رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

بحكم التبعية لمعانيها الدالة عليها ، فلا اعتبار لها من حيث ذاتها ، فإنها ليست بزائدة على حروف مركبة ونظم خاص يسمى اصطلاحا. واعلم أن أسماء الله منها معارف كالأسماء المعروفة وهي الظواهر ، ومنها مضمرات مثل كاف الخطاب ، وتائه ، وتاء المتكلم ، ويائه ، وضمير الغائب ، وضمير التثنية من ذلك ، وضمير الجمع مثل نحن نزلنا ، ونون الضمير في الجمع مثل إنا نحن ، وكلمة أنا ، وأنت ، وهو ، ومنها أسماء تدل عليها الأفعال ولم يبن منها أسماء مثل سخر الله منهم ، ومثل الله يستهزىء بهم ، ومنها أسماء النيابة هي لله ، ولكن نابوا عن الله منابه ، مثل قوله : «سرابيل تقيكم الحر» وكل فعل منسوب إلى كون ما من الممكنات إنما ذلك المسمى نائب فيه عن الله ، لأن الأفعال كلها لله ، سواء تعلق بذلك الفعل ذم أو حمد ، فلا حكم لذلك التعلق بالتأثير فيما يعطيه العلم الصحيح ، فكل ما ينسب إلى المخلوق من الأفعال فهو فيه نائب عن الله ، فإن وقع محمودا نسب إلى الله لأجل المدح ، فإن الله يحب أن يمدح ، كذا ورد في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإن تعلق به ذم لم ننسبه إلى الله ، أو لحق به عيب. مثل المحمود قول الخليل عليه‌السلام : فهو يشفين ، وقال في المرض : إذا مرضت ، ولم يقل : أمرضني ، وما أمرضه إلا الله فمرض ، كما أنه شفاه ، فإذا كنى الحق عن نفسه بضمير الجمع فلأسمائه لما في ذلك المذكور من حكم أسماء متعددة ، وإذا ثنّى فلذاته ونسبة اسم خاص ، وإذا أفرد فلاسم خاص أو ذات وهي المسمى ، وإذا كنى بتنزيه فليس إلا الذات ، وإذا كنى بفعل فليس إلا الاسم على ما قررناه. وانحصر فيما ذكرناه جميع أسماء الله لا بطريق التعيين ، فإنه فيها ما ينبغي أن يعين ، وما ينبغي أن لا يعين ، وقد جاء من المعين مثل الفالق والجاعل ، ولم يجىء المستهزىء والساخر ، وهو الذي يستهزىء بمن شاء من عباده ، ويكيد ويسخر ممن شاء من عباده حيث ذكره ، ولا يسمى بشيء من ذلك ، ولا بأسماء النواب ، ونوابه لا يأخذهم حصر ، فلله الأسماء ما له الصفات ، فهو المعروف بالاسم لا بالصفة ، ولذلك ما ورد بالصفة كتاب ولا سنة ، وورد قرآنا (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) وورد (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) فتنزه عن الصفة لا عن الاسم ، فانظر حكمة الله في كونه لم يجعل له صفة في كتبه ، بل نزه نفسه عن الوصف فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فجعلها أسماء وما جعلها نعوتا ولا صفات ، وقال : «فادعوه بها» وبها كان الثناء ، والاسم ما يعطي الثناء ، وإنما يعطيه النعت والصفة ، وما شعر أكثر

٢٠١

الناس لكون الحق ما ذكر له نعتا في خلقه ، وإنما جعل ذلك أسماء كأسماء الاعلام التي ما جاءت للثناء ، وإنما جاءت للدلالة ، وتلك الأسماء الإلهية الحسنى هي لنا نعوت يثنى علينا بها ، وأثنينا علينا بها ، وأثنى الله على نفسه بها ، لأن نزول الشرائع في العالم من الله إنما تنزل بحكم ما تواطأ عليه أهل ذلك اللسان ، سواء صادف أهل ذلك اللسان الحق في ذلك أو لا ، وقد تواطأ الناس على أن هذه الأسماء التي سمى الحق بها نفسه مما يثنى بها في المحدثات إذا قامت بمن تقوم به نعتا أو صفة ، فأثنى الله على نفسه بها ، ونبه على أنها أسماء لا نعوت ، ليفهم السامع الفهم الفطن أن ذلك من حكم التواطؤ ، لا حكم الأمر في نفسه كما دل دليل الشرع بليس كمثله شيء من جميع الوجوه ، فلا يقبل الأينية. فالثناء على الله بصفات الإثبات التي جعلها أسماء ، وجعلها الخلق نعوتا ، كما هي لهم نعوت إذا وقع هذا الثناء من العبد صورة لا يكون روح تلك الصورة تسبيحا بليس كمثله شيء كان جهلا بما يستحقه المثنى عليه ، فإنه أدخله تحت الحد والحصر ، بخلاف كون ذلك أسماء لا نعوتا ، فياولي لا يفارق التسبيح ثناؤك على الله جملة واحدة ، فإنك إن كنت بهذه المثابة نفخت روحا في صورة ثنائك التي أنشأتها (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وإن كان له جميع الأسماء التي يفتقر كل فقير إلى مسماها ، ولا فقر إلا إلى الله ، ومع هذا فلا يطلق عليه من الأسماء إلا ما يعطي الحسن عرفا وشرعا ، وكذلك نعت أسماءه بالحسنى والحق هو الذي نصبه الشرع للعباد ، وبما سمى به نفسه نسميه ، وبما وصف به ذاته نصفه ، لا نزيد على ما أوصل إلينا ولا نخترع له اسما من عندنا ، وقال لنا : (فَادْعُوهُ بِها) فإذا دعوته باسم منها تجلى مجيبا لك في عين ذلك الاسم ، فإن الاسم الله وإن كان جامعا للنقيضين ، فهو وإن ظهر في اللفظ فليس المقصود إلا اسما خاصا منه ، تطلبه قرينة الحال ، فإذا قال طالب الرزق المحتاج إليه : يا الله ارزقني ، والله هو المانع أيضا ، فما يطلب بحاله إلا الاسم الرزاق ، فما قال بالمعنى إلا يا رزاق ارزقني ، فمن أراد الإجابة من الله فلا يسأله إلا بالاسم الخاص بذلك الأمر ، ولا يسأل باسم يتضمن ما يريده وغيره ، ولا يسأل بالاسم من حيث دلالته على ذات المسمى ، ولكن يسأل من حيث المعنى الذي هو عليه ، الذي لأجله جاء ، وتميز به عن غيره من الأسماء تميز معنى لا تميز لفظ (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي يميلون في أسمائه إلى ما ليس بحسن ، وإن كان في المعنى من أسمائه ، لكن منع أن يطلق عليه لما ناط به عرفا أو شرعا

٢٠٢

بأنه ليس بحسن ـ الوجه الثاني ـ هم يميلون عن أسمائه ، لا بل يميلون في أسمائه إلى غير الوجه الذي قصد بها ، ثم قال : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من ذلك ، فكل يجزى بما مال إليه ـ إشارة ـ من حكمة الله في وحدانيته سبحانه أن جعل له أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ، فننتقل من اسم إلى اسم ، لتتنوع علينا الأدعية والأذكار ، مع أحدية المدعو والمذكور ، كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ، فسبحان اللطيف بعباده ، وهذا من خفايا ألطافه التي لا يعرفها إلا القليل من عباده.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٢)

ما سمى الله المكر استدراجا إلا لتنقله في المراتب من درج إلى درج ، فإنه بانتقاله يعمّ المقامات والمراتب ، وهو بين محمود ومذموم ، ولو لا ذلك ما وصف الله نفسه بالمكر والاستدراج ، وأخفى الله الاستدراج فيمن أشقاه الله ، فهم كما قال تعالى فيهم : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣)

وهي تحف الله مع المخالفات ، فهو مكر واستدراج من حيث لا يعلم.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤)

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي أنه يوصل إلى معرفة الرسول بالدليل ، وبهذه الآية يستدل على أنه لا بد من أن ينصب الله تعالى على يد هذا الرسول دليلا يصدقه في دعواه ، ولو لم يكن كذلك ما صدق قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) ولا تكون الفكرة إلا في دليل على صدقه أنه رسول من عند الله.

٢٠٣

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) يعني يتفكروا ، فإنه سبحانه لما أراد النظر الذي هو الفكر ، قرنه بحرف في ، ولم يصحبه لفظ كيف ، فهو أمر بالنظر العقلي (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيعلموا أنها لم تقم بأنفسها ، وإنما أقامها غيرها ، وهذا النظر لا يلزم منه وجود الأعيان مثل النظر في الكيفية ، وإنما الإنسان كلف أن ينظر بفكره في ذلك لا بعينه ، ومن الملكوت ما هو غيب وما هو شهادة ، فما أمرنا قط بحرف في إلا في المخلوقات لا في الله ، لنستدل بذلك عليه وأنه لا يشبهها ، فاعتبر الشرع حكم النظر العقلي في إثبات وجود الله وتوحيده ، وما يجب له من الأحكام ، وبالنظر العقلي في صدق آيات رسوله التي نصبها دليلا على صدقه ، وفي القرآن مثل هذا كثير ، وهذه الآيات وأمثالها لأهل النظر والاستدلال الذين نصب الله لهم الأدلة والآيات.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦)

(فَلا هادِيَ لَهُ) معناه لا موفق.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) يعني يوم القيامة ، إذا جاء الوقت يعطيها الله خلقها ، هو الذي أعطى كل شيء خلقه ، لذلك قال : (إِلَّا هُوَ)(قُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن الغيب إذا ثقل عليه الأمر وضاق

٢٠٤

عنه ولم يتسع له استراح على عالم الشهادة ، فتنفس الغيب تنفس الحامل المثقل ، فأبرز في عالم الشهادة ما كان ثقل عليه ، ومن وجه آخر : ثقلت من كونها أمانة مكلفة بحفظها وأدائها في وقتها ، فهو ثقل معنوي ، فإنه في طبع كل شيء القلق مما يثقل عليه حتى يخرجه عنه (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لجهلهم.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هذا يدل على أن النفوس خلقت من معدن واحد (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) حنين الرجل حنين الكل إلى جزئه ، كاستيحاش المنازل لساكنيها ، ولأن المكان الذي في الرجل الذي استخرجت منه المرأة عمره الله بالميل إليها ، فحنينه إلى المرأة حنين الكبير ، وحنوه على الصغير ، فمن عرف قدر النساء وسرّهن لم يزهد في حبهن ، بل من كمال العارف حبهن ، فإنه ميراث نبوي وحب إلهي ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [حبب إلي] فلم ينسب حبه فيهن إلا إلى الله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاها) الغشيان نكاح وهو ستر ، فهو سر ، أي غطاها بذاته وسترته بنفسها ، فكان لها لباسا وكانت له لباسا.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ

٢٠٥

يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦)

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) الولاية نصر الولي ، أي نصر الناصر ، ونعت الولاية لا ينسبها الله لنفسه إلا بتعلق خاص للمؤمنين خاصة والصالحين من عباده ، ولما كان نعتا إلهيا هذا النصر المعبر عنه بالولاية تسمى سبحانه به وهو اسمه الولي ، ولما أنزل الله تعالى على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ليعرف الناس بها ، فكأن الله حكى عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا بد له أن يقوله ويتلفظ به ، فجعله قرآنا يتلى ، إذ كان الصلاح من خصائص العبيد في نفس الأمر ، فقال تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) فشهد له بالصلاح إذا كان الحق حاكيا في هذه الآية ، وإن كان آمرا فيكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بذلك لقوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وهو من المؤمنين (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) فيكون من المشهود لهم بالصلاح ، فعرفنا أن الله تولاه ، وأخبرنا أن الله يتولى الصالحين ، فشهد لنفسه بالصلاح بالوجه الذي ذكرناه ، ولم ينقل ذلك عن غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، ولهذا القطع بأن الله يتولى الصالحين كان الصلاح مطلوبا لكل نبي مكمل ، وشهد الله به لمن شاء من عباده على التعيين تشريفا له بذلك ، كعيسى ويحيى عليهما‌السلام ، فإن الاسم الصالح من خصائص العبودية ، ونعت عبودي لا يكون إلا للعبيد الكمل ، فمنهم من شهد له بها الحق عزوجل بشرى من الله ، مثل يحيى وعيسى وإبراهيم ومحمد عليهم‌السلام ، ومنهم من سألها لنفسه كسليمان عليه‌السلام.

٢٠٦

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩)

(خُذِ الْعَفْوَ) أي القليل.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١)

(إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) فهم أصحاب اللمات الملكية (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) وهؤلاء هم الذين تولاهم الله بالإبصار ، وهو من صفات خصائص المتقين ، فهم علماء أهل تقوى ، طرأ عليهم خاطر حسن أصله شيطاني. فوجدوا له ذوقا خاصا لا يجدونه إلا إذا كان من الشيطان ، فيذكرهم ذلك الذوق بأن ذلك الخاطر من الشيطان (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي مشاهدون له بالذوق ، فإن اقتضى العلم أخذه وقلب عينه ليحزن بذلك الشيطان أخذه ، ولم يلتفت منه وكان من المبصرين ، فعلم كيف يأخذ ما يجب أخذه من ذلك ، ففرق بينه وبين ما يجب تركه ، كما قال عيسى عليه‌السلام لما قال له إبليس حين تصور له على أنه لا يعرفه ، فقال له : يا روح الله قل لا إله إلا الله ، رجاء منه أن يقول ذلك ، فيكون قد أطاعه بوجه ما ، وذلك هو الإيمان ، فقال له عيسى عليه‌السلام : أقولها لا لقولك لا إله إلا الله ، فجمع بين القول ومخالفة غرض الشيطان ، لا امتثالا لأمر الشيطان ، وإن اقتضى العلم رد ذلك في وجهه رده ، فهذا معنى قوله (تَذَكَّرُوا) ولا يكون التذكر إلا لمعلوم قد نسي (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي رجع إليهم نظرهم الذي غاب عنهم ، رجع بالتذكر ، واعلم أن الله تعالى أن يحيط به بصر أو عقل ، ولكن الوهم السخيف يقدره ويحده ، والخيال الضعيف يمثله ويصوره ، هذا في حق بعض العقلاء الذين قد نزهوه عما

٢٠٧

تخيلوه وتوهموه ، ثم بعد التنزيه يتسلط عليهم سلطان الوهم والخيال فيحكم عليه بالتقدير ، وهو قوله تعالى : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) وهو رجوعهم إلى ما أعطاهم العقل بالبرهان الصحيح من التنزيه عن ذلك ، فالقوة المذكرة من خاصيتها أن تعمي إبليس عن ملاحظة كيده في الحال وتدهشه ، فلا يلحق يرجع إليه بصره إلا والمؤمن على إحدى حالتين إما في غفلة فيمسه مرة أخرى ، وإما في حضور فيحترق إن دنا منه ، واعلم أن الأنبياء والرسل ما لهم إلا ثلاثة خواطر ، وهي الخاطر الإلهي والخاطر الملكي والخاطر النفسي ، فهم معصومون من الشيطان وخواطره ، ليميز الله رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم إياها ، والمؤمنون لهم الخواطر الأربعة ، فمنهم من ظهر عليه حكم الخاطر الشيطاني في الظاهر ، وهم عامة الخلق ، ومنهم من يخطر له ولا يؤثر في ظاهره ، وهم المحفوظون من أولياء الله تعالى ، فالشيطان يلقي في قلوب الأولياء وليس له على الأنبياء سبيل.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤)

روينا أن هذه الآية نزلت في القراءة في الصلاة ، ففي الصلاة يقرأ المأموم أم الكتاب وغيرها مع الإمام فيما أسر ، وفيما جهر أم الكتاب فقط ، والذي أذهب إليه بعد وجوب قراءة الفاتحة على كل مصل من إمام وغير إمام ، أنه إن قرأ في نفسه كان أفضل ، إلا أن يكون بحيث يسمع الإمام ، فالإنصات والاستماع لقراءة الإمام واجب لأمر الله الوارد في هذه الآية ، وما خص حال صلاة من غيرها ، والقرآن مقطوع به عند الجميع ، وليس للمأموم أن يشرع في قراءة الفاتحة إذا جهر بها الإمام حتى يفرغ منها ، أو يتبع سكتات الإمام فيها فيقرأ ما فرغ الإمام منها في سكتة الإمام ، وفي صلاة السر يقرأها بحسب ما يغلب على ظنه ،

٢٠٨

إلا في الصلاة بعد الجلسة الوسطى فإنه يقرأها ابتداء ، وقد وعد الله من استمع القرآن وأنصت بالرحمة ، فإن أفعال الترجي من الله حكمها حكم الواجب ، ومع هذا فإن الله أوقع الترجي مع صفة الاستماع والإنصات ، وما قطع بالرحمة ، فكيف حال من خاصم ورفع صوته وداخل التالي؟ وأرجو أن يكون الترجي الإلهي واجبا كما يراه العلماء ، فالأجر العظيم بالإصغاء إلى القارىء إذا قرأ القرآن ، أو بإصغاء الإنسان إلى نفسه إذا تلاه ، فإذا قرىء القرآن المبين فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ، فإنه ما جاء بالكلام إلا للإفهام ، فإذا خالج السامع القارىء في قراءته ، فقد شهد من الفهم ببراءته ، وأساء الأدب ، فأسخط الله فغضب ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أيكم خالجنيها وما لي أنازع القرآن] وأي برهان أعظم من هذا البرهان ، الرسول حاز الآداب ، وجاء بالكتاب وخاطب أولي الألباب ، وما خص أعداء من أحباب ، بل عم الخطاب ، فمنا من أصاب ، ومنا المصاب ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بالفهم ، فإنك إن خالجته فيها ، حرمت معانيها ، وإذا كنا نهينا وتحبط أعمالنا برفع أصواتنا على صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تكلم ، وهو المبلغ عن الله ، فغضّ أصواتنا عند ما نسمع تلاوة القرآن آكد.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة المقربون (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) يقول : يذلون ويخضعون له (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي ينزهونه عن الصفات التي لا تليق به وهي التي تقربوا بها إليه من الذل والخضوع وصدقهم الله في هذه الآية في قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فأخبر الله عنهم بما أخبروه عن نفوسهم (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) وصفهم بالسجود له عزوجل مع هذه الأحوال المذكورة ، وهنا يسجد التالي للقرآن في هذه السجدة اقتداء بسجود الملأ الأعلى وبهديهم ، قال الله تعالى لما ذكر النبيين عليهم‌السلام لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر أنه تعالى آتاهم الكتاب والحكمة والنبوة قال له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وهم بشر مثله ، فما ظنك بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وأي هدي

٢٠٩

أعظم مما هدى الله تعالى به الملائكة ، فمن سجد فيها ولم يحصل له نفحة مما حصل للملائكة في سجودها من حيث ملكيته الخاصة به فما سجدها ، وهكذا في كل سجدة ترد.

(٨) سورة الأنفال مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

الأنفال هي المغانم ، أما لم سميت المغانم أنفالا؟ فإنه لا شك ولا خفاء عند كل مؤمن عالم بالشرع ، أن الله ما جعل القتال للمؤمن إلا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، لتتميز الكلمتان ، وعرّفنا التراجمة عن الله وهم رسل الله ، أن الله تعالى من وقت شرع الجهاد والقتال والسبي ، أعطى المغانم للنار طعمة أطعمها إياها وأوجبها لها ، وكان من طاعتها لربها أنها لا تتناول إلا ما أحل الله لها تناوله ، وكان قد حرم الله عليها أكل المغنم ، إذا وقع فيه غلول من المجاهدين ، فكانت لا تأكل المغنم إذا غلّ فيه حتى يرد إليه ما كان أخذ منه ، ليخلص العمل للمجاهد ، فإذا جاء الشرع المحمدي زاد الله المغانم لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعمة على ما أطعمهم من غير ذلك ، فكانت تلك الطعمة التي أخذناها من النار نافلة لهذه الأمة ، وما أعطاها إياهم لكونهم جاهدوا ، إذ لو كان حقا لهم على الجهاد ما وقعت لأحد لم يجاهد معهم فيها الشركة ، فما هي فريضة للمجاهدين ، وإنما هي طعمة أطعمها الله من ذكر ، وجعل لنفسه نصيبا لكونه نصرهم ، ولما كانت هذه الطعمة للنار ونفلها الله لهذه الأمة قال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) جاء في الخبر أن الله يصلح بين عباده يوم القيامة ، هكذا جاء في الخبر النبوي في الرجلين ، يكون لأحدهما حق على الآخر ، فيوقف الظالم والمظلوم بين يدي الله تعالى للحكومة والإنصاف ، فيقول : ربّ خذ لي

٢١٠

مظلمتي من هذا ، فيقول له : ارفع رأسك ، فيرى خيرا كثيرا ، فيقول المظلوم : لمن هذا يا رب؟ فيقول : لمن أعطاني الثمن ، فيقول : يا رب ومن يقدر على ثمن هذا؟ فيقول له : أنت بعفوك عن أخيك هذا ، فيقول المظلوم : يا رب قد عفوت عنه ، فيقول الله له : خذ بيد أخيك فادخلا الجنة ، فيأخذ بيده فيدخلان الجنة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إيراده هذا الخبر (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة ، فالكريم إذا كان من شأنه أن يصلح بين عباده بمثل هذا الصلح حتى يسقط المظلوم حقه ويعفو عن أخيه ، فالله أولى بهذه الصفة من العبد في ترك المؤاخذة بحقوقه من عباده ، فيعاقب من شاء بظلم الغير لا بحقه المختص به ، ولهذا الأخذ بالشرك من ظلم الغير ، فإن الله ما ينتصر لنفسه ، وإنما ينتصر لغيره ، والذي شاء سبحانه ينتصر له.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

(يُنْفِقُونَ) مما استخلفهم فيه أداء أمانة لمن شاء من عبيده.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

اعلم أن الإيمان نور شعشعاني ، ظهر عن صفة مطلقة لا تقبل التقييد ، فإذا خالط هذا النور بشاشة القلوب صدق المخبر بكل أمر لم يعلمه إلا من الذي أخبره به عند إخباره ، ولم يتوقف في تصديقه عند سماعه الخبر منه ، ولا يتردد فيما صدقه فيه إن قدح فيه نظره عند التفكر فيما كان أخبره به المخبر ، والمؤمنون في الإيمان على قسمين : مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان ، فهذا لا يوثق بإيمانه ، ولا يخالط نوره بشاشة القلوب ، فإن صاحبه لا ينظر إلا من خلف حجاب دليله ، وما من دليل لأصحاب النظر إلا وهو معرض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين ، فلا يمكن لصاحب البرهان أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه وهذا

٢١١

الحجاب بينه وبينه ، والمؤمن الآخر الذي كان برهانه عين حصول الإيمان في قلبه ، لا لأمر آخر ، وهذا هو الإيمان الذي يخالط بشاشة القلوب ، فلا يتصور في صاحبه شك ، لأن الشك لا يجد محلا يعمره ، فإن محله الدليل ولا دليل ، فما ثمّ على ما يرد الدخل ولا الشك ، بل هو في مزيد ، ثم إن المؤمن على نوعين : مؤمن له عين فيه نور ، بذلك العين إذا اجتمع بنور الإيمان أدرك المغيبات التي متعلقها الإيمان ، ومؤمن ما لعينه نور سوى نور الإيمان ، فنظر إليه به ونظر إلى غيره به ، فالأول يمكن أن يقوم بعينه أمر يزيل عنه النور الذي إذا اجتمع بنور الإيمان أدرك الأمور التي ألزمه الإيمان القول بها ، وهو المؤمن الذي لا دليل له وينظر الأشياء بذاته فيدخله الشك ممن يشككه ، فإن فطرته تعطي النظر في الأدلة ، إلا أنه لم ينظر ، فإذا نبّه تنبه ، فمثل هذا إن لم يسرع إليه الذوق وإلا خيف عليه ، والمؤمن الآخر هو بمنزلة الجسد الذي قد تسوت بنيته ، واستوت آلات قواه وتركبت طبقات عينه ، غير أنه ما نفخ فيه الروح ، فلا نور لعينه ، فإذا كان الإنسان بهذه المثابة من الطمس ، فنفخ فيه روح الإيمان فأبصرت عينه بنور الإيمان ، فلا يتمكن له إدخال الشكوك عليه جملة ورأسا ، فإنه ما لعينه سوى نور الإيمان ، والضد لا يقبل الضد ، فما له نور في عينه يقبل به الشك والقدح فيما يراه ، ومتى لم يكن الإيمان بهذه المثابة وإلا فقليل أن يجيء منه ما جاء من الأنبياء والأولياء من الصدق بالإلهيات ، فالفطر الذكية التي تقبل النظر في المعقولات من أكبر الموانع لحصول ما ينبغي أن يحصل من العلم الإلهي ، والفطر المطموسة هي القابلة التي لا نور لعينها من ذاتها إلا من نور الإيمان ، فلا تعطي فطرته النظر في الأمور على اختلافها ، ومنزلة الأنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق الإيمان من الملائكة منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من الأنبياء ، فالأنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ، والروح مؤمن بمن يلقي إليه من يلقي إليه ، قال بعض الصحابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا مؤمن حقا ، فادعى حق الإيمان ، وهو من نعوت الباطن ، فإنه تصديق ، والتصديق محله القلب ، وآثاره في الجوارح إذا كان تصديقا له أثر ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما حقيقة إيمانك؟ فقال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وقد كان صدّق رسول الله في قوله : إن عرش ربه يبرز يوم القيامة ، فجعله هذا السامع مشهود الوقوع في خياله ، فقال : كأني أنظر إليه ، أي هو عندي بمنزلة من أشاهده ببصري ، فالمؤمن ينبغي أن يعامل الموطن بما يعامله صاحب العيان وإلا فليس بمؤمن حقا فإن لكل حق حقيقة وليست

٢١٢

الحقيقة التي لكل حق إلا إنزاله منزلة الشهود المدرك للبصر ، لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصحابي : عرفت فالزم ، ففسر الحقيقة بالنظر والرؤية ، وجعلها بكأن لأن يوم القيامة ما وقع حسا ، ولكن وقع في حقه ممثلا فأدركه في التمثيل كالواقع في الحس.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١١)

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) الأمنة هي السكينة لا غيرها ، وقد تورث الأسباب الحسية المطهرة طهارة معنوية ، ومنها قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) وسبب هذه الطهارة المعنوية كلها إنما هو نزول هذا الماء من السماء ، وأعاد الضمير من (بِهِ الْأَقْدامَ) على المطر ، والرجز بالسين القذر عند القراء ، وهو هنا القذر المعنوي ، لأنه مضاف إلى الشيطان ، فلا يدل إلا على ما يلقيه من الشبه والجهالات والأمور التشكيكية ، ليقذر بها محل

٢١٣

هذا القلب ، فيذهب الله ذلك بما في الماء المنزل من الحياة العلمية بالبراهين والكشف ، فإذا زال ذلك القذر الشبهي بهذا المنزل من عند الله ، زال الوسخ الجهلي وارتفع الغطاء عن القلب ، فنظر بعينه في ملكوت السموات والأرض ، وذلك بما أعطاه العلم المنزل الذي طهره به في ذلك الماء ، الذي جعل نزوله في الظاهر علامة على فعله في الباطن ، فكان من مواطنه مقابلة الأعداء ، فأداه ما عاينه وربط قلبه به أن تثبت قدمه يوم الزحف عند لقاء الأعداء ، فما ولوا مدبرين ، وأنزل الله نصره وهو تثبيت الأقدام ، فهذا ما أعطاه الله في الماء من القوة ، حيث أنزله منزلة الملائكة بل أتم من الملائكة ، وإنما قلنا بل أتم ، فإن الله جعل الماء سبب تثبيت الأقدام فأنزله منزلة المعين على ما يريد.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢)

قال تعالى ذلك للملائكة لما علم من ضعفهم ، أعلمهم أن الله معهم من حيث إنيته ، ليتقوى جأشهم فيما يلقونه في قلوب المؤمنين المجاهدين ، أن يثبتوا ويصابروا العدو ولا ينهزموا ، وهذه من لمات الملائكة ، فقال لهم : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي اجعلوا في قلوبهم أن يثبتوا ، ثم أعانهم فقال : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أخبرهم بذلك ليلقوا في نفوس المجاهدين هذا الكلام ، فإنه من الوحي ، فيجد المجاهد في نفسه ذلك الإلقاء ، وهو وحي الملك في لمته ، وهذه الملائكة التي تقوي قلوب المجاهدين وتثبتهم وتوحي إليهم قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هم الملائكة الذي يدخلون البيت المعمور الذي في السماء السابعة المخلوقون من قطرات ماء نهر الحياة ، في انتفاض الروح الأمين من انغماسه ، ولهذا قرن الملائكة بالمجاهدين في التثبيت مع الماء المنزل (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) فانظر كم بين مرتبة الماء ومرتبة هؤلاء الملائكة ، وقد أبان الله في هذه عن مرتبة الماء من مراتب الملائكة ، ليعقلها العالمون من عباد الله ، فجعل الله من الماء كل شيء حي.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)

٢١٤

ومن مشاققة الله الاعتراض والتعليل لأفعال الله في عباده ، لأي شيء كان كذا؟ ولو كان كذا كان أحسن وأليق ، فهي منازعة للربوبية ، فالأشقياء ليس لهم عذاب إلا منهم.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤)

المؤمن لا يولي الدبر ويتقدم ويثبت حتى يظفر أو يقتل ، ولهذا ما انهزم نبي قط لقوة إيمانه بالحق ، وقد توعد الله المؤمن إذا ولى دبره في القتال لغير قتال أو انحياز إلى فئة تعضده فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (١٥)

فخاطب أهل الإيمان ، وبقرائن الأحوال علمنا أنه تعالى أراد المؤمنين بالحق ، وما أرسلها الله مطلقة إلا ليقيم الحجة على الذين آمنوا بالباطل إذا هزمهم الكافرون بالطاغوت ، لما دخلهم من الخلل في إيمانهم بالباطل ، وما عدا حال المسايفة استعداد للجهاد والقتال ، ما هو عين الجهاد ولا عين القتال ، فإذا وقعت المسايفة ذلك هو عين الجهاد والقتال الذي أمر الله عباده بالثبات فيه والاستعانة بالصبر والصلاة ، ثم توعد من لم يثبت فقال :

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

من انحاز إلى فئة أو كان متحرفا لقتال ، فإنه من أبطال الرجال ، ومن أهل المكر المشروع والاحتيال ، والحرب خدعة ، وإن أساء في الحال السمعة ، فإن العاقبة تسفر عن مراده ، بما قصده من جهاده (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) يعني إن قتل في تلك الحال (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقال تعالى في تلك الحالة : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) وهو حبس النفس عن الفرار في تلك الحال والصلاة) فأمر بالصلاة وأنها من الأمور المعينة له على خذلان العدو ، فجعلها من أفعال الجهاد ، فوجبت الصلاة ، والفرار في تلك الحال من الكبائر ، فأمره الله بالصبر وهو الثبات

٢١٥

في تلك الحال والصلاة ، فوجبت عليه كما وجب الصبر ، فيصليها على قدر الإمكان ، أي على قدر ما يمكنه أن يفعله منها ، فالله يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوتر على الراحلة يومي إيماء مع الأمان ، فأحرى إيقاع الفرض مع الخوف ووجود البشرى أنها من أسباب النصر ، فيصلي على قدر استطاعته في ذلك الوقت وعلى تلك الحال بحيث أن لا يترك القتال ولا يتوانى فيه ، فذلك استطاعة الوقت ، فإن المكلّف بحكم وقته ، وسواء كان على طهارة أو على غير طهارة ، والمخالف لهذا ما حقق النظر في أمر الله ، ولا ما أراده الله برفع الحرج عن المكلف في دين الله في قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فالمجتهد لا كلام معه ، فإنه يعمل بحسب ما يقتضيه دليله ويحرم عليه مخالفة دليله ، وأما المقلد فالأولى به عندنا تقليد من يقول بجواز الصلاة في حال المسايفة وعلى غير طهارة فيها ، فإن القرآن يعضده ، ولا حجة للمقلد في التخلف عن تقليد من يقول بالصلاة ، فإنه أبرأ لذمته وأولى في حقه ، ويكون ممن ذكر الله على كل أحيانه اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧)

جاء المدد الملكي فأقدم حيزوم (١) لنصرة دين الحي القيوم ، ولتقوية القلوب عند أهل الإيمان بالغيوب ، وما كان عند أهل الغيب إيمانا كان لأهل الشرك عيانا ، وذلك الشهود خذلهم فقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) قتلهم بالملك ، للأمر الذي أوحاه في السماء وأودعه حركة الفلك ، فما انحجب عن المؤمن لإهانته ، كما أنه ما كشفه المشرك لمكانته ، لكن ليثبت ارتياعه ، ويتحقق انصداعه واندفاعه ، فخذله الله بالكشف ، وهو من النصر الإلهي الصرف ، نصر به عباده المؤمنين على التعيين ، فإنه أوجب سبحانه على نفسه نصرتهم ، فرد عليهم لهم كرتهم ، فانهزموا أجمعين ، (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)

__________________

(١) حيزوم اسم الفرس الذي كان يركبه جبريل عليه‌السلام.

٢١٦

والمؤمن الإله الحق ، وقد نصره الخلق ، وهو القائل (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فأظهر آمرا وأمرا ومأمورا في هذا الخطاب التكليفي ، فلما وقع الامتثال لله ، وظهر القتل بالفعل من أعيان المحدثات ، قال : ما هم أنتم الذين قتلتموهم ، بل أنا قاتلهم ، فأنتم لنا بمنزلة السيف لكم ، أو أي آلة كانت للقتل ، فالقتل وقع في المقتول بالآلة ولم يقل فيه إنه القاتل ، وقيل في الضارب به القاتل ، كذلك الضارب به بالنسبة إلينا مثل السيف له عنده ، فلا يقال في المكلّف إنه القاتل بل الله هو القاتل بالمكلّف وبالسيف ، فقام له المكلّف مقام اليد الضاربة بالسيف ، وفي حضرة الأفعال ينسب الفعل بالعوائد إلى المخلوق والحق مبطون فيه ، وينسب الفعل بخرق العادة إلى الله لا إلى المخلوق ، لأنه خارج عن قدرة المخلوق ، فيظهر الحق وإن كان لا يظهر إلا في الخلق ، ومن هنا يتبين أن ما قام فيه الإنسان عين ما قام فيه الحق ، بين ظاهر وباطن ، فإذا ظهر من ظهر بطن الآخر ، وذلك قوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رميه التراب في أعين المشركين (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) فالرمي وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول الله ، وإيصال الرمي إلى أعين الكفار حتى ما بقيت عين لمشرك خاص إلا وقع من التراب في عينه فهذا ليس لمخلوق ، فقال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) إثباتا للنفي في أول الآية ، فإن الله محا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حكم رميه مع وجود الرمي عنه ، فقال : (وَما رَمَيْتَ) فمحاه (إِذْ رَمَيْتَ) فأثبت السبب (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وما رمى إلا بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ) نفي (إِذْ رَمَيْتَ) إثبات عين ما نفى (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) نفى عين ما أثبته ، فصار إثبات الرمي وسطا بين طرفي نفي ، فالنفي الأول عين النفي الآخر ، فمن المحال أن يثبت عين الوسط بين النفيين ، لأنه محصور ، فيحكم عليه الحصر ، ولا سيما أن النفي الآخر زاد على النفي الأول بإثبات الرمي له لا للوسط ، فثبت الرمي في الشهود الحسي لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثبوت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رام لا رام ، وهذا لا يدرك إلا بعين البصيرة ، فالبصيرة بها تدرك الأمر على ما هو عليه ، لأنه علم محقق ، وإذا أدرك به عين نسبة ما ظهر في الحس سمي بصرا ، فاختلفت الألقاب باختلاف المواطن ، كما اختلف حكم عين الأداة ، وإن كانت بصورة واحدة حيث كانت ، تختلف باختلاف المواطن ، مثل أداة ما ، لا شك أنها عين واحدة ، ففي موطن تكون نافية ، وفي موطن تكون تعجبا ، وفي موطن تكون مهيئة ، وفي موطن تكون اسما ، وقد تكون مصدرية ، وتأتي للاستفهام ، وتأتي زائدة ، وغير ذلك من

٢١٧

مواطنها ، فهذه عين واحدة حكمت عليها المواطن بأحكام مختلفة ، كذلك صور التجلي بمنزلة الأحكام لمن يعقل ما يرى ، فأبان الله لنا فيما ذكره في هذه الآية الذي كنا نظنه حقيقة محسوسة ، انما هي متخيلة ، يراها رأي العين ، والأمر في نفسه على خلاف ما تشهده العين ، وهذا سار في جميع القوى الجسمانية والروحانية ، ولو لا الاسم الباطن ما عرفنا أن الرامي هو الله في صورة محمدية ، فإنه ما رمى إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما وقع الحس إلا على رميه ، وما رمى إلا الله ، فأين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم؟ محاه وأثبته ، ثم محاه ، فهو مثبت بين محوين ، كما ورد في الخبر [كنت سمعه وبصره] فأين الإنسانية هنا؟ فإنه نفى عين ما أثبته لك وأثبته لنفسه ، فقال : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وما رمى إلا العبد ، فأعطاه اسمه وسماه به ، وبقي الكلام في أنه هل حلّاه به كما سماه به أم لا؟ فإنا لا نشك أن العبد رمى ، ولا نشك أن الله تعالى قال : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقد نفى الرمي عنه أولا ، فنفى عنه اسم العبودة وسماه باسمه ، إذ لا بد من مسمى ، وليس إلا وجود عين العبد ، لا من حيث هو عبد ، لكن من حيث هو عين ، فإن العبد لا يقبل اسم السيادة ، والعين كما تقبل العبودة تقبل السيادة ، فانتقل عنها الاسم الذي خلقت له وخلع عليها الاسم الذي يكون عنه التكوين ، وهو قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) والحق لا يباهت خلقه ، فما يقول إلا ما هو الأمر عليه في نفسه ، فقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) أثبت لك ما رأيت ، ودل قوله : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) على أمر يستوي فيه البصير والأعمى ، فيد الله يد الأكوان ، وإن اختلفت الأعيان ، وهذا عهد من الله تعالى إلينا أن الفعل الذي يشهد به الحس أنه للعبد هو لله تعالى لا للعبد ، فإن أضفته لنفسي فإنما أضيفه بإضافة الله لا بإضافتي ، فأنا أحكي وأترجم عن الله به وهو قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فرد الفعل الذي أضافه إلى نفسه وهو حقه الذي له قبلي بهذه الإضافة ، ولكن لا بد من ميزان إلهي نرده به إليه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعبد الله كأنك تراه ، فإن الوزن نعت إلهي لا ينبغي لعبد من عباد الله أن يغفل عنه في كل فعل ظاهر في الكون من موجود ما من الموجودات ، فلا يزال مراقبا له في غيره ، فيحكم عليه بالميزان الموضوع عنده ، وليس إلا الشرع ، وهذه الآية تشير إلى نفي الركون إلى الأسباب لا الأسباب ، فإن الله لا يعطل حكم الحكمة في الأشياء ، والأسباب حجب إلهية موضوعة لا ترفع ، فمن الحكمة إبقاء الأسباب ، مع محو العبد من الركون إليها على حكم نفي أثرها في المسببات ، فالأسباب ستور

٢١٨

وحجب ، وفي هذه الآية علم إضافة الأفعال ، هل تضاف إلى الله أو إلى العبد أو إلى الله وإلى العبد؟ فإن وجودها محقق ، ونسبتها غير محققة ، وهذا موضوع اختلف الناس فيه ، والخلاف لا يرتفع من العالم بقولي ، فمن الناس من نسب الأفعال إلى الخلق ، ومنهم من نسب الأفعال إلى الله ، ومنهم من نسب الفعل إلى الله بوجه وإلى العباد بوجه ، فعلق المحامد والحسن بما ينسب من الأفعال للحق ، وعلق المذام والقبح بما ينسب من الأفعال للعباد لحكم الاشتراك العقلي ، وكمال الوجود توقف على وجودهما ، قال تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فنفى الرمي عمن أثبته له ، فأثبت بهذه الآية أعيان العالم ، والفعل كله إنما يظهر صدوره من الصورة ، وهو القائل (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فكان الحق عين الصورة التي تشاهد الأعمال منها ، وهذا مقام الحيرة ، فصدّق الله الخواص في حيرتهم بقوله هذا لأخص خلقه علما ومعرفة ، فنفى عين ما أثبت فما أثبت؟ وما نفى؟ فأين العامة من هذا الخطاب ، فالعلم بالله حيرة ، والعلم بالخلق حيرة ، وقد حجر النظر في ذاته وأطلقه في خلقه ، فالهداة في النظر في خلقه لأنه الهادي وقد هدى ، والعمى في النظر في الحق فإنه قد حجر وجعله سبيل الردى ، وهذا خطاب خاطب به العقلاء ، فما زادهم إلا إيمانا بالحيرة وتسليما لحكمها ، ولذلك قال تعالى في هذه الآية : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) فجاء بالخبرة بقوله تعالى : (وَلِيُبْلِيَ) أي قلنا هذا اختبارا للمؤمنين في إيمانهم لنا في ذلك من تناقض الأمور ، الذي يزلزل إيمان من في إيمانه نقص عما يستحقه الإيمان من مرتبة الكمال ، فإن الله حيّر المؤمنين ، وهو ابتلاؤه بما ذكر من نفي الرمي وإثباته ، وجعله بلاء حسنا ، أي إن نفاه العبد عنه أصاب ، وإن أثبته له أصاب ، وما بقي إلا أي الإصابتين أولى بالعبد وإن كان كله حسنا؟ وهذا موضع الحيرة ، ولذلك سماه بلاء أي موضع اختبار ، فمن أصاب الحق وهو مراد الله أي الإصابتين أو أي الحكمين أراد ، حكم النفي أو حكم الإثبات كان أعظم عند الله من الذي لا يصيب ، لذلك قال : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً

٢١٩

وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إن تستنصروا فقد جاءكم النصر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٢١)

قال الله تعالى ناهيا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) أي فهمنا ، فأكذبهم الله في قولهم سمعنا ، فقال : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) فلو سمعوا استجابوا ، فإن الله أعز وأجل من أن يقاومه مخلوق (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يفهمون ، فنفى الله عنهم الفهم عن الله ، فهو ذم ـ وجه آخر ـ حكم الله عليهم بعدم السماع مع سماعهم ، فمع كونهم سمعوا نفى عنهم السمع ، فإنهم سمعوا حقيقة وفهموا ، فإنه خاطبهم بلسانهم ، ثم قال تعالى : (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي حكمهم حكم من لم يسمع عندنا ، مع كونهم سمعوا ، وما قال تعالى بماذا يحكم فيهم؟ وإن كان غالب الأمر من قرائن الأحوال العقوبة ، ولكن الإمكان لا يرتفع في نفس الأمر ، لما يعرف من فضل الله وتجاوزه عن سيئات أمثال هؤلاء ، فإن كان حكمه حكم من لم يسمع ، فيكون الله قد تفضل عليه ، وإن كان حكمه حكم من علم فلم يعمل فعاقبه الله ، فيكون الله قد عدل فيه ، واعلم أنه قد دل الكتاب والسنة على أن السمع والبصر قسمان : عادي وحقيقي ، فالعادي سمع القلب بالأذن وإبصاره بالعين ، وهو عام في المؤمن والكافر ، والحقيقي بصر العين بالقلب وسمع الأذن به ، وقد نفاه الله تعالى عن الكافر في غير ما آية ، منها قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وفي قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) فأثبت لهم السمع والبصر العاديين ونفى عنهم الحقيقي.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

٢٢٠