رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ذهب وانقضى في حقها ، ولهذا ينقطع عمل الإنسان بالموت ـ الوجه الثاني ـ هو عند خروج الشمس من مغربها فيسد باب التوبة ويغلق ، فلا ينفع نفسا إيمانها ولا ما تكتسبه من خير بذلك الإيمان ، فغلق باب التوبة بخروج الشمس من مغربها رحمة بالمؤمن فلا يرتد مؤمن بعد ذلك ، فإنه ليس له باب يخرج منه ، ووبال بالكافر لعدم قبول توبته ولا ينفعه عمل مع كونه في الدنيا ، فإنه لا بد لهذه الشمس أن تطلع من مغربها ولها بهتة ، ولهذا تطلع من المغرب بغتة ، مع كونها ما سكنت عن حركتها ، ولكن حيل بينها وبين بركتها ، فلم ينفع بطلوعها إيمان ولا عمل ، ولحق أهل الاجتهاد بأهل الكسل.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

إذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء ، رجحت عليه صورة الجزاء أضعافا مضاعفة ، وخرجت عن الحد والمقدار ، منة من الله وفضلا ، وهو قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وقال : (ويضاعف الله لمن يشاء والله واسع عليم) وإذا اتفق أن يدخل الحق صورة العمل المنهي عنه في الميزان بالجزاء ، فإنه لا يزيد عليها في المقدار وزن ذرة أصلا إذا أقام الوزن عليه بالجزاء ، وكان عذابه في النار جزاء على قدر عمله ، لا يزيد ولا ينقص ، لا في العمل ولا في مقدار الزمان ، وهو قوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢)

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي) الصلاة المعه دة (وَنُسُكِي) هنا معناه عبادتي ، أي : إن صلاتي وعبادتي ، يقول ذلتي (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي وحالة حياتي وحالة مماتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

١٢١

أي لله إيجاد ذلك كله ، أي ظهور ذلك فيّ من أجل الله ، لا من أجل ما يعود عليّ في ذلك من الخير ، فإن الله يقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعالم من عبد الله لله ، وغير العالم يعبده لما يرجوه من الله ، من حظوظ نفسه في تلك العبادة ، لذلك قال : (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي سيد العالمين ومالكهم ومصلحهم.

(لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣)

أي لا إله في هذا الموضع مقصود بالعبادة إلا الله ، الذي خلقني من أجلها ، أي لا أشرك فيها نفسي ، بما يخطر له من الثواب الذي وعده الله لمن هذه صفته (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) يعود على الجملة كلها وعلى كل جزء جزء منها (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي من المنقادين لأوامره في قوله : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) حيث ورد في الحديث [وأنا من المسلمين].

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤)

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) قال تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) وقال :

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) هي رتبة الخلافة التي كانت لآدم عليه‌السلام ، فالخلفاء نواب الحق في عباده ، وقوله تعالى : (خَلائِفَ) بالجمع ، والخليفة واحد أبدا ، فإن سر الخلافة واحد ، وهو متوارث تتوارثه هذه الأشباح ، فإن ظهرت في شخص ما ، مادام ذلك الشخص متصفا به ، من المحال شرعا أن يوجد لذلك القبيل في ذلك الزمان بعينه في شخص آخر ، وإن ادعاه أحد فهو باطل ، ودعواه مردودة ، وهو دجال ذلك الزمان ،

١٢٢

فإذا فقد ذلك الشخص انتقل ذلك السر إلى شخص آخر ، فانتقل معه اسم الخليفة ، فلهذا قيل خلائف الأرض ، أي يخلف بعضنا بعضا فيها ، في مرتبة الخلافة ، فإن آدم كانت خلافته في الأرض ، وهكذا هو كل خليفة فيها ، مع وجود التفاضل بين الخلفاء فيها ، وذلك لاختلاف الأزمان واختلاف الأحوال ، فيعطي هذا الحال والزمان من الأمر ما لا يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله والذي يكون بعده ، ولهذا اختلفت آيات الأنبياء باختلاف الأعصار ، فآية كل خليفة ورسول من نسبة ما هو الظاهر والغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ، أي شيء كان ، من طب أو سحر أو فصاحة ، وما شاكل هذا وهو قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ففضل بعضهم على بعض بالمراتب والزيادات التي لها شرف في العرف والعقل ، ثم يقول للخلفاء (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وهاتان الصفتان لا تكونان إلا لمن بيده الحكم والأمر والنهي ، فهذا النسق يقوي أنه أراد خلافة السلطنة والملك ، ومن حقيقة قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك].

(٧) سورة الأعراف مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ

١٢٣

وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨)

هي موازين الأعمال ، فإن رجح عمله به ثقل ميزان عمله به وارتفعت الكفة فيه ، فأخذ إلى عليين ، وإن رجح هو بعمله نزل بكفته في سجين ، لذلك قال تعالى.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

الوزن يوم القيامة وزنان : وزن الأعمال بعضها ببعض ، ويعتبر في ذلك كفة الحسنات ، ووزن الأعمال بعاملها ، ويعتبر فيها كفة العمل ، لما كان الحشر يوم القيامة والنشور في الأجسام الطبيعية ظهر الميزان بصورة نشأتهم من الثقل ، فإذا ثقلت موازينهم ، وهم الذين أسعدهم الله ، فأرادوا حسنا وفعلوا في ظاهرهم حسنا فثقلت موازينهم ، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ألف مما دون ذلك وما فوقه ، وأما القبيح السيء ، فواحدة بواحدة ، فيخف ميزانه ، أعني ميزان الشقي بالنسبة إلى ثقل السعيد ، واعلم أن الحق تعالى ما اعتبر في الوزن إلا كفة الخير لا كفة الشر ، فهي الثقيلة في حق السعيد ، الخفيفة في حق الشقي ، مع كون السيئة غير مضاعفة ، ومع هذا فقد خفت كفة خيره ، فانظر ما أشقاه ، فالكفة الثقيلة للسعيد هي بعينها الخفيفة للشقي ، لقلة ما فيها من الخير ، أو لعدمه بالجملة ، مثل الذي يخرجه سبحانه من النار وما عمل خيرا قط ، فميزان مثل هذا ما في كفة اليمين منه شيء أصلا ، وليس عنده إلا ما في قلبه من العلم الضروري بتوحيد الله ، وليس له في ذلك تعمل مثل سائر الضروريات ، فلو اعتبر الحق بالثقل والخفة الكفتين ، كفة الخير والشر ، لكان يزيد بيانا في ذلك ، فإن إحدى الكفتين إذا ثقلت خفت الأخرى بلا شك ، خيرا كان أو شرا ، وأما إذا وقع الوزن به ، فيكون هو في إحدى الكفتين وعمله في الأخرى ، فذلك وزن آخر ، فمن ثقل ميزانه نزل عمله إلى أسفل ، فإن الأعمال في الدنيا من مشاق النفوس ، والمشاق محلها النار ، فتنزل كفة عمله تطلب النار ، وترتفع الكفة التي هو فيها لخفتها فيدخل الجنة لأن لها العلو ، والشقي تثقل كفة الميزان الذي هو فيها وتخف كفة عمله ، فيهوي في النار ،

١٢٤

وهو قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فكفة ميزان العمل هي المعتبرة في هذا النوع من الوزن ، الموصوفة بالثقل في السعيد لرفعة صاحبها ، والموصوفة بالخفة في حق الشقي لثقل صاحبها ، وهو قوله تعالى : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) وليس إلا ما يعطيهم من الثقل الذي يهوي به في نار جهنم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

قيل لإبليس : اسجد لآدم ، فغاب عن لام الخفض التي هي إشارة إلى لام الإضافة ، واحتجب العلم عنه بذكر آدم ، فلو رأى اللام من قوله لآدم لرأى نور محيا الذات المطلوبة لقلوب الرجال ، فما كانت تتصور منه الإباية عما دعاه إليه ، فاحتجب إبليس واستكبر بنظره إلى عنصره الأعلى عن عنصر آدم الترابي ، فلما رأى الشرف له امتنع عن النزول للأخس ، وما عرف ما أبطن الله له فيه من سبحات الأسماء الإلهية والإحاطة.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

لما اجتمع النار مع النور في الإحراق وقوة الفعل في بقية العناصر ، نظر إبليس في أصل نشأته وعرف أن عنصره الأعظم النار ، وهو أرفع الأركان مكانا ، وله سلطان على إحالة الأشياء التي تقتضيها الطبيعة ، فإن النار لا تقبل التبريد بخلاف بقية الأركان ، فالهواء يسخن وكذلك الماء وكذلك التراب ، فللنار في نفس الأركان أثر وليس لواحد منها في النار أثر ، وجهل إبليس ما فطر الله آدم عليه من كمال الصورة ، فتكبر ، وأدّاه تأويله أن يفتخر على آدم ويقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي أقرب إليك من هذا الذي خلقته من طين ، ثم علل فقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فالنار أقرب في الإضاءة النورية إلى النور ، والنور اسم

١٢٥

من أسماء الله ، والطين ظلمة محضة ، فجمع إبليس بين الجهل والكذب ، فإنه ما هو خير منه لا عند الله ولا في النشأة ، وفضل بين الأركان ولا فضل بينها في الحقائق ، وما علم أن سلطان الماء الذي خلق منه آدم أقوى منه فإنه يذهبه ، وأن التراب أثبت منه للبرد واليبس ، فلآدم القوة والثبوت لغلبة الركنين اللذين أوجده الله منهما ، وإن كان فيه بقية الأركان ولكن ليس لها ذلك السلطان ، وهو الهواء والنار ، وإبليس بحكم أصل نشأته بخلقه من لهب النار له عدم الثبوت وعدم البقاء على حالة واحدة ، فهو سريع الحركة بحكم أصل خلقه من لهب النار ، والإنسان له الثبوت فإنه من التراب ، فله البرد واليبس فهو ثابت في شغله.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣)

أهبط إبليس للأرض عقوبة لما وقع منه فسأل الله الإغواء أن يدوم له في ذرية آدم لما عاقبه الله بما يكرهه من إنزاله إلى الأرض فقال تعالى مخبرا عنه.

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧)

إن الأعمال هنا في التكليف مقسمة على أربع جهات ، قرن الله السعادة والشقاء بها ، وهي اليمين والشمال والخلف والأمام ، لأن الفوقية لا يمشي الجسم فيها بطبعه ، والتحتية لا يمشي فيها الروح بطبعه ، فما جعلت سعادة الإنسان وشقاوته إلا فيما يقبله طبعه في روحه وجسمه ، وهن الجهات الأربع ، وبها خوطب ، ومنها دخل عليه إبليس ، فهي جهات الأهواء ، ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم لأنه لم يقترن بها عمل ، فإنها للتنزل الإلهي والوهب الرباني الرحماني الذي له العزة والمنع والسلطان ، فلما علم إبليس بهذه الجهات قال : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) فما جاء إبليس إلا من الجهات التي تؤثر في سعادة الإنسان إن سمع منه وقبل ما يدعوه إليه ، وفي شقاوته إن لم يسمع منه ولم يقبل ما دعاه

١٢٦

إليه ، فإن هذه الطرق الأربع هي طرق الشيطان ، قال ذلك لما سمع أمر الله (وَاسْتَفْزِزْ) قال : (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) ولما قال له : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) قال : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ولما قال له الله : (وَشارِكْهُمْ) قال الشيطان : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) ولما قال له : (وَعِدْهُمْ) قال الشيطان : (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) فهي صورة حرب لما كان القلب هو موضع الإمام ، وهو الذي اصطفاه الله من نشأة عبده حين قال : [وسعني قلب عبدي المؤمن] وليس لعدو الله غرض إلا هذا القلب ، فلم يبق للعدو الذي نصبه الله إلا أن يأتي من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا يبتغي الاستيلاء على القلب ، فهي حرب سجال بين جند الله وبين جند الشيطان ، والذي أراد الشيطان هنا ليس هو يمين الجارحة ، فإنه لا يلقي على الجوارح ، وكذلك ما هو شمال الجوارح ولا أمام الإنسان ولا خلفه ، فإن محل إلقائه إنما هو القلب ما يقدح في أفعال ما يتعلق بيمينه أو شماله أو من خلفه أو من بين يديه ، ويستعين على الإنسان بالطبع ، فإنه المساعد له فيما يدعوه إليه من اتباع الشهوات ، فقال : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) بظاهر القول الذي يؤدي إلى التجسيم والتشبيه والتشكيك في الحواس ، ويدفعه المؤمن بالعلم فيمنعه أن يصل إليه فبنور علم البرهان يرد به الشبه المضلة القادحة في وجود الحق وتوحيده وأسمائه وأفعاله ، فبالبرهان يرد على المعطلة ويدل على إثبات وجود الإله ، وبه يرد على أهل الشرك الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، ويدل على توحيد الإله من كونه إلها ، وبه يرد على من ينفي أحكام الأسماء الإلهية وصحة آثارها في الكون ، ويدل على إثباتها بالبرهان السمعي من طريق الإطلاق ، وبالبرهان العقلي من طريق المعاني ، وبه يرد على نفاة الأفعال من الفلاسفة ، ويدل على أنه سبحانه فاعل وأن المفعولات مرادة للحق سمعا وعقلا ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بشبه وأمور من الخيالات الفاسدة ، وهو ما يدعوك إليه أن تقول على الله ما لا تعلم ، وتدعي النبوة والرسالة وأن الله قد أوحى إليك ، فيقوم التفكر فيدفعه ، فإنك إن لم تتفكر وتبحث حتى تعثر على أن تلك الأشياء شبهات هلكت ، وإن طردته من خلفك لاحت لك علوم الصدق ومنازله وأين ينتهي بصاحبه ، كما قال تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) فإن القوة لما كانت صفة الصادق حيث قوي على نفسه ، فلم يتزين بما ليس له ، والتزم الحق في أقواله وأحواله وأفعاله ، وصدق فيها ، أقعده الحق عند مليك مقتدر (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) وهذه الجهة هي الموصوفة بالقوة فإنه يأتي منها ليضعف إيمانك ويقينك ، ويلقي عليك شبها في أدلتك

١٢٧

ومكاشفاتك ، أو يأتيك بالجنة العاجلة وهي الشهوات واللذات ، فيزينها ويحببها للعبد ، ولكن الخوف يعرض له فيدرأه عنها ، ولولاه لوقع فيها ، وبوقوعه يكون الهلاك (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بشبهات التعطيل أو وجود الشريك لله تعالى في ألوهيته ، فتطرده بدلائل التوحيد وعلم النظر الذي يعلم به وجود الباري ، أو يأتي الشيطان عن الشمال بالقنوط واليأس وسوء الظن بالله وغلبة المقت ، ولكن الرجاء وحسن الظن بالله عزوجل يدفعه ويقمعه ، فلتجعل الخوف عن يمينك والرجاء عن شمالك ، والعلم بين يديك والتفكر من خلفك ، فهذه الجهات الأربع التي يدخل عليك الخلل منها ، ومن جهة أخرى فإن الخلف للتعطيل ، والشمال للشرك ، واليمين للضعف ، ومن بين أيديهم التشكيك في الحواس ـ الوجه الثاني ـ الشيطان يأتي للمشرك من بين يديه ، فإنه رأى إذ كان بين يديه جهة عينيه ، فأثبت وجود الله ولم يقدر على إنكاره ، فجعله إبليس يشرك مع الله في ألوهيته ، ويأتي للمعطل من خلفه ، فإن الخلف ما هو محل النظر ، فقال له : ما ثمّ شيء ، أي ما في الوجود إله ، ويأتي إلى المتكبر عن يمينه ، لأن اليمين محل القوة ، فتكبر بقوته التي أحسها من نفسه ، فادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله ، ويأتي المنافق عن شماله ، فإنه أضعف الطوائف ، كما أن الشمال أضعف من اليمين ـ الوجه الثالث ـ لما سكت إبليس في إتيانه العبد للإغواء عن الفوقية سكت عن التحت ، لأنه على خط استواء مع الفوق ، لأنه لعنه الله رأى نزول الأنوار على العبد من فوقه ، فخاف من الاحتراق ، فلم يتعرض في إتيانه من الفوق ، ورأى التحت على خط استواء من فوق ، فإن ذلك النور يتصل بالتحت للاستواء لم يأت من التحت ـ إشارة ـ فإن قلت : لم أتى إبليس ابن آدم من جميع جهاته إلا من أعلاه؟ قلنا : لئلا يحترق بنور تنزل الأمر من مولاه ، فإن قلت : فهلا أتاه من أسفله فيغويه؟ قلنا : إليه يدعوه فلا فائدة فيه ، أي السفل مقام الذل والعبودية. اعلم أن لك ست جهات ، أربعة منها للشيطان ، وواحدة لك وواحدة لله ، فأنت فيما منها لله معصوم فمن ثمّ خذ التلقي ، واحذر من الباقي وهو الخمسة ، ولذا جاء الشرع بخمسة أحكام ، منها جهتك وجهات الشيطان منك ، وأما جهته منك فلا حكم فيها للشرع ، وهي جهة معصومة لا يتنزل على القلب منها إلا العلوم الإلهية المحفوظة من الشوب.

١٢٨

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

لا سبيل لخروج إبليس من جهنم لأنه وأتباعه من المشركين الذين هم أهل النار يملأ الله بهم جهنم ولا نقص فيها بعد ملئها فلا خروج.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

(فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) كلا هو العامل في قوله : (مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) ، أول نهي ظهر في الوجود قوله تعالى لآدم وحواء : (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) وكذلك أول أمر قوله تعالى للملائكة ولإبليس (اسْجُدُوا لِآدَمَ) فكان أول أمر ظهر في الوجود ، ولما كان هذا أول أمر ونهي لذلك وقعت العقوبة عند المخالفة ، والنهي ليس بتكليف عملي ، فإنه يتضمن أمرا عدميا ، وهو لا تفعل ، ومن حقيقة الممكن أنه لا يفعل ، فكأنه قيل له : لا تفارق أصلك ، والأمر ليس كذلك ، فإنه يتضمن أمرا وجوديا ، وهو أن يفعل ، فكأنه قيل له : اخرج عن أصلك ، فالأمر أشق على النفس من النهي ، إذ كلف الخروج عن أصله ، فلو أن إبليس لمّا عصى ولم يسجد لم يقل ما قال (*) من التكبر والفضلية التي نسبها إلى نفسه على غيره ، فخرج عن عبوديته بقدر ذلك ، فحلت به عقوبة الله ، وكانت العقوبة لادم وحواء لما تكلفا الخروج عن أصلهما وهو الترك ، ومن هذه الحقيقة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا] ـ إشارة ـ ما وقع التحجير على آدم إلا في الشجرة ، أي لا تقرب التشاجر ، والزم طريق إنسانيتك وما تستحقه ، ولا تزاحم أحدا في حقيقته ، فإن المزاحمة تشاجر وخلاف ، ولهذا لما قرب من الشجرة خالف نهي ربه ، فكان مشاجرا فذهب عنه في تلك الحال السعادة العاجلة في الوقت.

__________________

(*) جواب لو إما أن يكون محذوفا يفهم من السياق ، أو ساقطا من الأصل ، والمعنى : لو أن إبليس لما عصى ولم يسجد لم يقل ما قال ، ما عوقب ، لأنه لم يخرج عن أصله ، ولكنه لما قال ما قال من التكبر والفضلية ... إلخ.

١٢٩

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢)

تقدم الأمر لآدم عليه‌السلام بسكن الجنة والأكل منها حيث شاء ، ثم نهاه عن قرب شجرة مشار إليها أن يقربها ، فوقع التحجير والنهي في قوله : (حَيْثُ شِئْتُما) لا في الأكل فما حجر عليه الأكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان قد أطلقه في (حَيْثُ شِئْتُما) فما أكلا منها حتى قربا ؛ فتناولا منها ، فأخذا بالقرب لا بالأكل ـ إشارة ـ سر ظهور سوءاتهما ، معاينة مكمنات غاياتهما ، ونظيرهما في الوجود ، القلم واللوح المشهود ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، ليكون لهما عن ملاحظة الأغيار جنة.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣)

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) حيث لم نتفطن لإشارتك بالتحجير والمنع في موطن التسريح والإباحة ، فظلمنا أنفسنا بما اكتسبت من الخطايا ، حيث عرضوها إلى التلف ، وكان حقا عليهم أن يسعوا في نجاتها بامتثال نهي سيدهم (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي وإن لم تسترنا عن وارد المخالفة حتى لا يحكم بسلطانه علينا ، فإنه لا يقدر على سترها إلا أنت (وَتَرْحَمْنا) بذلك الستر (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ما ربحت تجارتنا ، وهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه أعطاه إياها لما اجتباه من قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) وما زاد آدم عليه‌السلام على الاعتراف والدعاء ، فلم ير أكمل من آدم معرفة ، حيث اعترف ودعا ، وما عهد مع الله توبة عزم فيها أنه لا يعود.

١٣٠

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢٤)

قيل لإبليس وحواء وآدم (اهْبِطُوا) بضمير الجماعة في ضمير واحد ، وهو كان أشد عقوبة على آدم ، ولم يكن الهبوط عقوبة لآدم وحواء ، وإنما كان عقوبة لإبليس ، فإن آدم أهبط لصدق الوعد بأن يجعل في الأرض خليفة ، بعد ما تاب عليه واجتباه ، وتلقى الكلمات من ربه بالاعتراف ، فاعترافه عليه‌السلام في مقابلة كلام إبليس (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فعرفنا الحق بمقام الاعتراف عند الله وما ينتجه من السعادة ، لنتخذه طريقا في مخالفاتنا ، وعرفنا بدعوى إبليس ومقالته لنحذر من مثلها عند مخالفتنا ، وأهبطت حواء للتناسل ، وأهبط إبليس للإغواء ، فكان هبوط آدم وحواء هبوط كرامة ، وهبوط إبليس هبوط خذلان وعقوبة واكتساب أوزار ـ إشارة ـ جعل بعضهم لبعض عدوا في هذه الدار ، ليستعينا بتأييد الله ، فيصح منهما الافتقار ، وينفرد جلاله بالعزيز الغفار.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

(يا بَنِي آدَمَ) ـ إشارة ـ رحم آدم عليه‌السلام رحم مقطوعة عند أكثر الناس من أهل الله ، فكيف حال العامة في ذلك؟ فما تفطن الناس لقول الله تعالى في غير موضع «يا بني آدم يا بني آدم» يذكّر ، ولا أحد ينتبه لهذه الأبوة والبنوة ، ولا يتذكر إلا أولو الألباب ، جعلنا الله وإياكم ممن بر أباه (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) وليس إلا ما يسوءكم ما ينظر إليه منكم ، لما نسب إليها من المذام ، ـ إشارة ـ فقد سميت السوءة عورة لميلها ، فإن لها درجة السر في الإيجاد الإلهي ، وأنزلها الحق منزلة القلم الإلهي كما أنزل المرأة منزلة اللوح لرقم هذا القلم ، فلما مالت عن هذه المرتبة العظمى والمكانة الزلفى إلى أن تكون محلا لوجود الروائح الكريهة الخارجة منهما ، عن أذى الغائط والبول ، وجعلت نفسها طريقا لما تخرجه القوة الدافعة من البدن ، سميت عورة ، وأمر بستر هذه الحقيقة ، واللباس هو ما

١٣١

يواري ويستر ويمنع من الضرر ، وهو ما زاد على الريش (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) فيسترها غيرة (وَرِيشاً) هو لباس الظاهر (وَلِباسُ التَّقْوى) هو لباس الباطن (ذلِكَ خَيْرٌ) أي هو خير لباس ، فالتقوى لباس ، لأن الوقاية ستر يتقى به ما ينبغي أن يتقى منه ، فجعل التقوى لباسا ، والبدن هنا هو القلب ، ولذلك قال : (ذلِكَ خَيْرٌ) أي هو خير لباس ، والتقوى في اللباس هنا ما يقي به الإنسان كشف عورته ، ويكون سترا لعورته التي هي مذام الأخلاق ، وما يقى به الإنسان برد الهواء وحره ، فهو خير لباس من الريش. اعلم أن لباس الباطن الغذا ولباس الظاهر ما يدفع به الأذى ، فالجوع ألم يدفعه بالطعام ، والعطش ألم يدفعه بالشراب ، والحر والبرد ألم يدفعهما باللباس ، وسائر الآلام يدفعها بالأدوية التي جعلها الله لدفع الآلام ، وما عدا الدفع إما زينة أو اتباع شهوة.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) فالتحق النساء بالرجال في الأبوة (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) فوصفهم باللطافة ، ويرانا هو وقبيله شهودا عينا ، فإن الاسم اللطيف أورث الجان الاستتار عن أعين الناس ، فلا تدركهم الأبصار إلا إذا تجسدوا.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨)

الأمر من أقسام الكلام ، فما أمر الله بالذنوب وإنما أمر بالمسابقة والإسراع إلى الخير وفيه وإلى المغفرة ، وكما أنه تعالى لم يأمر بالفحشاء ، كذلك لا يريدها ، لكن قضاها وقدرها ،

١٣٢

وبيان كونه لا يريدها ، لأن كونها فاحشة ليس عينها ، بل هو حكم الله فيها ، وحكم الله في الأشياء غير مخلوق ، لأنه عين علمه بها في هذه الحالة ، فلا يكون مرادا فلا يكون الحكم مأمورا به ، وما لم يجر عليه الخلق لا يكون مرادا ، فإن ألزمناه في الطاعة التزمناه ، وقلنا الإرادة للطاعة ثبتت سمعا لا عقلا ، فاثبتوها في الفحشاء ، ونحن قبلناها إيمانا كما قبلنا وزن الأعمال وصورها مع كونها أعراضا ، فلا يقدح ذلك فيما ذهبنا إليه لما اقتضاه الدليل.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)

اختلف في الإعادة ، هل تكون على صورة ما أوجدنا في الدنيا من التناسل شخصا عن شخص بجماع وحمل وولادة في آن واحد للجميع؟ وهو مذهب أبي القاسم بن قسي ، فإن إحياء الموتى يوم القيامة يكون في الزمان القليل على صورة ما جاؤوا عليها في الزمان الكثير ، فإن الإعادة إن لم تكن على صورة الابتداء وإلا ليست بإعادة ، أو يعودون روحا إلى جسم؟ وهو مذهب الجماعة ، فقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) يعني في النشأة الآخرة أنها تشبه النشأة الدنياوية في عدم المثال ، فإن الله أنشأنا على غير مثال سبق ، وكذلك ينشئنا على غير مثال سبق ، فقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) يعني في النشأة الآخرة أنها تشبه النشأة الدنياوية في عدم المثال ، فإن الله أنشأنا على غير مثال سبق ، وكذلك ينشئنا على غير مثال سبق ، فقوله : (كَما بَدَأَكُمْ) يعني على غير مثال (تَعُودُونَ) على غير مثال ، يعني في النشأة الآخرة ، فإن الصورة لا تشبه الصورة ، ولا المزاج المزاج ، وقد وردت الأخبار الإلهية بذلك على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام وهم الرسل ، فالنشأة الآخرة ليست من مولدات العناصر بل هي من مولدات الطبيعة ، فلذلك لا تنام ولا تقبل النوم ، فلا ينام أهل الجنة في الجنة ، ولا يعيب عنهم شيء من العالم ، بل كل عالم من حس ومعنى وبرزخ مشهود لهم ، مع كونهم غير متصفين بالنوم ، فإن قيل : فما فائدة قوله : (تَعُودُونَ)؟ قلنا : يخاطب الأرواح الإنسانية أنها تعود إلى تدبير الأجسام في الآخرة كما كانت في الدنيا ، على المزاج الذي خلق تلك النشأة عليه ، ويخرجها من قبرها فيها ، ومن النار حين ينبتون كما تنبت الحبة تكون في حميل السيل ، مع القدرة منه على إعادة ذلك المزاج ، لكن ما شاء ، ولهذا علق المشيئة به فقال تعالى : (إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) يعني المزاج الذي كان

١٣٣

عليه ، فلو كان هو بعينه لقال (ثم ينشره) فكان قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) هو قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا) وقد علمنا أن النشأة الأولى أوجدها الله على غير مثال سبق ، فهكذا النشأة الآخرة يوجدها الله تعالى على غير مثال سبق ، مع كونها محسوسة بلا شك ، وقد ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة نشأة أهل الجنة والنار ما يخالف ما هي عليه هذه النشأة الدنيا ، فعلمنا أن ذلك راجع إلى عدم مثال سابق ينشئها عليه ، وهو أعظم في القدرة ، فينشىء الله النشأة الأخرى على عجب الذنب الذي يبقى من هذه النشأة الدنيا ، وهو أصلها ، فعليه تركيب النشأة الآخرة ، وهو لا يبلى ولا يقبل البلى ، فإذا أنشأ الله النشأة الآخرة وسواها وعدلها ، ينفخ إسرافيل نفخة واحدة ، فتمر تلك النفخة على الصور البرزخية فتطفئها ، وتمر النفخة التالية وهي الأخرى إلى الصور المستعدة للاشتعال وهي النشأة الأخرى فتشتعل بأرواحها ، فإذا هم قيام ينظرون ، فتقوم الصور أحياء ناطقة بما ينطقها الله به ، فمن ناطق بالحمد لله ، ومن ناطق يقول : من بعثنا من مرقدنا؟ ومن ناطق يقول : سبحان من أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ، وكل ناطق ينطق بحسب علمه وما كان عليه ، ونسي حاله في البرزخ ، ويتخيل أن ذلك الذي كان فيه منام ، كما تخيله المستيقظ ، وقد كان حين مات وانتقل إلى البرزخ كأن المستيقظ هناك وأن الحياة الدنيا كانت له كالمنام ، وفي الآخرة يعتقد في أمر الدنيا والبرزخ أنه منام في منام ، وأن اليقظة الصحيحة هي التي هو عليها في الدار الآخرة ، وهي يقظة لا نوم فيها ، ولا نوم بعدها لأهل السعادة ، لكن لأهل النار وفيها راحتهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] فالدنيا بالنسبة إلى البرزخ نوم ومنام ، فإن البرزخ أقرب إلى الأمر الحق ، فهو أولى باليقظة ، والبرزخ بالنظر إلى النشأة الأخرى يوم القيامة منام ، واعلم أن الإنسان مقلوب النشأة ، فآخرته في باطنه ودنياه في ظاهره ، ففي نشأة الآخرة باطنه في الدنيا صورة ظاهره في النشأة الآخرة وظاهره في الدنيا باطنه في النشأة الآخرة ، لهذا جاء (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) فالآخرة مقلوب نشأة الدنيا ، والدنيا مقلوب نشأة الآخرة ، والإنسان هو الإنسان عينه ، فاجهد أن تكون خواطرك هنا محمودة شرعا ، فتجمل صورتك في الآخرة وبالعكس ، فلا يعلم (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) إلا من علم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) وهو عودة الحق إلى الخلق وإن اختلفت الصور ، ففيه إثبات الغير ، فإثبات الإعادة

١٣٤

الإيمان بها يعطي السعادة ، فلا تكرار في الوجود وإن خفي في الشهود ، فذلك لوجود الأمثال ، ولا يعرفه إلا الرجال ، لو تكرر لضاق النطاق ، ولم يصح الاسم الواسع بالاتفاق ، وبطل كون الممكنات لا تتناهى ، ولم يثبت ما كان به يتباهى ـ وجه آخر ـ (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) اعلم أن الإنسان خلق من ضعف ، صورة ومعنى ، وإلى الضعف يعود ، وإنما يترقى إلى ظهوره في الصور بالعوارض ، فقوته في التوسط بجعل الله تعالى ، كما قال سبحانه : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) فجاء بالجعل لأجل الشيبة ، فأما الضعف فهو أصله عاد إليه ، لذلك قال تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وقال : (مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) وقال : (ثم يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم من بعد علم شيئا) وذلك أوان رجوعه إلى المهد ، قال سبحانه وتعالى : (وجعلنا الأرض مهادا).

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) هذا أمر من الحق بالتجمل لله ، وهو عبادة مستقلة ، ولا سيما في عبادة الصلاة ، فالزينة مأمور بها ، والزينة هو اللباس الحسن ، ومنها لباس التقوى فإنه خير لباس ، فأمرنا الله بالزينة عند كل مسجد يريد مناجاته ، وهي قرة عين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مؤمن ، لما فيها من الشهود ، فإن الله في قبلة المصلي ، وقد قال : [اعبد الله كأنك تراه] ولا شك أن الجمال محبوب لذاته ، وفي الحديث أن رجلا قال للنبي عليه‌السلام : أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا ، فقال عليه‌السلام : الله أولى من تجمّل له. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله جميل يحب الجمال] قال الصاحب لما نزلت هذه الآية : أمرنا فيها بالصلاة في النعلين ـ إشارة لا تفسير ـ إن النعلين إشارة في الاستعانة بالسير إلى الله والسفر إليه بالكتاب والسنة ، وهي زينة كل مسجد ، فتزين وتجمل تارة بنعتك من

١٣٥

ذلة وافتقار وخشوع وخضوع وسجود وركوع ، وتارة بنعته عزوجل من كرم ولطف ورأفة وتجاوز وعفو وصفح ومغفرة وغير ذلك مما هو لله ، ومن زينة الله التي ما حرمها الله على عباده ، فإذا كنت بهذه المثابة أحبك الله لما جملك به من هذه النعوت ، فزينة الله غير محرمة علينا ، والذي وقع عليه الذم زينة الحياة الدنيا ، أي الزينة القريبة الزوال ، أي لا تلبسوا من الملابس إلا ما يكون دائما ، كملابس العلوم والمعارف ، فإنها لا تخلق ولهذا قال : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) يعني العلم الذي ألبسك التقوى من قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قال علماء الطبيعة : ما قال أحد في أصل هذا العلم أجمع ولا أبدع من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : [المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وأصل كل داء البردة] وأمر في الأكل إن كثر ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه] هذا في تدبير هذا البيت الذي هو هذه الأجسام الطبيعية التي خلقها وسواها وعدلها بالبناء لسكنى النفوس الإنسانية المدبرة لها. واعلم وفقك الله أن النفس العدوة الكافرة الأمارة بالسوء ، لها على الإنسان قوة كبيرة وسلطان عظيم بسيفين ماضيين ، تقطع بهما رقاب صناديد الرجال وعظمائهم ، وهما شهوة البطن والفرج ، اللتان قد تعبدتا جميع الخلائق وأسرتاهم ، فقد سلط الله تعالى على هذا العبد الضعيف المسكين المسمى بالإنسان ، شهوتين عظيمتين وآفتين كبيرتين ، هلك بهما أكثر الناس ، وهما شهوة البطن والفرج ، غير أن شهوة الفرج وإن كانت عظيمة قوية السلطان ، فهي دون شهوة البطن ، فإنها ليس لها تأييد إلا من شهوة البطن ، فإن غلب هذا العدو البطني يقل التعب مع الفرج ، بل ربما تذهب ذهابا كليا ، فهذه الشهوة البطنية تجعل صاحبها أولا يمتلىء من الطعام ، مع علمها أن أصل كل داء البردة ، دينيا كان أو طبيعيا ، فالداء الطبيعي الذي تنتجه هذه البردة ، هو فساد الأعضاء من أبخرة فاسدة ، تتولد عنه آلام وأمراض مؤدية إلى الهلاك ، وأما الداء الديني فإنه يؤدي إلى هلاك الأبد ، فكونه يؤديك إلى فضول النظر والكلام والمشي والجماع وغير ذلك من أنواع الحركات المردية ، وإن كان الأمر على هذا الحد ، فواجب على كل عاقل أن لا يملأ بطنه من طعام ولا شراب أصلا ، فإن كان صاحب شريعة طالبا سبيل النجاة ، فيتوجه عليه وجوبا تجنب الحرام ، والورع في الشبهات المظنونة ، وأما المحققة فواجب عليه تجنبها

١٣٦

كالحرام ، على كل حال من الأحوال ، فإنه ما أتي على أحد إلا من بطنه ، منه تقع الرغبة وقلة الورع في الكسب والتعدي لحدود الله تعالى ، فالله الله يا بني ، التقليل في الغذاء الطيب في اللباس والطعام ، فإن اللباس أيضا غذاء الجسم كالطعام ، به ينعم ، حيث يحفظه من الهواء البارد والحار ، الذي هو بمنزلة الجوع والامتلاء والظمأ والري المتفاوت ، فكل واشرب والبس لبقاء جسمك في عبادتك لا لنفسك ، فإن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعة بما كان ، ووقاية من الهواء الحار والبارد بما كان ، وأما النفس فلا تطلب منك إلا الطيب من الطعام الحسن الطعم والمنظر ، وكذلك المشرب والمركب والمسكن والملبس ، إنما تريد من كل شيء أحسنه وأعلاه منزلة وأغلاه ثمنا ، ولو استطاعت أن تنفرد بالأحسن من هذا كله دون النفوس كلها لم تقصر في ذلك ، والذي يؤديها إلى ذلك طلب التقدم والترأس ، وأن ينظر إليها ويشار ، وأن لا يلتفت إلى غيرها ، ولا تبالي حراما كان ذلك أو حلالا ، والجسم ليس كذلك ، إنما مراده الوقاية مما ذكرناه ، فصار الجسم من هذه طالبا لما يصونه خاصة ، من أكل وشرب وملبس ومسكن وأشباه ذلك مما يصلح به ، وصارت النفس أو العقل الشرعي الكاسبة والمطعمة له ، فإن كانت النفس المغذية له والناظرة في صونه خاض في الشبهات وتورط في المحرمات ، لأنها أمارة بالسوء ومطمئنة بالهوى ، فهلكت وأهلكته في الدارين ، لأنها ربما لا تبلغ هنا مناها وطلبتها ، لأن الأمر الإلهي رزق مقسوم ، وأجل مسمى محدود ، وإن كان العقل الشرعي المغذي له ، تقيّد وأخذ الشيء من حله ووضعه في حقه ، وترك الشهي من الطعام وإن كان حلالا ، فغذاؤه ما تيسر ، وهمته فيما عند مولاه من رؤيته إلى ما دون ذلك مما يبقى بخلاف النفس ، فإن همتها وإن تعلقت بما هو حسن في الحال ، فمآله عذر نتن ، نسأل الله العافية ، والحجة علينا في هذا بيّنة ، لأنه لو كان هذا خبرا لكان بعض عذر وإنما هذا كله معاينة منّا ، وليت لو وقفت الحال هنا ، ولا تبقى عليه تبعات ذلك في الدار الآخرة ، حين يسأل مم كسبت؟ وفيما أنفقت؟ ويسأل عن الفتيل والقطمير ، بل في مثقال ذرة ، فالحجة قائمة للعاقل على نفسه إن طلبت منه هذا ، فما يجب عليك في الطعام من اجتناب المحظور فيه والمتشابه ، يتوجه عليك في اللباس ، والتقليل من هذا كالتقليل من هذا ، وما ملىء وعاء شر من بطن ملىء بالحلال ، وينبغي أن لا تأكل إلا مما تعرف إذا كنت موكلا لنفسك ، فإن رأس الدين الورع ، والزهد قائد الفوائد ، وكل عمل لا يصحبه

١٣٧

ورع فصاحبه مخدوع ، فاسع جهدك في أن تأكل من عمل يدك إن كنت صانعا ، وإلا فاحفظ البساتين والفدادين ، والزم الاستقامة فيما تحاوله على الطريقة المشروعة ، والورع الشافي الذي لا يبقي في القلب أثر تهمة ، إن أردت أن تكون من المفلحين ، وهذا لا يحصل إلا بعد تحصيل العلم المشروع بالمكاسب والحلال والحرام ، لا بد لك منه هذا إذا كنت موكلا لنفسك ، واعلم آن الحلال عزيز المنال على جهة الورع ، قليل جدا ، لا يحتمل الإسراف والتبذير ، بل إذا تورعت على ما لزمه أهل الورع في الورع ، فبالحري أن يسلم لك قوتك على التقتير ، كيف أن تصل به إلى نيل شهوة من شهوات النفس؟ فالله الله يا بني ، حافظ على نفسك أن لا تصاحبها في شهوتها لهذه المطاعم الغالية الأثمان ، فإنك إن صاحبتها عليها وتقوى في خاطرك أن لو نلتها لعذوبتها وأن تأخذها على وجه الاعتبار ، أعمت بصيرتك ودلتك بغرور ، وأدخلت عليك ضربا من التأويلات في مكسبك ، ليكثر درهمك بما تلحق تلك الشهوة ، حتى تؤديك إلى التوريط في الشبهات ، وهي تريد الحرام ، فإن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فسد عليها هذا الباب ، ولا تطعمها إلا ما تقوى به على أداء ما كلّفته وتكلفته ، على الشرط الذي ذكرت لك من التقليل ، وهكذا في اللباس ، وإياك والإسراف في النفقة وإن كانت حلالا صافيا ، فإنه مذموم وصاحبه مبذر ملوم ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فهذا قد عم اللباس والطعام والشراب ، فالبطن يا بني أكبر الأعداء بعد الهوى ، والفرج بعدهما ، عصمنا الله من الشهوات ، وحال بيننا وبين الآفات.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) فإن الله أضاف الزينة إليه ، وما أضافها إلى الدنيا ولا إلى الشيطان ، وأكثر من هذا البيان في مثل هذا القرآن فلا يكون ، فعليك بتحرير النية في

١٣٨

استخدام زينة الله للتجمل لله ، لأنه لا فرق بين زينة الله وزينة الحياة الدنيا إلا بالقصد والنية ، وإنما عين الزينة هي هي ، ما هي أمر آخر ، فالنية روح الأمور ، وإنما لامرىء ما نوى ، ورد في صحيح مسلم أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، إني أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله جميل يحب الجمال ، وقال : إن الله أولى من تجمل له ، هذا المقصود بالتجمل لله ، لا للزينة والفخر بعرض الدنيا ، والزهو والعجب والبطر على غيره ، واجهد نفسك يا ولي أن تتحلى بحلية قوم بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شوقا إليهم ، لا يؤثر فيك كلام المغرورين من الفقهاء علماء السوء ، الذين لبسوا رقاق الثياب ، وتناولوا لذيذ المطاعم ، فإن قلت لهم في ذلك تلوا عليك (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) فقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم سيقولون هذا إذا قلت لهم في ذلك ، فمن حديث سعيد بن زيد بن نفيل ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل على أسامة بن زيد ، فقال : يا أسامة عليك بطريق الجنة ، وإياك أن تختلج دونها ، فقال : يا رسول الله ، وما شيء أسرع ما يقطع به ذلك الطريق ، قال : الظمأ في الهواجر وكسر النفس عن لذة الدنيا ، يا أسامة وعليك عند ذلك بالصوم ، فإنه يقرب إلى الله عزوجل ، إنه ليس من شيء أحب إلى الله عزوجل من ريح فم الصائم ، ترك الطعام والشراب لله عزوجل ، وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل ، فإنك تدرك شرف المنازل في الآخرة ، وتحمل مع النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، تفرح بقدوم روحك عليهم ، ويصلي عليك الجبار تبارك وتعالى ، وإياك يا أسامة وكل كبد جائع يخاصمك إلى الله عزوجل يوم القيامة ، وإياك يا أسامة ودعاء عباد قد أذابوا اللحوم ، وأحرقوا الجلود بالريح والسمائم ، وأظمأوا الأكباد ، حتى غشيت أبصارهم ، فإن الله عزوجل قد نظر إليهم وباهى بهم الملائكة عليهم‌السلام ، بهم تصرف الزلازل والفتن ، ثم بكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اشتد نحيبه ، وهاب الناس أن يكلموه ، حتى ظنوا أن أمرا قد حدث بهم من السماء ، ثم تكلم فقال : ويح هذه الأمة ، ما يلقى منهم من أطاع الله ربه عزوجل فيهم!! كيف يقتلونه ويكذبونه من أجل أنه أطاع الله تعالى؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله ، والناس يومئذ على الإسلام؟ قال : نعم ، قال : ففيم إذن يقتلون من أطاع الله وأمرهم بطاعة الله؟ فقال : يا عمر ترك الناس الطريق ، وركبوا الدواب ، ولبسوا ليّن

١٣٩

الثياب ، وخدمتهم أبناء فارس ، يتزين الرجل منهم تزين المرأة لزوجها ، ويتبرج النساء ، زيهم زي الملوك الجبابرة ، ودينهم دين كسرى وهرمز ، يتسمون بالجشا ، فإذا تكلم أولياء الله عزوجل ، عليهم العباءة ، منحنية أصلابهم ، قد ذبحوا أنفسهم من العطش ، فإذا تكلم منهم متكلم ، كذّب وقيل له : أنت قرين الشيطان ورأس الضلالة ، تحرم زينة الله والطيبات من الرزق ، ويتلون كتاب الله عزوجل على غير علم ، استذلوا أولياء الله عزوجل ، اعلم يا أسامة ، أن أقرب الناس إلى الله عزوجل يوم القيامة من أطال حزنه وعطشه وجوعه في الدنيا ، الأخفياء الأبرياء الذين إذا شهدوا لم يقربوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا ، تعرفهم بقاع الأرض يعرفون في أهل السماء ويخفون على أهل الأرض ، وتحف بهم الملائكة ، تنعم الناس بالشهوات ، وتنعموا هم بالجوع والعطش ، لبس الناس ليّن الثياب ، ولبسوا هم خشن الثياب ، وافترش الناس الفراش ، وافترشوا الجباه والركب ، ضحك الناس وبكوا ، يا أسامة لا يجمع الله عزوجل عليهم الشدة في الدنيا والآخرة ، لهم الجنة ، فيا ليتني قد رأيتهم ، يا أسامة ، لهم الشرف في الآخرة ، ويا ليتني قد رأيتهم ، الأرض بهم رحبة ، والجبار عنهم راض ، ضيّع الناس فعل النبيين وأخلاقهم ، وحفظوا ، الراغب من رغب إلى الله مثل رغبتهم ، والخاسر من خالفهم ، تبكي الأرض إذا فقدتهم ، ويسخط الله على كل بلدة ليس فيها مثلهم ، يا أسامة إذا رأيتهم في قرية فاعلم أنهم أمان لأهل تلك القرية ، لا يعذب الله عزوجل قوما هم فيهم ، اتخذهم لنفسك عسى أن تنجو بهم ، وإياك أن تدع ما هم عليه ، فتزل قدمك ، فتهوي في النار ، طلبوا الفضل في الآخرة ، تركوا الطعام والشراب على قدرة ، لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيفة ، شغل الناس بالدنيا وشغلوا أنفسهم بطاعة الله عزوجل ، لبسوا الخلق ، وأكلوا الفلق ، تراهم شعثا غبرا ، يظن الناس أن بهم داء وما ذاك بهم ، ويظن الناس أنهم خولطوا وما خولطوا ، ولكن خالط القوم حزن ، وتظن أنهم ذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ، ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر ذهب بعقولهم عن الدنيا ، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول ، يا أسامة عقلوا حين ذهبت عقول الناس ، لهم الشرف في الآخرة ـ انته الحديث ـ فانظر يا ولي وصف حبيب الله ورسوله لأولياء الله ، وكيف نعتهم ، فإن قلت إن زينة الله هي الحلال التي ما فيها حرام ، فما حكم المتنعم في الدنيا المباح له التنعم في الحلال؟ قلنا : لا نمنع ذلك في حق غير العارف ، ولكن العارف تحت سلطان

١٤٠