من ربه ، ولو لم يكن عند الذاكرين بهذه المثابة لم يكن بينهم وبين غيرهم من البشر فرقان ، فإنه تعالى معهم حيثما كانوا وأينما كانوا ، فلا بد أن يكون مع الذاكرين له بمعية اختصاص ، وما ثمّ إلا مزيد علم ، به يظهر الفضل ، فكل ذاكر لا يزيد علما في ذكره بمذكوره فليس بذاكر وإن ذكر بلسانه ، لأن الذاكر هو الذي يعمه الذكر كله ، فذلك هو جليس الحق ، فلا بد من حصول الفائدة ـ وجه ـ أهل الذكر هم أهل القرآن فإن الله تعالى يقول : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) وهو القرآن الذين يعملون به ، وهم أهل الله وخاصته ، وهم أهل الاجتهاد ومنهم المصيب والمخطىء ، فيتعين على المقلد إذا لم يعلم ، السؤال عن الحكم في الواقعة لمن يعلم أنه يعلم من أهل الذكر ، فيفتيه ، فإن قال له : هذا حكم الله أو حكم رسوله أخذ به ، وإن قال له : هذا رأيي كما يقول أصحاب الرأي في كتبهم فإنه يحرم عليه اتباعه فيه ، فإن الله ما تعبده إلا بما شرع له في كتاب أو سنة ، وما تعبد الله أحدا برأي أحد ، والأشياخ يسألون ولا يقتدى بأفعالهم إلا إن أمروا بذلك في أفعال معينة ، قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وهم أهل القرآن أهل الله وخاصته ، وأهل القرآن هم الذين يعملون به ، وهو الميزان المشروع من الله تعالى ، فلا ينبغي أن يقتدى بفعل أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن أحوال الناس تختلف ، فقد يكون عين ما يصلح للواحد يفسد به الآخر إن عمل به ، وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اختلف الناس في أفعاله هل هي على الوجوب أم لا؟ فكيف بغيره مع قوله الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقوله (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)؟ وهذا كله ليس بنص منه في وجوب الاتباع في أفعاله ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اختص بأشياء لا يجوز لنا اتباعه فيها ، ولو اقتدينا به فيها كنا عاصين مأثومين.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) بعد تبليغه ، فما اكتفى الله بنزول الكتب الإلهية حتى جعل الرسل المترجمين عن الله تبيّن ما أنزل الله على عباده ، تبيّن ما فيها لما في العبارة من الإجمال وما تطلبه من التفصيل ، ولا تفصل العبارة إلا بالعبارة ، فنابت الرسل مناب الحق في التفصيل فيما لم يفصله وأجمله ، فما أبان عنه الرسول وما فصّله فهو تفصيل

٤٨٩

ما نزل ، لا عين ما نزل ، ويقع البيان بعبارة خاصة ويعقل بأي شيء كان ، فلو لا البيان ما فصل بين المتشابه والمحكم ، فلو لم ينزل المتشابه لنعلم أنه متشابه لم يعلم أنه ثمّ في علم الله ، ما يكون متشابها ، وهذا غاية البيان حيث أبان لنا أن ثمّ ما يعلم وثمّ ما لا يعلمه إلا الله ، وقد يمكن أن يعلّمه الله من يشاء من خلقه بأي وجه شاء أن يعلمه ، فالرسول ملزم بتبيين ما جاء به حتى يفهم عنه لإقامة الحجة على المبلغ إليه ، وعلمنا أن كل رواية ترفع الإشكال هي الصحيحة وإن ضعفت عند أهل النقل.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤٨)

(أَوَلَمْ يَرَوْا) خاطب بذلك أهل الكشف وهم عامة الإنس وكل عاقل ، فخاطبهم بالنعيم البصري (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) الضمير في ظلاله يعود على الشيء ، وقد قلنا : إن الأجساد ظلال الأرواح ، وإن الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى هي للأعيان التي يتضمنها برزخ الممكنات بمنزلة الظلالات للأجساد ، فقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ) وهو ما قلنا في الآية السابقة : فما زال سجادا فقيدا وموجودا ، فالأعيان الثابتة ساجدة لله ، وظلالها وهي الأعيان الموجودة تخرج على صورتها ساجدة لله ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أن ذلك التفيؤ يمينا وشمالا أنه سجود لله وصغار وذلة لجلاله ، ولذلك قال : (وَهُمْ داخِرُونَ) أي أذلاء ، فوصفهم بعقليتهم أنفسهم حتى سجدوا لله داخرين ، ثم أخبر فقال متمما.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٤٩)

٤٩٠

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي ممن يدب عليها ، يقول يمشي (وَهُمْ) يعني أهل السموات ، فكل ما في السموات والأرض موصوف بالسجود دائما لافتقاره ، ومن افتقر فقد كسر فقار ظهره ، فلا يتمكن له أن يرفع رأسه أبدا ، فالعالم الذي هو ما عدا الثقلين ساجد لله ، فهو مطيع قائم بما تعين عليه من عبادة خالقه ومنشيه (وَالْمَلائِكَةُ) يعني التي ليست في سماء ولا أرض (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني عن عبادة ربهم.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠)

ثم وصفهم بالخوف ليعلمنا أنهم عالمون بمن سجدوا له ، فأفعالهم أفعال الخائفين ، وخوفهم خوف نزول عن مرتبة إلى مرتبة أدنى ، ولا سيما وقد روي أن ابليس كان من أعبد الخلق لله تعالى ، وحصل له الطرد والبعد من السعادة التي كان يرجوها في عبادته لله تعالى لما حقّت عليه كلمة العذاب ، وقوله تعالى (مِنْ فَوْقِهِمْ) فوصف نفسه تعالى بالفوقية لشرفها ، فهي فوقية مرتبة ، ثم وصف المأمورين منهم أنهم (يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وهم الذين قال فيهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وتتضمن هذه السجدة سجود العالم الأعلى والأدنى في مقام الذلة والخوف ، والسجود عند قوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ولما كان الحق قد ذكر الملائكة وسجودها في سورة الأعراف ، والظلال وسجودها في سورة الرعد ، وسجدت الملائكة في سورة الأعراف سجود اختيار لما يقتضيه جلال الله ، أثنى الله عزوجل عليهم هنا بأنهم (يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فسجدوا شكرا لله لما أثنى الله عزوجل عليهم بما وفقهم إليه من امتثال أوامره ، وشرع للعبد هنا أن يسجدها رغبة في أن يكون ممن أثنى الله عليه بما أثنى على ملائكته ، فهي للعبد سجود ذلة وخضوع ، فإنه قد ذكر قبل هذه السجدة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) والضمير في ظلاله يعود على الشيء المخلوق ثم قال (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي أذلاء فهو سجود ذلة وخضوع.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٥١)

٤٩١

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (٥٣)

الإنسان إذا أصابه الضر وانقطعت به الأسباب ، وهو أشد العذاب ، ذكر ربه فرجع إليه مضطرا لا مختارا.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧)

فجعلوا لله ما يكرهون فقالوا : الملائكة بنات الله ، فحكموا عليه بأنه اصطفى البنات على البنين ، فتوجه عليهم الحكم بالإنكار في حكمهم مع كونهم يكرهون ذلك لنفوسهم.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠)

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف الأعلى عند التجلي في الصور الثابت نقلا لا عقلا ، فإن رؤية الله من محارات العقول ومما يوقف عندها (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يرى من حيث

٤٩٢

هويته (الْحَكِيمُ) في تجليه حتى يقال إنه رؤي.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢)

كان المشركون يكرهون نسبة البنات إليهم ثم إنهم قالوا : إن الملائكة بنات الله وأخبرنا الله بذلك في قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) فإنهم كانوا يكرهون البنات ، وبهذا أخبرنا الله عنهم في قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ).

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٥)

حقيقة السمع الفهم عن الله تعالى فيما يتلوه عليك.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ

٤٩٣

اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨)

لما خلق الله تعالى كل شيء حيا ناطقا ، جمادا كان أو نباتا أو حيوانا ، في العالم الأعلى والأسفل ، مصداق ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها فقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) الستة أكمل الأعداد ، وليس في الأشكال شكل فيه زوايا إذا انضمت إليها الأمثال لم يكن بينها خلو إلا الستة ، وبها أوحى الله إلى النحل في قوله في هذه الآية (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) فأوحى إليها بصفة عملها ، فعملت بيوتها مسدسة الشكل ، وهو أكمل الأشكال لأنه لا يدخله خلاء ويقارب الاستدارة مع ظهور الزوايا ، فهو لا يقبل الخلل مع الكثرة فيظهر الخلو ، والمستدير ليس كذلك ، وإن أشبه غيره في عدم قبول الخلل كالمربع ، فإنه يبعد عن المستدير ، ووصف الشكل المستدير بالكمال لأنه يظهر عن نصفه وثلثه وسدسه فيقوم من عين أجزائه ، فلو لا ما فهمت النحل من الله وحيه لما صدر منها ما صدر ، وهذا من النبوة سارية في الحيوان والنبات والجماد قال تعالى : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فالنبوة سارية في كل موجود ، لكنه لا ينطلق من ذلك اسم نبي ولا رسول على واحد منهم إلا على الملائكة خاصة والرسل منهم وهم المسمون الملائكة ، وقد يكون ذلك علما ضروريا في أصل الخلقة ، فيريد الله بذلك أنه فطرها في أصل نشأتها على ذلك.

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩)

(فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) وهو ما شرع الله لها من السبل أن تسلكها (ذُلُلاً) فتدل هذه الآية على أن لكل شيء من المخلوقات كلاما يخصه يعلمه الله ، ويسمعه من فتح الله سمعه لإدراكه (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) فعمّر النحل بيته بالعسل ، وما ذكر الله مضرة العسل وأن بعض الأمزجة يضره استعماله ، ولكن ما تعرض لذلك ،

٤٩٤

أي أن المقصود منه الشفاء بالوجود ، كما المقصود بالغيث إيجاد الرزق الذي يكون عن نزوله بالقصد وإن هدم الغيث بيت الشيخ الفقير الضعيف ، فما كان رحمة في حقه من هذه الجهة الخاصة ، ولكن ما هي بالقصد العام الذي له نزل المطر ، وإنما كان من استعداد القابل للتهدم لضعف البنيان ، كما كان الضرر الواقع لآكل العسل من استعداد مزاجه لم يكن بالقصد العام ، جاء رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال : اسقه عسلا ، فسقاه عسلا ، فزاد استطلاقه ، فرجع فأخبره ، فقال : اسقه عسلا ، فزاد استطلاقه ، وما علم هذا الرجل ما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، فإنه كان في المحل فضلات مضرة لا يمكن إخراجها إلا بشرب العسل ، فإذا زالت عنه أعقبته العافية والشفاء ، فلما رجع إليه قال له : يا رسول الله سقيته عسلا فزاد استطلاقه ، فقال : صدق الله وكذب بطن أخيك ، اسقه عسلا في الثالثة ، فسقاه فبرىء ، فإنه استوفى خروج الفضلات المضرة.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٧٠)

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم الكائن عن مرور الزمان ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) وهو رجوع إلى الضعف الأول إلى أرذل العمر ، وأرذل العمر ما لا يحصل لنا فيه علم ، فيفارق الإنسان فيه ما كان يعلمه ، فقال : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) فإما أن يكون منع الزيادة ، وإما أن يكون اتصف بعدم العلم في حال الهرم ، لشغله بما هو عليه من الضعف المفرط.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ

٤٩٥

أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧٤)

ـ الوجه الأول ـ نهينا أن نضرب الأمثال لله لجهلنا بالنسب التي هي بها أمثال ، فقال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فإن الله هو الذي يضرب الأمثال للناس لعلمه بمواقعها ، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم ، فهو عزوجل يضرب لنا الأمثال بما له وجود في عينه ، ونحن لسنا كذلك إلا بحكم المصادفة ، فنضرب المثل إذا ضربناه بما له وجود في عينه وبما لا وجود له إلا في تصورنا ، فالله يضرب الأمثال لنفسه ولا تضرب له الأمثال ، فيشبه الأشياء ولا تشبهه الأشياء ، فيقال : مثل الله في خلقه مثل الملك في ملكه ، ولا يقال مثل الملك في ملكه مثل الله في خلقه ، فإنه عين ما ظهر ، وليس ما ظهر هو عينه ، فإنه الباطن كما هو الظاهر في حال ظهوره ، فلهذا قلنا : هو مثل الأشياء وليست الأشياء مثله ، إذ كان عينها وليست عينه ، فإن الممكن ما استفاد الوجود وإنما استفاد حكم المظهرية ، وهو قوله تعالى للشيء : كن فيكون ، فقبوله للتكوين هو أن يكون مظهرا للحق ، فالحق عين كل شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذواتها ، سبحانه وتعالى ، بل هو هو والأشياء أشياء ، ففي نفس الأمر ليس إلا وجود الحق ، والموصوف باستفادة الوجود هو على أصله ما انتقل من إمكانه ، فحكمه باق وعينه ثابتة ، واعلم أن ما يشرك به الشيء من ليس مثله فهو مثله من ذلك الوجه الذي أشركه فيه خاصة ، وينفصل عنه بأمور أخر له فيها أمثال ، فما ثمّ معلوم ما له مثل جملة واحدة ، فما ثمّ إلا أمثال وأشباه ، ولذلك ضرب الله الأمثال ونهى عن ضربنا الأمثال له ، وعلل فقال : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فمن علّمه الحق ضرب الأمثال ضربها على علم ، فلا يضرب الأمثال إلا العلماء بالله الذين تولى الله تعليمهم ، وليس إلا الأنبياء والأولياء ، وهو مقام وراء طور العقل ، يريد أنه لا يستقل العقل بإدراكه من حيث ما هو مفكر ، فإن الذي عند العقل من العلم بالله من حيث فكره علم التنزيه ، وضرب الأمثال تشبيه ، وموضع التشبيه من ضرب المثل دقيق لا يعرفه إلا من عرف المشبه والمشبّه

٤٩٦

به ، والمشبه به غير معروف ، فالأمر الذي يتحقق منه ضرب المثل له مجهول ، فالنظر فيه من حيث الفكر حرام على كل مؤمن ، وهو في نفس الأمر ممنوع الوصول إليه عند كل ذي عقل سليم ، ولذلك قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فضرب الله تعالى لنفسه الأمثال لأنه يعلم ونحن لا نعلم ، فإن الله يعلم كيف يضربها وأنتم لا تعلمون ، فناط بهم الجهل بالمواطن ، فيشهد الولي ما ضرب الله من الأمثال فيرى في ذلك الشهود عين الجامع الذي بين المثل وبين ما ضرب له ذلك المثل ، فهو عينه من حيث ذلك الجامع ، وما هو عينه من حيث ما هو مثل ، فالولي لا يضرب لله الأمثال بل هو يعرف ما ضرب الله له الأمثال ـ الوجه الثاني ـ (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال الله تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة نوره ، يعني المضاف إلى السموات والأرض ، (كَمِشْكاةٍ) إلى أن ذكر المصباح ومادته ، فقال (اللهُ) وما ضرب المثل للاسم الله ، وإنما عيّن سبحانه اسما آخر وهو (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فضرب المثل بالمصباح لذلك الاسم النور المضاف ، فإن الله اسم جامع لجميع الأسماء الإلهية ، محيط بمعانيها كلها ، وضرب الأمثال يخص اسما واحدا معينا ، فإن ضربنا الأمثال لله وهو اسم جامع شامل فما طبقنا المثال على الممثل ، فإن المثال خاص والممثل به مطلق ، فوقع الجهل بلا شك ، فنهينا أن نضرب المثل من هذا الوجه إلا أن نعين اسما خاصا ينطبق المثل عليه ، فحينئذ يصح ضرب المثل لذلك الاسم الخاص ، كما فعل الله في قوله تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهمنا الله وإياكم مواقع خطابه ، وجعلنا ممن تأدب بما عرفناه من آدابه ، إنه اللطيف بأحبابه ، فإنه قال (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فإني ما ضربتها ، فافهموا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فعلمنا سبحانه الأدب في النظر في أسمائه إذا أطلقناها عليه بالإضافة كيف نفعل ، وإذا أطلقناها عليه بغير الإضافة كيف نفعل ، فالعالم يقطع عمره في نظر ما ضرب الله له من الأمثال ولا يستنبط مثلا من نفسه ، ولا سيما لله ، وما أظن يفي عمر الإنسان بتحصيل ما ضرب الله له من الأمثال التي هي من عالم الخيال الذي انفرد الحق بعلمه في قوله (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ

٤٩٧

يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٧٧)

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) ما سميت الساعة ساعة إلا لأنها تسعى إلينا بقطع هذه الأزمان لا بقطع المسافات وبقطع الأنفاس ، فمن مات وصلت إليه ساعته ، وقامت قيامته إلى يوم الساعة الكبرى ، التي هي لساعات الأنفاس كالسنة لمجموع الأيام التي تعينها الفصول باختلاف أيامها ، فأمر الساعة وشأنها في العالم أقرب من لمح البصر ، فإن عين وصولها عين حكمها ، وعين حكمها عين نفوذ الحكم في المحكوم عليهم ، وعين نفاذه عين تمامه ، وعين تمامه عين عمارة الدارين ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ، ولا يعرف هذا القرب إلا من عرف قدرة الله في وجود الخيال في العالم الطبيعي ، وما يجده العالم به من الأمور الواسعة في النفس الفرد والطرفة ، ثم يرى أثر ذلك في الحس بعين الخيال ، فيعرف هذا القرب وتضاعف السنين في الزمن القليل من زمان الحياة الدنيا ، فشبّه تعالى الإمضاء بلمح البصر أو هو أقرب ، وكذلك هو أقرب ، فإن أمره تعالى في الموقف يوم القيامة وهو المقدار الزماني ، خمسون ألف سنة من أيام الدنيا ، وعدها اليوم الشمسي ، وهو يوم ذي المعارج ، فإن أمر الله فيه مثل لمح البصر ، للإفهام والتوصيل ، وربما هو في القلة أقل من هذا المقدار ، بل مقدارها الزمان الفرد المتوهم الذي هو يوم الشأن ، فكما صارت الخمسون ألف سنة كيوم واحد ، وفي يوم واحد ، كذلك صار أمره كلمح بالبصر ، وسبب ذلك أن الذي يصدر منه الأمر لا يتقيد ، فهو في كل مأمور بحيث أمر ، فينفذ الأمر بحكمه دفعة واحدة ، ولمح البصر كالبرق ، يضرب فيظهر ، ويظهر ويزول ، فلو بقي أهلك.

٤٩٨

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨)

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) وذلك مثل من ردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ، وما يلزم العالم حضوره دائما مع علمه ، فهكذا حال الجنين إذا خرج من بطن أمه (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اعلم أن الله أعطى كل شيء خلقه ، فأعطى السمع خلقه فلا يتعدى إدراكه ، وجعل العقل فقيرا إليه ، يستمد منه معرفة الأصوات وتقطيع الحروف وتغيير الألفاظ وتنوع اللغات ، فيفرق بين صوت الطير وهبوب الرياح وصرير الباب وخرير الماء وما أشبه هذه الأصوات كلها ، وليس في قوة العقل من حيث ذاته إدراك شيء من هذا ما لم يوصله إليه السمع ، وكذلك القوة البصرية جعل الله العقل فقيرا إليها فيما توصله إليه من المبصرات ، فلا يعرف الخضرة ولا الصفرة ولا ما بينهما من الألوان ما لم ينعم البصر على العقل بها ، وهكذا جميع القوى المعروفة بالحواس ، فالسمع والأبصار والأفئدة أنوار جعلها الله فيك تدرك بها الأشياء ، وقدّم تعالى السمع على العلم والبصر فإن أول شيء علمناه من الحق وتعلق به منا القول منه والسمع منا ، فكان عنه الوجود ، وكما لم يصح الوجود ـ أعني وجود العالم ـ إلا بالقول من الله والسماع من العالم ، لم يظهر وجود طرق السعادة وعلم الفرق بينها وبين طرق الشقاء إلا بالقول الإلهي والسماع الكوني ، فجاءت الرسل بالقول جميعهم من قرآن وتوراة وإنجيل وزبور وصحف ، فما ثمّ إلا قول وسماع ، غير هذين لم يكن ، فلو لا القول ما علم مراد المريد ، ما يريده منا ، ولو لا السمع ما وصلنا إلى تحصيل ما قيل لنا ، فبالقول نتصرف ، وعن القول نتصرف مع السماع ، فهما مرتبطان لا يصح استقلال واحد منهما دون الآخر ، وهما نسبتان ، فبالقول والسماع نعلم ما في نفس الحق ، إذ لا علم لنا إلا بإعلامه بقوله ، ومن وجه آخر : حقيقة السمع أن لا يتقيد المسموع بجهة معينة ، بخلاف البصر الحسي فإنه يتقيد إما بجهة خاصة معينة وإما بالجهات كلها ، والسمع ليس كذلك ، فإن متعلقه الكلام ، فإن كان المتكلم ذا جهة أو في جهة فذلك راجع إليه ، وإن كان لا في جهة ولا ذا جهة فذلك راجع إليه لا للسامع ، فالسمع أدل في التنزيه من البصر ، وأخرج من التقييد

٤٩٩

وأوسع وأوضح في الإطلاق ـ إشارة ـ قرأ بعضهم : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩)

كم بيّن الله ورسوله لنا ما هي المخلوقات عليه من العلم بالله والطاعة له والقيام بحقه ، ولا نؤمن ولا نسمع!! ونتناول ما ليس الأمر عليه لنكون من المؤمنين ، ونحن على الحقيقة من المكذبين ، ورجحنا حسّنا على الإيمان بما عرفنا به ربنا لمّا لم نشاهد ذلك مشاهدة عين ، فالموجودات كلها ما منها إلا من هو حي ناطق أو حيوان ناطق ، المسمى جمادا أو نباتا أو ميتا ، لأنه ما من شيء من قائم بنفسه وغير قائم بنفسه إلا وهو مسبح بحمد ربه ، وهذا نعت لا يكون إلا لمن هو موصوف بأنه حي يوحي إليه الله تعالى ، فهل سمعتم في النبوة الأولى والثانية قط أن حيوانا أو شيئا من غير الحيوان عصى أمر الله أو لم يقبل وحي الله ، فمن كان مشهده هذا من الموجودات استحى كل الحياء في خلوته التي تسمى خلوة في العامة كما يستحي في جلوته ، فإنه في جلوة أبدا ، لأنه لا يخلو عن مكان يقله وسماء تظله ، ولو لم يكن في مكان لاستحى من أعضائه ورعية بدنه.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١)

٥٠٠