رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وهذه حجب وقايات وجنن تقي الأجسام الحيوانية من البرد القوي والحر الشديد ، فيدفع بذلك الألم عن نفسه ، وكذلك الطوارق يدفع بها في الحرب المقاتل عن نفسه سهام الأعداء ورماحهم وسيوفهم ، فيتقي هذا وأمثاله بمجنه الحائل بينه وبين عدوه ، ويدفع بذلك عن نفسه الأذى من خوذة وترس ودرع.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨)

(زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) الزيادة في العذاب لما زادوا هنا من المرض في قلوبهم عند ورود الآيات الإلهية لإثبات الشرائع ، كما أن ذلك لطائفة مخصوصة وهم الأئمة المضلون ، يقول تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) وهم الذين أضلوا العباد وأدخلوا عليهم الشبه المضلة ، فحادوا بها عن سواء السبيل ، فضلوا وأضلوا ، وقالوا لهم : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا] فهؤلاء قيل فيهم (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) وما أنزلوا من النار إلا منازل استحقاق.

٥٠١

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهم الرسل ، وألحقنا الله تعالى بأنبيائه بأن جعلنا شهداء على أممهم معهم حين يبعثهم ، فقال تعالى (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) لما فيه من الفضل لمن أخذ له بالحق ، واعلم أن العدل ما ولي مدينة قط ولا مملكة إلا ظهرت فيها البركة ونمت الأرزاق وعمت الخيرات جميعها ، وهو موجود محبوب على ممر الدهور والأعصار ، وهو الميزان الموضوع في الأرض ، وبه يكون الفصل في العرض الأكبر بين العباد ، وهو الحاكم في ذلك اليوم ، وهو المأمور به شرعا ، وإن الملك جسد روحه العدل ، ومتى لم يكن العدل خرب الملك ، وكانت الحكماء تقول : عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان ، وقد أمر الله تبارك وتعالى عباده فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) وذم من لم يتصف به ولا جعله حاكما عليه فقال (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) ومن فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد انقطعت إحدى نعليه أن نزع الأخرى ومشى حافيا حتى يعدل في أقدامه ، فاجعل العدل حاكما على نفسك وأهلك ورجلك وخولك وعبيدك وأصحابك وجميع من توجه عليه حكمك ، وفي كلامك وفعلك ظاهرا وباطنا (وَالْإِحْسانِ) معطوف على العدل في الأمر به ، فيكون من ظهر فيه سلطان العدل وأخذ بجريمته أن يعطف عليه بالإحسان ، فينقضي أمد المؤاخذة ولا ينقضي أمد الإنعام والإحسان ، وقد يكون الإحسان ابتداء وجزاء للإحسان ، كما جاء في قوله تعالى (هَلْ جَزاءُ

٥٠٢

الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) والإحسان قبل المؤاخذة (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) ولم يجاز السيئة على السيئة فهو أولى (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فإقامة العدل إنما هو في حق الغير لا فيما يختص بالجناب الإلهي ، فما كان الله ليأمر بمكارم الأخلاق ولا يكون الجناب الإلهي موصوفا به ، فعدل فيما حكم به من الجزاء بالسوء ، وأحسن بعد الحكم ونفوذه بما آل إليه عباده من الرحمة ورفع الأمور الشاقة عليهم وهي الآلام ، فعمت رحمته كل شيء.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣)

فهو تعالى الذي يرزق الإصابة في النظر والذي يرزق الخطأ.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦)

ـ الوجه الأول ـ ما ينسب إلى العبد مآله إلى الفناء ، وما ينسب إلى الحق فمآله إلى

٥٠٣

البقاء والوجود ، وهو معنى قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) فوصف بالنفاد ما نسبه إلينا ، وما لفظة تدل على كل شيء ، كذا قاله سيبويه ، فكل ما نسب إلى المخلوق فإنه ينفد بالموت أو الشهادة ، وكل ما ينفد فقد فارق من كان عنده ، وهذا لا يوجد في الحق ، فإنه لا يفارقه شيء ، لأنه معنا وإليه تصير الأمور (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) فلا تعتمد عليه (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) فتعتمد على الله في بقائه ، والخطاب هنا لعين الجوهر ، والذي عند الجوهر من كل موجود إنما هو ما يوجده الله في محله من الصفات والأعراض والأكوان ، وهي في الزمان الثاني أو في الحال الثاني ـ كيف شئت قل ـ من زمان وجودها أو حال وجودها ، تنعدم من عندنا ، والله يجدد للجوهر الأمثال أو الأضداد دائما من خزائنه ، وهذا معنى قول المتكلمين إن العرض لا يبقى زمانين ، وهو قول صحيح ، خبر لا شهبة فيه ، لأنه الأمر المحقق الذي عليه نعت الممكنات ، ويتجدد ذلك على الجوهر ويبقى عينه دائما ما شاء الله ، وقد شاء أنه لا يفنى فلا بد من بقائه (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) فعند الله التوجه وهو قوله تعالى : (إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلا يكون عنه إلا الوجود وما يكون عنه عدم ، واعلم أن تحقيق عندية كل شيء راجعة إلى نفسه ، ولهذا قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) فإن حكمكم النفاد (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) فإن له البقاء ، فلو كانت عندية الشيء غير نفس الشيء ما نفد ما عندنا ، لأنا وما عندنا عند الله ، وما عند الله باق ، فنحن وما عندنا باق ، فتبين لك أن عندية كل شيء نفسه ـ الوجه الثاني ـ الكل عند الله فله البقاء في العدم كان أو الوجود ، وما نفد ما عندك إلا بأخذه منك ، وأنت عنده فما عندك عنده ، وما خرج شيء من عنده ، فالكل عنده ـ الوجه الثالث ـ «ما عندك ينفد» من العلم بالله ، فما عندنا منه في موطن ينفد في موطن آخر ، فإن الحكم للمواطن ، فإنها تحكم بنفسها في كل من ظهر فيها (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) من علمه بنفسه لا يتغير ولا يتبدل ولا يتنوع في نفسه بتنوع المواطن.

فنحن وما عندنا عنده

وليس الذي عنده عندنا

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧)

٥٠٤

العمل الصالح له الحياة الطيبة ، وهي تعجيل البشرى في الحياة الدنيا ، كما قال تعالى (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيحيى في باقي عمره حياة طيبة لما حصل له من العلم بما سبق له من سعادته في علم الله مما يؤول إليه في أبده ، فتهوّن عليه هذه البشرى ما يلقاه من المشقات والعوارض المؤلمة ، فإن وعد الله حق وكلامه صدق ، وقد خوطب بالقول الذي لا يبدل لديه ، ولا تكون الحياة طيبة إلا أن تكون مستصحبة ، وما ينالها إلا الصالحون من عباد الله ، وإن ظهر منهم ما توجبه الأمور المؤلمة في العادة وظهر عليهم آثار الآلام ، فالنفوس منهم في الحياة الطيبة ، لأن النفوس محلها العقل ليس الحس محلها ، فآلامهم حسية لا نفسية ، فالذي يراهم يحملهم في ذلك على حاله الذي يجده في نفسه لو قام به ذلك البلاء ، وهو في نفسه غير ذلك ، فالصورة صورة بلاء ، والمعنى معنى عافية وإنعام ، وكذلك للعمل الصالح التبديل ، فيبدل الله سيئاته حسنات ، حتى يود لو أنه أتى جميع الكبائر الواقعة في العالم ، وكذلك للعمل الصالح شكر الحق لأنه الغفور الشكور ، فسعيه مقبول وكلامه مسموع ، ولو لم يكن في العمل الصالح إلا إلحاق عامله بالصالحين وإطلاقه هذا الإسم عليه لكان كافيا ، فإنه مطلب الأنبياء عليهم‌السلام وهم أرفع طوائف عباد الله.

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨)

إذا قرأت القرآن فاجتمع عليه فإنه قرآن ، وإذا قرأته من كونه فرقانا فكن بحسب الآية التي أنت فيها في جميع قراءتك (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فإن القرآن جمع ، والجمعية تدعوه للحضور فهي معينة له ، بخلاف الفرقان ، فالقرآن يحضره والفرقان يطرده ، يقال يوم القيامة لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، فإن منزلك عند آخر آية تقرأ. فدرجات الجنة على هذا على عدد آي القرآن ، والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند افتتاح قراءة القرآن في الصلاة وفي غيرها فرض للأمر الإلهي الوارد في هذه الآية ، فأمر الله القارىء للقرآن أن يتعوذ ، وعلمه المكلّف وهو الله تعالى عند قراءة القرآن كيف يستعيذ وبمن يستعيذ وممن يستعيذ ، فقال له (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فأعطاه الاسم الجامع ، وذكر له القرآن ، وما خص آية من آية ، لذلك لم يخص اسما من اسم ، بل أتى بالاسم الله ، فالقارىء ينظر في حقيقة ما يقرأ ، وينظر فيما ينبغي أن يستعاذ

٥٠٥

منه في تلك الآية ، فيذكره في استعاذته وينظر فيما ينبغي أن يستعاذ به من أسماء الله ، أي اسم كان ، فيعيّنه بالذكر في استعاذته ، وللمصلي في صلاته بعد أن يفرغ من التوجه وقبل أن يشرع في القراءة أن يتعوذ وليقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهذا نص القرآن ، وقد ورد في السنة الصحيحة [أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم] ولما كان قارىء القرآن جليس الله من كون القرآن ذكرا ، والذاكر جليس الله ، ثم زاد أنه في الصلاة في حال مناجاة الله ، فهو أيضا في حال قرب على قرب ، كنور على نور ، كان الأولى أن يستعيذ هنا بالله ، وتكون استعاذته من الشيطان لأنه البعيد ، يقال : بئر شطون إذا كانت بعيدة القعر ، والبعد يقابل القرب ، فتكون استعاذته في حال قربه مما يبعده عن تلك الحالة ، فلم يكن أولى من اسم الشيطان ، ثم نعته بالرجيم ، وهو فعيل ، فأما بمعنى المفعول فيكون معناه من الشيطان المرجوم ، يعني بالشهب ، وهي الأنوار المحرقة ، والصلاة نور ، ورجمه الله بالأنوار ، فكانت الصلاة مما تعطي بعد الشيطان من العبد ، وإن كان بمعنى الفاعل فهو لما يرجم به قلب العبد من الخواطر المذمومة واللمات السيئة والوسوسة ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام يصلي من الليل وكبر تكبيرة الإحرام ، قال : [الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا والحمد لله كثيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا وسبحان الله بكرة وأصيلا وسبحان الله بكرة وأصيلا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه] قال ابن عباس : همزه ما يوسوسه في الصلاة ، ونفثه الشعر ، ونفخه الذي يلقيه من الشبه في الصلاة ، يعني السهو. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن سجود السهو ترغيم للشيطان ، فوجب على المصلي أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم بخالص من قلبه ، يطلب بذلك عصمة ربه ، ولما لم يعرف المصلي بما يأتيه الشيطان من الخواطر السيئة في صلاته والوسوسة لم يتمكن أن يعين له ما يدفعها به ، فجاء بالاسم الله الجامع لمعاني الأسماء ، إذ كان في قوة هذا الاسم حقيقة كل اسم دافع في مقابلة كل خاطر ينبغي أن يدفع.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ

٥٠٦

وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢)

روح القدس أي الطاهر عن تقييد البشر.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦)

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) أكره من الإكراه ، ومن حصول الكراهة في نفس العامل لذلك العمل الخارج عن ميزان الأدب المشروع (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وطمأنينته في هذه النازلة إنما هو بما له من الكراهة ، فإن الله حبب الإيمان للمؤمن وكره إليه الفسوق والعصيان مع وقوعه منه ، فغير المكره إذا كفر أخذ بكفره ، وأي شيء فعل جوزي بفعله ، بخلاف المجبور ، فإن الله أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرها مقهورا ، فإن شئت سترت دينك ونفسك ، وتظهر لهم فيما هم بسبيله بظاهرك إن جبروك على ذلك فاضطررت إليه ، واعتزل عنهم ما استطعت في بيتك لإقامة دينك من حيث لا يعلمون ، فقد كان بدء الإسلام على هذه الصورة من التكتم ، وقد ثبت حكم المكره في الشرع ، وعلم حدّ المكره الذي اتفق عليه والمكره الذي اختلف فيه ، وما بقي النظر إلا في معرفة المجبور المكره وما صفته ، فإن بعض العلماء لم يصح عنده الجبر والإكراه على الزنا فيؤاخذ به ، فإن الآلة لا تقوم إلا بسريان

٥٠٧

الشهوة وحكمها فيه ، وعندنا أنه مجبور في مثل هذا ، مكره على أن يريد الوقاع ، ولا يظهر حكم إرادته إلا بالوقوع ، ولا يكون الوقاع إلا بعد الانتشار ووجود الشهوة ، وحينئذ يعصم نفسه من المكره له على ذلك المتوعد له بالقتل إن لم يفعل ، فصح الإكراه في مثل هذا بالباطن ، بخلاف الكفر فإنه يقنع فيه بالظاهر وإن خالفه الباطن ، فالزاني يشتهي ويكره تلك الشهوة ، فإنه مؤمن ، ولو لا أن الشهوة إرادة بالتذاذ لقلنا إنه غير مريد لما اشتهاه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

فكل نفس مطلوبة من الحق في نفسها ، لا تجزى نفس عن نفس شيئا ، فإن الله ما كلف أحدا إلا بحاله ووسعه ، ما كلف أحدا بحال أحد ، وأقيم الكسب مقام العمل والعمل مقام الكسب ، فجاء في الآية (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي ما كسبت ، وفي آية (ما كَسَبَتْ) فسمي العمل كسبا.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢)

(يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وهذا غاية النعم من النعم (فَكَفَرَتْ) يعني

٥٠٨

الجماعة التي أنعم عليها المنعم بهذه النعم (بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) بإزالة الرزق (وَالْخَوْفِ) بإزالة الأمن (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) من ستر النعم وجحدها والأشر والبطر بها.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤)

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) طالب سبيل النجاة يتوجه عليه وجوبا تجنب الحرام ، والورع في الشبهات المظنونة ، وأما المحققة فواجب عليه تجنبها كالحرام على كل حال من الأحوال ، فإنه ما أتي أحد إلا من بطنه ، منه تقع الرغبة وقلة الورع في المكسب وتعدي حدود الله تعالى ، فالله الله يا بني التقليل من الغذاء الطيب ، فإن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعته بما كان ، والنفس لا تطلب منك إلا الطعام الطيب الحسن الطعم والمنظر ، ولا تبالي حراما كان ذلك أو حلالا ، فإن كانت النفس المغذية للجسم والناظرة في صونه خاض في الشبهات وتورط في المحرمات ، لأنها أمارة بالسوء مطمئنة بالهوى ، فهلكت وأهلكته في الدارين ، وإن كان العقل الشرعي المغذي له تقيد وأخذ الشيء من حلّه ووضعه في حقه ، وترك الشهوة في الطعام وإن كان حلالا رغبة فيما هو خير منه (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) إذا كان وقتك النعمة ودخل وقتها بوجودها عندك دعيت إلى شكر المنعم.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥)

تغير الأحوال يغير الأحكام ، فالشخص الواحد الذي لم يكن حاله الاضطرار أكل الميتة عليه حرام ، فإذا اضطر ذلك الشخص عينه فأكل الميتة له حلال ، فاختلف الحكم لاختلاف الحال والعين واحدة ، ثم قال تعالى في ذم من قال عن الله ما لم يقل.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ

٥٠٩

الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١١٦)

الذي يحرم بالعموم في الخطاب المشروع على واحد يعم جميع المكلفين من غير اختصاص ، حتى لو قال بتحليل ذلك في حق شخص يتوجه عليه به لسان الذم في الظاهر كان كافرا عند الجميع ، وكان كاذبا في دعواه ، ولا تصح المنكرات إلا بما لا يتطرق إليه الاحتمال ، والحرام النص مأمور باجتنابه ، لأنه ممنوع تناوله في حق من منع منه لا في عين الممنوع ، فإن ذلك الممنوع بعينه قد أبيح لغيره لكون ذلك الغير على صفة ليست فيمن منع منه ، أباحته له تلك الصفة بإباحة الشارع ، فلهذا قلنا : لا في عين الممنوع ، فإنه ما حرّم شيء لعينه جملة واحدة ، ولهذا قال تعالى (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فعلمنا أن الحكم بالمنع وغيره مبناه على حال المكلّف ، وفي مواضع على اسم الممنوع ، فإن تغير الاسم لتغير قام بالمحرم تغير الحكم على المكلّف في تناوله ، إما بجهة الإباحة أو الوجوب ، وكذلك إن تغير حال المكلّف الذي خوطب بالمنع من ذلك الشيء واجتنابه لأجل تلك الحال فإنه يرتفع عنه هذا الحكم ولا بد ، وإن كان الأمر على هذا الحد فما ثمّ عين محرمة لعينها.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠)

أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن العابد لله بما يعطيه نظره إذا لم يكن على شرع من الله معيّن أنه يحشر أمة وحده بغير إمام يتبعه ، فجعله خيرا وألحقه بالأخيار ، كما قال تعالى في إبراهيم عليه‌السلام (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) وذلك قبل أن يوحي إليه ، والأمة معلم الخير (قانِتاً لِلَّهِ) أي مطيعا لله في السر والعلانية ، ولا تكون الطاعة إلا عند المراسم الإلهية والأوامر الموقوفة على الخطاب (حَنِيفاً) مائلا في جميع أحواله من الله إلى الله عن مشاهدة وعيان ، ومن نفسه إلى الله عن

٥١٠

أمر الله وإيثارا لجناب الله ومن كل ما ينبغي أن يمال عنه عن أمر الله (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مطلق الشرك المعفو عنه والمذموم فيما نسب إليه من قوله في الكوكب هذا ربي ، فإن من مقام إبراهيم عليه‌السلام أنه أوتي الحجة على قومه بتوحيد الله.

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١)

(اجْتَباهُ) فهو مجتبى (وَهَداهُ) أي وفقه بما أبان له (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو صراط الرب الذي ورد في قول هود (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والشكر هو الثناء على الله بما يكون منه خاصة ، لصفة هو عليها من حيث ما هو مشكور ، ولا يصح الشكر إلا على النعم ، فالشاكرون من العباد هم الذين يشكرون الله على مسمى النعمة خاصة.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٢٢)

لما كان الصلاح من خصائص العبودية ، وذكر تعالى عن أنبيائه أنهم من الصالحين ، ذكر عن إبراهيم الخليل (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) من أجل الثلاثة الأمور التي صدرت منه في الدنيا ، وهي قوله عن زوجته سارة : إنها أخته ، بتأويل ، وقوله : إني سقيم ، اعتذارا ، وقوله : بل فعله كبيرهم ، إقامة حجة ، فبهذه الثلاثة يعتذر يوم القيامة للناس إذا سألوه أن يسأل ربه فتح باب الشفاعة ، فلهذا ذكر صلاحه في الآخرة إذ لم يؤاخذه بذلك.

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥)

٥١١

الحكمة إنزال الأمر منزلته ولا يتعدى به مرتبته ، وهي كلها أخلاق ، ولا تكون إلا لمن جعل القرآن إمامه ، فينظر إلى ما وصف الحق به نفسه ، وفي أي حالة وصف نفسه بذلك الذي وصف نفسه ، ومع من صرف ذلك الوصف الذي وصف به نفسه ، فليقم الداعي بهذا الوصف بتلك الحال مع ذلك الصنف ، فأنزل الله الميزان ، وبيّن المواطن والأحوال ، فلا تخرج شيئا عن مقتضى ما تطلبه الحكمة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) فهي الموعظة التي تكون عند المذكّر بها عن شهود ، فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فكيف بمن حقق أنه يراه؟ فإنه أعظم وأحسن ، ولا تكون الموعظة بصفة قهر ولا منفرة ، فإن جادلوك قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجدال الذي تطلبه الأسماء الإلهية ، وهو قوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كما ورد في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإذا جادل بالإحسان جادل كأنه يرى ربه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي هريرة : [إذا خلوت بيهودي أو نصراني أو مجوسي فلا يحل لك أن تفارقه حتى تدعوه إلى الإسلام ، يا أبا هريرة لا تجادل أحدا منهم فعسى ، أن يأتيك بشيء من التنزيل فتكذبه ، أو تجيء بشيء فيكذبك ، لا يكون من حديثك إلا أن تدعوه إلى الإسلام] وهو قول الله تعالى (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الدعاء إلى الإسلام ، هذه هي الصفة اللازمة التي ينبغي أن يكون الداعي إلى الله عليها ، ولا ينبغي لمسلم ممن ينتمي إلى الله أن يجادل إلا فيما هو فيه محق عن كشف لا عن فكر ونظر ، فإذا كان مشهودا له ما يجادل عنه ، حينئذ يتعيّن عليه الجدال فيه بالتي هي أحسن إذا كان مأمورا بأمر إلهي ، فإن لم يكن مأمورا فهو بالخيار ، فإن تعين له نفع الغير بذلك كان مندوبا إليه ، وإن يئس من قبول السامعين له فليسكت ولا يجادل ، فإن جادل فإنه ساع في هلاك السامعين عند الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بالقابلين التوفيق ، فإنهم على مزاج خاص أوجدهم عليه ، فمن لا علم له بالحقائق يقول : إن العبد إذا صدق فيما يبلغه عن الله في بيانه أثر ذلك في نفوس السامعين ، وليس كما زعموا ، فإنه لا أقرب إلى الله ومن الله ولا أصدق في التبليغ عن الله ولا أحب في القبول فيما جاء به من عند الله من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، ومع هذا فما عمّ القبول من السامعين ، بل قال الرسول الصادق في التبليغ [فلم يزدهم دعائي إلا فرارا] فلما لم يعم مع تحققنا هذه الهمة ، علمنا أن الهمة ما لها أثر جملة واحدة في المدعو ، والذي قبل من السامعين ما قبل من أثر

٥١٢

همة الداعي ـ الذي هو المبلغ ـ وإنما قبل من حيث ما وهبه الله في خلقه من مزاج يقتضي له قبول هذا وأمثاله ، وهذا المزاج الخاص لا يعلمه إلا الله الذي خلقهم عليه ، وهو قوله تعالى : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فلا تقل بعد هذا إذا حضرت مجلس مذكر داع إلى الله فلم تجد أثرا لكلامه فيك أن هذا من عدم صدق المذكر ، لا بل هو العيب منك من ذاتك ، حيث ما فطرك الله في ذلك الوقت على القبول ، فإن المنصف ينظر فيما جاء به هذا الداعي المذكر ، فإن كان حقا ولم يقبله فيعلم على القطع أن العيب من السامع لا من المذكر ، فإذا حضر في مجلس مذكر آخر وجاء بذلك الذكر عينه وأثر فيه ، فيقول السامع بجهله : صدق هذا المذكر ، فإن كلامه أثر في قلبي ، والعيب منك وأنت لا تدري ، فلتعلم أن ذلك التأثير لم يكن لقبولك الحق ، فإنه حق في المذكرين في نفس الأمر ، وإنما وقع التأثير فيك في هذا المجلس دون ذلك لنسبة بينك وبين هذا المذكر ، أو بينك وبين الزمان ، فأثر فيك هذا الذكر ، والأثر لم يكن للمذكر إذ قد كان الذكر ولا أثر له فيك ، وإنما أثرت المناسبة التي بيّنتها لك ، الزمانية أو النسبة التي بينك وبين المذكر ، وربما أثر لاعتقادك فيه ولم يكن لك اعتقاد في ذلك الآخر ، فما أثر فيك سواك أو ما أشبه ذلك ، وأقل فائدة في هذه المسئلة سلامة المذكر من تهمتك إياه بعدم الصدق في تذكيره ورده وردك الحق ، فإن السليم العقل يؤثر فيه الحق جاء على يد من جاء ، ولو جاء على لسان مشرك بالله ، عدو لله كاذب على الله ممقوت عند الله ، لكن الذي جاء هو به حق ، فيقبله العاقل من حيث ما هو حق لا من حيث المحل الذي ظهر به ، وبهذا يتميز طالب الحق من غيره.

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧)

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي اعلم أن صبرك ما كان إلا بالله ، ما كان من ذاتك ولا من حولك وقوتك.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)

٥١٣

ـ الوجه الأول ـ من جمع الإحسان والتقوى كان الله معه ، ومن أحسن إلى نفسه بأداء الزكاة كان متقيا أذى شح نفسه فهو من المتقين ، ومن المحسنين من يعبد الله كأنه يراه ويشهده ، ومن شهوده للحق علمه بأنه ما كلفه التصرف إلا فيما هو للحق وتعود منفعته على العبد ، منة وفضلا ، مع الثناء الحسن له على ذلك ، فإن عمل ما كلفه الله به لا يعود على الله من ذلك نفع ، وإن لم يعمل لا يتضرر بذلك ، والكل يعود على العبد ، فالزم الأحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك ـ الوجه الثاني ـ إن الله مع المحسنين كما هو مع المتقين ، والإحسان عيان وفي منزل كأنه عيان.

(١٧) سورة الإسراء مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

اعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا بعثه الله تعالى رسولا ما ظهرت عليه آية ظاهرة في العموم كما ظهرت على من تقدم ، فما ظهر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات المنقولة في العموم إنما كان ذلك من كونه رسولا ، رفقا من الله تعالى بهذه الأمة وإقامة حجة على من كذبه وكذب ما جاء به ، ألا ترى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أسري به إلى المقام الذي قد عرف وجاء به القرآن والخبر الصحيح ، فلما خرج إلى الناس بكرة تلك الليلة وذكر للأصحاب ما ذكر مما جرى له في إسرائه بينه وبين ربه تعالى ، أنكر عليه بعض أصحابه ، لكونهم ما رأوا لذلك أثرا في الظاهر ، بل زادهم حكما في التكليف ، وموسى عليه‌السلام لما جاء من عند ربه كساه الله نورا على وجهه يعرف به صدق ما ادعاه ، فما رآه أحد إلا عمي من شدة نوره ، فكان يتبرقع حتى لا يتأذى الناظر إلى وجهه عند رؤيته ، من ذلك نعلم الفرق بين الورثة المحمديين وورثة سائر الأنبياء ، فورثة الأنبياء يعرفون في العموم بما يظهر عليهم من خرق العوائد ، ووارث محمد

٥١٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجهول في العموم معلوم في الخصوص ، لأن خرق عادته إنما هو حال وعلم في قلبه ، فهو في كل نفس يزداد علما بربه ، علم حال وذوق ، لا يزال كذلك ، ولو لا ما طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعراج ما رحل ، ولا صعد إلى السماء ولا نزل ، وكان يأتيه شأن الملأ الأعلى وآيات ربه في موضعه ، كما زويت له الأرض وهو في مضجعه ، ولكنه سر إلهي لينكره من شاء ـ لأنه لا يعطيه الإنشاء ـ ويؤمن به من شاء ، فقال تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) فسبّح الحق نفسه ، وقرن سبحانه التسبيح بهذا السفر الذي هو الإسراء فقال (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وهو خبر ، ينفي بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن تحكم عليه خياله من أهل الشبه والتجسيم ، ما يتخيله في حق الحق من الجهة والحد والمكان ، فلهذا قال (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) فجعله مسافرا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعلم أن الأمر من عنده عزوجل هبة إلهية وعناية سبقت له مما لم يخطر بسره ولا اختلج في ضميره ، وقوله (بِعَبْدِهِ) يعني عبدا لم يكن فيه شيء من الربوبية التي يدعيها الخلق ، فوصفه بأشرف الحالات وهي العبودية المحضة ، فجعله عبدا محضا ، وجرده عن كل شيء حتى عن الإسراء ، فجعله يسرى به وما أضاف السرى إليه ، فإنه لو قال : سبحان الذي دعا عبده لأن يسري إليه أو إلى رؤية آياته فسرى ؛ لكان له أن يقول ، ولكن المقام منع من ذلك ، فجعله مجبورا لا حظ له من الربوبية في فعل من الأفعال ، فإن العبودية في غاية البعد من صفات الربوبية ، فاختار سبحانه لنبيه الشرف الكامل بأعلى ما يكون من صفات الخلق ، وليس إلا العبودية ، فإن الله إذا أكرم عبدا سافر به في عبوديته ، فما سماه إلا بأشرف أسمائه عنده ، لأنه ما تحسّن عبد بحسن أحسن ولا زينة أزين من حسن عبوديته ، ولأن الربوبية لا تخلع زينتها إلا على المتحققين بمقام العبودية (لَيْلاً) وجعل الإسراء ليلا ، تمكينا لاختصاصه بمقام المحبة ، لأنه اتخذه خليلا حبيبا ، وأكده بقوله (لَيْلاً) مع أن الإسراء لا يكون في اللسان إلا ليلا لا نهارا ، لرفع الإشكال حتى لا يتخيّل أنه أسرى بروحه ، ويزيل بذلك من خاطر من يعتقد من الناس أن الإسراء ربما يكون نهارا ، فإن القرآن وإن كان نزل بلسان العرب ، فإنه خاطب به الناس أجمعين ، أصحاب اللسان وغيرهم ، والليل أحب زمان المحبين لجمعهما فيه ، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل ، ولتكون رؤية الآيات بالأنوار الإلهية خارجة عن العادة عند العرب بما لم تكن تعرفها ، فإن البصر لا يدرك شيئا من المرئيات بنوره خاصة إلا الظلمة ، والنور الذي به يكشف الأشياء إذا

٥١٥

كان حيث لا تغلب قوة نور البصر ، فإذا غلب حكمه مع نور البصر حكم الظلمة لا يراه سواه ، إذ كان البصر لا يدرك في الظلمة الشديدة سوى الظلمة ، فالبصر يرى بالنور المعتدل النور وما يظهر له النور من الأشياء المدركة ، ولا فائدة عند السامع لو كان العروج به نهارا من رؤية الآيات فإنه معلوم له ، فلهذا كان ليلا ، وأتى أيضا بقوله (لَيْلاً) ليحقق أن الإسراء كان بجسده الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قوله (أَسْرى) يغني عن ذكر الليل ، قليلا في موضع الحال من عبده ، فالإسراء لا يكون إلا بالليل ، وكذا معارج الأنبياء لم تكن قط إلا بالليل ، لأنه محل الأسرار والكتم وعدم الكشف (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) سمي المسجد الأقصى لأنه أقصي من الأولية ، لأن البيت الذي هو الكعبة قد حاز الأولية ، وبين الأقصى وبينه أربعون سنة ، ولم يكن ظهوره للعبادة بعد المسجد الحرام ، إلا بعد أربعين سنة (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) اعلم أنه ما نقل الله عبدا من مكان إلى مكان ليراه ، بل ليريه من آياته التي غابت عنه ، فإن الله تعالى قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فهو تعالى معنا أينما كنا ، في حال نزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الباقي من الليل في حال كونه استوى على العرش ، في حال كونه في العماء ، في حال كونه في الأرض وفي السماء ، وفي حال كونه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد منه ، وهذه نعوت لا يمكن أن يوصف بها إلا هو ، فنقله عبده من مكان إلى مكان ليريه ما خص الله به ذلك المكان من الآيات الدالة عليه تعالى ، من حيث وصف خاص لا يعلم من الله تعالى إلا بتلك الآية ، فكأنما سبحانه وتعالى يقول ما أسريت به إلا لرؤية الآيات لا إليّ ، فإنه لا يحويني مكان ، ونسبة الأمكنة إليّ نسبة واحدة ، فأنا الذي وسعني قلب عبدي المؤمن ، فكيف أسري به إليّ وأنا عنده ومعه أينما كان؟ (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبر العباد بما رأيته ، تشوقهم إليّ وترغبهم فيّ ، وتكون رحمة لهم. فلما أراد الله تعالى أن يري النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آياته ما شاء ، أنزل إليه جبريل عليه‌السلام وهو الروح الأمين بدابة يقال لها البراق ، إثباتا للأسباب وتقوية له ، ليريه العلم بالأسباب ذوقا ، ليعلمنا بثبوت الأسباب التي وضعها في العالم ، والبراق دابة برزخية فإنه دون البغل الذي تولد من جنسين مختلفين وفوق الحمار الذي تولد من جنس واحد ، وهو مركب المعارج فإنه يجمع بين ذوات الأربع وذوات الجناح فهو علوي سفلي ، فركبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذه جبريل عليه‌السلام ، والبراق للرسل مثل فرس النوبة الذي يخرجه المرسل

٥١٦

إلى المرسل إليه بالرسول ليركبه تهمما به في الظاهر ، وفي الباطن أن لا يصل إليه إلا على ما يكون منه (١) لا على ما يكون من غيره ليتنبه بذلك ، فهو تشريف وتنبيه لمن لا يدري مواقع الأمور ، فهو تعريف في نفس الأمر ، فجاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيت المقدس ونزل عن البراق وربطه بالحلقة التي تربطه بها الأنبياء ، كل ذلك إثبات للأسباب ، فإنه ما من رسول إلا وقد أسري به راكبا على ذلك البراق ، وإنما ربطه مع علمه بأنه مأمور ولو أوقفه دون ربط بحلقة لوقف ، ولكن حكم العادة منعه من ذلك إبقاء لحكم العادة التي أجراها الله في مسمى الدابة ، وقد قلب البراق في الطريق بحافره القدح الذي كان يتوضأ به صاحبه في القافلة الآتية إلى مكة ، فلما صلى جاءه جبريل عليه‌السلام بالبراق فركب عليه ومعه جبريل ، فطار البراق به في الهواء فاخترق به الجو ، فعطش واحتاج إلى الشرب ، فأتاه جبريل عليه‌السلام بإنائين : إناء لبن وإناء خمر ـ وذلك قبل تحريم الخمر ـ فعرضهما عليه ، فتناول اللبن ، فقال جبريل عليه‌السلام : أصبت الفطرة أصاب الله بك أمتك ، فلما وصل إلى السماء الدنيا استفتح جبريل فقال له الحاجب : من هذا؟ فقال : جبريل ، قال : ومن معك؟ قال : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [فدخلنا فإذا بآدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن يمينه أشخاص بنيه السعداء أهل الجنة ، وعن يساره نسم بنيه الأشقياء عمرة النار] ورأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه في أشخاص السعداء الذين عن يمين آدم فشكر الله تعالى ، وعلم عند ذلك كيف يكون الإنسان في مكانين وهو عينه لا غيره ، فقال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، ثم عرج به البراق وهو محمول عليه في الفضاء الذي بين السماء الأولى والسماء الثانية أو سمك السموات ، فاستفتح جبريل السماء الثانية كما فعل في الأولى ، وقال وقيل له ، فلما دخل إذا بعيسى عليه‌السلام بجسده عينه ، فإنه لم يمت إلى الآن بل رفعه الله إلى هذه السماء وأسكنه بها ، فرحب به وسهل ، ثم جاء السماء الثالثة فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ، وإذا بيوسف عليه‌السلام فسلم عليه ورحب وسهل ، وجبريل في هذا كله يسمي له من يراه من هؤلاء الأشخاص ، ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ، فإذا بإدريس عليه‌السلام بجسمه فإنه ما مات إلى الآن بل رفعه الله مكانا عليا ، وهو هذه السماء قلب السموات وقطبها ، فسلم عليه ورحب وسهل ، ثم عرج به إلى السماء

__________________

(١) الوجه الأول : أن براقه عمله ، والوجه الثاني : على ما يكون منه أي أن هذا الانتقال من فضل الله ونعمته لا من غيره.

٥١٧

الخامسة ، فاستفتح وقال وقيل له ، فإذا بهارون ويحيى عليهما‌السلام ، فسلما عليه ورحبا به وسهلا ، ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ، وإذا بموسى عليه‌السلام فسلم عليه ورحب وسهل ، ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ، فإذا بإبراهيم الخليل عليه‌السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، فسلم عليه ورحب وسهل وسمى له البيت المعمور الضراح ، فنظر إليه وركع فيه ركعتين ، وأعلمنا أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد ويخرجون من الباب الآخر ، وأخبره أن أولئك الملائكة يخلقهم الله كل يوم من قطرات ماء الحياة التي تسقط من جبريل حين ينتفض كما ينتفض الطائر عند ما يخرج من انغماسه في نهر الحياة ، فإن له كل يوم غمسة فيه ، ثم عرج به إلى سدرة المنته ، فإذا نبقها كالقلال وورقها كآذان الفيلة ، فرآها وقد غشاها الله من النور ما غشى ، فلا يستطيع أحد أن ينعتها لأن البصر لا يدركها لنورها ، ورأى يخرج من أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران ونهران باطنان ، فأخبره جبريل أن النهرين الظاهرين النيل والفرات ، والنهرين الباطنين نهران يمشيان إلى الجنة ، وأن هذين النهرين النيل والفرات يرجعان يوم القيامة إلى الجنة ، وهما نهرا العسل واللبن ، ـ وفي الجنة أربعة أنهار نهر من ماء غير آسن ، ونهر من لبن لم يتغير طعمه ، ونهر من خمر لذة للشاربين ، ونهر من عسل مصفى ـ وأخبره أن أعمال بني آدم تنتهي إلى تلك السدرة ، وأنها مقر الأرواح ، فهي نهاية لما ينزل مما هو فوقها ونهاية لما يعرج إليها مما هو دونها ، وبها مقام جبريل عليه‌السلام وهناك منصته ، فنزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البراق بها وجيء إليه بالرفرف ـ وهو نظير المحفة عندنا ـ فقعد عليه وسلمه جبريل إلى الملك النازل بالرفرف ، فسأله الصحبة ليأنس به ، فقال : لا أقدر لو خطوت خطوة احترقت ، فما منا إلا له مقام معلوم ، وما أسرى الله بك يا محمد إلا ليريك من آياته ، فلا تغفل. فودعه وانصرف على الرفرف مع ذلك الملك يمشي به ، إلى أن ظهر لمستوى سمع منه صريف القلم ، والأقلام في الألواح بما يكتب الله بها مما يجريه في خلقه وما تنسخه الملائكة من أعمال عباده ، وكل قلم ملك ، قال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم زج في النور زجة فأفرده الملك الذي كان معه وتأخر عنه ، فاستوحش لما لم يره ، وبقي لا يدري ما يصنع ، وأخذه هيمان في ذلك النور ، وأصابه الوجد فأخذ يميل ذات اليمين وذات الشمال ، واستفزعه الحال وكان سببه سماع إيقاع تلك

٥١٨

الأقلام وصريفها في الألواح ، فأعطت من النغمات المستلذة ما أداه إلى ما ذكرناه من سريان الحال فيه وحكمه عليه ، فتقوى بذلك الحال ، وأعطاه الله في نفسه علما علم به ما لم يكن يعلمه قبل ذلك ، عن وحي من حيث لا يدري وجهته ، فطلب الإذن في الرؤية بالدخول على الحق ، فسمع صوتا يشبه صوت أبي بكر وهو يقول له : «يا محمد قف إن ربك يصلي» فراعه ذلك الخطاب وقال في نفسه : أربي يصلي؟!! فلما وقع في نفسه هذا التعجب من هذا الخطاب ، وأنس بصوت أبي بكر الصديق ، تلي عليه (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) فعلم عند ذلك ما هو المراد بصلاة الحق ، فلما فرغ من الصلاة وأوحى الله إليه في تلك الوقفة ما أوحى ، أمره بالدخول فدخل ، فرأى عين ما علم لا غير وما تغيرت عليه صورة اعتقاده ، ثم فرض عليه في جملة ما أوحى به إليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزل حتى وصل إلى موسى عليه‌السلام ، فسأله موسى عما قيل له وما فرض عليه ، فأجابه وقال إن الله فرض على أمتي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فقال له : يا محمد قد تقدمت إلى هذا الأمر قبلك وعرفته ذوقا وتعبت مع أمتي فيه ، وإني أنصحك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجع ربك وسله التخفيف ، فراجع ربه فترك له عشرا ، فأخبر موسى بما ترك له ربه ، فقال له موسى : راجع ربك ، فراجعه فترك له عشرا ، فأخبر موسى ، فقال له : راجع ربك ، فراجعه فترك له عشرا ، فأخبر موسى ، فقال له : راجع ربك ، فراجعه فترك له عشرا ، فأخبر موسى ، فقال له : راجع ربك ، فراجعه ، فقال له ربه : هي خمس وهي خمسون ، ما يبدل القول لدي. فأخبر موسى ، فقال : راجع ربك. فقال : إني أستحي من ربي وقد قال لي كذا وكذا ، ثم ودعه وانصرف ونزل إلى الأرض قبل طلوع الفجر ، فنزل بالحجر فطاف ومشى إلى بيته ، فلما أصبح ذكر ذلك للناس ، فالمؤمن به صدقه وغير المؤمن به كذبه والشاكّ ارتاب فيه ، ثم أخبرهم بحديث القافلة وبالشخص الذي كان يتوضأ ، وإذا بالقافلة قد وصلت كما قال ، فسألوا الشخص فأخبرهم بقلب القدح كما أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسأله من حضره من المكذبين ممن رأى بيت المقدس أن يصفه لهم ـ ولم يكن رأى منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا قدر ما مشى فيه وحيث صلى ـ فرفعه الله له حتى نظر إليه ، فأخذ ينعته الحاضرين ، فما أنكروا من نعته شيئا ، فكان قوله تعالى (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي ليريه ما أودع من الآيات والحقائق فيما أبدع من الخلائق ، فأراه الله من الآيات ما زاده علما بالله

٥١٩

إلى علمه ، لذا قرن به (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما خوطب به ولما يخبر به الحق من التعريفات (الْبَصِيرُ) لما شاهده من الآيات وتقلبات الأحوال في العالم كله آيات من أحكام الأسماء الإلهية ، فلو كان الإسراء بروحه وتكون رؤيا رآها كما يراه النائم في نومه ما أنكره أحد ولا نازعه ، وإنما أنكروا عليه كونه أعلمهم أن الإسراء كان بجسمه في هذه المواطن كلها ، وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة وثلاثون مرة ، الذي أسري به منها الإسراء واحد بجسمه ، والباقي بروحه رؤيا رآها ، وبهذا زاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجماعة بإسراء الجسم واختراق السموات والأفلاك حسا ، وقطع مسافات حقيقية محسوسة. واعلم أنه لما ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز أنه تعالى استوى على العرش ، على طريق التمدح والثناء على نفسه ، إذ كان العرش أعظم الأجسام ، فجعل لنبيه صلّى الله عليه وسلم من هذا الاستواء نسبة على طريق التمدح والثناء عليه به ، حيث كان أعلى مقام ينتهي إليه من أسري به من الرسل ، وذلك يدل أنه أسري به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجسمه ، ولو كان الإسراء به رؤيا لما كان الإسراء ولا الوصول إلى هذا المقام تمدحا ، ولا وقع من الأعراب في حقه إنكار على ذلك ، لأن الرؤيا يصل الإنسان فيها إلى مرتبة رؤية الله تعالى ، وهي أشرف الحالات ، وفي الرؤيا ما لها ذلك الموقع من النفوس ، إذ كل إنسان بل الحيوان له قوة الرؤيا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه على طريق التمدح لكونه جاء بحرف الغاية وهو (حتى) فذكر أنه أسري به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام ، وهو قوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فالضمير في (إِنَّهُ هُوَ) يعود على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أسري به فرأى الآيات وسمع صريف الأقلام ، فكان يرى الآيات ويسمع منها ما حظّه السماع وهو الصوت ، فإنه عبّر عنه بالصريف ، والصريف الصوت ، فدل أنه بقي له من الملكوت قوة ما لم يصل إليه بجسمه من حيث هو راء ولكن من حيث هو سميع ، فوصل إلى سماع أصوات الأقلام وهي تجري بما يحدث الله في العالم من الأحكام. واعلم أن قصة الإسراء وإن كانت مشتملة على الترقي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليست منافية إلى عموم إحاطة ربنا سبحانه بجميع الجهات وعدم اختصاصه ، ولا مستلزمة لإثبات الجهة ، ويدل عليه أمور : منها افتتاح السورة «بسبحان الذي» المقتضي للتنزيه تنبيها على تعاليه عن التحيز بالجهات وعلى عدم اختصاصه بجهة. الثاني : قوله (أَسْرى بِعَبْدِهِ) فأتى بهاء الإضافة المفيدة للمصاحبة في تعدية الفعل ، تنبيها على مصاحبته له في حالة إسرائه ، وأنه ليس نائيا ولا بعيدا عنه ، فيحتاج في

٥٢٠