رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

لهذا جاء بالعفو ابتداء ، ليتنبه العالم بالله أنه ما أراد التوبيخ الذي يظنه من لا علم له ، ولذلك قال : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ) فهو استفهام كأنه يقول : أفعلت ذلك حتى يتبين لك (الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)؟ فهو عند ذلك إما أن يقول : نعم أو لا ، فهو استفهام كقوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) لإقامة الحجة ، فهنا قدم الحق العفو عن السؤال عندنا ، وعلى العتاب عند غيرنا ، لتعرف العناية الإلهية بأحبابه قال تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فلا ذنب لمحبوب ولا حسنة لمحبّ عند نفسه.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦)

(وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) لأنهم الأشقياء أبصروا سوء الغاية بعين المخالفة والغواية.

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

٢٦١

الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠)

جعل الله في مال الإنسان الزكاة حقا لأصناف مذكورين ، فأوجب على أصحاب الأموال على وجه مخصوص إخراجها ، وأوجب على الإمام أخذها ، ولم يوجب على الأصناف أخذها ، فهم مخيرون في أخذ حقهم وفي تركه كسائر الحقوق فمن أخذها منهم

٢٦٢

أخذ حقه ، ومن ترك أخذها ترك حقه وله ذلك. والذي أذهب إليه أنه من وجد من هؤلاء الأصناف قسمت عليهم الصدقة بحسب ما يوجد منهم ، لكن على الأصناف ، لا على الأشخاص ولو لم يوجد من صنف منهم إلا شخص واحد دفع إليه قسم ذلك الصنف ، وإن وجد من الصنف أكثر من شخص واحد قسم على الموجودين منه ما تعين لذلك الصنف ، قل الأشخاص أو كثروا ، وكذلك العامل عليها قسّمه في ذلك البلد بحسب ما يوجد من الأصناف ، فإن وجد الكل ، فلكل صنف ثمن الصدقة ، إلى سبع وسدس وخمس وربع وثلث ونصف والكل ثم إنا نقدم من قدم الله بالذكر في العطاء ، والزكاة وإن كانت لهؤلاء الأصناف ، فإنها حق الله في هذه الأموال ، فواجب على من أعطيها أن يأخذها ، فإن للعبد أن يأكل من مال سيده ، فإنه حقه ، وإنما حرمت على أهل البيت تخصيصا لإضافة الأموال إلى الخلق في قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي إضافة الزكاة إلى الخلق لا إلى الله ، وما قدم الحق الفقراء بالذكر وفوقهم من هو أشد حاجة منهم ، لا مسكين ولا غيره ، فإن الفقير هو الذي انكسر فقار ظهره ، فلا يقدر على أن يقيم ظهره وصلبه ، فلا يزال منكسرا ، وهو الذي يجب إعطاء الصدقة له ، وواجب عليه أخذها إذا أعطيها ، ولا يسألها أصلا ، فإن الفقير هو الذي يفتقر إلى كل شيء ، ولا يفتقر إليه شيء ، والمسكين هو من يدبره غيره ، فهو من السكون ، وهو ضد الحركة ، فهو المسلم المفوض أمره إلى الله. والعاملين عليها ، وهم الجامعون لها ممن تجب عليهم ، والمؤلفة قلوبهم : هم الذين يتألفهم الإحسان على حب المحسن ، وفي الرقاب : وهم الذين يطلبون الحرية من الرق ، والغارمين : وهم الذين أقرضوا الله قرضا حسنا ومنهم أصحاب الديون ، وفي سبيل الله : يمكن أن يريد المجاهدين ، والإنفاق منها في الجهاد ، فإن العرف في سبيل الله عند الشرع هو الجهاد والأظهر ، وفي هذه الآية مع أنه يمنك أن يريد بسبيل الله سبل الخير كلها ، المقربة إلى الله ، وهو ما تقتضيه المصلحة العامة لكل إنسان ، بل لكل حيوان ونبات ، حتى الشجرة يراها تموت عطشا فيكون عنده بما يشتري لها ما يسقيها به من مال الزكاة فيسقيها بذلك ، فإنه من سبيل الله ولا قائل بهذا ، ويدخل في المجاهدين المجاهدون أنفسهم أيضا في سبيل الله ، فيعاونون بذلك على جهاد أنفسهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رجعتم من الجهاد الأصغر ، إلى الجهاد الأكبر يريد جهاد النفوس ومخالفتها في أغراضها الصارفة عن طريق الله تعالى ، وابن السبيل : وهم

٢٦٣

معلومون (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرضها الله لهؤلاء المذكورين فلا يجوز أن تعطى إلى سواهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ـ إشارة واعتبار ـ إذا قابلنا الأصناف التي تجب لهم الزكاة ، بالأعضاء المكلفة من الإنسان ، نجد أن الفقراء يوازنهم من الأعضاء : الفرج ، والمساكين يوازنهم : البطن ، ويوازن العاملين : القلب ، ويوازن المؤلفة قلوبهم : السمع ، ويوازن الرقاب : بالبصر ، ويوازن الغارمين : باليد ، ويوازن المجاهدين : باللسان ، ويوازن ابن السبيل : الرجل ، فالفقر في الفرج واضح ، وكذلك المسكنة في الباطن ظاهر ، والعامل بالقلب صريح ، والمؤلفة قلوبهم بالسمع بيّن ، والرقاب بالبصر واقع ، والغارم باليد إفصاح ، والمجاهد باللسان صحيح ، وابن السبيل بالرجل أوضح من الكل.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧)

٢٦٤

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ـ الوجه الأول ـ النسيان : نعت إلهي فنسيهم كما يليق بجلاله. ـ الوجه الثاني ـ (نَسُوا اللهَ) : أي أخروا أمر الله فلم يعملوا به (فَنَسِيَهُمْ) فأخرهم الله في النار حين أخرج منها من أدخله فيها من غيرهم ـ الوجه الثالث ـ (فَنَسِيَهُمْ) أي أنه تعالى لما عذبهم عذاب الأبد ، ولم تنلهم رحمته تعالى صاروا كأنهم منسيون ، عنده ، وهو كأنه ناس لهم ، أي هذا فعل الناسي ، ومن لا يتذكر ما هم فيه من أليم العذاب ، وذلك لأنهم في حياتهم الدنيا نسوا الله ، فجازاهم بفعلهم ففعلهم أعاده عليهم للمناسبة. ـ الوجه الرابع ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) أي تركوا حق الله ، فترك الله الحق الذي يستحقونه ، فلم يؤاخذهم ولا آخذهم أخذ الأبد ، فغفر لهم ورحمهم ، وهذا يخالف ما فهمه علماء الرسوم ، لأن الناسي هنا إذا لم ينس إلا حق الله الذي أمره الله بإتيانه شرعا فقد نسي الله ، فإنه ما شرعه إلا الله فترك حق الله ، فأظهر الله كرمه فيه ، فترك حقه ولم يكن حق مثل هذا إلا ما يستحقه وهو العقاب ، فعفا عنه تركا بترك ، مقولا بلفظ النسيان ، فأفضل الله عليهم منة منه ابتداء ، ألا ترى الله يقول في تمام هذه الآية : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ولم يقل إنهم هم الفاسقون فقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ابتداء كلام آخر ما فيه ضمير يعود على هؤلاء المذكورين ، وكل منافق فاسق ، لأنه خارج من كل باب ، فيخرج للمؤمنين بصورة ما هم عليه ، ويخرج للكافرين بصورة ما هم عليه.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

قال تعالى فيمن يموت وهو كافر (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

٢٦٥

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢)

جنة عدن أشرف الجنان لأنها قصب الجنة ، والقصبة حيث تكون دار الملك ، وهي دار تورث من قصدها الإمداد والفتح في العلم الإلهي ، الذي يعطي المشاهدة ، فإن بها كثيب المسك الأبيض ، وهو موطن الزور الأعظم ، والرؤية العامة ، والكثيب أشرف مكان في جنة عدن التي خلقها الله تعالى بيده ، دون سائر الجنات ، وجعلها له كالقلعة للملك ، وجعل فيها الكثيب الأبيض من المسك ، التي يتجلى فيها الرب لعباده عند الرؤية ، كالمسك بفتح الميم من الحيوان وهو الجلد وهو الغشاء الظاهر للأبصار من الحيوان ، وأدار الحق تعالى بجنة عدن سائر الجنات ، وبين كل جنة وجنة سور يميزها عن صاحبتها ، وسمى كل جنة باسم معناه سار في كل جنة ، وإن اختصت هي بذلك الاسم فإن ذلك الاسم الذي اختصت به أمكن ما هي عليه من معناه وأفضله ، والجنات هي جنة عدن ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة السلام ، وجنة المقامة والوسيلة ، وهي أعلى جنة في الجنات ، فإنها في كل جنة من جنة عدن ، إلى آخر جنة فلها في كل جنة صورة ، وهي مخصوصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، نالها بدعاء أمته حكمة من الله ، حيث نال الناس السعادة ببركة بعثته ودعائه إياهم إلى الله ، وتبيينه ما نزّل الله إلى الناس من أحكامه جزاء وفاقا ، وجعل

٢٦٦

في كل جنة مائة درجة بعدد الأسماء الحسنى ، والاسم الأعظم المسكوت عنه لو ترية الأسماء ، وهو الاسم الذي يتميز به الحق عن العالم هو الناظر إلى درجة الوسيلة خاصة ، وله في كل جنة حكم ، كما له حكم اسم إلهي. ومنازل الجنة على عدد آي القرآن ، ما بلغ إلينا منه نلنا تلك المنزلة بالقراءة ، وما لم يبلغ إلينا نلناه بالاختصاص في جنات الاختصاص ، كما نلنا بالميراث جنات أهل النار الذين هم أهلها ، وأبواب الجنة ثمانية على عدد أعضاء التكليف ، وهي العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب ، وقد يقوم الإنسان في زمن واحد بأعمال هذه الأعضاء كلها ، فيدخل من أبواب الجنة الثمانية ، في حال دخوله من كل باب منها ، فإن نشأة الآخرة تشبه البرزخ ، وباطن الإنسان من حيث ما هو ذو خيال ، وأمّا خوخات الجنة فتسع وسبعون خوخة ، وهي شعب الإيمان بضع وسبعون شعبة ، ولكل شعبة من الإيمان ، طريق إلى الجنة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). راجع سورة ٧٥ آية ٢٣ حديث أبي بكر النقاش.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣)

وذلك لإظهار عزة الإيمان بعز المؤمن ، ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في غزوة وقد تراءى الجمعان : من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأخذه أبو دجانة ، فمشى به بين الصفين خيلاء ، مظهرا الإعجاب والتبختر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه مشية يبغضها الله ورسوله ، إلا في هذا الموطن ، وما أظهر صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلظة على أحد إلا عن أمر إلهي حين قيل له : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فأمر به لما لم يقتض طبعه ذلك ، وإن كان بشرا يغضب كما يغضب البشر ، ويرضى لنفسه ، فقد قدم ذلك دواء نافعا يكون في ذلك الغضب رحمة من حيث لا يشعر بها في حال الغضب ، فكان يدل بغضبه مثل دالته برضاه.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ

٢٦٧

يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

وهو قول ثعلبة بن حاطب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أخبر الله تعالى عنه أنه قال إن شاء الله ، فلو قال : إن شاء الله لفعل ، ثم ، قال تعالى في حقه :

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٧٦)

نزلت في حق ثعلبة لما فرض الله الزكاة جاءه مصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب منه زكاة غنمه ، فاشتد عليه ذلك بعد ما كان عاهد الله كما أخبر الله ، في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) الآية فلما رزقه الله مالا ، وفرض الله الصدقة عليه قال ما أخبر الله به عنه ، وقوله تعالى : (بَخِلُوا بِهِ) هي صفة النفس التي جبلت عليه ، فقال : هذه أخية الجزية وامتنع ولم يقبل حكم الله ، فأطلق عليهم صفة البخل لمنعهم ما أوجب الله عليهم في أموالهم ، وأخبر الله فيه بما قال.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧)

فلما بلغه ما أنزل الله فيه جاء بزكاته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فامتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذها منه ولم يقبل صدقته إلى أن مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسبب امتناعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبول صدقته أن الله أخبر عنه أنه يلقاه منافقا ، والصدقة إذا أخذها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طهره بها وزكاه ، وصلى عليه

٢٦٨

كما أمره الله وأخبر الله أن صلاته سكن للمتصدق ، يسكن إليها ، وهذه صفات تناقض النفاق وما يجده المنافق عند الله ، فلم يتمكن لهذه الشروط أن يأخذ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصدقة لما جاءه بها بعد قوله ، وامتنع أيضا بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أخذها منه أبو بكر وعمر ، لما جاء بها إليهما في زمان خلافتهما ، فلما ولي عثمان بن عفان الخلافة جاء بها فأخذها منه ، متأولا أنها حق الأصناف الذين أوجب الله لهم هذا القدر في عين هذا المال ، وهذا الفعل من عثمان من جملة ما انتقد عليه ، وينبغي أن لا ينتقد على المجتهد حكم ما أداه إليه اجتهاده ، فإن الشرع قد قرر حكم المجتهد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نهى أحدا من أمرائه أن يأخذ من هذا الشخص صدقته ، وقد ورد الأمر الإلهي بإيتاء الزكاة ، وحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثل هذا قد يفارق حكم غيره ، فإنه قد يختص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمور لا تكون لغيره لخصوص وصف ، إما تقتضيه النبوة مطلقا أو نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخذ الصدقة (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وما قال : «يتطهرون» ولا «يتزكون بها» فقد يكون هذا من خصوص وصفه ، وهو رؤف رحيم بأمته ، فلو لا ما علم أن أخذه يطهره ويزكيه بها وقد أخبره الله أن ثعلبة بن حاطب يلقاه منافقا ، فامتنع أدبا مع الله ، فمن شاء وقف لوقوفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأبي بكر وعمر ، ومن شاء لم يقف كعثمان لأمر الله بها العام ، وما يلزم غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطهر ويزكي مؤدي الزكاة بها ، والخليفة فيها إنما هو وكيل من عينت له هذه الزكاة أعني الأصناف الذين يستحقونها ، إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نهى أحدا ولا أمره فيما توقف فيه واجتنبه ، فساغ الاجتهاد وراعى كل مجتهد الدليل الذي أداه إليه اجتهاده ، فمن خطأ مجتهدا فما وفاه حقه ، وإن المخطىء والمصيب منهم واحد لا بعينه.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (٧٨)

اعلم أن العلم بالأمر لا يتضمن شهوده فدل أن نسبة رؤيتك الأشياء غير نسبة علمك بها ، فالنسبة العلمية تتعلق بالشهادة والغيب ، فكل مشهود معلوم ما شهد منه ، وما كل معلوم مشهود ، وما ورد في الشرع قط أن الله يشهد الغيوب ، وإنما ورد يعلم الغيوب ، ولهذا وصف نفسه بالرؤية فقال : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ووصف نفسه بالبصر وبالعلم ،

٢٦٩

ففرق بين النسب وميز بعضها عن بعض ليعلم ما بينها ، فالغيب أمر إضافي لما غاب عنا ، وما يلزم من شهود الشيء العلم بحده وحقيقته ، ويلزم من العلم بالشيء العلم بحده وحقيقته ، عدما كان أو وجودا ، والأشياء كلها مشهودة للحق في حال عدمها ، ولو لم تكن كذلك لما خصص بعضها بالإيجاد عن بعض ، فما هي معدومة لله الحق من حيث علمه بها.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠)

من رحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أرسل بها أنه قال عند نزول هذه الآية : لأزيدنّ على السبعين أو قال لو علمت أن الله يغفر لهم لزدت على السبعين.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ

٢٧٠

كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) (٨٦)

السورة بالسين هي المنزلة ، وسور القرآن منازله ، وكما أن لكل سورة آيات كذلك لكل منزلة.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨٨)

الخيرات : جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شيء ، والفضل يقتضي الزيادة.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩١)

٢٧١

هذه الآية نص على أن القتال فرض على الأصحاء الذي يجدون ما ينفقون ، فالصحة شرط من شروط الجهاد. ـ إشارة ـ من وقف مع إلحاق المتمني بالمتصدق الغني ، عرف الأمر ، فلم يطلب الكثر ، فالاستكثار من المال هو الداء العضال ، ويبلغ المتمني بتمنيه مبلغ صاحب المال فيما يفعل فيه من الخير من غير كد ولا نصب ولا سؤال ولا حساب ، وهم في الأجر على السواء مع ما يزيد عليه من أجر الفقر والحسرة ، وأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وتمنيه من عمله.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣)

الطبع النقش الذي يكون في الختم ، والختم هو القفل.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ

٢٧٢

مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠)

اختار الحق من الأحوال الرضى فإنه آخر ما يكون من الحق لأهل السعادة من البشرى ، فلا بشرى بعدها ، فإنها بشرى تصحب الأبد ، كما ورد في الخبر ، وهي بشرى بعد رجوع الناس من الرؤية ، بل هي من الله لهم في الكثيب عند الرؤية في الزور الأعظم ، وجناب الله أوسع من أن أرضى منه باليسير ، فإن متعلق الرضى اليسير ولكن أرضى عنه لا منه ، لأن الرضى منه يقطع همم الرجال ، فإن الله لا يعظم عليه شيء طلب منه ، فإن المطلوب منه لا يتناهى ، فليس له طرف نقف عنده ، فوسّع في طلب المزيد إن كنت من العلماء بالله ، وإذا كان اتساع الممكنات لا يقبل التناهي ، فما ظنك بالاتساع الإلهي فيما يجب له؟ فالرضى عنه لا منه ، لأن الرضى منه جهل به ، ونقص ، ويكون الرضى بقضاء الله ، لا بكل مقضي ، فإنه لا ينبغي الرضى بكل مقضي.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ

٢٧٣

عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢)

اعلم أن الشرط المصحح لقبول جميع الفرائض فرض الإيمان ، فما من مؤمن يرتكب معصية ظاهرة أو باطنة إلا وله فيها قربة إلى الله ، من حيث إيمانه بها بأنها معصية ، فلا يخلص لمؤمن عمل سيء دون أن يخالطه عمل صالح ، ولا تخلص له معصية غير مشوبة بطاعة أصلا ، وهي طاعة الإيمان بكونها معصية ، فيؤجر على الإيمان بها أنها معصية ، فهو في مخالفته طائع عاص ، قال تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) فهذا معنى المخالطة فالعمل الصالح هنا الإيمان بالعمل الآخر السيّىء أنه سيّىء. واعلم أنه من المحال أن يأتي مؤمن بمعصية توعد الله عليها فيفزع منها ، إلا ويجد في نفسه الندم على ما وقع منه ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الندم توبة ، وقد قام به الندم فهو تائب فسقط حكم الوعيد ، على عكس قول المعتزلي القائل بإنفاذ الوعيد فيمن مات عن غير توبة ، لحصول الندم فإنه لا بد للمؤمن أن يكره المخالفة ولا يرضى بها ، وهو في حال عمله إياها ، فهو من كونه كارها لها مؤمن بأنها معصية ذو عمل صالح ، وهو من كونه فاعلا لها ذو عمل سيّىء ، فغايته أن يكون من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فقال تعالى عقيب هذا القول : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وهو سبحانه يعلم ما يجريه في عباده ومع هذا جاء بلفظ الترجي ، وقال العلماء : إن عسى من الله واجبة فإنه لا مانع له والتوبة الرجوع فمعناه أن يرجع عليهم بالرحمة وبالمغفرة ، وتبديل السيئات والقبول ، فيغفر لهم تلك المعصية بالإيمان الذي خلطها به ، فإنه وقع الترجي للعبد من الله في القبول ، ويرزقهم الندم عليها ، والندم توبة ، فإذا ندموا حصلت توبة الله عليهم ، فالمؤمن هنا ذو عمل صالح من ثلاثة أوجه ، الإيمان بكونها معصية ، وكراهته لوقوعها منه ، والندم عليها ، وهو ذو عمل سيّىء من وجه واحد ، وهو ارتكابه إياها ، ومع هذا الندم فإن الرهبة تحكم عليه ، سواء كان عالما بما قلناه أو غير عالم ، فإنه يخاف وقوع مكروه آخر منه ، ولو مات على تلك الرهبة فإن الرهبة لا تفارقه ، وينتقل تعلقها من نفوذ الوعيد إلى العتاب الإلهي والتقرير عند السؤال على ما وقع منه. واعلم أن متعلق عسى هنا رجوعه عليهم بالرحمة ، لا رجوعهم إليه ، فإنه ما ذكر لهم توبة ، وما ذكر لهم قربة ، فما تاب هنا في هذه الآية عليهم ليتوبوا كما قال في موضع آخر : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ

٢٧٤

لِيَتُوبُوا) وإنما هو رجوع بالعفو والتجاوز ، فجاء هنا بحكم آخر ما فيه ذكر توبتهم ، بل فيه توبة الله تعالى عليهم فإنه تعالى تمم الآية بقوله : «إن الله غفور رحيم». فمن هذه الآية نعلم أن الإيمان أصل ، والعمل فرع لهذا الأصل بلا شك ، ولهذا لا يخلص للمؤمن معصية أصلا من غير أن يخالطها طاعة ، فالمخلط هو المؤمن العاصي ، فإن المؤمن إذا عصى في أمر ما ، فهو مؤمن بأن ذلك معصية ، والإيمان واجب فقد أدى واجبا ، فالمؤمن مأجور في عين عصيانه والإيمان أقوى.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

سمي المال مالا لأنه يميل بالنفوس إليه ، وإنما مالت النفوس إليه لما جعل الله عنده من قضاء الحاجات به ، وجبل الإنسان على الحاجة ، لأنه فقير بالذات ، فمال إليه بالطبع الذي لا ينفك عنه ، فقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي : المال الذي في أموالهم مما ليس لهم ، بل هو (صَدَقَةً) مني على من ذكرتهم في كتابي ، فأمر الله تعالى رسوله ونوابه أن يأخذوا من هذه الأموال مقدارا معلوما ، سماه زكاة ، يعود خيرها علينا ، وسميت صدقة أي ما يشتد عليهم في نفوسهم إعطاؤها ، لأن البخل والشح صفة النفوس التي جبلت عليه. ولما كان معنى الزكاة التطهير ، أي طهارة الأموال ، فإنها طهرت أربابها ، قال تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ) من صفة البخل (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي تكثر الخير لهم بها (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أمر الحق نبيه بالصلاة علينا جزاء ، كما أمرنا به تعالى من الصلاة على النبي في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ثم قال : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) فما أعجب القرآن لمن تدبر آياته وتذكر! فصلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكن للمتصدق يسكن إليها. ـ إشارة ـ (ما لَكَ) نفي من باب الإشارة واسم من باب الدلالة ، وأصليته من اسم المالية ـ تحقيق ـ راجع سورة الأحزاب آية ٥٦.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ

٢٧٥

وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

العبد إذا رجع إلى الحق بالتوبة ، رجع الحق إليه بالقبول ، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) وهو رجوعه على عباده بالقبول ، فإن الله لا يقبل المعاصي ويقبل التوبة والطاعات ، وهذا من رحمته بعباده ، فإنه لو قبل المعاصي لكانت عنده في حضرة المشاهدة ، كما هي الطاعات ، فلا يشهد الحق من عباده إلا ما قبله ، ولا يقبل إلا الطاعات ، فلا يرى من عباده إلا ما هو حسن محبوب عنده ، ويعرض عن السيئات فلا يقبلها (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) يأخذ الحق الصدقات بحكم الوكالة ، فيربيها ويثمرها ، فهو وكيل في حق قوم تبرعا من نفسه رحمة بهم ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل ـ الحديث ، لذلك قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) بقبوله التوبة والطاعة (الرَّحِيمُ) بعدم مؤاخذته على الذنب.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

لكل راء عين تليق به ، فيدرك من المرئي بحسب ما تعطيه قوة ذلك العين ، فثم عين تعطي الإحاطة بالمرئي ، وليس ذلك إلا الله وأما ما يراه الرسول والمؤمنون فليس إلا رؤية خاصة ، ليس فيها إحاطة. فيراه الرسول بحسب ما أرسل به ، وكذلك المؤمن يراه بقدر ما علم من هذا الرسول ، فليست عين المؤمن تبلغ في الرتبة إدراك عين الرسول ، فإن المجتهد مخطيء ومصيب ، والرسول حق كله ، فإن له التشريع ، وهو العين المطلوبة لطالب الدلالة ، فإذا قامت صورة العمل نشأة كاملة ـ كان العمل ما كان من المكلف ـ يراها الله من حيث أراها الرسول والمؤمنين ، ومن حيث لا يرونها ، ويرى المؤمنون ذلك العمل من حيث يرونها ، لا من حيث يراها الرسول ، ولكل موطن في القيامة يحكم به الله فيه (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) العالم عالمان ما ثم ثالث : عالم يدركه الحس ، وهو المعبر عنه

٢٧٦

بالشهادة ، وعالم لا يدركه الحس ، وهو المعبر عنه بعالم الغيب ، فإن كان مغيبا في وقت وظهر في وقت للحس فلا يسمى ذلك غيبا ، وإنما الغيب ما لا يمكن أن يدركه الحس ، لكن يعلم بالعقل ، إما بالدليل القاطع ، وإما بالخبر الصادق وهو إدراك الإيمان ، فالشهادة مدركها الحس ، وهو طريق إلى العلم ما هو عين العلم ، وذلك يختص بكل ما سوى الله ممن له إدراك حسي ، والعلم مدركه العلم عينه.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

المطهرون هم الذين طهروا غيرهم كما طهروا نفوسهم ، فتعدت طهارتهم إلى غيرهم ، فمن منع ذاته وذات غيره أن يقوم بها ما هو مذموم في حقها عند الله فقد عصمها وحفظها ووقاها وسترها عن قيام الصفات المذمومة شرعا بها ، فهو مطهر لها بما علمها من علم ما ينبغي ، لينفر عنه بنور العلم وحياته ظلمة الجهالة وموتها ، فهو محبوب عند الله مخصوص بعناية ولاية إلهية واستخلاف ، وكل إنسان وال على جوارحه فما فوق ذلك ، وقد أعلمه الله بما هي الطهارة التي يطهر بها رعاياه.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩)

٢٧٧

أفمن أسس بنيانه فقوى أركانه ، وأوثق قواعد بنيانه ، أمن من الهدم والسقوط ، والبيت بيت الإيمان وقد قام على خمسة ، سقف وأربعة جدر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. والساكن المؤمن ، وحشمه وخوله مكارم الأخلاق ونوافل الخيرات.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١)

لما علم الله من العباد أنه يكبر عليهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم ، لدعواهم أن أنفسهم وأموالهم لهم ، كما أثبتها الحق لهم ، والله لا يقول إلا حقا ، فقدم شراء الأموال والأنفس منهم ، حتى يرفع يدهم عنها ، فبقي المشتري يتصرف في سلعته كيف شاء ، والبائع وإن أحب سلعته فالعوض الذي أعطاه فيها وهو الثمن أحب إليه مما باعه ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) وبعد هذا الشراء أمر أن يجاهدوا بها في سبيل الله ، ليهون ذلك عليهم ، فهم يجاهدون بنفوس مستعارة أعني النفوس الحيوانية القائمة بالأجسام ، والأموال المستعارة. فهم كمن سافر على دابة معارة ، ومال غيره ، وقد رفع عنه الحرج مالكها عند ما أعاره ، إن نفقت الدابة ، وهلك المال ، فهو مستريح القلب ، فما بقي عليه مشقة نفسية إن كان مؤمنا ، إلا ما يقاسي هذا المركب الحيواني من المشقة ، من طول الشقة ، وتعب الطريق. وإن كان في قتال العدو فما ينال من الكر والفر والطعن بالأرماح والرشق بالسهام والضرب بالسيوف ، والإنسان مجبول على الشفقة الطبيعية ، فهو يشفق على مركوبه

٢٧٨

من حيث أنه حيوان ، لا من جهة مالكه ، فإن مالكه قد علم منه هذا المعار إليه (١) أنه يريد إتلافه ، فذلك محبوب له فلم يبق له عليه شفقة إلا الشفقة الطبيعية ، فالنفوس التي اشتراها الحق في هذه الآية إنما هي النفوس الحيوانية ، اشتراها من النفوس الناطقة المؤمنة المكلفة بالإيمان ، فنفوس المؤمنين الناطقة هي البائعة المالكة لهذه النفوس الحيوانية التي اشتراها الحق منها ، لأنها التي يحل بها القتل ، وليست هذه النفوس بمحل للإيمان ، وإنما الموصوف بالإيمان النفوس الناطقة ، ومنها اشترى الحق نفوس الأجسام فقال : (اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهي النفوس الناطقة الموصوفة بالإيمان (أَنْفُسَهُمْ) التي هي مراكبهم الحسية ، وهي الخارجة للقتال بهم والجهاد ، وهي التي تدعي الملك ، فبقي المؤمن لا نفس له كسائر الحيوان ، فلم يبق من يدعي ملكا ، فصار الملك لله الواحد القهار ، وزال الاشتراك ، فالمؤمن لا نفس له ، فلا دعوى له في الملك ، فكل مؤمن ادعى ملكا حقيقة فليس بمؤمن ، فإن المؤمن باع نفسه ، فما بقي له من يدعي ، لأن نفسه كانت صاحبة الدعوى ، لكونها على صورة من له الدعوى بالملك حقيقة ، وهو الله تعالى ، فاحفظ نفسك يا أخي من دعوى تسلب عنك الإيمان. فالمؤمن لا نفس له ، فليس له في الشفقة عليها إلا الشفقة الذاتية التي في النفس الناطقة على كل حيوان. (وَأَمْوالَهُمْ) فأفلسهم لأنه حال بينهم وبينها ، فلم يبق لهم ما يصلون به إلى المنعة ، ببقاء الحياة لبقاء الغذاء الحاصل بالمال. (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وهو الثمن فإن المؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة وهو قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) والبيع فيما ملك بيعه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وجعلها الثمن للحديث الوارد في الخصمين من الظالم والمظلوم ، إذا أصلح الله بين خلقه يوم القيامة ، فيأمر الله المظلوم أن يرفع رأسه ، فينظر إلى عليين فيرى ما يبهره حسنه ، فيقول : يا رب لأي نبي هذا لأي شهيد هذا؟ فيقول الله تعالى لمن أعطاني الثمن ، قال : ومن يملك ثمن هذا؟ قال : أنت بعفوك عن أخيك هذا فيقول : يا رب قد عفوت عنه ، فيقول : خذ بيد أخيك فادخل الجنة. ولما أورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الحديث تلا (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة. (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) وجه آخر في هذه المبايعة : وقع البيع بين الله وبين المؤمن

__________________

(١) في الأصل المعير والصواب المعار إليه.

٢٧٩

من كونه ذا نفس حيوانية ، فهي التي تدعي الملك ، وهي البائعة ، فباعت النفس الناطقة من الله وما كان لها مما لها به نعيم من مالها بعوض وهو الجنة ، فالبيع والشراء معاوضة ، والسوق المعترك ، فاستشهدت فأخذها المشتري إلى منزله وأبقى عليها حياتها حتى يقبض ثمنها الذي هو الجنة ، فلهذا قال في الشهداء : إنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين ببيعهم لما رأوا فيه من الربح ، حيث انتقلوا إلى الآخرة من غير موت ، فالإنسان المؤمن يتنعم من حيث نفسه الحيوانية ، بما تعطي الجنة من النعيم ، ويتنعم بما يرى مما صارت إليه من النعيم نفسه الناطقة ، التي باعها بمشاهدة سيدها ، فحصل للمؤمن النعيمان. فإن الذي باع كان محبوبا له ، وما باعه إلا ليصل إلى هذا الخير الذي وصل إليه ، وكانت له الحظوة عند الله حيث باعه هذه النفس الناطقة العاقلة. وسبب شراء الحق إياها أنها كانت له بحكم الأصل بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فطرأت الفتن والبلايا ، وادعى المؤمن فيها ، فتكرم الحق وتقدس ، ولم يجعل نفسه خصما لهذا المؤمن ، فتلطف له في أن يبيعها منه ، وأراه العوض ، ولا علم له بلذة المشاهدة ، لأنها ليست له ، فأجاب إلى البيع فاشتراها الله منه ، فلما حصلت بيد المشتري ، وحصل الثمن تصدق الحق بها عليه امتنانا ، لكونه حصل في منزل لا يقتضي له الدعوى فيما لا يملك وهو الآخرة. وقد مثل هذا الذي قلناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين اشترى من جابر بن عبد الله بعيره في السفر بثمن معلوم ، واشترط عليه البائع جابر بن عبد الله ظهره إلى المدينة ، فقبل الشرط المشتري ، فلما وصل المدينة ، وزن له الثمن ، فلما قبضه وحصل عنده وأراد الانصراف أعطاه بعيره والثمن جميعا ، فهذا بيع وشرط ، وهكذا فعل الله سواء ، اشترى من المؤمن نفسه بثمن معلوم وهو الجنة ، واشترط عليه ظهره إلى المدينة ، وهو خروجه إلى الجهاد ، فلما حصل هناك واستشهد ، قبضه الثمن ، ورد عليه نفسه ، ليكون المؤمن بجميعه متنعما ، بما تقبله النفس الناطقة من نعيم العلوم والمعارف ، وبما تعمله الحيوانية من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب وكل نعيم محسوس ، ففرحت بالمكانة والمكان والمنزلة والمنزل. ـ إشارة ـ إن من الرحمة التي تتضمنها سورة التوبة ومن التنزل الإلهي أن فيها شراء نفوس المؤمنين منهم ، بأن لهم الجنة ، وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده؟ وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا؟ (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) يعني الجنة (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) من الناس عبيد ، ومنهم أجراء ، ولأجل الإجارة نزلت الكتب

٢٨٠