رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

اعلم أن قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ) (وَلَوْ شاءَ اللهُ) يقتضي نفي العلم بكذا ، ونفي المشيئة عن الحق ، وما ورد الكلام إلا بنفي العلم بأمر ما والإرادة ، وما انتفى إلا التعلق الخاص بأمر يحدث ، فلا يتوجه النفي والإثبات إلا على حادث ، أي على ممكن ، سواء كان ذلك الحكم موصوفا بالوجود أو العدم ، فناب العلم هنا مناب التعلق حين نفيته بأداة لو (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) والوجود هو الخير ، فيتصفون بالوجود (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) إذ أوجدهم (لَتَوَلَّوْا) إلى ذواتهم (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأن استعدادهم لا يعطي القبول ، فلا تقل فيمن لم يجب إنه سمع ، فتخالف الله فيما أخبر به عنهم ، وقد أخبر الله تعالى أن بهم صمما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بما قلنا (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) فوحد الداعي بعد ذكر الاثنين ، فإن من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فإن الرسول داع بأمر الله ، فالله هو المجاب ، وما في القرآن دليل أدل على أن الإنسان الكامل مخلوق على الصورة الإلهية من هذه الآية ، لدخول اللام في قوله (وَلِلرَّسُولِ) وفي أمره تعالى لمن أيّه به من المؤمنين بالإجابة لدعوة الله تعالى ولدعوة الرسول ، فعلمنا أن الأمر واحد ، وما سمعنا متكلما إلا الرسول بالسماع الحسي ، وسمعنا كلام الحق بالسمع المعنوي ، فالله والرسول اسمان للمتكلم ، فإن الكلام لله كما قال الله ، والمتكلم المشهود عين لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِما يُحْيِيكُمْ) فإن الله ورسوله ما يدعونا إلا لما يحيينا به ، والداعي في الحالتين إيانا هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا دعانا بالقرآن كان مبلغا وترجمانا ، وكان الدعاء دعاء الله ، فلتكن إجابتنا لله والاستماع للرسول ، وإذا دعانا بغير القرآن كان الدعاء دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلتكن إجابتنا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فرق بين الدعاءين في إجابتنا وإن تميز كل دعاء عن الآخر بتميز الداعي ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في الحديث : [لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الخبر عني فيقول : اتل عليّ به قرآنا ، إنه والله لمثل القرآن أو أكثر] وقوله في الحديث : (أو أكثر)

٢٢١

فإن كلام الله سواء سمعناه من الله أو من الرسول هو كلام الله ، فإذا قال الله على لسان عبده ما يبلغه الرسول ـ فإنه لا ينطق عن الهوى ـ فإنه أكثر بلا شك ، لأنا ما سمعناه إلا من الرسول ، ولينظر المدعو فيما دعي به ، فإن وجد حياة علمية زائدة على ما عنده يحيا بها في نفس الدعاء ، وجبت الإجابة لمن دعاه الله أو دعاه الرسول ، فإنه ما أمر بالإجابة إلا إذا دعاه لما يحييه ، وما يدعوه الله ورسوله لشيء إلا لما يحييه ، فلو لم يدر طعم الحياة الغريبة الزائدة لم يدر من دعاه ، وليس المطلوب لنا إلا حصول ما يحيا به ، ولهذا سمعنا وأطعنا ، فلا بد من الإحساس لهذا المدعو بهذا الأثر الذي تتعين الإجابة له به ، فإذا أجاب من هذه صفته حصلت له فيما يسمعه حياة أخرى يحيا بها قلب هذا السامع ، فإن اقتضى ما سمعه منه عملا وعمل به ، كانت له حياة ثالثة ، فانظر ما يحرم العبد إذا لم يسمع دعاء الله ولا دعاء الرسول ، ففي الفرائض إجابة الله ، وفي السنن إجابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ـ تفسير من باب الإشارة ـ اقتصر علماء الرسوم على كلام الله المعين المسمى فرقانا وقرآنا وعلى الرسول المعين المسمى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعارفون عمموا السمع في كل كلام ، فسمعوا القرآن قرآنا لا فرقانا ، وعمموا الرسالة ، فالألف واللام التي في قوله : (وَلِلرَّسُولِ) عندهم للجنس والشمول ، لا للعهد ، فكل داع في العالم فهو رسول من الله باطنا ، ويفترقون في الظاهر ، فيسعد العارف بتلقي رسالة الشيطان ويعرف كيف يتلقاها ، ويشقى بها آخرون ، وهم القوم الذين ما لهم هذه المعرفة ، ويسعد المؤمنون كلهم والعارفون معهم بتلقي رسالة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ويكون العامل بما جاء في تلك الرسالة أسعد من المؤمن الذي يؤمن بها عقدا وقولا ويعصي فعلا وقولا ، فكل متحرك في العالم منتقل فهو رسول إلهي ، كان المتحرك ما كان ، فإنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه سبحانه ، فالعارف ينظر إلى ما جاءت به في تحركها ، فيستفيد بذلك علما لم يكن عنده ، ولكن يختلف الأخذ من العارفين من هؤلاء الرسل لاختلاف الرسل ، فليس أخذهم من الرسل أصحاب الدلالات سلام الله عليهم كأخذهم من الرسل الذين هم عن الإذن من حيث لا بشعرون ، ومن شعر منهم وعلم ما يدعو إليه كإبليس إذ قال لصاحبه : (اكفر) فيتلقاه منه العارف تلقيا إلهيا ، فينظر إلى ما أمره الحق به من الستر فيستره ، ويكون هذا الرسول الشيطان المطرود عن الله منبها عن الله ، فيسعد هذا العارف بما يستره وهو غير مقصود الشيطان الذي أوحى إليه ،

٢٢٢

فالعالم كله عند العارف رسول من الله إليه ، وهو ورسالته ـ أعني العالم ـ في حق هذا العارف رحمة ، لأن الرسل ما بعثوا إلا رحمة ، ولو بعثوا بالبلاء لكان في طيه رحمة إلهية ، لأن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء ، فما ثم شيء لا يكون في هذه الرحمة.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥)

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) بل تعم المحق والظالم ، وتختلف أحوالهم في القيامة ، فيحشر المحق سعيدا والظالم شقيا ، كالجيش الذي يخسف به بين مكة والمدينة ، وفيه من غصب على نفسه في المجيء ، فقالت عائشة في ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يحشرون على نياتهم وإن عمهم الخسف.

انظر إلى الأرض وخيراتها

وما بها الرحمن قد أظهرا

لا بد أن يصبح عمرانها

كمثل ما أصبح وادي القرى

عروشها خاوية حين لم

يغير الناس بها المنكرا

عم بلاء الله سكانها

فأهلك المقبل والمدبرا

بذا أتانا النص من عنده

في محكم الذكر كذا سطرا

فقال فيه واتقوا فتنة

وتمم القول به منظرا

سبحان من أخبرنا أنه

كان على الأخذ بنا أقدرا

هذا الذي جئت به واضح

في سورة الأنفال قد حررا

وهذه الفتنة العامة والعقوبة الشاملة والحدود المتداخلة من صفة قوله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فإن ظاهرها لا يقتضي العدل ، وباطنها يقتضي الفضل الإلهي ، ففي الآخرة لا تزر وازرة وزر أخرى ، وهنا ليس كذلك في عموم صورة العقوبة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وأي عقوبة أشد من عقوبة تعم المستحق وغير المستحق ، والظالم وغير الظالم ، والبريء والفاعل ، وهذا من شأن الحدود الدنيوية ، لأنها دار امتزاج ، وحدود الآخرة ليست

٢٢٣

كذلك ، فإنها دار تمييز ، فلا تصيب العقوبة إلا أهلها ، وأما في الدنيا فما هي في البريء عقوبة ، وإنما هي فتنة ، وفي الظالم عقوبة لأنها جاءت عقيب ظلمه ، فكن في كل حال ذاتية حميدة مع الله يرضاها الله منك ، وعلى عمل صالح ، ولا سيما إذا كثر الفساد في العامة ، فما تدري لعل الله يرسل عليهم عذابا فيعم الصالح والطالح ، فتكون ممن يحشر على عمل خير كما قبضت عليه ، فإن الأنبياء مع طاعتهم لله والحضور معه لا يأمنون أن يصيب الله عامة عباده بشيء فيعم الصالح والطالح ، ولذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يقول في دعائه : أعوذ بالله من أن أغتال من تحتي.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧)

ما أيّه الله في هذه الخيانات إلا بالمؤمنين ، فإن كنت مؤمنا فأنت المخاطب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ) وأما خيانة الله ، فاعلم أن الله قد أعطاك أمانة لتردها إليه ، كما أعطاك أمانة لتوصلها إلى غيرك لا تردها إليه ، كالرسالة ، فإن الله يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وقال : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) وأما ما يرد إليه عزوجل من الأمانات ، فهو كل علم آمنك عليه من العلوم التي إذا ظهرت بها في العموم ضلّ به من لا يسمعه منك بسمع الحق ، فإذا حصل لك مثل هذا العلم ورأيت من كان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، وليس له هذا العلم ، فأده إليه ، فإنه ما يسمعه منك إلا بسمع الحق ، فالحق على الحقيقة هو الذي سمع ، فرددت الأمانة إليه تعالى ، وهو الذي أعطاكها ، وحصلت لهذا الشخص الذي الحق سمعه فائدة لم يكن يعلمها ، ولكن حامل هذه الأمانة إن لم يكن عالما بأن هذا ممن يكون صفته أن يكون الحق سمعه ، وإلا فهو ممن خان الله ، وقد نهاه الله أن يخون الله ، وكذلك من خيانة الله التعدي في حد من حدود الله ، مع العلم بأنه متعد فيه ، فقد خان الله في تصرفه باعتقاده التعدي (وَمَنْ يَتَعَدَّ

٢٢٤

حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وكذلك من خان الله في أهل الله ، فقد خان الله ، وكل أمر بيدك أمرك الله فيه أن ترده إليه فلم تفعل فذلك من خيانة الله ، والله يقول : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) «والرسول» وأما خيانة من خان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي فيما أعطاك الله من الآداب أن تعامل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه المعاملة هي عين أدائها إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا لم تتأدب معه فما أديت أمانته إليه ، فقد خنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمنك الله عليه من ذلك ، ومن خيانتك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سألك فيه من المودة في قرابته وأهل بيته ، فإنه وأهل بيته على السواء في مودتنا فيهم ، فمن كره أهل بيته فقد كرهه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحد من أهل البيت ، ولا يتبعض حب أهل البيت ، فإن الحب ما تعلق إلا بالأهل لا بواحد بعينه ، فاجعل بالك واعرف قدر أهل البيت ، فمن خان أهل البيت فقد خان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن خان ما سنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد خانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنته ، ومن خيانتك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المفاضلة بين الأنبياء والرسل سلام الله عليهم ، مع علمنا بأن الله فضل بعضهم على بعض ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وقال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فله سبحانه أن يفضل بين عباده بما شاء وليس لنا ذلك ، فإنا لا نعلم ذلك إلا بإعلامه ، فإن ذلك راجع إلى ما في نفس الحق سبحانه منهم ، ولا يعلم أحد ما في نفس الحق ، ولا دخول هنا للمراتب الظاهرة والتحكم ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نفضل بين الأنبياء وأن نفضله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم إلا بإعلامه أيضا ، وعيّن يونس عليه‌السلام ، فمن فضل من غير إعلام الله فقد خان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعدى ما حده له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) وأما خيانة الأمانات فهي كل أمانة مشروعة ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم] والخيانة ظلم ، فالحكمة أمانة وخيانتها أن تعطيها غير أهلها وأنت تعلم أنه غير أهلها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فرفع الله الحرج عمن لا يعلم» إلا أنه أمره بأن يتعرض لتحصيل العلم بالأمور ، فلا عذر له في التخلف عن ذلك.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨)

الفتنة الاختبار ، يقال : فتنت الفضة بالنار إذا اختبرتها ، فيقول تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما

٢٢٥

أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي اختبرناكم بهما ، هل تحجبكم عنا وعما حددنا لكم أن تقفوا عنده؟ فهما اختبار لإقامة الحجة في صدق الدعوى أو كذبها ، يتمنى الشخص أن لو كان له مال لعمل به برا ، فيكتب الله له أجر من عمل ، فإن نيته خير من عمله ، ويكتب له على أوفى حظ ، وهو في ذمة الغير ليس بيده منه شيء ، فإذا حصل له ما تمناه من المال أو مما تمناه مما يتمكن له به الوصول إلى عمل ذلك البر ، وجب عليه أن يعمل ذلك البر الذي نواه ، فإن لم يفعل لم يكتب له أجر ما نواه ، وهنا الفتنة والاختبار ، ويتخيل من لا علم له بأن إضافة الأموال في قوله تعالى : (أَمْوالُكُمْ) إضافة ملك ، وما علم أن تلك الإضافة إضافة استحقاق ، كسرج الدابة وباب الدار ، لا إضافة ملك ، فإن الله تعالى قال : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فما هو لنا ، وجعل الله المال والولد فتنة يختبر بهما عباده لأن لهما بالقلب لصوقا ، وهما محبوبان طبعا ، ويتوصل بهما ولا سيما بالمال إلى ما لا يتوصل بغير المال من أمور الخير والشر ، فإن غلب على العبد الطبع لم يقف في التصرف بماله عند حد ، بل ينال به جميع أغراضه ، وما سمي المال مالا إلا لكون القلب مال إليه ، لما فيه من بلوغ العبد إذا كان صالحا إلى جميع الخيرات التي يجدها عند ربه في المنقلب ، وإذا لم يكن تام الصلاح فلما فيه من بلوغ أغراضه به ، وأما الولد فلما كان لأبويه عليه ولادة أحباه ، ومالا إليه ميل الفاعل إلى ما انفعل عنه ، وميل الصانع إلى مصنوعه ، فميله لحب الولد ميل ذاتي ، فإن كرهه فبأمر عارض لأخلاق ذميمة وصفات شريرة تقوم بالولد ، فبغضه عرضي وقدم المال على الولد في الذكر لأن المال محبوب للإنسان حب الولد (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) إذا رزأكم في شيء منهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ما أيّه الحق إلا بالمؤمن والناس والمؤتين ، ما أيّه بأصحاب العين (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) وهو العمل على تقليد ما جاء به الإيمان فينتج ذلك العمل العلم بالله ، فيفرق بين الحق والباطل عن بصيرة صحيحة لا تقليد فيها ، فالمتقي يتولى الله تعليمه ، فلا يدخل

٢٢٦

علمه شك ولا شبهة (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) يخاطب مؤمنا وإيمانا أي يفهمكم الله معاني القرآن ، فتعلموا مقاصد المتكلم به ، لأن فهم كلام المتكلم ما هو ، بأن يعلم وجوه ما تتضمنه تلك الكلمة بطريق الحصر مما تحوي عليه مما تواطأ عليه أهل اللسان ، وإنما الفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكلام ، هل قصد جميع الوجوه التي يتضمنها ذلك الكلام أو بعضها؟ فينبغي لك أن تفرق بين الفهم للكلام أو الفهم عن المتكلم وهو المطلوب ، فكل من فهم عن المتكلم فقد فهم الكلام ، وما كل من فهم الكلام فهم عن المتكلم ما أراد به على التعيين ، إما كل الوجوه أو بعضها ، وقوله تعالى : (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) هو علم الكشف ، وهو قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يكن يعلم] وهو علم مكتسب بالتقوى لا علم وهبي ، فإن التقوى جعلها الله طريقا إلى حصول هذا العلم ، والعلم الوهبي لا يحصل عن سبب بل من لدنه سبحانه ، فيجعل الله له فرقانا من العلوم الإلهية المغيبة عن أكثر الخلق ، فرقانا تفرقون به بين الله وبين الآلهة التي عبدها المشركون ، فرقانا تفرقون به بين ما أدركتموه من الله بالعلم الخبري وبالعلم النظري وبالعلم الحاصل عن التقوى» رقانا تميزون به ، ومن ذلك تفرقون بين ما ينبغي له وما ينبغي لكم ، فيعطى كل ذي حق حقه ، فالعلم بالله عن التقوى أعلى المراتب في الأخذ ، فإن له الحكم الأعم على كل حكم وعلى كل حاكم بكل حكم ، ومن ادعى التقوى ولم يحصل له هذا الفرقان فما صدق في دعواه. واعلم أيدك الله بروح القدس أن المتقي بمجرد تقواه قد حصل في الفرقان ، إذ لو لم يفرق ما اتقى ، وهذا الفرقان الذي أنتجته التقوى لا يكون إلا بتعليم الله ليس للنظر الفكري فيه طريق غيره ، فإنه ما تقدم لنبي قط قبل نبوته نظر عقلي في العلم بالله ، ولا ينبغي له ذلك ، وكذلك كل ولي مصطفى لا يتقدم له نظر عقلي في العلم بالله ، وكل من تقدمه من الأولياء علم بالله من جهة نظر فكري فهو وإن كان وليا فما هو مصطفى ولا هو ممن أورثه الله الكتاب الإلهي ، وسبب ذلك أن النظر يقيده في الله بأمر ما يميزه به عن سائر الأمور ، ولا يقدر على نسبة عموم الوجود لله ، فما عنده سوى تنزيه مجرد ، فإذا عقد عليه فكل ما أتاه من ربه مخالف عقده ، فإنه يرده ويقدح في الأدلة التي تعضد ما جاءه من عند ربه ، فمن اعتنى الله به عصمه قبل اصطفائه من علوم النظر ، واصطنعه لنفسه وحال بينه وبين طلب العلوم النظرية ، ورزقه الإيمان بالله

٢٢٧

وبما جاء من عند الله على لسان رسول الله ، هذا في هذه الأمة التي عمت دعوة رسولها ، وأما في النبوة الأولى ممن كان في فترة من الرسل ، فإنه يرزق ويحبب إليه الشغل بطلب الرزق أو بالصنائع العملية أو الاشتغال بالعلوم الرياضية من حساب وهندسة وهيئة وطب وشبه ذلك ، من كل علم لا يتعلق بالإله ، فإن كان مصطفى ويكون نبيا في زمان النبوة في علم الله ، فيأتيه الوحي وهو طاهر القلب من التقييد بإله محصور في إحاطة عقله ، وإن لم يكن نبيا وجاء رسول إلى أمة هو منها قبل ما جاءه به نبيه ، ذلك لسذاجة محله ، ثم عمل على إيمانه واتقى ربه رزقه الله عند ذلك فرقانا في قلبه وليس لغيره ذلك ، هكذا أجرى الله عادته في خلقه ، وإن سعد صاحب النظر العقلي فإنه لا يكون أبدا في مرتبة الساذج الذي لم يكن عنده علم بالله إلا من حيث إيمانه وتقواه ، وهذا هو وارث الأنبياء في هذه الصفة ، فهو معهم وفي درجتهم هذه ، وهذا الفرقان الذي تعطيه التقوى ، لا بد أن يكون فرقانا خاصا ، وليس سوى الفرقان الذي يكون في عين القرآن ، فإن القرآن يتضمن الفرقان بذاته ، وهذا الفرقان نتيجة العامل بالقرآن العظيم ، وتختلف نتائج القرآن باختلاف نعوته ، فالقرآن المطلق يعطي ما لا يعطيه القرآن المقيد ، وقد قيد الله قرآنه بالعظمة والمجد والكريم ، وإنما نسب الجعل إلى هذا الفرقان (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) لأن التقوى أنتجته ، فإما أن يكون جعله ظهوره لمن اتقاه مع كونه لم يزل موجود العين قبل ظهوره ، أو يكون جعله خلقه فيه بعد أن لم يكن ، وما هو إلا الظهور دون الخلق ، فإنه أعقبه بقوله : (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ) أي يستر ، والستر ضد الظهور ، فلا يخلو العبد في تقواه ربه ، أن يجعل نفسه وقاية له عن كل مذموم ، وينسب إليه ، أو يجعل ربه وقاية عن كل شدة لا يطيق حملها إلا به ، وهو لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيتلقى به شدائد الأمور ، ومن وجه آخر (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي يستر عنكم ما يسوءكم فلا ينالكم ألم من مشاهدته ، فإن رؤية السوء إذا رآه من يمكن أن يكون محلا له ـ وإن لم يحل به ـ فإنه تسوءه رؤيته ، وذلك لحكم الوهم الذي عنده والإمكان العقلي (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي ويستر من أجلكم ممن لكم به عناية في دعاء عام أو خاص معين ، فالدعاء الخاص ما تعين به شخصا بعينه أو نوعا بعينه ، والعام ما ترسله مطلقا على عباد الله ممن يمكن أن يحل بهم سوء (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بما أوجب على نفسه من الرحمة وبما امتن به منها على من استحق العذاب كالعصاة

٢٢٨

في الأصول والفروع.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢)

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ) أي الله نقصد ، وأصلها بالله أمّنا أي اقصدنا (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فما قالوا هذا القول إلا لعمى قلوبهم ، فإنهم يعلمون بأن ذلك ممكن ، ولكن لم يوفقهم الله أن يقولوا : تب علينا ، أو أسعدنا ، وما قالوه إلا مبالغة في التكذيب ، إذ لو احتمل عندهم صدق الرسول ما قالوا مثل هذا القول ، فإن النفوس جبلت على جلب المنافع لها ودفع المضار عنها.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤)

ما اتخذ الله وليا جاهلا ، والولاية من شرطها العلم وليس من شرطها الإيمان ، فإن الإيمان مستنده الخبر ، فالموحدون بأي وجه كان أولياء الله تعالى ، فإنهم حازوا أشرف المراتب ، فإنه يدخل تحت فلك الولاية كل موحد لله بأي طريق كان ، ومن كان حاله التقوى والاتقاء كيف يفرح أو يلتذ؟ من يتقي فإن تقواه وحذره وخوفه أن لا يوفي مقام التكليف حقه ، وعلمه بأنه مسئول عنه ، لا يتركه يفرح ولا يسر بعزة المقام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنا أتقاكم لله وأعلمكم بما أتقي] حين قالت له الصحابة في اجتهاده : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك

٢٢٩

وما تأخر ، فكانت أحوال الأنبياء والرسل في الدنيا البكاء والنوح ، فإنه موضع تتقى فتنته.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٧)

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وقد جعل الله العالم في الدنيا ممتزجا ، مزج القبضتين في العجنة ، ثم فصل الأشخاص منها ، فدخل من هذه في هذه ، من كل قبضة في أختها ، فجهلت الأحوال ، وغاية التخليص من هذه المزجة وتمييز القبضتين ، حتى تنفرد هذه بعالمها وهذه بعالمها كما قال تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فمن بقي فيه شيء من المزجة حتى مات عليها لم يحشر يوم القيامة من الآمنين ، ولكنه منهم من يخلص من المزجة في الحساب ، ومنهم من لا يتخلص منها إلا في جهنم ، فإذا تخلص أخرج ، فهؤلاء هم أهل الشفاعة ، وأما من تميز هنا في إحدى القبضتين انقلب إلى الدار الآخرة بحقيقته من قبره إلى نعيم أو إلى عذاب وجحيم ، فإنه قد تخلص.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨)

الكافر هنا المشرك ليس الموحد.

٢٣٠

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١)

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) لله الخمس من المغنم ، وما بقي وهو أربعة أخماس تقسم على خمسة ، وجعل الله لنفسه نصيبا لكونه نصر المجاهدين ، فله نصيب في الجهاد ، ولما كان السبب لكون الله جعل لنفسه في المغانم نصيبا لنصرته دين الله اندرج في نصيب الله كل من نصر دين الله وهم الغزاة ، فليس لهم إذا اعتبرت الآية إلا الخمس من المغنم ، ثم تبقى أربعة أخماس ، فتقسم مخمسة أيضا : واحد الخمسة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قوله تعالى : (وَلِلرَّسُولِ) وبعد الرسول إذا فقد لخليفة الزمان ، والخمس الثاني لأهل البيت قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قوله تعالى : (وَلِذِي الْقُرْبى) وليسوا إلا المؤمنين من القرابة ، فجاء بلفظ القربى دون لفظ القرابة ، فإن القرابة إذا لم يكن لهم قربى الإيمان لا حظ لهم في ذلك ، والخمس الثالث لليتامى وهو قوله تعالى : (وَالْيَتامى) اليتيم في تدبير وليه ، والولي الله ، لأنه ولي المؤمنين ، وغير اليتيم في تدبير أبيه ، فلا ينظر إليه مع وجود أبيه ، واليتيم قد علم أن أباه قد اندرج فانكسر قلبه ، ولم يكن له أصل يدل عليه ، فعرفه العلماء بالله أنه ليس له إلا من كان لأبيه وهو الله ، فيرجع إلى الله في أموره ، فلما كان اليتيم مع الله في نفسه بهذه المثابة ، جعل الله له حظا في المغنم ، وفي الحديث [أن من يمسح على رأس اليتيم كان له بكل شعرة حسنة] وليس ذلك لغير اليتيم ، والخمس الرابع للمساكين وهو قوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ) حكم المسكين حكم اليتيم من عدم الناصر ، والمسكين صاحب ضعفين : ضعف الأصل ، وضعف الفقر ، فلا يقدر يرفع رأسه لهذا الضعف ، بخلاف رب المال ،

٢٣١

فالمسكين من سكن تحت مجاري الأقدار ، ونظر إلى ما يأتي به حكم الله في الليل والنهار ، واطمأن بما أجرى الله به وعليه ، وعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، وأنه الفعال لما يريد ، وتحقق بأن قسمه من الله ما هو عليه في الحال ، فجعل الله له حظا في المغنم وإن لم يكن له فيه تعمل ، فخدمه غيره ، ونال هو الراحة بما أوصل الله إليه من ذلك مما جهد فيه الغير وتعب ، والخمس الخامس لابن السبيل ، وهو قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ) فهو المسافر ، والمسافر لا بد له من زاد ، فجعل الله له نصيبا من المغنم ، فالحق يغذيه بما ليس له فيه تعمل ، وقد يكون ابن السبيل في هذه الآية عين المجاهد ، ويكون السبيل من أجل الألف واللام اللتين للعهد والتعريف سبيل الله ، التي قال الله فيها : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعنى الشهداء الذين قتلوا في الجهاد ، فيكون أيضا حظ المجاهد من المغنم القدر الذي عيّن الله لابن السبيل ، وهو معروف سوى ما له في الصدقات ، فإن غلب على ظن الإمام أن المذكورين في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) الآية ، والتي في سورة الحشر التي فيها ذكر الأصناف ، حظهم من المغنم الخمس خاصة ، يقسم فيهم هكذا ، وما بقي فلبيت مال المسلمين يتصرف فيه الإمام بما يراه ، فإن شاء أعطاه المجاهدين على ما يريده من العدل والسواء في القسمة ، أو بالمفاضلة ، وإن غلب على ظن الإمام أن الخمس الأصلي لله وحده وما بقي فلمن سمى الله تعالى ، وقد جعل الله للمجاهدين في سبيل الله نصيبا في الصدقات وما جعل لهم في المغنم إلا ما نفله به الإمام قبل القسمة أو ما أعطاه بقوله : من قتل قتيلا فله سلبه ، وقد ورد عن بعض العلماء وأظنه ابن أبي ليلى أن الحظ الذي هو الخمس في الأصل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبضه ويخرجه للكعبة ويقول : هذا لله ، ثم يقسم ما بقي.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) يريد القريبة (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) يعني البعيدة ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي ما

٢٣٢

أنزل الله على عبده يوم الفرقان ، ففرق بما أعلمه الله بين القبضتين ، وهم أبناء الآخرة وأبناء الدنيا (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) إلى الله ، أي أبناء الآخرة بمحصل القربة والمكانة الزلفى إلى الله (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) عن الله أي أبناء الدنيا (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) فجعل السفل لهم إذ كانت كلمة الذين كفروا السفلى ، ومن كان أسفل منك فأنت أعلى منه ، لأنكم أهل الله الذين لهم السعادة ، إذ كانت كلمة الله هي العليا.

ألا إن أهل الله بالعدوة الدنيا

كما أن أهل الشرك بالعدوة القصوى

فإن الذي أقصاه يمتاز بالسفلى

وإن الذي أدناه قد فاز بالعليا

ألا تلحظن الركب أسفل منهم

فكل فريق من مكانته أدنى

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

إن الله إذا قلل الكثير وهو كثير في نفس الأمر ، أو كثر القليل وهو قليل في نفس الأمر ، فما تراه إلا بعين الخيال لا بعين الحس ، وهو البصر نفسه في الحالين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) وقال : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وما كانوا مثليهم في الحس ، فلو لم ترهم بعين الخيال لكان ما رأيت من العدد كذبا ، ولكان الذي يريه غير صادق فيما أراه إياك ، وإذا كان الذي أراك ذلك أراكه بعين الخيال كانت الكثرة في القليل حقا والقلة في الكثرة حقا ، لأنه حق في الخيال وليس بحق في الحس ، كما أراك اللبن في الخيال فشربته ولم يكن ذلك اللبن سوى عين العلم ، فما رأيته بعين الخيال في حال يقظتك وإن كنت لا تشعر بذلك ، فكذلك هو في نفس الأمر ، لأن الله صادق فيما يعلمه ، وهو في الخيال صدق كما رأيته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

٢٣٣

(٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

المنافق هو الذي أسلم تقية حتى يعصم ظاهره في الدنيا.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ

٢٣٤

(٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠)

ما اعتنى الله بشيء من آلة الحرب ما اعتنى بعلم الرمي بالقوس ، قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي] وهو الرمي بالقوس (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) لا تعرفونهم ، فالعلم هنا بمعنى المعرفة ، وإنما جاءت هنا بلفظة العلم حتى لا يكون لإطلاق المعرفة على الحق تعالى حكم في الظاهر ، فالعلم صفته والمعرفة ليست صفته ، وإن كان العلم والمعرفة والفقه كله بمعنى واحد ، لكن يعقل بينهما تميز في الدلالة كما تميزوا في اللفظ ، فيقال في الحق إنه عالم ، ولا يقال فيه عارف ولا فقيه ، وتقال هذه الثلاثة الألقاب في الإنسان ، وذكر النحاة أن العلم ينوب عن المعرفة في اللسان بالعمل ، فعدوا العلم إلى مفعول واحد للنيابة ، وذهلوا عما نعلمه نحن من أن المعرفة قد تكون من أسماء العلم ، لأن العلم هو الأصل ، فإنه صفة الحق ليست المعرفة صفته ، ولا له منها اسم عندنا في الشرع ، وإن جمعها والعلم حد واحد ، لكن المعرفة من أسماء العلم ، ومعنى أن العلم إنما هو موضوع للأحدية مثل المعرفة ، ولهذا سمينا العلم معرفة ، لأنا إذا قلنا علمت زيدا قائما ، فلم يكن مطلوبنا زيدا لنفسه ، ولا مطلوبنا القيام لعينه ، وإنما مطلوبنا نسبة قيام زيد ، وهو مطلوب واحد ، فإنها نسبة واحدة معينة ، وعلمنا زيدا وحده بالمعرفة ، والقيام وحده بالمعرفة ، فنقول : عرفت زيدا ، وعرفت

٢٣٥

القيام ، وهذا القدر غاب عن النحاة ، وتخيلوا أن تعلق العلم بنسبة القيام إلى زيد هو عين تعلقه بزيد والقيام ، وهذا غلط ، فإنه لو لم يكن زيد معلوما له والقيام أيضا معلوما له قبل ذلك ، لما صح أن ينسب ما لا يعلمه إلى ما لا يعلمه ، لأنه لا يدري هل تصح تلك النسبة أم لا؟.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١)

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) وهو الصلح (فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولهذا يتعين على السلطان أن يدعو عدوه الكافر إلى الإسلام قبل قتاله ، فإن أجاب وإلا دعاه إلى الجزية إن كان من أهل الكتاب ، فإن أجاب إلى الصلح بما شرط عليه قبل منه ، يقول الله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فيبقي على المسلمين إن كانت المنفعة للمسلمين في ذلك ، فإن أبوا إلا القتال قاتلهم وأمر المسلمين بقتالهم على أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣)

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) يريد عليك (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) يريد على مودتك وإجابتك وتصديقك ، فإنه تعالى لم يقل بين قلوبهم ولا بينها ، فالمراد أنه سبحانه ألف بين قلوب المؤمنين وبينه تعالى ، لأنهم ما اجتمعوا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالله ولله ، فبه تألفوا لتألف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، فكان هذا مما امتن الله به على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤)

٢٣٦

اعلم أن النبوة في حق ذات النبي أعم وأشرف من الرسالة ، فإنه يدخل فيها ما اختص به في نفسه وما أمر بتبليغه لأمته الذي هو منه رسول.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

قوة المؤمن تعدل من قوى الكفار كثيرين ، ولهذا شرع لهم أن لا يفروا في قتال عدوهم ، وشرع الله لبعض المؤمنين قوة واحد لعشرة ، ثم خفف عنهم مع إبقاء القوة عليهم ، فشرع لهم لكل قوة مؤمن رجلين من الكفار.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧)

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) يعني فداء أسارى بدر ، وأرسل تعالى الخطاب عاما في عرض الدنيا (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨)

فإسباغ النعم عليهم فضلا منه منة لحكم كتاب سبق ، وهذه الآية وأمثالها مثل قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ) رد على من يقول إن الإله لذاته أوجد الممكن لا لنسبة إرادة ولا سبق

٢٣٧

علم ، والصحيح ما قاله الشارع ، وإن لم تكن تلك النسبة أمرا وجوديا زائدا ، والسابقة عين الخاتمة ، وذلك في الحكم على المحكوم عليه ، وبالمحكوم عليه تبينت الخاتمة من السابقة ، فإن بينهما تميزا معقولا به يقال عن الواحدة سابقة وعن الأخرى خاتمة. ـ إشارة لغوية ـ أداة لو امتناع لامتناع ، فهي دليل عدم لعدم ، فإذا أدخلت عليها لا ، وهي أداة نفي ، عاد الأمر امتناعا لوجود ، وهذا من أعجب ما يسمع ، فإن الأولى أن يكون الحكم في الامتناع ، والعدم أبلغ ، لكون الداخل أداة نفي ، والنفي عدم ، فأعطى الوجود ، وأزال عن أداة لو وجها واحدا من أحكامها ، وهو قولهم لامتناع ، وما العجب في دخول هذه الأدوات على المحدثات ، وإنما العجب في دخولها في كلام الله ، ونفوذ حكمها ودلالتها في الله ، هذا هو العجب العجاب ، وقد ثبتت نسبة الكلام إلى الله ، وقد ثبت أن الذي سمعناه في تركيب هذه الحروف هذا التركيب الخاص والنسبة الخاصة أنه كلام الله ، فقد حصل فيه هذه الأدوات ، فجرى عليه حكمها ، فهل ذلك من جهتنا أو ما هو الأمر إلا كذلك؟ ـ تحقيق ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الكتاب الذي سبق هو أنت ، فإن للأعيان الثابتة في حال عدمها أحكاما ثابتة ، مهما ظهر عين تلك العين في الوجود تبعه الحكم في الظهور ، وعلى هذا تعلق علم الحق به ، فالشيء حكم على نفسه ، أعني المعلوم ما حكم غيره عليه ، وإنما يظهر لك ما بطن فيك عنك.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

مما اختص به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أحلت له الغنائم ولم تحل لأحد قبله ، فأعطي ما يوافق شهوة أمته ، والشهوة نار في باطن الإنسان تطلب مشتهاها ، ولا سيما في الغنائم ، لأن النفوس لها التذاذ بها ، لكونها حصلت لهم عن قهر منهم وغلبة وتعمل ، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوا من الشدة والتعب في تحصيلها ، فهي أعظم مشته لهم ، وقد كانت الغنائم في حق غيره من الأنبياء إذا انصرف من قتال العدو جمع المغانم كلها ، فإذا لم يبق منها شيء نزلت نار من الجو فأحرقتها كلها ، فإن وقع فيها غلول لم تنزل تلك النار حتى يرد ويلقى فيها ذلك الذي أخذ منها ، فكان نزول النار علامة على القبول الإلهي لفعلهم ،

٢٣٨

فأحلها الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمها في أصحابه ، فتناولتها نار شهواتهم عناية من الله بهم لكرامة هذا الرسول عليه ، فأكرمه بأمر لم يكرم به غيره من الرسل ، وأكرم من آمن به بما لم يكرم به مؤمنا قبله بغيره.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

الاسم الحكيم له وجه إلى العالم ووجه إلى المدبر ، فإن للاسم الحكيم حكمين : حكما على مواضع الأمور ، وحكم وضعها في مواضعها بالفعل ، فكم من عالم لا يضع الشيء في موضعه ، وكم واضع للأشياء في مواضعها بحكم الاتفاق لا عن علم ، فالحكيم هو العالم بمواضع الأمور ووضعها في أماكنها.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

المجاهدون هم أهل الجهد والمشقة والمكابدة ، والمجاهدة مشقة وتعب ، وبها سمي الجهاد جهادا ، لأن إتلاف المهج أعظم المشاق على النفوس ، وهو الجهاد في سبيل الله الذي وصف الله قتلاه بأنهم أحياء يرزقون.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ

٢٣٩

تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قال تعالى في اليهود والنصارى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي ينصر بعضهم بعضا ، وذلك من أثر الرحمة التي خلقها الله ، فجعل منها في الدنيا رحمة واحدة بها رزق عباده ، كافرهم ومؤمنهم ، وعاصيهم ومطيعهم ، وبها يعطف جميع الحيوان على أولاده ، وبها يرحم الناس بعضهم بعضا. ويتعاطفون ، كما قال الله : إن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، والظالمين بعضهم أولياء بعض ، والمنافقين بعضهم أولياء بعض ، كل هذا ثمرة هذه الرحمة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) فأمر بصلة الأرحام ـ من باب الإشارة ـ أمر سبحانه بصلة الأرحام ، وهو تعالى أولى بهذه الصفة منا ، فلا بد أن يكون للرحم وصولا ، فإنها شجنة من الرحمن ، وقد وصلنا الله بلا شك من حيث أنه رحم لنا ، فهو الرزاق ذو القوة المتين ، المنعم على أي حالة كنا ، من طاعة أمره أو معصيته ، وموافقة أو مخالفة ، فإنه لا يقطع صلة الرحم من جانبه وإن انقطعت عنه من جانبنا لجهلنا ، فأينما كان الخلق فالحق يصحبه من حيث اسمه الرحمن ، لأن الرحم شجنة من الرحمن ، وجميع الناس رحم ، والقرابة قرابتان : قرابة الدين وقرابة الطين ، فمن جمع بين القرابتين فهو أولى بالصلة ، وإن انفرد أحدهما بالدين والآخر بالطين فتقدم قرابة الدين على قرابة الطين ، وأفضل الصلات في الأرحام صلة الأقرب فالأقرب ، وتنقطع الأرحام بالموت ولا ينقطع الرحم المنسوبة إلى الحق ، فإنه معنا حيثما كنا.

٢٤٠