رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

بالتفكر وقيام الآلام واللذات به؟ فهل تلك الصورة التي ظهرت تشبه الحيوان أو الإنسان أو ما كان ، تقبل هذا الحكم في نفس الأمر؟ أو الرائي إذا لم يعلم أنها إنسان أو حيوان ما له أن يحكم عليها بما يحكم على من في تلك الصورة عينه ، كيف الأمر في ذلك؟ فاعلم أن الملك على صورة تخالف البشر في نفسه وعينه ، وكما تخالف البشر فقد خالفه أيضا البشر ، مثل جبريل ظهر بصورة أعرابي بكلامه وحركته المعتادة من تلك الصورة في الإنسان ، هي في الصورة الممثلة كما هي في الإنسان ، أو هي من الصورة كما هي الصورة متخيلة أيضا ، ويتبع تلك الصورة جميع أحكامها من القوى القائمة بها في الإنسان ، كما قام بها الكلام والحركة والكيفيات الظاهرة ، فهو في الحقيقة إنسان خيالي ، أعني الملك في ذلك الزمان ، وله حكم تلك الصورة في نفس الأمر أيضا ، على حدّ الصورة من كونها إنسانا خياليا ، فإذا ذهبت تلك الصورة ، ذهبت أحكامها لذهابها ، وسبب ذلك أن جوهر العالم في الأصل واحد ، لا يتغير عن حقيقته ، وأن كل صورة تظهر فيه ، فهي عارضة تستحيل في نفس الأمر في كل زمان فرد ، والحق يوجد الأمثال على الدوام ، لأنه خالق على الدوام والممكنات في حال عدمها مهيأة لقبول الوجود ، فمهما ظهرت صورة في ذلك الجوهر ، ظهرت بجميع أحكامها سواء كانت تلك الصورة محسوسة أو متخيلة ، فإن أحكامها تتبعها كما قال الأعرابي ، لما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصف الحق جل جلاله بالضحك ، قال : لا نعدم خيرا من رب يضحك ، إذ من شأن من يضحك أن يتوقع منه وجود الخير ، فكما أتبع الصورة الضحك ، أتبعها وجود الخير منها ، وهذا في الجناب الإلهي فكيف في جوهر العالم؟.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣)

٣٤١

(رَحْمَتُ اللهِ) أضيفت الرحمة إلى الله لشمولها الامتنان والوجوب (وَبَرَكاتُهُ) والبركات هي الزيادة (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) المجد هو الشرف ، وأعظم المجد هو ما اعترف به العبد لربه بأن شهد له بأنه الملك يوم الدين ، فله المجد والشرف على العالم في الدنيا والآخرة ، لأنه يجازي العالم على أعمالهم في الدنيا والآخرة ، فقد ورد أن المصلي إذا قال (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول الحق مجدني عبدي ، أي جعل لي الشرف عليه كما هو الأمر في نفسه.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (٧٥)

الحلم هو ترك الأخذ بالجريمة في الحال مع القدرة ، فالحليم لا يعجل مع القدرة وارتفاع المانع ، ووصف الحق إبراهيم عليه‌السلام بالتأوه مما يجده في صدره من رده ، فتأوه لما رأى من عبادة قومه ما نحتوه ، وحلم فلم يعجل بأخذهم على ذلك مع قدرته عليهم بالدعاء عليهم ، ولهذا سمي حليما فلو لم يقدر ولا مكّنه الله من أخذهم ، ما سماه سبحانه حليما ولكنه عليه‌السلام علم أنه في دار الامتزاج والتحول من حال إلى حال ، فكان يرجو لهم الإيمان فيما بعد ، فهذا سبب حلمه ، ولو علم من قومه ما علم نوح عليه‌السلام حيث قال : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ما حلم عليهم ، فالأواه هو الذي يكثر التأوه لبلواه ، ولما يقاسيه ويعانيه مما يشاهده ويراه ، وهو من باب الغيرة والحيرة (مُنِيبٌ) المنيبون هم الذين رجعوا إلى الله من كل شيء أمرهم الله بالرجوع عنه ، مع شهودهم في حالهم أنهم نواب عن الله في رجوعهم ، إذ كانت نواصي الخلق بيده ، يصرفهم كيف يشاء ، فمن شاهد نفسه في إنابته إلى ربه نائبا عن الله ، كما ينوب المصلي عن الله في قوله : سمع الله لمن حمده ، وفي تلاوته ، كذلك رجوعه إلى الله في كل حال ، يسمى منيبا ، فلهم خصوص هذا الوصف.

(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ

٣٤٢

غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠)

يقول لوط عليه‌السلام لقومه : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي همة فعالة ، فمن كان الحق قواه فلا همة تفعل فعل من هذه صفته ، لكن الأمر لا يكون إلا ما سبق به الكتاب ، وهو عليه‌السلام من أعلم الناس بالله ، ويعلم أنه ما يكون إلا ما سبق به الكتاب ، ولا كتب تعالى إلا ما علم ، وما علم إلا ما هو المعلوم عليه ، فلا تبديل لكلمات الله ، وما يبدل القول لديه ، وما هو بظلام للعبيد ، فلا يقع إلا ما هو الأمر عليه ، ولو حرف امتناع لامتناع ، فأراد بالقوة إظهار الأثر الذي جاء به ، وهو شريعته فيهم ، ثم قال (أَوْ) وهي أداة أعطته ما عليه الإمكان ، فقال (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فأراد بالركن الشديد ـ إذ لم يتمكن الأثر فيهم ـ أن يحمي نفسه عنهم حتى لا يؤثروا فيه ، فلهذا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الأمرين القوة والإيواء ، ولا شك أن الرسل عليهم‌السلام أعلم الناس بالله ، فلا يأوون إلا إلى الله ، فآوى إلى من يفعل ما يريد ولا اختيار في إرادته ولا رجوع عن علمه ، فآوى إلى من لا تبديل لديه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد] يعني بذلك إيواءه إلى الله ، والاستناد إلى القوي حمى لا ينتهك ، فيرجع طالب انتهاكه خاسرا ، لذلك اشتدت العقوبة على قوم لوط ، وإن كان يحتمل من قول لوط عليه‌السلام (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) يريد القبيلة ، لأني لا أستطيع الانتقال من الركن الإلهي إلى الركن الكوني ، وقد شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال : [يرحم الله أخي لوطا ، فقد كان يأوي إلى ركن شديد] ، أتراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكذبه؟ حاشى لله ، وإن كان الركن الشديد الذي أراده لوط ، هو القبيلة ،

٣٤٣

والركن الشديد الذي ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الله ، فنعم الشاهد والمشهود له ، ويحتمل أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد ضعف المعرفة ، فالركن الشديد هو الحق مدبره ومربيه ـ إشارة ـ اعلم أن اسم لوط أعني هذه اللفظة اسم شريف جليل القدر ، لأنه يعطي اللصوق بالحضرة الإلهية ، فلاستناده إليه ولصوقه به في علم الله سمي لوطا ، لم يضف إلى غيره.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١)

أول اليوم طلوع الشمس ، والصبح آخر اليوم ، وما بينهما ليل ونهار ، ولذلك ما أخذ الله من أخذه من الأمم إلا في آخر اليوم ، وذلك لاستيفاء الحركة ، فإذا انتهت دورة اليوم ، ولم يكن لهم رجوع إلى الله وقع الأخذ الإلهي في آخره.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦)

٣٤٤

الأصل أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعا ، ثم حجّر وأبقى ، فما أبقاه سماه بقية الله ، وما حجر سماه حراما ، أي المكلّف ممنوع من التصرف فيه حالا أو زمانا أو مكانا مع التحجير ، فإن الأصل التوقف عن إطلاق الحكم فيه بشيء ، فإذا جاء حكم الله فيه ، كنا بحسب الحكم الإلهي الذي ورد به الشرع إلينا ، وليس مسمى رزق الله في حق المؤمنين إلا بقية الله ، وكل رزق في الكون من بقية الله ، وما بقي إلا أن يفرق بينهما ، وذلك أن جميع ما في العالم من الأموال ، لا يخلو إما أن يكون لها مالك معيّن أو لا يكون لها مالك ، فإن كان لها مالك معيّن ، فهي من بقية الله لهذا الشخص ، وإن لم يكن لها مالك معيّن ، فهي لجميع المسلمين ، فمال زيد بقية الله لزيد ، لما حجّر الله عليه التصرف في مال عمرو بغير إذنه ، ومال عمرو بقية الله لعمرو لما حجر عليه التصرف في مال زيد بغير إذنه ، فبقية الله ، هو ما أحل لك تناوله من الشيء الذي يقوم به أودك ، لتقوم به في طاعة ربك ، وإنما سماه بقية لأنه بالأصالة خلق لك ما في الأرض جميعا ، فكنت مطلق التصرف في ذلك تأخذ ما تريد وتترك ما تريد ، ثم في ثاني حال ، حجّر عليك بعض ما كان أطلق فيه تصرفك ، وأبقى لك من ذلك ما شاء أن يبقيه لك ، فذلك بقية الله (خَيْرٌ لَكُمْ) وإنما جعلها خيرا لك ، لأنه علم من بعض عباده أن نفوسهم تعمى عن هذه البقية بما يعطيهم الأصل ، فيتصرفون بحكم الأصل فقال لهم : البقية التي أبقى الله خير لكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين بأني خلقت لكم ما في الأرض جميعا ، فإن صدقتموني في هذا ، صدقتموني فيما أبقيت لكم من ذلكم ، وإن فصلتم بين الأمرين فآمنتم ببعض وكفرتم ببعض لم تكونوا مؤمنين ، فمن اعتنى به الله تعالى ، أوصل إليه من البقية لا من غيرها ، واعلم أن الرزق على نوعين في الميزان الموضوع في العالم لإقامة العدل وهو الشرع : النوع الأول يسمى حراما ، والنوع الآخر يسمى حلالا ، وهو بقية الله التي جاء نصها في القرآن (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فهذه هي التي بقيت للمؤمنين من قوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) والإيمان لا يقع إلا بالشرع ، وجاء هذا القول في قصة شعيب عليه‌السلام صاحب الميزان والمكيال ، فرزق الله عند بعض العلماء جميع ما يقع به التغذي من حلال وحرام ، فإن الله يقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) وهو ظاهر لا نص ، وقال : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وقد نهانا عن التغذي بالحرام ، فلو كان رزق الله

٣٤٥

في الحرام ما نهانا عنه ، فإذا ما هو الحرام رزق الله؟ وإنما هو رزق ، ورزق الله هو الحلال ، وهو بقية الله التي أبقاها لنا بعد وقوع التحجير وتحريم بعض الأرزاق علينا ، ولتعلم من جهة الحقيقة أن الخطاب ليس متعلقه إلا فعل المكلف لا عين الشيء الممنوع التصرف فيه ، فالكل رزق الله ، والمتناول هو المحجور عليه لا المتناول بفتح الواو ، فإن الرزاق لا يعطيك إلا رزقك ، وما يعطي الرزاق لا يطعن فيه ، فلهذا علّق الذم بفعل المكلف لا بالعين التي حجّر عليه تناولها ، فإن المالك لها لم يحجر عليه تناولها والحرام لا يملك ، وهذه مسألة طال الخبط فيها بين العلماء ، وأما قوله (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) من العامل في الحال؟ فظاهر الشرع يعطي أن العامل رزقكم ، فإن من هنا في قوله (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) للتبيين لا للتبعيض ، فإنه لا فائدة للتبعيض ، فإن التبعيض محقق مدرك ببديهة العقل ، لأنه ليس في الوسع العادي أكل الرزق كله ، وإذا كانت للتبيين وهي متعلقة بكلوا ، فبيّن أن رزق الله هو الحلال الطيب ، فإن أكل ما حرّم عليه فما أكل رزق الله ، فتدبر وانظر ما به حياتك ، فذلك رزقك ولا بد ، ولا يصح فيه تحجير ، وسواء كان في ملك الغير أو لم يكن ، فإن المضطر لا حجر عليه ، وما عدا المضطر فما تناول الرزق لبقاء الحياة عليه ، وإنما تناوله للنعيم به ، وليس الرزق إلا ما تبقى به حياته عليه ، وهذا لا يمكن ردّه من أحد من علماء الشريعة ، فإن الله يقول : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بعد التحجير ، وقال : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وذلك هو الرزق الذي نحن بصدده ، وهو الذي يعطيه الرزاق.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

٣٤٦

من هنا نعلم أن عطاء الله كله فضل ، لأن التوفيق منه فالحاصل عن العمل بالموازنة ، وإن كان جزاء فهو فضل بالأصالة قال من جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) فأسنده سبحانه إلى الاسم الجامع الذي هو للتعلق لا للتخلق ، وفي إسناده إليه سر شريف ، فإن التوفيق مفتاح السعادة الأبدية ، والهادي بالعبد إلى سلوك الآثار النبوية ، والقايد له إلى التخلق بالأخلاق الإلهية ، من قام به غنم ومن فقده حرم ، وهو خارج عن كسب العبد ، وإنما هو نور يضعه الله في قلب من اصطنعه لنفسه ، واختصه لحضرته ، به تحصل النجاة ، وبه تنال الدرجات ، ومع أنه سر موهوب ، ونور في قلب العبد موضوع ، فإن إرادة العبد من جهة العلم بخصائصه وحقائقه متعلقة بجود الله سبحانه وتعالى في تحصيله منة ، والاتصاف به ، فقد يحصل للعبد بتلك الإرادة ، فيتخيل أنه كسبي وأن دعاءه الله فيه وإرادته إياه سبب في حصوله ، وما علم أن تلك الإرادة التي حركته لطلب التوفيق من التوفيق ، فإنها من آثاره ولولاه لم يكن ذلك فإن إرادة التوفيق من التوفيق ، ولكن لا يشعر لذلك أكثر الناس ، فإذا تقرر هذا فيكون الإنسان إنما يطلب على الحقيقة كمال التوفيق من الموفق الواهب الحكيم ، ومعنى كمال التوفيق استصحابه للعبد في جميع أحواله من اعتقاداته وخواطره وأسراره ومطالع أنواره ومكاشفاته ومشاهداته ومسامراته وأفعاله كلها ، لا أنه يتجزى ويتبعض فإنه معنى من المعاني القائمة بالنفس ، فنقصه الذي يطلق عليه إنما هو أن يقوم بالعبد في فعل ما من الأفعال ، ويحرمه في فعل آخر وكذلك زيادته استصحابه لجميع أفعال العبد ، وقد بان علة سؤاله في التوفيق من الله سبحانه وتعالى ، وتبين أن التوفيق لم يكن عنده معدوما عند سؤاله لله سبحانه فيه ، والتوفيق تفعيل من الموافقة ، وهو معنى يقوم بالنفس عند طروّ فعل من أفعاله الصادرة عنه على اختلافها ، يمنعه من المخالفة للحدّ المشروع له في ذلك الفعل لا غير ، فكل معنى كان حكمه هذا يسمى التوفيق وقد يقوم بالعبد التوفيق في فعل ما ، والمخالفة في فعل آخر في زمن واحد كالمصلي في الدار المغصوبة ، أو كمن يتصدق وهو يغتاب ، أو يضرب أحدا في حال واحد وأشباهه ، فلهذا ما سأل العبد من مولاه إلا كمال التوفيق ، يريد استصحابه له في جميع أحواله كلها حتى لا تكون منه مخالفة أصلا ، فإذا كمل التوفيق للعبد على ما ذكرناه فهو المعبر عنه بالعصمة والحفظ الإلهي ، حفظ الله علينا الأوقات ، وعصمنا من نتائج الغفلات ، إنه جواد بالخيرات ، فالتوفيق هو العناية التي للعبد عند الله

٣٤٧

قبل كونه المتفضل به عليه عند إيجاده إياه وتعلق خطابه به ، فالموفقون لما أوجدهم الحق تعالى في أعيانهم بصفة الجود وأبرزهم في الوجود ، تولاهم بلطفه فحققهم بحقائق التوفيق ، وبيّن لهم الطريق الموصل إليه كما بيّنه لأنبيائه بواسطة ملائكته ولأوليائه بواسطة أنبيائه ولملائكته بالجبلة التي أوجدهم عليها ، فاهتدوا على أوضح منهاج ، وعرجوا على أنجح معراج ، فما زال التوفيق يصحبهم في كل حال ، ويقودهم إلى كل عمل مقرب إلى الله تعالى من أعمال القلوب والنفوس والمعاملات المتوجهة على الحواس ، حتى انته بهم فوق الهمم وأنزلهم في حضرة الجود والكرم ، فغرقوا في بحار المنن والآلاء ، من نعيم جنان ومضاهاة استواء ، على قدر ما أراد تعالى أن يمنحهم من نعماه ، وأن يهبهم من رحماه ، فعاينوا عند ذلك تولي الحق لهم في ذلك ، ولم يكونوا شيئا مذكورا ، ثم استصحاب التولي لهم في محال الدعاوى بتقديسهم عنها ، فالتوفيق قائد إلى كل فضيلة وهاد إلى كل صفة منجية وجالب كل خلق رضي ، يجلو البصائر ويصلح السرائر ويخلص الضمائر ، ويفتح أقفال القلوب ويزيل ريونها ، ويخرجها عن أكنتها ويهبها أسرار وجودها ويعرفها بما تجهله من جلال معبودها ، هو الباعث المحرك لطلب الاستقامة والهادي إلى طريق السلامة ، ما اتصف به عبد إلا اهتدى وهدى ، ولا فقده شخص إلا تردى وأردى ، فنعوذ بالله من الخلاف ، والتوفيق له مبدأ وموسط وغاية ، فمبدؤه يعطيك الإسلام وموسطه يعطيك الإيمان وغايته تعطيك الإحسان ، فالإسلام يحفظ الدماء والأموال ، والإيمان يحفظ النفوس من ظلم الضلال والإضلال ، والإحسان يحفظ الأرواح من رؤية الأغيار ، ويهبها المراقبة والحياء على الكمال ، فمن دعا لك بالتوفيق في جميع الأحوال فما ترك شيئا من الخير إلا أعطاك إياه ، والتوفيق مبدؤه يعطيك العلم والعمل ، ووسطه يطهر ذاتك من دنس الأغراض والعلل ، وغايته تمنحك أسرار الوجود والأزل ، وليس وراء الله مؤمل يؤمل. والتوفيق على قسمين في أصله : عام وخاص ، فالعام هو الذي يشترك فيه جميع الناس كافة من المسلمين وغيرهم وهو على ضربين : منه ما يوافق الحكمة بما هي حكمة ، ومنه ما يوافق الأغراض ، والخاص هو الذي يخرجك من الظلمات إلى النور ، وينتهي بك إلى السعادة الأبدية على مراتبها ، وإن دخل النار ، وهذا أيضا عام وخاص : فالعام كالإيمان بالله ورسوله وما جاء به ، والخاص كالعمل بالعلم المشروع ، وهو أيضا عام وخاص : فالعام كأداء الفرائض ، والخاص هو الذي يؤديك

٣٤٨

إلى تصفية القلب وتفريغه والرياضات والمجاهدات ، وهذا الضرب أيضا من التوفيق فيه عام وخاص : فالعام هو الذي يثمر لك جميع الأخلاق العلوية والأوصاف الربانية القدسية ، والخاص هو الذي يثمر لك أسرار الخلق ومعاني التحقيق ، وكلاهما على ضربين : عام وخاص ، فالعام ما أعطاك جميع ما تتخلق به وأسراره ، والخاص ما أعطاك الفناء عن ملاحظة الفناء ، فكل توفيق يستصحب العبد في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة هو توفيق العارفين الوارثين العالمين ، وكل توفيق يصحب العبد في بعضها فهو منسوب لذلك البعض ، ومضاف لما يعطيه المقام في مراتب الوجود ، فيقال : هذا توفيق العارفين والزاهدين والعابدين وغيرهم من أصحاب المقامات وأرباب السلوك ، والتوفيق عند المحققين على نوعين : توفيق أوجده الحق سبحانه فيك منك ، وتوفيق أوجده فيك على يد غيرك ، فالتوفيق الذي فيك من غيرك كالإسلام الذي أبقاه عليك أبواك وربياك عليه ، فكل مولود يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما جاء في الحديث ، أو كشخص قيّضه الله لك على مدرجتك من غير قصد منك إليه فوعظك بموعظة زجرك بها فانتبهت من سنة الغفلة ، فقذف الله سبحانه لك عند انتباهك نور التوفيق في قلبك فقبلتها ونظرت في تخليص نفسك فقادك إلى الانتظام في شمل السعداء ، والتوفيق الذي فيك منك هو أن ترزق النظر ابتداء في عيوبك وذم ما أنت عليه من الأفعال القبيحة وتمقيتك نفسك وتبغيض حالك لك ، فإذا تقوى عليك هذا الخاطر وتأيد ، نهض بك في طريق النجاة وسارع بك إلى الخيرات على قدر ما قدر لك أزلا وقسم لك في شربك ، وأول مقامات التوفيق الاختصاصي اشتغالك بالعلم المشروع الذي ندبك الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الاشتغال بتحصيله ، وآخرها حيث يقف بك فإن تممت لك المقامات حصلت في التوحيد الموحد نفسه بنفسه الذي لا يصح معه معقول فلا حياة مع الجهل ولا مقام ، فالتوفيق إذا صح ، وتصحيحه بتحصيل العلم ، فإذا حصل له وصح توفيقه أنتج الإنابة والإنابة منتجة للتوبة ، والتوبة تنتج الحزن والحزن ينتج الخوف ، والخوف ينتج الاستيحاش من الخلق ، والاستيحاش ينتج الخلوة ، والخلوة تنتج الفكرة ، والفكرة تنتج الحضور ، والحضور ينتج المراقبة ، والمراقبة تنتج الحياء ، والحياء ينتج الأدب ، والأدب ينتج مراعاة الحدود ، ومراعاة الحدود تنتج القرب ، والقرب ينتج الوصال ، والوصال ينتج الأنس ، والأنس ينتج الإدلال ، والإدلال ينتج السؤال ، والسؤال ينتج الإجابة ، ولا يصح

٣٤٩

شيء من هذه المقامات إلا بعد تحصيل العلم الرسمي والذوقي ، فالرسمي كعلوم النظر وهو ما يتعلق بإصلاح العقائد ، وكعلوم الخبر وهو ما يتعلق بك من الأحكام الشرعية ، ولا يؤخذ منها إلا قدر الحاجة ، والذوقي علم نتائج المعاملات والأسرار ، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلبك ، تقف به على حقائق المعاني الوجودية ، وأسرار الحق في عباده ، والحكم المودعة في الأشياء.

واعلم أن المشي في الظلمة بغير سراج وضوء في طريق كثيرة المهالك والحفر والأوحال والمهاوي والحشرات المؤذية التي لا يتقى شيء من هذا كله إلا أن يكون الماشي فيها بضوء يرى به حيث يجعل قدمه ، ويجتنب به ما ينبغي أن يجتنب مما يضره ، من مهواة يهوي فيها أو مهلك يحصل فيه أو حية تلدغه ، وليس له ضوء سوى نور الشرع الذي قال فيه تعالى (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وقال : (نُورٌ عَلى نُورٍ) فإذا اجتمع نور الشرع مع نور بصر التوفيق والهداية بان الطريق بالنورين ، فلو كان نورا واحدا لما ظهر له ضوء ، ولا شك أن نور الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس ، ولكن الأعمى لا يبصره ، كذلك من أعمى الله بصيرته لم يدركه فلم يؤمن به ، ولو كان نور عين البصيرة موجودا ، ولم يظهر للشرع نور بحيث أن يجتمع النوران فيحدث الضوء في الطريق لما رأى صاحب نور البصيرة كيف يسلك ؛ لأنه في طريق مجهولة لا يعرف ما فيها ولا أين ينتهي به من غير دليل وموقّف؟ فهذا الشخص الماشي في هذه الطريق إن لم يحفظ سراجه من الأهواء ، أن تطفئه بهبوبها ، وإلا هبت عليه رياح زعازع ، فأطفأت سراجه ، وذهب نوره ، وهو كل ريح يؤثر في نور توحيده وإيمانه ، فإن هبت ريح لينة تميل لسان سراجه وتحيره ، حتى يتحير عليه الضوء في مشاهدة الطريق ، فتلك الريح كمتابعة الهوى في فروع الشريعة ، وهي المعاصي التي لا يكفر بها الإنسان ولا تقدح في توحيده وإيمانه ، فلقد خلقنا لأمر عظيم ، ولكن إذا اقتحمنا هذه الشدائد ، وقاسينا هذه المكاره ، حصلنا على أمر عظيم ، وهو سعادة الأبد التي لا شقاء فيها ، فإنه لما تبينت طرق السعادة بالرسل قال تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) وما بقي بعد هذا إلا أن يوفق الله عباده للعمل بما أمرهم به من اتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمر ونهى ، والوقوف عند حدوده ومراسمه ؛ فإن الحق خصّ بعض عباده بالتوفيق ، ولم يعمّ كما عمّ في الرزق ، فيا ربنا خاطبتنا

٣٥٠

فسمعنا وفهمتنا ففهمنا ، فيا ربنا وفقنا واستعملنا فيما طلبته منا من عبادتك وتقواك ، إذ لا حول لنا ولا قوة إلا بك ، فالله هو الموفق وبيده الهداية ، وليس لنا من الأمر شيء ، ولقد صدق الكذوب إبليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين اجتمع به فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما عندك؟ فقال إبليس : لتعلم يا رسول الله أن الله خلقك للهداية ، وما بيدك من الهداية شيء ، وأن الله خلقني للغواية ، وما بيدي من الغواية شيء ، لم يزده على ذلك وانصرف ، وحالت الملائكة بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن التوفيق من رحمة الامتنان للعمل الصالح الموجب لرحمة الاختصاص ـ مناجاة ـ يا حنان يا منان ، يا رؤوف يا قديم الإحسان ، يا من جعل معدن النبوة أشرف المعادن ، وموطن الأحكام أرفع المواطن ، أنت الذي سويت فعدلت ، وفي أي صورة ما شئت ركبت ما سويت ، يا واهب إذ لا واهب ، ويا مانح المثوبات أهل المكاسب ، أنت الذي وهبت التوفيق ، وأخذت بناصية عبدك ومشيت به على الطريق ، وخلقت فيه الأعمال الرضية ، والأقوال الزكية ، وأنطقته بالتوحيد والشهادة ، ويسرت له أسباب السعادة ، ثم أدخلته دارك ، ومنحته جوارك ، وقلت له : هذا لعملك بعلمك ، ولك ما انته إليه خاطر أملك.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٩٠)

من البشرى ورود اسم الودود لله تعالى ، فإن المودة هي الثبوت على المحبة ، ولا معنى لثبوتها ، إلا حصول أثرها بالفعل في الدار الآخرة ، وفي النار لكل طائفة بما تقتضيه حكمة الله فيهم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)

٣٥١

قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨)

كان حكم آل فرعون في نفس الأمر خلاف حكم فرعون في نفسه ، فسوى الله في الغرق بينهم ، وتفرقا في الحكم ، فجعلهم سلفا ومثلا للآخرين ، وأما قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) فما فيه نص أنه يدخلها معهم ، بل قال الله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) ولم يقل : أدخلوا فرعون وآله ، فخص فرعون بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى الله بالنجاة ، هذا ما يعطي ظاهر اللفظ ـ راجع سورة يونس آية ٩٢.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)

٣٥٢

وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١)

يدخل المشركون النار مع بعض آلهتهم ليتحققوا مشاهدة أن تلك الآلهة لا تغني عنهم من الله شيئا.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢)

ويكون الأخذ الإلهي بالأسباب الكونية ، وكل مأخوذ به جند من جنود الله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي علامة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) فإنهم مطلوبون للفصل والقضاء (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤)

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) فإنه ما انقضى أجله المحدود.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥)

لما كان للإنسان المباح من الأحكام المشروعة ، وفعل الواجب والمندوب والمحظور والمكروه من الملمات الغريبة في وجوده ، وذلك مما قرن به من الأرواح الطاهرة الملكية وغير الطاهرة الشيطانية ، فهو يتردد بين ثلاثة أحكام : حكم ذاتي له منه عليه ، وحكمين قرنا

٣٥٣

به ، وله القبول والردّ بحسب ما سبق به الكتاب ، وقضى به الخطاب ، فمنهم شقي وسعيد ، كما كان من القرناء مقرّب وطريد ، فهو لمن أجاب وعلى الله تبيان الخطأ من الصواب ، والحق وصف نفسه بالرضى والغضب فقال : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ) بالغضب ، والغضب زائل (وَسَعِيدٌ) بالرضى ، والرضى دائم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١٠٦)

جعلت دار جهنم دار كل شقي ، وسمي هؤلاء أشقياء لأنهم أقيموا فيما يشق عليهم ، وهو المخالفة (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) فرط التولع علة في وجود الزفرة ، ولهذا جاء في وصف جهنم ، أن لها زفيرا وشهيقا لفرط تولّعها بمن يحصل فيها من الكفار ، لأنها عاشقة في الانتقام من أعادي محبوبها ، وهو الحق سبحانه وتعالى.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧)

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) يريد المدة التي كانت الأرض عليها من يوم خلقها الله إلى يوم التبديل ، وكانت العرب التي نزل القرآن بلسانها ، تطلق هذه اللفظة وتريد بها التأبيد ، وهي منقطعة بالخبر الإلهي ، وتعريف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) بما يرزقون في النار من اللذة والنعيم (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فيقع الاستثناء في قوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من زوال صورتهما ، إذ كانت السماء سماء والأرض أرضا ، فإنا نعلم أن جوهر السماء ، هو جوهر الدخان وتبدلت عليه الصور ، فالجوهر الذي قبل صورة الدخان هو الذي قبل صورة السماء ، كما قبل جوهر الطين والحجر صورة البيت ، فإذا انهدم البيت ويبس الطين ، ذهبت صورة البيت والطين ، وبقي عين الجوهر وكذلك العالم كله بالجوهر واحد ، وبالصور يختلف ، فاعلم ذلك ، فيكون الاستثناء في حق أهل النار لمدة عذابهم ، واعلم أنه من سبق رحمته تعالى غضبه أن النار ينزل فيها أهلها بالعدل من غير زيادة ، والجنة ينزل فيها أهلها بالفضل فيرون ما لا تقتضيه أعمالهم من النعيم ، ولا يرى أهل النار من العذاب إلا قدر أعمالهم من غير زيادة ولا رجحان إلى أن يفعل الله بهم ما يريد بعد ذلك ، ولذلك

٣٥٤

قال في عذابهم (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وما يعلم أحد من خلق الله حكم إرادة الله في خلقه إلا بتعريفه ، ألا تراه في حق السعداء يقول؟ (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) والصورة واحدة والمدة واحدة ولم يقل في العذاب ، إنه غير مجذوذ ، لكن يقطع بأنهم غير خارجين من النار ، ولا نعرف حالتهم فيها في حال الاستثناء ما يفعل الله فيهم ، فلا يقضى في ذلك بشيء مع علمنا بأن رحمته سبقت غضبه ، وعلمنا بأن الله يجزي كل نفس بما عملت ، ولكن يستروح من العبارة أنه إذا استوفيت الحدود ، عمت الرحمة من خزانة الجود ، وهو قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وهذا هو الحد الزمني ، لأن التبديل لا بد أن يقع بالسموات والأرض ، فتنتهي المدة عند ذلك ، وهو في حق كل إنسان من وقت تكليفه إلى يوم التبديل ، لأنه غير مخاطب ببقاء السموات والأرض قبل التكليف ، وهذا في حق السعيد والشقي ، فهما في نتائج أعمالهما هذه المدة المعينة ، فإذا انتهت انته نعيم الجزاء الوفاق وعذاب الجزاء ، وانتقل هؤلاء إلى نعيم المنن الإلهية التي لم يربطها الله بالأعمال ولا خصّها بقوم دون قوم ، وهو قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ما له مدة ينتهي بانتهائها ، كما انته الكفر والإيمان هنا بانتهاء عمر المكلف ، وانتهت إقامة الحدود في الأشقياء والنعيم الجزائي في السعداء بانتهاء مدة السموات والأرض ؛ (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في حق الأشقياء (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وكذا وقع الأمر بحسب ما تعلقت به المشيئة الإلهية ، وما قال إن الحال التي هم فيها لا تنقطع ، كما قال في السعداء ، فعلمنا بذكر مدة السماء والأرض وحكم الإرادة في الأشقياء والإعراض عن ذكر العذاب ، أن للشقاء مدة ينتهي إليها حكمه وينقطع عن الأشقياء بانقطاعها والذي منع أن يقول تعالى في الأشقياء عذابا غير مجذوذ قوله (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقوله [إن رحمتي سبقت غضبي] في هذه النشأة ، وعلمنا أن جزاء السعيد على مثل ذلك ثم تعم المنن والرضى الإلهي على الجميع في أي منزل كانوا ، فإن النعيم ليس سوى ما يقبله المزاج وغرض النفوس لا أثر للأمكنة في ذلك ، فحيثما وجد ملايمة الطبع ونيل الغرض كان ذلك نعيما لصاحبه فإن الوجود رحمة في حق كل موجود وإن تعذّب بعضهم ببعض ، فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع وتخليدهم في حال الانتقام موقوف على إرادة ، فقد يعود الانتقام منهم عذابا عليهم لا غير ويزول الانتقام ، ولهذا فسره في مواضع بالألم المؤلم ، وقال : عذاب أليم ، والعذاب الأليم.

٣٥٥

وفي مواضع لم يقيد العذاب بالأليم وأطلقه فقال : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يعني وإن زال الألم فإن السكنى لأهل النار في النار لا يخرجون منها كما قال تعالى (خالِدِينَ فِيها) يعني في النار ، وقال في أهل السعادة (خالِدِينَ فِيها) يعني في الجنة ، ولم يقل فيه فيريد العذاب ، فلو قال عند ذكر العذاب خالدين فيه ، أشكل الأمر ، ولما أعاد الضمير على الدار ، لم يلزم العذاب ، فإن قال قائل : فكذلك لا يلزم النعيم كما لم يلزم العذاب ، قلنا : وكذلك كنا نقول : ولكن لما قال الله تعالى : في نعيم الجنة إنه عطاء غير مجذوذ ، أي عطاء غير مقطوع ، وقال : لا مقطوعة ولا ممنوعة ، لهذا قلنا بالخلود في النعيم والدار ، ولم يرد مثل هذا قط في عذاب النار ، فلهذا لم نقل به وما ورد في العذاب شيء يدل على الخلود فيه ، كما ورد في الخلود في النار ، ولكن العذاب لا بد منه في النار وقد غيب عنا الأجل في ذلك ، وما نحن من جهة النصوص على يقين ، إلا أن الظواهر تعطي الأجل في ذلك ، ولكن كميّته مجهولة ، لم يرد بها نص ، ولا نص يعارض ونبقى نحن مع قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وأي شيء أراد ، فهو ذلك ، ولا يلزم أهل الإيمان أكثر من ذلك ، إلا أن يأتي نص بالتعيين متواتر يفيد العلم ، فحينئذ يقطع المؤمن وإلا فلا ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما رأى جنازة يهودي فقيل له : إنها جنازة يهودي فقال : أليست نفسا؟ وهذا أرجى ما يتمسك به أهل الله في شرف النفس الناطقة ، وأن صاحبها وإن شقي بدخول النار فهو كمن يشقى هنا بأمراض النفس ، من هلاك ما له وخراب منزله وفقد ما يعز عليه ألما روحانيا لا حسيا ؛ فإن ذلك حظ الروح الحيواني ، وهذا كله غير مؤثر في شرفها فإنها منفوخة من الروح المضاف إلى الله بطريق التشريف ، فالأصل شريف ، ولما كانت من العالم الأشرف ، قام لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعينها ، وهذا إعلام بتساوي النفوس في أصلها ، وهذه من أعظم المسائل تؤذن بشمول الرحمة وعمومها لكل نفس ، وإن عمرت النفوس الدارين ، ولا بد من عمارة الدارين كما ورد ، وأن الله سيعامل النفوس بما يقتضيه شرفها بسر لا يعلمه إلا أهل الله ، فإنه من الأسرار المخصوصة بهم ، فكما أن الحد يجمعهم كذلك المقام يجمعهم لذاتهم إن شاء الله تعالى كما قال في الذين شقوا (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ولم يقل عذابا غير مجذوذ كما قال في السعداء ، فإن رحمة الله سبقت غضبه ، ورحمته تعالى وسعت كل شيء منّة واستحقاقا ، وبالأصل فكل ذلك منة منه سبحانه ، فإنه الذي كتب على نفسه الرحمة للمتقي ، والمتقي بمنته سبحانه اتقاه ، وجعله محلا للعمل الصالح.

٣٥٦

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) جعلت الجنة دار السعداء ، فهي دار كل سعيد ، وسمّي هؤلاء سعداء لأنهم أقيموا فيما يسهل عليهم ، وهو المساعدة والموافقة (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) من حيث جوهر هما لا من حيث صورتهما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) والاستثناء هنا في حق أهل الجنة على معنى إلا أن يشاء ربك ، وقد شاء أن لا يخرجهم ، فهم لا يخرجون فإن الله ما شاء ذلك بقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير منقطع لأن اللذة بالجديد الطارىء أعظم في النفس من ملازمة الصحبة. واعلم أن الجنة جنتان محسوسة ومعنوية ، والجنات ثلاث جنات : جنة اختصاص إلهي وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل ، وحدهم من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخا إلى انقضاء ستة أعوام ؛ ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء ، ومن أهلها المجانين الذي ما عقلوا ، ومن أهلها أهل التوحيد العلمي ، ومن أهلها أهل الفترات ومن لم تصل إليهم دعوة رسول ، والجنة الثانية جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين ، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها ، والجنة الثالثة جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم ، فمن كان أفضل من غيره في وجود التفاضل ، كان له في الجنة أكثر ، وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن ، غير أنه فضله في هذا المقام بهذه الحالة ، فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم ، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ، والتفاضل على مراتب : فمنها بالسن ولكن في الطاعة والإسلام ، فيفضل كبير السن على الصغير السن إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل بالسن ، فإنه أقدم منه فيه ، ويفضل أيضا بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر الأزمان وكل زمان عينه الشارع ؛ وتقع المفاضلة بالمكان كالمصلي في المسجد الحرام أفضل من صلاة المصلي في مسجد المدينة ،

٣٥٧

وكذلك الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في المسجد الأقصى ، وهكذا فضل الصلاة في المسجد الأقصى على سائر المساجد ، ويتفاضلون أيضا بالأحوال فإن الصلاة في الجماعة في الفريضة أفضل من صلاة الشخص وحده ، وأشباه هذا ، ويتفاضلون بالأعمال فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى ، وقد فضل الله الأعمال بعضها على بعض ، ويتفاضلون أيضا في نفس العمل الواحد ، كالمتصدق على رحمه ، فيكون صاحب صلة رحم وصدقة ، والمتصدق على غير رحمه دونه في الأجر ، وكذلك من أهدى لشريف من أهل البيت أفضل ممن أهدى لغير شريف أو بره أو أحسن إليه ، ووجوه المفاضلة كثيرة في الشرع والرسل عليهم‌السلام إنما ظهر فضلها في الجنة على غيرها بجنة الاختصاص ، وأما بالعمل فهم في جنات الأعمال بحسب الأحوال ، ونشأة الإنسان في الآخرة لا تشبه نشأة الدنيا وإن اجتمعتا في الأسماء والصورة الشخصية ، فإن الروحانية على نشأة الآخرة أغلب من الحسية فيكون الإنسان بعينه في أماكن كثيرة واعلم أن جنة الأعمال مائة درجة لا غير ، كما أن النار مائة درك ، غير أن كل درجة تنقسم إلى منازل ، وهذه المائة درجة في كل جنة من الثماني جنات ، وصورتها جنة في جنة وأعلاها جنة عدن ، وهي قصبة الجنة فيها الكثيب الذي يكون اجتماع الناس فيه لرؤية الحق تعالى ، وهي أعلى جنة في الجنات والتي تلي جنة عدن ، إنما هي جنة الفردوس وهي أوسط الجنات التي دون جنة عدن وأفضلها ، ثم جند الخلد ثم جنة النعيم ثم جنة المأوى ثم دار السلام ثم دار المقامة ، وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن وهي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصلت له بدعاء أمته ، فعل ذلك الحق سبحانه حكمة أخفاها ، فإنا بسببه نلنا السعادة من الله ، وبه كنا خير أمة أخرجت للناس ، وبه ختم الله بنا الأمم كما ختم به النبيين ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر كما أمر أن يقول ، فأمرنا عن أمر الله أن ندعو له بالوسيلة حتى ينزل فيها وينالها بدعاء أمته ، وهذا من باب الغيرة الإلهية ، وأهل الجنة أربعة أصناف الرسل وهم الأنبياء ، والأولياء وهم أتباع الرسل على بصيرة وبينة من ربهم ، والمؤمنون وهم المصدقون بهم عليهم‌السلام والعلماء بتوحيد الله أنه لا إله إلا الله من حيث الأدلة العقلية ، وهؤلاء الأربع طوائف يتميزون في جنات عدن عند رؤية الحق في الكثيب الأبيض ، وهم فيه على أربع مقامات : طائفة منهم أصحاب المنابر وهي الطبقة العليا الرسل والأنبياء ، والطائفة الثانية هم الأولياء ورثة الأنبياء قولا وعملا وحالا وهم على بينة من ربهم ، وهم أصحاب الأسرة

٣٥٨

والعرش ، والطبقة الثالثة العلماء بالله من طريق النظر والبرهان العقلي ، وهم أصحاب الكراسي ، والطبقة الرابعة وهم المؤمنون المقلدون في توحيدهم ، ولهم المراتب وهم في الحشر مقدمون على أصحاب النظر العقلي ، وهم في الكتيب عند النظر يتقدمون على المقلدين ، فإذا أراد الله أن يتجلى لعباده في الزور العام نادى منادي الحق في الجنات كلها يا أهل الجنان : حيّ على المنة العظمى والمكانة الزلفى والمنظر الأعلى ، هلموا إلى زيارة ربكم في جنة عدن ، فيبادرون إلى جنة عدن فيدخلونها ، وكل طائفة قد عرفت مرتبتها ومنزلتها فيجلسون ، ثم يؤمر بالموائد فتنصب بين أيديهم ، موائد اختصاص ، ما رأوا مثلها ولا تخيلوه في حياتهم ولا في جناتهم ، جنات الأعمال ، وكذلك الطعام ما ذاقوا مثله في منازلهم ، وكذلك ما تناولوه من الشراب ، فإذا فرغوا من ذلك خلعت عليهم من الخلع ما لم يلبسوا مثلها فيما تقدم ، ومصداق ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإذا فرغوا قاموا إلى كثيب المسك الأبيض ، فأخذوا منازلهم فيه على قدر علمهم بالله لا على قدر عملهم ، فإن العمل مخصوص بنعيم الجنان لا بمشاهدة الرحمن فبيناهم على ذلك إذا بنور قد بهرهم فيخرون سجدا فيسري ذلك النور في أبصارهم ظاهرا وفي بصائرهم باطنا وفي أجزاء أبدانهم كلها وفي لطائف نفوسهم ، فيرجع كل شخص منهم عينا كله وسمعا كله ، فيرى بذاته لا تقيده الجهات ويسمع بذاته كلها ، فهذا يعطيهم ذلك النور فبه يطيقون المشاهدة والرؤية ، وهي أتم من المشاهدة ، فيأتيهم رسول من الله يقول لهم : تأهبوا لرؤية ربكم جلّ جلاله ، فها هو يتجلى لكم فيتأهبون ، فيتجلى الحق جل جلاله وبينه وبين خلقه ثلاث حجب : حجاب العزة ، وحجاب الكبرياء ، وحجاب العظمة فلا يستطيعون النظر إلى تلك الحجب ، فيقول الله جل جلاله لأعظم الحجبة عنده : ارفعوا الحجب بيني وبين عبادي حتى يروني ، فترفع الحجب فيتجلى لهم الحق جل جلاله خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف إلى أبصارهم ، وكلهم بصر واحد فينفهق عليهم نور يسري في ذواتهم ، فيكونون به سمعا كلهم ، وقد أبهتهم جمال الرب وأشرقت ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء في حديث النقاش في مواقف القيامة وهذا تمامه ـ راجع البقرة آية ٢١٠ ـ فيقول الله جل جلاله : سلام عليكم عبادي ومرحبا بكم ، حياكم الله ، سلام عليكم من الرحمن الرحيم ، الحي القيوم ، طبتم فادخلوها خالدين ،

٣٥٩

طابت لكم الجنة ، فطيبوا أنفسكم بالنعيم المقيم والثواب من الكريم ، والخلود الدائم ، أنتم المؤمنون الآمنون وأنا الله المؤمن المهيمن ، شققت لكم اسما من أسمائي ، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، أنتم أوليائي وجيراني وأصفيائي وخاصتي وأهل محبتي وفي داري ، سلام عليكم يا معشر عبادي المسلمين ، أنتم المسلمون وأنا السلام وداري دار السلام ، سأريكم وجهي كما سمعتم كلامي ، فإذا تجليت لكم وكشفت عن وجهي الحجب ، فاحمدوني وادخلوا إلى داري غير محجوبين عني بسلام آمنين ، فردوا عليّ ، واجلسوا حولي حتى تنظروا إليّ وتروني من قريب ، فأتحفكم بتحفي ، وأجيزكم بجوائزي وأخصكم بنوري وأغشيكم بجمالي ، وأهب لكم من ملكي ، وأفاكهكم بضحكي وأعلفكم بيدي ، وأشمكم روحي ، أنا ربكم الذي كنتم تعبدوني ولم تروني ، وتحبوني وتخافوني ، وعزتي وجلالي وعلوي وكبريائي وبهائي وسنائي إني عنكم راض ، وأحبكم وأحب ما تحبون ، ولكم عندي ما تشتهي أنفسكم وتلذّ أعينكم ، ولكم عندي ما تدعون وما شئتم ، وكل ما شئتم أشاء ، فاسألوني ولا تحتشموا ولا تستحيوا ولا تستوحشوا ، وإني أنا الله الجواد الغني الملي الوفي الصادق ، وهذه داري قد اسكنتكموها وجنتي قد أبحتكموها ، ونفسي قد أريتكموها ، وهذه يدي ذات الندى والطل مبسوطة ممتدة عليكم لا أقبضها عنكم ، وأنا أنظر إليكم لا أصرف بصري عنكم ، فاسألوني ما شئتم واشتهيتم ، فقد آنستكم بنفسي وأنا لكم جليس وأنيس ، فلا حاجة ولا فاقة بعد هذا ، ولا بؤس ولا مسكنة ولا ضعف ولا هرم ولا سخط ولا حرج ولا تحويل أبدا سرمدا ، نعيمكم نعيم الأبد ، وأنتم الآمنون المقيمون الماكثون المكرمون المنعمون ، وأنتم السادة الأشراف الذين أطعتموني واجتنبتم محارمي فارفعوا إلي حوائجكم أقضها لكم وكرامة ونعمة ، قال : فيقولون : ربنا ما كان هذا أملنا ولا أمنيتنا ، ولكن حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم أبدا أبدا ، ورضى نفسك عنا ، فيقول لهم العلي الأعلى مالك الملك السخي الكريم تبارك وتعالى : فهذا وجهي بارز لكم أبدا سرمدا فانظروا إليه وأبشروا ، فإن نفسي عنكم راضية فتمتعوا ، وقوموا إلى أزواجكم فعانقوا وانكحوا ، وإلى ولائدكم ففاكهوا ، وإلى غرفكم فادخلوا ، وإلى بساتينكم فتنزهوا ، وإلى دوابكم فاركبوا ، وإلى فرشكم فاتكئوا ، وإلى جواريكم وسراريكم في الجنان فاستأنسوا ، وإلى هداياكم من ربكم فاقبلوا ، وإلى كسوتكم فالبسوا ، وإلى مجالسكم فتحدثوا ، ثم قيلوا قائلة

٣٦٠