رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

قربه إلى قطع مسافة مكانية ، وتحقيقا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اللهم أنت الصاحب في السفر). الثالث : قوله (بِعَبْدِهِ) تنبيها على أنه على حسب التحقق لخضوع العبودية يكون الترقي إلى حضرة الربوبية. الرابع : قوله (لَيْلاً) وإن كان لفظ الإسراء مفيدا لذلك تنبيها على أن كل ما تضمنه الإسراء كان خارجا عن العادة في مثله ، فإنه جعل العلة فيه أن يريه من آياته ، والإرادة العادية سلطانها النهار ، فقال (لَيْلاً) ليعلم أن الرؤية المقصودة ليست عادية ، بل هي رؤية ربه بنور رباني سلطانه الليل دون النهار. الخامس : قوله (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) نبه على أن الإسراء لو كان لضرورة رؤية ربه لكونه مخصوصا بجهة العلو لم تكن حاجة بالذهاب إلى المسجد الأقصى ، ولأمكن الترقي من مكة إلى السماء ، فدل على أن الإسراء والترقي من مكان لمكان لحكمة وراء ما زعم مثبت الجهة ، والسر فيه وفي كونه ذكره تعالى في كتابه على أن العبد لا يصل إلى الله تعالى إلا فردا تحقيقا ، لقوله (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) ولا تتحقق له الفردية إلّا بعد مفارقة الحوادث وتجرده عنها ، فهناك يصل إلى حضرة عنديته ، وقد جاء الكتاب العزيز بالتنبيه على أن حضرة عنديته وراء دوائر السموات والأرض ، فقال تعالى (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) فعطف من عنده على من في السموات والأرض ، وهي مع ذلك محيطة بالسموات والأرض كإحاطة ربنا بذلك كله ، مباينة لها كمباينته ، فمن أرادها فعليه بتفرقة الحوادث ومباينته لها ، فعلم أن الفرقة فرقة قلبية غيبية ، وفرقة حسية ، فإن فارقها بقلبه وصل إلى الله تعالى بقلبه ، وإن فارقها بحسه تبعا لقلبه وصل إلى الله تعالى بحسه وقلبه ، ولذلك كان الإسراء مرتين مرة بالروح ومرة بالجسد ، تنبيها على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع لأمته فراق الحوادث مرتين ، مرة بالروح وهو الإسراء الأول ، ومرة بالجسد حسا وهو الإسراء الثاني ، ومن المعلوم أنه لا تحقق لفرقة الحوادث حسا إلا بمجاوزة دوائر الأفلاك كلها كما ثبت ليلة الإسراء ، وأما ترتيب نقلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترقيه في توجهه ففيه أسرار بديعة ، أظهرها وأجلاها أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء ، والصلاة حضرة القرب والمناجاة والمراقبة المثمرة لنعيم الرؤية ، ومن المعلوم أن التوجه توجهان : روحاني وحسي ، فقبلة التوجه الروحاني وجه الله تعالى ولا اختصاص له بمكان ، وأما التوجه الحسي فله قبلتان بيت المقدس والكعبة ، فبيت المقدس هو قبلة الأنبياء ، والكعبة هي قبلة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء الإسراء الروحاني أولا

٥٢١

تأسيسا للشريعة في قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وجاء الإسراء الحسي مبدوءا بالتوجه لبيت المقدس ثم إلى السماء ثم بالرجوع إلى الكعبة ، تأسيسا للشريعة في التوجه الحسي في الصلاة أولا لبيت المقدس ثم للسماء في قوله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ثم بالرجوع إلى قبلة مكة في قوله (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كذلك قوله تعالى (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) إياك أن تفهم أن ذلك يشعر بتحديد في القرب أو تخصيص في جهة ، وإنما هو دنو تجل وكشف ، لأنه ذكره في قصة الإسراء بالروح ، ألا ترى قوله تعالى بعد (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ثم ذكر بعده الإسراء الحسي فقال تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) إلى قوله (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فإذا علمت أنه دنو تجل روحاني وكشف عرفاني ، فهمت سر قوله تعالى (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ثم دنا عن الأفق الأعلى في نعيم الرؤية وفي بيان الحق (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي قدر قوسين ، والقوس في اللغة يستعمل في الذراع وما يقدر ويقاس به ، وهو المراد هنا وهو من قوله تعالى في الصحيح [أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني] الحديث وفيه [فإن تقرب إليّ شبرا تقربت منه ذراعا ، وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت منه باعا] وليس فيهما ذراع حسي محدود ، وإنما المراد تمثيل التقريب لدنو الذاكر من المذكور في مجالس النجوى والذكرى وتجلي سر المعية للقلب ، وأدنى الرتب في ذلك تحقق القلب بسر سبحان الله وسر الحمد لله ، وكذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء ، وإذا أردت التحقيق فخذه من افتتاح سورة الإسراء بسبحان واختتامها بقوله (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثم نبه على انتفاء التقدير في دنوه بقوله تعالى (أَوْ أَدْنى) وهو التحقيق بالتوحيد في نعيم الرؤية بالآية الكبرى وهي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ولذلك وصفه بقوله آخر سورة الإسراء (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلى قوله (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) تحقيقا لقوله [وما بينهم وبين النظر إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن] وإذا أردت أن تفهم سر التدلي في قوله تعالى (فَتَدَلَّى) فتأمل ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث العنان ، وفيه ذكر الأرضين السبع وأن بين كل أرض وأرض كما بين السماء والأرض ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم حبلا لوقع على الله] فنبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم تحيزه في السماء وأنه ليس مختصا بجهة ، كما نبه على ذلك قوله تعالى (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) فإن الإسراء كان للعلو ، فربما يوهم المحجوب أن الدنو في قوله (دَنا) زيادة

٥٢٢

العلو ، فنبه بقوله (فَتَدَلَّى) على أن قربه قاب قوسين كان ثمرة التدلي المشعر بالتنزيل ، وأنه تعالى لا يختص قربه بجهة العلو ، بل التدلي إليه بالخضوع أقرب تحقيقا لقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) وفي الصحيح [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد] وإذا أردت زيادة التبصر بأن الإسراء وعروج الملائكة ورفع عيسى وادريس صلى الله عليهم وسلم إلى السماء لا يدل على أن الله تعالى مخصوص بجهة السماء ، فاعتبر فرض الحج على العباد إلى البيت الحرام ، وأمر الله تعالى الناس بالتوجه إليه من جميع الجهات ، وجعل سكانه جيران الله ، وحجاجه وفده وضيفانه ، والحجر الأسود يمينه ، مع أن نسبة البيت وغيره إلى الله تعالى سبحانه كاعتبار المسافة بسفر أحد ، فعلم أن القصد بالسير إلى البيت لا أن السير يقتضي القرب والوصول إليه بالمكان ، وإنما لله سبحانه تعبدات وأسرار في ضمن مشروعات يقتضيها من عباده بحكم ظاهر وحقيقة ، ألا تراه كيف ناجى موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالواد المقدس وأسمعه كلامه من الشجرة ، ووصفه بالقرب إلى مجلس حضرته ونجواه ، مع الاتفاق على أنه تعالى لا يختص بجهة الواد المقدس ، ولا يحل كلامه ـ وهو صفته ـ بالشجرة ، وأن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرب إليه مع كونه بالأرض ، وسمع نداء ربه من جانب الطور ، ولم يكن ربه بجانب الطور ، وإنما لتجلياته مظاهر وحجب روحانية وجسمانية ، لا يشهدها إلا من فتق الله رتق قلبه ، وفلق أصباح ليله ، ونوّر مصباح مشكاته بزيت شجرة توحيده (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) واعلم أن الله تعالى نبه بقوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) إلى قوله (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تحقق (سبحان الله) أولا (وبحمد الله) آخرا تجلى له وجه ربه بكماله الجامع للجلال والإكرام ، في شرف لا إله إلا الله الجامع لسبحان الله والحمد لله ، آية ربه الكبرى ، ولهذا قال آخر السورة (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) ـ مشهد روحاني ـ كان الإسراء مقاما خصّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مقام رؤية المعبود جل وعلا ، وهو مقام قاب قوسين أو أدنى ، وذلك أنه لما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمرة شجرة الكون (١) ، ودرة صدفة الوجود وسره ، ومعنى كلمة كن ، ولم تكن الشجرة مرادة لذاتها ، وإنما كانت مرادة لثمرتها ، فهي محمية محروسة لاجتناء ثمرتها واستجلاء زهرتها ، ولما كان المراد عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها ، وزفها إلى حضرة قربه ، والطواف بها على ندمان حضرته ،

__________________

(١) ثمرة شجرة الكون يعني بالكون كل ما خلق من الكلمة الإلهية وهي (كُنْ).

٥٢٣

قيل له : يا يتيم أبي طالب ، قم فإن لك طالب ، قد ادخر لك مطالب ، فأرسل إليه أخص خدام الملك ، فلما ورد عليه قادما ، وافاه على فراشه نائما ، فقال له : يا جبريل إلى أين؟ فقال : يا محمد ارتفع الأين من البين (١) ، فإني لا أعرف في هذه النوبة أين ، لكني رسول القدم ، أرسلت إليك من جملة الخدم ، وما نتنزل إلا بأمر ربك ، قال : يا جبريل فما الذي مراد مني؟ قال : أنت مراد الإرادة ، مقصود المشيئة ، فالكل مراد لأجلك ، وأنت مراد لأجله ، وأنت مختار الكون ، أنت صفوة كأس الحب ، أنت درة هذه الصدفة ، أنت ثمرة هذه الشجرة ، أنت شمس المعارف ، أنت بدر اللطائف ، ما مهّدت الدار إلا لرفعة محلك ، ما هيء هذا الجمال إلا لوصلك ، ما روّق كأس المحبة إلا لشربك ، فقم فإن الموائد لكرامتك ممدودة ، والملأ الأعلى يتباشرون بقدومك عليهم ، والكروبيون (٢) يتهللون بورودك إليهم ، وقد نالهم شرف روحانيتك ، فلا بد لهم من نصيب جسمانيتك ، فشرّف عالم الملكوت كما شرفت عالم الملك ، وشرّف بوطء قدميك قمة السماء ، كما شرفت بهما أديم البطحاء ، قال : يا جبريل الكريم يدعوني ، فماذا يفعل بي؟ قال : ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : هذا لي فما لعيالي وأطفالي؟ فإن شر الناس من أكل وحده ، قال : ولسوف يعطيك ربك فترضى ، قال : يا جبريل الآن طاب قلبي ، ها أنا ذاهب إلى ربي. فقرب له البراق ، فقال : ما لي بهذا؟ قال : مركب العشاق ، قال : أنا مركبي شوقي وزادي توقي ودليلي ليلي ، أنا لا أصل إليه إلا به ، ولا يدلني عليه إلا هو ، وكيف يطيق حيوان ضعيف أن يحمل من يحمل أثقال محبته ، ورواسي معرفته ، وأسرار أمانته التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال؟ وكيف تطيق أن تدل بي وأنت الحائر عند سدرة المنته ، وقد أنتهي إلى حضرة ليس لها منته؟ يا جبريل أين أنت مني ولي وقت لا يسعني فيه غير ربي ، يا جبريل إذا كان محبوبي ليس كمثله شيء فأنا لست كأحدكم ، المركوب يقطع به المسافات ، والدليل يستدل به إلى الجهات ، وإنما ذلك محل الحدثات ، وأنا حبيبي مقدس عن الجهات ، منزه عن الحدثات ، لا يوصل إليه بالحركات ، ولا يستدل عليه بالإشارات ، فمن عرف المعاني عرف ما أعاني ، هلم إن قربي منه مثل قاب قوسين أو أدنى. فوقعت هيئة الوقت

__________________

(١) أي ستذهب إلى حضرة لا توصف بأين ، وهي ظرف مكان.

(٢) الكروبيون أعلى صنف من الملائكة.

٥٢٤

على جبريل ، فقال : يا محمد ، إنما جيء بي إليك لأكون خادم دولتك وصاحب حاشيتك ، وجيء بالمركب إليك لإظهار كرامتك ، لأن الملوك من عاداتهم إذا استزاروا حبيبا ، أو استدعوا قريبا ، وأرادوا ظهور كرامتهم واحترامهم ، أرسلوا أخص خدامهم وأعز دوابهم لنقل أقدامهم ، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك ، ومن اعتقد أنه سبحانه وتعالى يوصل إليه بالخطا وقع في الخطا ، ومن ظن أنه محجوب بالغطاء فقد حرم العطاء ، يا محمد ، إن الملأ الأعلى في انتظارك ، والجنان قد فتحت أبوابها وزخرفت رحابها وتزينت أترابها وروق شرابها ، كل ذلك فرحا بقدومك وسرورا بورودك ، والليلة ليلتك والدولة دولتك ، وأنا منذ خلقت منتظر هذه الليلة ، وقد جعلتك الوسيلة في حاجة قلّت فيها حيلتي ، وانقطعت وسيلتي ، فأنا فيها حائر العقل ، ذاهل الفكر داهش السر ، مشغول البال زائد البلبال ، يا محمد ، حيرتي أوقفتني في ميادين أزله وأبده ، فجلت في الميدان الأول فما وجدت له أول ، وملت إلى الميدان الآخر فإذا هو في الآخر أول ، فطلبت رفيقا إلى ذلك الرفيق فتلقاني ميكائيل في الطريق ، فقال لي : إلى أين؟ الطريق مسدودة والأبواب دونه مردودة ، لا يوصل إليه بالأزمان المعدودة ، ولا يوجد في الأماكن المحدودة ، قلت : فما وقوفك في هذا المقام؟ قال : شغلني بمكاييل البحار وإنزال الأمطار ، وإرسالها في سائر الأقطار ، فأعرف كما أجاجها مددا ، وكم تقذف أمواجها زبدا ، ولا أعرف للأحدية أمدا ، ولا للفردية عددا ، قلت : فأين إسرافيل؟ قال : ذلك أدخل في مكتب التعليم ، يصافح بصفحة وجهه اللوح المحفوظ ، ويستنسخ منه ما هو مبروم ومنقوض ، ثم يقرأ على صبيان التعليم ـ في مثال ـ ذلك تقدير العزيز العليم ، ثم هو في زمن تعلمه لا يرفع رأسه حياء من معلمه ، فطرفه عن النظر مقصور ، وقلبه عن الفكر محصور ، فهو كذلك إلى يوم ينفخ في الصور ، قلت : فهلم نسأل العرش ونستهديه ، ونستنسخ منه ما علمه ونستمليه ، فلما سمع العرش ما نحن فيه اهتز طربا ، وقال : لا تحرك به لسانك ولا تحدث به جنانك ، فهذا سر لا يكشفه حجاب ، وستر لا يفتح دونه باب ، وسؤال ليس له جواب ، ومن أنا في البين حتى أعرف له أين؟ وما أنا إلا مخلوق من حرفين ، وبالأمس كنت لا أثر ولا عين ، من كان بالأمس عدما مفقودا ، كيف يعرف رؤية من لم يزل موجودا ، ولا والدا ولا مولودا ، وهو سبقني بالاستواء ، وقهرني بالاستيلاء ، فلو لا استواؤه لما استويت ، ولو لا استيلاؤه لما اهتديت ، استوى إلى

٥٢٥

السماء وهي دخان ، واستوى على العرش لقيام البرهان ، فوعزته لقد استوى ولا علم لي بما استوى ، وأنا والثرى بالقرب منه على حد سوى ، فلا أحيط بما حوى ولا أعرف ما زوى ، ولكني عبد له ولكل عبد ما نوى ، ثم إني أخبرك بقصتي ، وأبث إليك شكوة غصتي ، أقسم بعلي عزته وقوي قدرته ، لقد خلقني وفي بحار أحديته غرقني ، وفي بيداء أبديته حيرني ، تارة يطلع من مطالع أبديته فينعشني ، وتارة يدنيني من مواقف قربه فيؤنسني ، وتارة يحتجب بحجاب عزته فيوحشني ، وتارة يناجيني بمناجاة لطفه فيطربني ، وتارة يواصلني بكاسات حبه فيسكرني ، وكلما استعذبت من عربدة سكري ، قال لسان أحديته : لن تراني ، فذبت من هيبته فرقا ، وتمزقت من محبته قلقا ، وصعقت عن تجلي عظمته كما خر موسى صعقا ، فلما أفقت من سكرة وجدي به ، قيل لي : أيها العاشق ، هذا جمال قد صناه ، وحسن قد حجبناه ، فلا ينظره إلا حبيب قد اصطفيناه ، ويتيم قد ربيناه ، فإذا سمعت سبحان الذي أسرى بعبده ، فقف على طريق عروجه إلينا ، وقدومه علينا ، لعلك ترى من يرانا ، وتفوز بمشاهدة من لم ينظر إلى سوانا ، يا محمد إذا كان العرش مشوقا إليك فكيف لا أكون خادم يديك؟. قدم إليه مركبه الأول وهو البراق إلى بيت المقدس ، ثم المركب الثاني وهو المعراج إلى سماء الدنيا ، ثم المركب الثالث وهو أجنحة الملائكة من سماء إلى سماء ، وهكذا إلى السماء السابعة ، ثم المركب الرابع وهو جناح جبريل عليه‌السلام إلى سدرة المنته ، فتخلف جبريل عليه‌السلام عندها ، فقال : يا جبريل نحن الليلة أضيافك ، فكيف يتخلف المضيف عن ضيفه؟ أههنا يترك الخليل خليله؟ قال : يا محمد أنت ضيف الكريم ، ومدعو القديم ، لو تقدمت الآن بقدر أنملة لاحترقت ، وما منا إلا له مقام معلوم ، قال : يا جبريل إذا كان كذلك ألك حاجة؟ قال : نعم ، إذا انتهي بك إلى الحبيب حيث لا منته ، وقيل لك : ها أنت وها أنا ، فاذكرني عند ربك. ثم زج به جبريل عليه‌السلام زجة فخرق سبعين ألف حجاب من نور ، ثم تلقاه المركب الخامس وهو الرفرف من نور أخضر قد سد ما بين الخافقين ، فركبه حتى انته به إلى العرش ، فتمسك العرش بأذياله ، وناداه بلسان حاله ، وقال : يا محمد إلى متى تشرب من صفاء وقتك آمنا من معتكره ، تارة يتشوق إليك حبيبك وينزل إلى سماء الدنيا ، وتارة يطوف بك على ندمان حضرته ويحملك على رفرف رأفته (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وتارة يشهدك جمال أحديته (ما

٥٢٦

كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) وتارة يشهدك جمال صمدانيته (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) وتارة يطلعك على سرائر ملكوتيته (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وتارة يدنيك من حضرة قربه (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) يا محمد هذا أوان الظمآن إليه واللهفان عليه ، والمتحير فيه لا أدري من أي جهة آتية ، جعلني أعظم خلقه فكنت أعظمهم وأشدهم خوفا منه ، يا محمد خلقني يوم خلقني فكنت أرعد من هيبة جلاله ، فكتب على قائمتي (لا إله إلا الله) فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا ، فلما كتب عليّ (محمد رسول الله) سكن لذلك قلقي وهدأ روعي ، فكان اسمك أمانا لقلبي وطمأنينة لسري ورقية لقلقي ، فهذه بركة وضع اسمك عليّ ، فكيف إذا وقع جميل نظرك إليّ؟ يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين ولا بد لي من نصيب في هذه الليلة ، ونصيبي من ذلك أن تشهد لي بالبراءة من النار مما نسبه إليّ أهل الزور وتقوّله عليّ أهل الغرور ، فإنه أخطأ فيّ قوم فضلّوا وظنوا أني أسع من لا حد له ، وأحمل من لا هيئة له ، وأحيط بمن لا كيفية له ، يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته ، فكيف يكون مفتقرا إليّ أو محمولا عليّ؟ فإذا كان الرحمن اسمه ، والاستواء صفته ونعته ، وصفته ونعته متصل بذاته ، فكيف يتصل بي أو ينفصل عني ، ولا أنا منه ولا هو مني؟ يا محمد وعزته لست بالقرب منه وصلا ولا بالبعد عنه فصلا ، ولا بالمطيق له حملا ولا بالجامع له شملا ، ولا بالواجد له مثلا ، بل أوجدني من رحمته منة وفضلا ، ولو محقني لكان فضلا منه وعدلا ، يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته ، فكيف يصح أن يكون الحامل محمولا؟ (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فأجابه لسان حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيها العرش إليك عني فأنا مشغول عنك فلا تكدر عليّ صفوتي ولا تشوش علي خلوتي ، فما في الوقت سعة لعتابك ولا محل لخطابك ، فما أعاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفا ولا قرأ من مسطور ما أوحى إليه حرفا (ما زاغَ الْبَصَرُ) ثم قدم المركب السادس وهو التأييد ، فنودي من فوقه ولم ير : حافظك قدامك ، ها أنت وربك. قال : فبقيت متحيرا لا أعرف ما أقول ولا أدري ما أفعل ، إذ وقعت على شفتي قطرة أحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، وأطيب ريحا من المسك ، فصرت بذلك أعلم من جميع الأنبياء والرسل ، فجرى على لساني : التحيات المباركات لله الصلوات الطيبات لله. فأجبت : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فأشركت إخواني الأنبياء فيما

٥٢٧

خصصت به ، فقلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولهذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه ليلة أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه رأى ربه ، قال : صدق وكنت معه متمسكا بأذياله ، مشاركه في مقاله ، قيل : كيف؟ قال : في قوله : السلام علينا. فأجابه الملائكة : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله قال : ثم نوديت ادن يا محمد ، فدنوت ، ثم وقفت ، وهو معنى قوله عزوجل (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) وقيل : دنا محمد في السؤال فتدلى فتقدم للرب عزوجل ، وقيل : دنا بالشفاعة وتقرب إلى الرب بالإجابة ، وقيل : دنا بالخدمة وتقرب للرب بالرحمة. ثم دنا فتدلى معناه ، دنا محمد من ربه فتدلى عليه الوحي من ربه ، دنا لطافة فتدلى عليه رأفة ورحمة. لا يوصف بقطع مفازة ولا مسافة ، قد ذهب الأين من البين ، وتلاشى الكيف واضمحل الأين (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) فلو اقتصر على (قابَ قَوْسَيْنِ) لاحتمل أن يكون للرب مكان ، وإنما قوله (أَوْ أَدْنى) لنفي المكان. وكان معه حيث لا مكان ولا زمان ، ولا أوان ولا أكوان ، فنودي : يا محمد تقدم ، فقال : يا رب إذا انتفى الأين فأين أضع القدم؟ قال ضع القدم على القدم (١) حتى يعلم الكل أني منزه عن الزمان والمكان والأكوان ، وعن الليل وعن النهار ، وعن الحدود والأقطار ، وعن الحد والمقدار ، يا محمد انظر ، فنظر فرأى نورا ساطعا ، فقال : ما هذا النور؟ قيل : ليس هذا نورا ، بل هو جنات الفردوس ، لما ارتقيت صارت في مقابلة قدميك ، وما تحت قدميك فداء لقدميك ، يا محمد مبدأ قدمك منقطع أوهام الخلائق ، يا محمد ما دمت في سير الأين جبريل دليلك والبراق مركبك ، فإذا ذهب المكان وغبت عن الأكوان ، وانتفى الأين وارتفع البين من البين ، ولم يبق إلا قاب قوسين ، فأنا الآن دليلك يا محمد ، أفتح لك الباب ، وأرفع لك الحجاب ، وأسمعك طيب الخطاب ، في عالم الغيب وحدتني تحقيقا وإيمانا ، فوحدني الآن في عالم الشهود مشاهدة وعيانا ، فقال : أعوذ بعفوك من عقوبتك ، فقيل : هذا لعصاة أمتك ، ليس هذا حقيقة مدّعي وحّدني ، فقال : لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، فقال : يا محمد ، إذا كلّ لسانك عن العبارة فلأكسونه لسان الصدق (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) فإذا ضلّ عيانك عن الإشارة فلأجعلن عليك خلعة الهداية (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ثم لأعيرنك نورا تنظر به جمالي ،

__________________

(١) ضع القدم على القدم : أي ضع قدمك في حضرة القدم حيث لا مكان ولا زمان.

٥٢٨

وسمعا تسمع به كلامي ، ثم أعرفك بلسان الحال معنى عروجك عليّ ، وحكمة نظرك إليّ ، فكأنه يقول مشيرا : يا محمد إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ـ والشاهد مطالب بحقيقة ما شهد به ، ولا يجوز له الشهادة على غائب ـ فأريك جنتي لتشاهد ما أعددته لأوليائي ، وأريك ناري لتشاهد ما أعددته لأعدائي ، ثم أشهدك جلالي وأكشف لك عن جمالي ، لتعلم أني منزه في كمالي عن المثيل والشبيه والبديل والنظير والمشير ، وعن الحد والقد وعن الحصر والعد وعن الجوز والفرد ، وعن المواصلة والمفاصلة والمماثلة والمشاكلة والمجالسة والملامسة والمباينة والممازجة ، يا محمد إني خلقت خلقي ودعوتهم إليّ فاختلفوا عليّ ، فقوم جعلوا العزيز ابني وأن يدي مغلولة وهم اليهود ، وقوم زعموا أن المسيح ابني وأن لي زوجة وولدا وهم النصارى ، وقوم جعلوا لي شركاء وهم الوثنية ، وقوم جعلوني صورة وهم المجسمة ، وقوم جعلوني محدودا وهم المشبهة ، وقوم جعلوني معدوما وهم المعطلة ، وقوم زعموا أني لا أرى في الآخرة وهم المعتزلة ، وها أنا قد فتحت لك بابي ورفعت لك حجابي ، فانظر يا حبيبي يا محمد هل تجد فيّ شيئا مما نسبوني إليه؟ فرآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنور الذي قواه به وأيده به من غير إدراك ولا إحاطة ، فردا صمدا ، لا في شيء ولا على شيء ، ولا قائما بشيء ولا مفتقرا إلى شيء ، ولا هيكلا ولا شبها ولا صورة ولا جسما ولا محيزا ولا مكيّفا ولا مركبا ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلما كلمه شفاها وشاهده كفاحا ، فقال : يا حبيبي يا محمد ، لا بد لهذا الخلق من سر لا يذاع ، وزمن لا يشاع (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) فكان سر من سر في سر ، وصل اللهم وسلم وبارك على أشرف مخلوقاتك ، سيدنا ومولانا محمد بحر أنوارك ومعدن أسرارك ، ولسان حجتك وإمام حضرتك ، وعروس مملكتك وطراز ملكك ، وخزائن رحمتك وطريق شريعتك ، وسراج جنتك وعين حقيقتك ، المتلذذ بمشاهدتك ، عين أعيان خلقك ، المقتبس من نور ضيائك ، صلاة تحل بها عقدتي وتفرج بها كربتي ، وتقضي بها أربي وتبلغني بها طلبي ، صلاة دائمة بدوامك باقية ببقائك قائمة بذاتك ، صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.

٥٢٩

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) (٢)

فنهى تعالى أن نتخذ وكيلا غيره ، وهي نيابة الحق عن العبد ، فالوكالة نيابة عن الموكل فيما وكله فيه أن يقوم مقامه ، كما قال تعالى (لا إله إلا الله فاتخذه وكيلا) فأثبت لك الشيء وسألك أن تستنيبه فيه بحكم الوكالة ، فمن قال : إن الأموال ما خلقت إلا لنا إذ لا حاجة لله إليها ، فهي لنا حقيقة ، ثم وكلنا الحق تعالى أن يتصرف لنا فيها ، لعلمنا أنه أعلم بالمصلحة فتصرف على وجه الحكمة التي تقتضي أن تعود على الموكل منه منفعة ، فأتلف ماله هذا الوكيل الحق تعالى بغرق أو حرق أو خسف أو ما شاء ، تجارة له ليكسبه بذلك في الدار الآخرة أكثر مما قيل إنه في ظاهر الأمر إتلاف ، وما هو إتلاف بل هو تجارة بيع بنسيئة ، يسمى مثل هذا تجارة رزء لكن ربحها عظيم ، وهذا علم يعرفه الوكيل لا الموكل ، وهو يحفظ عليه ماله لمصلحة أخرى يقتضيها علمه فيها ، ومن الناس من وكل الله فاستخلفه الوكيل في التصرف على ما يرسمه الوكيل ، لعلم الوكيل بالمصلحة ، فصار الموكل وكيلا عن وكيله ، وهو الذي لا يتعدى الأمر المشروع في تصرفه وإن كان المال له ، فالتصرف فيه بحكم وكيله.

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا

٥٣٠

ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (٧)

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) اعلم أن التكاليف إن عملتها لا يعود على الله منها نفع ، وإن أنت لم تعملها لا يتضرر بذلك ، وأن الكل يعود عليك ، فالزم الأحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

اعلم أيدك الله أن جهنم من أعظم المخلوقات ، وهي سجن الله في الآخرة ، وسميت جهنم جهنم لبعد قعرها ، يقال : بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، وهي تحوي على حرور وزمهرير ، ففيها البرد على أقصى درجاته والحرور على أقصى درجاته ، وهي الآن مخلوقة وتحدث فيها آلات التعذيب بحدوث أعمال الجن والإنس الذين يدخلونها ، وجميع ما يخلق فيها من الآلام التي يجدها الداخلون فيها من الغضب الإلهي ، ولا يكون ذلك إلا عند دخول الخلق فيها من الجن والإنس متى دخولها ، وأما إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فلا ألم فيها في نفسها ولا في نفس ملائكتها ، بل هي ومن فيها من زبانيتها في رحمة الله منغمسون ملتذون يسبحون لا يفترون ، وحد جهنم بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى أسفل سافلين ، فهذا كله يزيد في جهنم مما هو الآن ليس مخلوقا فيها ، ولكن ذلك معد حتى يظهر ، إلا الأماكن التي عيّنها الله من الأرض ، فإنها ترجع إلى الجنة يوم القيامة ، مثل الروضة التي بين منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل مكان عيّنه الشارع وكل نهر فإن كل ذلك يصير إلى الجنة ، وما بقي فيعود نارا كله وهو من جهنم ، وأشد الخلق عذابا في النار إبليس الذي سن الشرك وكل مخالفة ، وعذابه بما فيها من الزمهرير ، فإنه يقابل النار الذي هو أصل نشأة إبليس (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) يريد سجنا يحصرهم فيه ، لأن المحصور مسجون ممنوع من التصرف ، بخلاف أهل الجنة فإن لهم التبوّأ منها حيث يشاؤون وليس كذلك أهل النار.

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ

٥٣١

أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٠) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) (١١)

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) التلبيس أصله العجلة من الإنسان ، فلو اتئد وتفكر وتبصر لم يلتبس عليه أمر وقليل فاعله.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢)

آية الليل هو القمر ، فلا يظهر لنوره حكم في البصر إلا بالليل ، ونوره معار فإنه انعكاس نور الشمس ، فإنه لها كالمرآة ، فالنور الذي يعطيك القمر إنما هو للشمس ، وهو موصل لا غير لأنه محو (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) وآية النهار هي الشمس يعني نورها ظاهرا للبصر ، وجعل الله تعالى الليل والنهار آيتين دلالة على عالم الغيب والشهادة ، فمحا آية الليل لدلالتها على الغيب فآية القمر ممحوة عن العالم الظاهر ، وجعل آية النهار مبصرة لدلالتها على عالم الشهادة ، وجعل ذلك الطلوع والغروب لمن يكون حسابه بالشمس ليعلم فصول السنة ، وقد يكون حسابه بالقمر عدد السنين والحساب يقول الله في الأهلة (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فقال تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) بسير القمر في منازله والشمس فيها ، فإن الليل والنهار واليوم والشهر والسنة هي المعبر عنها بالأوقات ، وتدق إلى مسمى الساعات ودونها ، والوقت لا وجود له في عينه وانه نسب وإضافات ، وان الموجود إنما هو عين الفلك والكوكب لا عين الوقت والزمان ، فإنه عبارة عن الأمر المتوهم الذي فرضت فيه الأوقات ، فالوقت فرض متوهم في عين موجودة وهو الفلك ، والكوكب يقطع حركة ذلك الفلك والكواكب بالفرض المفروض فيه ، في أمر متوهم لا وجود له يسمى الزمان ، الذي جعله الله ظرفا للكائنات المحيّزات الداخلة تحت هذا الفلك الموقت فيه المفروض

٥٣٢

في عينه تعيين الأوقات ، ليقال : خلق كذا وظهر كذا في وقت كذا ، فبطلوع كوكب الشمس سمي المطلع مشرقا والطلوع شروقا ، لكون ذلك الكوكب المنير طلع منه وأضاء به الجو ، وبالشمس سميت المقارنة استواء ، وعند بدء نزوله عن الاستواء سمي زوالا ، وغيابها غروبا والموضع الذي غربت فيه مغربا ، وأظلم الجو فسميت مدة استنارة الجو من مشرق الشمس إلى مغربها نهارا ، وسميت مدة الظلمة من غروب الشمس إلى طلوعها ليلا ، وكان اليوم مجموع الليل والنهار ، وسميت المواضع التي يطلع منها هذا الكوكب كل يوم درجا ، وانتقال الشمس في الفروض المقدرة في الفلك المحيط درجة درجة حتى يقطع ذلك بشروق سميت أياما ، وكلما أكمل قطع فرض من تلك الفروض شرع في قطع فرض آخر إلى أن أكملت الشمس الاثني عشر فرضا بالقطع ، ثم شرعت في كرة أخرى في قطع تلك الفروض ، فسمي ابتداء كل فرض إلى انتهاء قطع ذلك الفرض شهرا ، وسمي قطع تلك الفروض كلها سنة (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) سبحانه لا إله إلا هو الحكيم القدير.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤)

إنما شرع الله قراءة الكتب في الدار الآخرة ليعلم العبد المصطفى قدر ما أنعم الله عليه به ، والهالك ليعذر من نفسه فيعلم أنه جنى على نفسه ، فحاسب نفسك والله هو الحسيب.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

لما كان العالم في حال جهل بما في علم الله من تعيين طريق السعادة ، تعيّن الإعلام به بصفة الكلام ، فلا بد من الرسول ، ومن وجه آخر فإن الله ما كلف عباده ولا دعاهم إلى تكليف قط بغير واسطة ، فإنه بالذات لا يدعو إلى ما فيه مشقة ، فلهذا اتخذ الرسل عليهم

٥٣٣

الصلاة والسلام ، وقال جل ثناؤه (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ـ الوجه الأول ـ يعني نبعثه بالآيات البينات على صدق دعواه ، وكذا أخبر الله تعالى أنه أيّد الرسل بالبينات ليعذر الإنسان من نفسه ، فإنه قبل إرسال الرسل لم يقيد الإنسان ، بل كان يجري بطبعه من غير مؤاخذة أصلا ، فوجد العذر لمن لم تبلغه الدعوة الإلهية ، فحكمه حكم من لم يبعث الله إليه رسولا ، والرسول ما هو رسول لمن أرسل إليه حتى يؤدي رسالته لمن أرسل إليه ، ففي هذه الآية رحمة عظيمة لما هو الخلق عليه من اختلاف الفطر المؤدي إلى اختلاف النظر ، فإن الله تعالى قال (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) لم يقل حتى نبعث شخصا ، فلا بد أن تثبت رسالة المبعوث عند من وجه إليه ، فلا بد من إقامة الدلالة البينة الظاهرة عند كل شخص شخص ممن بعث إليهم ، فإن ربّ آية يكون فيها من الغموض أو الاحتمال بحيث أن لا يدرك بعض الناس دلالتها ، فلا بد أن يكون الدليل من الوضوح عند كل من أقيم عليه حتى يثبت عنده أنه رسول ، وحينئذ إن جحد بعد ما تيقن تعينت المؤاخذة ، وما فعل الله ذلك إلا رحمة بعباده لمن علم شمول الرحمة الإلهية التي أخبر الله تعالى أنها وسعت كل شيء ـ الوجه الثاني ـ هذه الآية تدل على أن الشرائع قد عمت جميع الخلق من آدم إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ـ الوجه الثالث ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : [من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة] ولم يقل هنا يؤمن ، فإن الإيمان موقوف على الخبر ، وقد قال (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقد علمنا أن لله عبادا كانوا في فترات وهم موحدون علما ، وما كانت دعوة الرسل قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة فيلزم أهل كل زمان الإيمان ، فعم بهذا الكلام جميع العلماء بتوحيد الله المؤمن منهم من حيث ما هو عالم به من جهة الخبر الصدق الذي يفيد العلم لا من جهة الإيمان وغير المؤمن ، فالإيمان لا يصح وجوده إلا بعد مجيء الرسول ، والرسول لا يثبت حتى يعلم الناظر العاقل أن ثم إلها وأن ذاك الإله واحد ، لا بد من ذلك ، لأن الرسول من جنس من أرسل إليهم ، فلا يختص واحد من الجنس دون غيره إلا لعدم المعارض وهو الشريك ، فإذا حصل التصديق بأنه رسول الله تتأهب العقلاء أولوا الألباب والأحلام والنهى لما يورده في رسالته هذا الرسول ، فمن مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة بلا شك ولا ريب وهو من السعداء فأما من كان من أهل الفترات فيبعثه الله أمة وحده كقس بن

٥٣٤

ساعدة ، لا تابع لأنه ليس بمؤمن ، ولا هو متبوع لأنه ليس برسول عند الله ، بل هو عالم بالله.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

إذا حق القول من الله تعالى فهو القول الواجب لا يبدل ، فإن القول الإلهي منه ما يقبل التبديل ، ومنه ما لا يقبل التبديل وهو إذا حق القول منه ، والقول المعروض يقبل التبديل.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠)

(كُلًّا نُمِدُّ) وذكر المذموم والمحمود ، وهو من إمداد الأسماء الإلهية التي من حقائقها التقابل ، فالنافع ما هو الضار ، ولا المعطي هو المانع ، (هؤُلاءِ) أصحاب الجنة (وَهَؤُلاءِ) أصحاب النار (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) فعم العطاء الجميع يعني الطائع والعاصي ، وأهل الخير وأهل الشر مع اختلاف الذوق ، وقد يكون عطاؤه الإلهام ، وقد يكون خلق العمل (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) وهذا إبانة عن حقيقة صحيحة بما هو الأمر عليه وفي نفسه ، من أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقوله تعالى (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي ممنوعا لأنه يعطي لذاته ، والمحال القوابل تقبل باستعدادها ، واستعدادها أثر الأسماء الإلهية فيها ، ومن الأسماء الإلهية الموافق والمخالف ، مثل الموافق الرحيم الغفور وأشباهه ، ومثل المخالف المعز والمذل ، فلا بد أن يكون استعداد هذا المحل في حكم اسم من هذه الأسماء ، فيكون

٥٣٥

قبوله للحكم الإلهي بحسب ذلك ، فإما مخالف وإما موافق ، ومن كان هذا حاله كيف يتعلق به ذم ذاتي؟ والأعراض لا ثبات لها ، فالجود الإلهي مطلق والمنع عدم القبول ، فمن المفيض المعطي وجود جود صرف خالص محض ، وما ثم إلا عطاء في عين منع ومنع في عين عطاء ، فحضرة المنع تعطي المنع بعطاء العين ، فالمنع تبع ، فإن المحل إذا كان في اللون الأبيض فقد أعطاه البياض ، وعين إعطاء البياض منع ما يضادّه من الألوان ، لكن ليس متعلق الإرادة إلا إيجاد عين البياض فامتنع ضده بحكم التبع ، وهكذا كل ضد في العين ، فالله يعطي على الدوام والمحال تقبل على قدر حقائق استعداداتها ، فترد الآية مثلا من كتاب الله واحدة العين على الأسماع ، فسامع يفهم منها أمرا واحدا ، وسامع آخر لا يفهم منها ذلك الأمر ويفهم منها أمرا آخر ، وآخر يفهم منها أمورا كثيرة ، ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين فيها بها لاختلاف استعداد الأفهام ، فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء الله ليس بممنوع ، إلا أنك تحب أن يعطيك ما لا يقبله استعدادك ، وتنسب المنع إليه فيما طلبته منه ، ولم تجعل بالك إلى الاستعداد الذي هو على ترتيب الحكمة الإلهية في العالم وما تعطيه حقائق الأشياء ، والكل من عند الله ، فمنعه عطاء وعطاؤه منع ، ولكن بقي لك أن تعلم لكذا ومن كذا ، وفي هذه الآية إشارة إلى عدم سرمدة العذاب على أهل النار ، فعطاؤه تعالى عين الرحمة التي سبقت ، فوسعت كل شيء من مكروه وغيره وغضب وغيره ، فما في العالم عين قائمة ولا حال إلا ورحمة الله تشمله وتحيط به ، وهي محل له ولا ظهور له إلا فيها ، فبالرحمن استوى على العرش ، وما انقسمت الكلمة إلا من دون العرش من الكرسي فما تحته ، فإنه موضع القدمين وليس سوى انقسام الكلمة ، فظهر الأمر والخلق ، والنهي والأمر ، والطاعة والمعصية ، والجنة والنار ، كل ذلك عن أصل واحد وهي الرحمة التي هي صفة الرحمن.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)

إنما ظهر الفضل في العالم ليعلم أن الحق له عناية ببعض عباده وله خذلان في بعض عباده.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ

٥٣٦

لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣)

علماء الرسوم يحملون لفظ (قَضى) على الأمر ، ونحن نحملها على الحكم ، فقوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي حكم ، وقضاء الحق لا يردّ ، والعبادة ذلة في اللسان المنزل به هذا القرآن ، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فإن العبادة ذاتية للمخلوق لا يحتاج فيها إلى تكليف ، فكما قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) ولم يذكر افتقار مخلوق لغير الله ، قضى أن لا يعبد غير الله ، فمن أجل حكم الله عبدت الآلهة ، فلم يكن المقصود بعبادة كل عابد إلا الله ، فما عبد شيء لعينه إلا الله ، وإنما أخطأ المشرك حيث نصب لنفسه عبادة بطريق خاص لم يشرع له من جانب الحق ، فشقي لذلك ، فإنهم قالوا في الشركاء (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) فاعترفوا به ، وأنزلوهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهية فنسبوها إليهم ، ولهذا يقتضي الحق حوائجهم إذا توسلوا بها إليه ، غيرة منه على المقام أن يهتضم ، وإن أخطؤا في النسبة فما أخطؤا في المقام ، ولهذا قال (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) أي أنتم قلتم إنها آلهة ، وإلا فسموهم ، فلو سموهم لقالوا : هذا حجر وشجر أو ما كان ، فتتميز عندهم بالاسمية ، إذ ما كلّ حجر عبد ولا اتخذ إلها ، ولا كل شجر ، ولا كل جسم منير ، ولا كل حيوان ، فلله الحجة البالغة عليهم بقوله (سَمُّوهُمْ) فكانت الأصنام والأوثان مظاهر له في زعم الكفار ، فأطلقوا عليها اسم الإله ، فما عبدوا إلا الإله ، وهو الذي دل عليه ذلك المظهر ، فقضى حوائجهم وسقاهم ، وعاقبهم إذ لم يحترموا ذلك الجناب الإلهي في الصورة الجمادية ، فهم الأشقياء وإن أصابوا أو لم يعبدوا إلا الله ، فكان قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) من الغيرة الإلهية حتى لا يعبد إلا من له هذه الصفة ، فكان من قضائه أنهم اعتقدوا الإله ، وحينئذ عبدوا ما عبدوا ، مع أنهم ما عبدوا في الأرض من الحجارة والنبات والحيوان ، وفي السماء من الكواكب والملائكة ، إلا لاعتقادهم في كل معبود أنه إله ، لا لكونه حجرا ولا شجرة ولا غير ذلك ، وإن أخطؤا في النسبة فما أخطؤا في المعبود ، فعلى الحقيقة ما عبد المشرك إلا الله ، وهي المرتبة التي سماها إلها ، لأنه لو لم يعتقد الألوهة في الشريك ما عبده ، فإنه ما عبد ما عبد إلا بتخيل الألوهة فيه ، ولو لاها ما عبد ، ولذلك قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فما عبد أحد سوى الله ، حتى المشركون ما عبدوه إلا في الهياكل المسماة

٥٣٧

شركاء ، فما عبدت إلا الألوهية في كل من عبد من دون الله ، لأنه ما عبد الحجر لعينه ، وإنما عبد من حيث نسبة الألوهة له ، فإن المشرك ما عبد شيئا إلا بعد ما نسب إليه الألوهة فما عبد إلا الله ، فالألوهية هي المعبودة من كل معبود ، ولكن أخطؤوا النسبة فشقوا شقاوة الأبد ، وغار الحق لهذا الوصف فعاقبهم في الدنيا إذ لم يحترموه ، ورزقهم وسمع دعاءهم ، وأجابهم إذا سألوا إلههم في زعمهم ، لعلمه سبحانه أنهم ما لجؤا إلا لهذه المرتبة وإن أخطؤا في النسبة ، فشقوا في الآخرة شقاء الأبد ، حيث نبههم الرسول على توحيد من تجب له هذه النسبة فلم ينظروا ولا نصحوا نفوسهم ، ولهذا كانت دلالة كل رسول بحسب ما كان الغالب على أهل زمانه ، لتقوم عليهم الحجة ، فتكون لله الحجة البالغة ـ تحقيق ـ قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) قضاء صحيحا (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فإن الآثار لا تكون إلا للألوهة ، وبها ظهرت الآثار عن الأكوان كلها في الأكوان ، ولو لا هذا السريان الدقيق ، والحجاب العجيب الرقيق ، والستر الأخفى ، ما عبدت الألوهية في الملائكة والكواكب والأفلاك والأركان والحيوانات والنباتات والأحجار والأناسي ، إذ الألوهية هي المعبودة من الموجودات ، فأخطؤوا في الإضافة من وجه لا غير ، ولكن كان في ذلك الوجه شقاوة الأبد ، فالمحقق تحقق ذلك الوجه ورفع الخطأ من جهة العقل لا من جهة الحكم ، فإن النظر الإلهي كان تمكنه من هؤلاء المعبودين أكبر من غيرهم ، فربط الآثار بهم فظهرت عندهم ، ليضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وربما ارتفعت طائفة عن مدرج نسبة الألوهية لهم مطلقا ولحظت الوجه الخفي فقالت (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فاتخذوهم حجبة ووزراء نعوذ بالله ، ولكن هي أشبه من الأولى ، ولو رأت هذه الطائفة هذا الوجه من أنفسها ما عبدت الألوهية في كون خارج عنها ، بل كانت تعبد نفسها ، ولكن أيضا لتحققها بها ووقوفها مع عجزها وقصورها وإتلافها لم يتمكن لها ذلك ، ولو لاح لها ما ذكرناه ما اختصت بعبودة الألوهية في كون بعينه ، ومحصول ما قلناه أن الألوهية هي المعبودة على الإطلاق لا الأكوان ، ولهذا قال (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وقال (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقضاؤه غير مردود ، فمن وقف على هذه الوجوه الإلهية من الأكوان فما يصح عنده أن يعبده كون أصلا ، ومن لم يعرفها ولا يشاهدها تعبده وجه الحق في الكون لا الكون ، وبهذا القدر يعاقب ويطلق عليه اسم الشرك (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ

٥٣٨

الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) لما كانت الأخلاق تختلف أحكامها باختلاف المحل الذي ينبغي أن يقابل بها ، احتاج صاحب الخلق إلى علم يكون عليه حتى يصرف في ذلك المحل الخلق الذي يليق به عن أمر الله ، فيكون قربة إلى الله ، فلهذا نزلت الشرائع لتبيّن للناس محال أحكام الأخلاق التي جبل الإنسان عليها ، فقال الله في مثل ذلك (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) لوجود التأفف في خلقه ، فأبان عن المحل الذي لا ينبغي أن يظهر فيه حكم هذا الخلق ، ثم بيّن المحل الذي ينبغي أن يظهر فيه هذا الخلق فقال (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ومن الناحية الفقهية اعتبر أهل القياس هذه الآية دليلا على تحريم ضرب الرجل أباه بالعصا أو بما كان ، فقال أهل القياس : لا نص عندنا في هذه المسئلة ، ولكن لما قال تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) قلنا : فإذا ورد النهي عن التأفف وهو قليل ، فالضرب بالعصا أشد ، فكان تنبيها من الشارع بالأدنى على الأعلى ، فلا بد من القياس عليه ، فإن التأفف والضرب بالعصا يجمعهما الأذى ، فقسنا الضرب بالعصا المسكوت عنه على التأفف المنطوق به ، وقلنا نحن : ليس لنا التحكم على الشارع في شيء مما يجوز أن يكلف به ولا التحكم ، ولا سيما في مثل هذا لو لم يرد في نطق الشرع غير هذا لم يلزمنا هنا القياس ولا قلنا به ولا ألحقناه بالتأفيف ، وإنما حكمنا بما ورد وهو قوله في الآية (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فأجمل الخطاب ، فاستخرجنا من هذا المجمل الحكم في كل ما ليس بإحسان ، والضرب بالعصا ما هو من الإحسان المأمور به من الشرع في معاملتنا لآبائنا ، فما حكمنا إلا بالنص وما احتجنا إلى قياس ، فإن الدين قد كمل ولا تجوز الزيادة فيه كما لم يجز النقص منه ، فمن ضرب أباه بالعصا فما أحسن إليه ، ومن لم يحسن لأبيه فقد عصى ما أمره الله به أن يعامل به أبويه ، ومن رد كلام أبويه وفعل ما لا يرضي أبويه مما هو مباح له تركه فقد عقهما ، وقد ثبت أن عقوق الوالدين من الكبائر.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤)

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الجناح عبارة عن اللطف.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)

٥٣٩

الأوابون من رجال ونساء تولاهم الله بالأوبة في أحوالهم يقال آبت الشمس لغة في غابت ، فالرجال الغائبون عند الله فلم يشهد حالهم مع الله أحد من خلق الله فإن الله وصف نفسه بأنه غفور لهم أي ساتر أي يستر مقامهم عن كل أحد سواه لأنهم طلبوا الغيبة عنده حتى لا يكون لهم مشهود سواه سبحانه ، والآيب أيضا الذي يأتي القوم ليلا كالطارق والليل ستر ، وهم الراجعون إلى الله في كل حال من كل ناحية يقال : جاؤوا من كل أوبة أي ناحية ، فالأواب الراجع إلى الله من كل ناحية من الأربع التي يأتي منها إبليس إلى الإنسان من ناحية أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فهم يرجعون في ذلك كله إلى الله أولا وآخرا.

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٢٦)

ـ إشارة ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أهل القرآن هم أهل الله وخاصته] اعلم أن المتصدق على أهل الله هو المتصدق على أهله إذا كان المتصدق بهذه المثابة ، كنت يوما عند شيخنا أبي العباس العريبي بإشبيلية جالسا ، وأردنا أو أراد أحد إعطاء معروف ، فقال شخص من الجماعة للذي يريد أن يتصدق : الأقربون أولى بالمعروف ، فقال الشيخ من فوره متصلا بكلام القائل : إلى الله. فيا بردها على الكبد ، والله ما سمعتها في تلك الحالة إلا من الله ، حتى خيّل إليّ أنها كذا نزلت في القرآن ، مما تحققت بها وأشربها قلبي ، وكذا جميع من حضر ، فلا ينبغي أن يأكل نعم الله إلا أهل الله ، ولهم خلقت ، ويأكلها غيرهم بحكم التبعية ، فهم المقصودون بالنعم ومن عداهم إنما يأكلها تبعا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [دينار أنفقته في سبيل الله ، دينار أنفقته في رقبة ، دينار تصدقت به على مسكين ، دينار أنفقته على أهلك ، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك] فقول الشيخ رضي الله عنه : إلى الله ، كذلك هو الأمر في نفسه ، فلا أقرب من الله ، فهو القريب سبحانه الذي لا يبعد إلا بعد تنزيه ، وتنقطع الأرحام بالموت ولا ينقطع الرحم المنسوبة إلى الحق ، فإنه معنا حيثما كنا ، ونحن ما بيننا نتصل في وقت وننقطع في وقت بموت أو فقد وارتحال ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة].

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)

٥٤٠