رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٩٦)

(فالِقُ الْإِصْباحِ) إن كان الحق فما فلقه إلا بشمسه ، وإن كان الشمس فالحق على عزته في قدسه ، ومن قدسه أن يكون فالقا ، كما كان لأرضه وسمواته فاتقا ، فانفلاق الصباح من فالق الإصباح في الليل ، ليكون لليل على النور ولادة ، فتقع المناسبة بين نور الصباح وبين روح الإنسان ، فلذلك يأنس به ويستفيد منه (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فيجري حكم الله في الخلق بما قدره العزيز العليم.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧)

ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ لما كان القرب إلى الله بالسلوك والسفر إليه ، لذلك كان من صفته النور لنهتدي به في الطريق ، فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ) وهو السلوك الظاهر بالأعمال البدنية (وَالْبَحْرِ) وهو السلوك الباطن المعنوي بالأعمال النفسية ، والشرع هو النور الذي يهتدى به في ظلمات بر الأسباب وبحرها ، فمن عمل كذا فجزاؤه كذا.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

١٠١

أعطى الرزاق النبات رزقه المعين وهو ما به غذاؤه وحياته ، فأعطاه الماء له ولكل حي في العالم ، وجعله رزقا له ، ثم جعل النبات رزقا لغيره من الحيوان ، فهو والحيوان رزق ومرزوق ، فالكل رزق ومرزوق.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٠١)

الابتداع إظهار أمر على غير مثال ، هذا أصله ، ولهذا قال الحق تعالى عن نفسه (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي موجدها على غير مثال سبق ، فالأول في كل صورة مبدع والثاني ليس بمبدع ، فإنه على مثاله ، ولكنه مخلوق ، فهو بالخلق الأول بديع ، وبالخلق الثاني المماثل للخلق الأول خالق.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢)

هذا توحيد الرب بالاسم الخالق ، وهو توحيد الهوية ، وهذا توحيد الوجود لا توحيد التقدير ، فإنه أمر بالعبادة ، ولا يأمر بالعبادة إلا من هو موصوف بالوجود ، وجعل الوجود للرب ، فجعل ذلك الاسم بين الله وبين التهليل ، وجعله مضافا إلينا إضافة خاصة إلى الرب ، فهي إضافة خصوص ، لنوحده في سيادته ومجده في وجوب وجوده ، فلا يقبل العدم كما يقبله الممكن ، فإنه الثابت وجوده لنفسه ، ويوحد أيضا في ملكه بإقرارنا بالرق له ، ولنوحده توحيد المنعم لما أنعم به علينا ، من تغذيته إيانا في ظلم الأرحام وفي الحياة الدنيا ، ونوحده أيضا فيما أوجده من المصالح التي بها قوامنا ، من إقامة النواميس ووضع الموازين ومبايعة الأئمة القائمين بالدين ، وهذه الفصول كلها أعطاها الاسم الرب ، فوحدناه ونفينا ربوبية من سواه ، قال يوسف عليه‌السلام لصاحبي السجن : (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد

١٠٢

القهار) وفي توحيد الربوبية هنا عمّ إضافة جميعنا إليه ، فقال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) كل موجود سوى الله تعالى مركّب ، وهو الموجب لاستصحاب الافتقار له ، فإنه وصف ذاتي ، والذي نسمعه من البسائط إنما هي أمور معقولة لا وجود لها في أعيانها ، وقال تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) لنعلم أن الوجود مقسم بين عابد ومعبود ، فالعابد كل ما سوى الله تعالى ، وهو العالم المعبر عنه والمسمى عبدا ، والمعبود هو المسمى الله ، فكل ما سوى الله عبد لله ، ما خلق ويخلق.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣)

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الضمير يعود على الوجه ، ووجه الشيء ذاته وحقيقته ، التي قال فيها الحق : [لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره] ، ولكن البصر يدركه من حيث التجلي الصوري في الأسماء من قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : [ترون ربكم] (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لأنه نور ، والنور لا يدرك إلا بالنور ، فلا يدرك النور إلا به (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لأنه نور (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لأنه يلطف ويخفى في عين ظهوره فلا يعرف ولا يشهد كما يعرف نفسه ، ويشهدها ، (الْخَبِيرُ) علم ذوق ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يعني في الدنيا مع ثبوت الرؤيا في الآخرة ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ولم يخص دارا من دار ، بل أرسلها آية مطلقة ، ومسئلة معينة ، فلا يدركه سواه ، قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت ربك؟ فقال : نور أنّى أراه ، فلا يزال حجاب العزة مسدلا ، لا يرفع أبدا ، جلّ أن تحكم عليه الأبصار عند مشاهدتها إياه ، لأنها في الحيرة والعجز ، فرؤيتها لا رؤيتها ، كما قال الصديق : العجز عن درك الإدراك إدراك. والمعنى الآخر أنه ما رآه مني إلا هويته ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : واجعلني نورا ، وظلمتي لا تدركه. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فإن البصر جاء ليدرك به لا أنه يدرك ، ولذا جاء في قوله (لا تُدْرِكُهُ) بضمير الغائب ، والغيب غير مدرك بالبصر والشهود ، وهو الباطن تعالى ، فإنه لو أدرك لم يكن غيبا ولا بطن ، ولكن (يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فإنه لا يلزم الغيبة من الطرفين ، ما يلزم من هو غائب عنك أن تكون غائبا عنه ، قد يكون ذلك وقد لا يكون ، وأنت ظاهر ولا بد ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فكثّر وجمع ، فإنها أبصار الكون ، والحقيقة المنفية في هذه

١٠٣

الآية أن الأبصار هنا معان يدرك بها المبصرات ، ما هي تدرك المبصرات ، ولم يقل : لا يدركه البصر ، فإنه إذا كان عين الحق عين بصرك ، فيصح أن يقال مثل هذا يدركه البصر ، فينسب الإدراك إليه مع صحة كونه بصرا للعبد ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) على وجهين : الوجه الواحد ، أنه نفى أن تدركه الأبصار على طريق التنبيه على الحقائق ، وإنما يدركه المبصرون بالأبصار لا الأبصار. ـ الوجه الثاني ـ لا تدركه الأبصار المقيدة بالجارحة ، فإذا لم تتقيد أدركته ، كأن يكون الحق بصره ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يعني في كل عين من أعين الوجوه للقرب المفرط ، فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد ، ومن أعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر ، وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر ، فالبصر حيث كان ، به يقع الاشتراك ، فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ، ويسمى في الظاهر بصر العين ، والعين في الظاهر محل للبصر ، والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه ، فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه ، فكما لا تدركه العيون بأبصارها ، كذلك لا تدركه البصائر بأعينها ، فإن الحق تعالى احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار ، لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم] فكما لا تدركه الأبصار لا تدركه البصائر وهي العقول ، لا تدركه بأفكارها ، فتعجز عن الوصول إلى مطلوبها والظفر به ، مع أنه سبحانه لم ينف عن إدراكه قوة من القوى التي خلقها إلا البصر ، فمنع ذلك شرعا ، وما قال : لا يدركه السمع ولا العقل ولا غيرهما من القوى الموصوف بها الإنسان ، كما لم يقل أيضا : إن غير البصر يدركه ، بل ترك الأمر مبهما ، فمن زعم أنه يدركه عقلا ولا يدركه بصرا ، فمتلاعب لا علم له بالعقل ولا بالبصر ، ولا بالحقائق على ما هي عليه في أنفسها ، كالمعتزلي فإن هذه رتبته ، فللأبصار إدراك وللبصائر إدراك ، وكلاهما محدث ، فإن صح أن يدرك بالعقل وهو محدث ، صح أو جاز أن يدرك بالبصر ، لأنه لا فضل لمحدث على محدث في الحدوث ، وإن اختلفت الاستعدادات فجائز على كل قابل للاستعدادات أن يقبل استعداد الذي قيل فيه : إنه أدرك الحق بنظره الفكري ، فإما أن ينفوا ذلك جملة واحدة ، وإما أن يجوزه جملة واحدة ، وإما أن يقفوا في الحكم فلا يحكمون فيه بإحالة ولا جواز ، حتى يأتيهم تعريف الحق نصا لا يشكون فيه ، أو يشهدونه في نفوسهم ، قال عزوجل لموسى عليه‌السلام : (لن تراني)

١٠٤

وكل مرئي لا يرى الرائي ـ إذا رآه ـ منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآه ، وما رأى إلا نفسه ، ولو لا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين ، إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا ، لكن لما كان هو مجلى رؤيتهم أنفسهم ، لذلك وصفوه بأن يتجلى ، وأنه يرى ، ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلى الحق حجبه عن رؤية الحق ، فإن الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الدجال ودعواه أنه إله : إن أحدنا لا يرى ربه حتى يموت ، لأن الغطاء لا ينكشف عن البصر إلا بالموت ، والبصر من العبد هوية الحق ، فعينك غطاء على بصر الحق ، فبصر الحق أدرك الحق ورآه لا أنت ، فإن الله لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، ففي مدلول هذه الآية أنه يدرك تعالى نفسه بنفسه ، لأنه إذا كان بهويته بصر العبد ، ولا يقع الإدراك البصري إلا بالبصر ، وهو عين البصر المضاف إلى العبد ، وقال : إنه يدرك الأبصار ، وهو عين الأبصار ، فقد أدرك نفسه ، لذلك قال : (وَهُوَ اللَّطِيفُ) ولا ألطف من هوية تكون عين بصر العبد ، وبصر العبد لا يدرك الله ، وليس في القوة أن يفصل بين البصرين ، (اللَّطِيفُ) من حيث أنه لا تدركه الأبصار ، و (اللَّطِيفُ) المعنى من حيث أنه يدرك الأبصار ، أي دركه للأبصار دركه لنفسه ، وهذا غاية اللطف والرقة ، فما لطفه ولا أخفاه إلا شدة ظهوره ، فإنه البصر لكل عين تبصر ، فمن نظر بعين الإيمان رأى قوة نفوذه في الكثيف ، حتى سرى إلى اللطيف «الخبير» فيحصل له المعرفة بالأمر على ما هو عليه» ، «اللطيف» إذ كانت اللطافة مما ينبو الحس عن إدراكها ، فتعقل ولا تشهد ، فتسمى في وصفه الذي تنزه أن يدرك فيه باللطيف ، أي تلطف عن إدراك المحدثات ، ومع هذا فإنه يعلم ويعقل أن ثمّ أمرا يستند إليه ، فأتى بالاسم (الْخَبِيرُ) على وزن فعيل ، وفعيل يرد بمعنى المفعول ، كقتيل بمعنى مقتول ، وجريح بمعنى مجروح ، وهو المراد هنا والأوجه ، وقد يرد بمعنى الفاعل كعليم بمعنى عالم ، وقد يكون أيضا هو المراد هنا ، ولكنه يبعد ، فإن دلالة مساق الآية لا تعطي ذلك ، فإن مساقها في إدراك الأبصار لا إدراك البصائر فإن الله قد ندبنا إلى التوصل بالعلم به فقال : (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ولا يعلم حتى ينظر في الأدلة ، فيؤدينا النظر فيها إلى العلم به على قدر ما تعطينا القوة في ذلك ، فلهذا رجحنا خبير هنا بمعنى المفعول ، أي أن الله يعلم ويعقل ، ولا تدركه الأبصار. ومن وجه آخر (الْخَبِيرُ) يشير إلى علم ذلك ذوقا ، فهو العليم خبرة أنه بصر العبد في بصر العبد ، وكذا

١٠٥

هو الأمر في نفسه ، وإن كان حيا ، فقد استوى الميت والحي في كون الحق تعالى بصرهما ، وما عندهما شيء ، فإن الله لا يحلّ في شيء ولا يحل فيه شيء ، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ويشير إلى هذه الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإحسان : [فإن لم تكن تراه فإنه يراك] فيتجلى الله تعالى للعارفين على قلوبهم ، وهو المرئي في الدنيا بالقلوب والأبصار ، ومع أنه سبحانه منبىء عن عجز العباد عن درك كنهه ، فقال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) لطيف بعباده بتجليه لهم على قدر طاقتهم ، خبير بضعفهم عن حمل تجليه الأقدس على ما تعطيه الألوهة ، إذ لا طاقة للمحدث على حمل جمال القديم.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٦)

هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خص به باعتباره الداعي ، لمجيئه بالتوحيد الإيماني لا التوحيد العقلي ، وهو توحيد الأنبياء والرسل ، لأنها ما وحدت عن نظر ، وإنما وحدت عن ضرورة علم وجدته في نفسها لم تقدر على دفعه ، فترك المشركين وآلهتهم وانفرد بغار حراء يتحنث فيه من غير معلم إلا ما يجده في نفسه حتى فجأه الحق ، وهو قوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أنه لا يقبل الشريك (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فأعرض عنهم حتى يستحكم الإيمان ، وأقمه بنفس الرحمن فأجعل له أنصارا ، وآمرك بقتال المشركين لا الإعراض عنهم ، وهذا هو التوحيد الثامن في القرآن ، وهو من توحيد الاسم الرب ، وقد عمم بإضافة جميعنا إليه في التوحيد السابع فقال : (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو) وهنا خصص به الداعي ، وهو توحيد الاتباع ، وهو من توحيد الهوية ، فهو توحيد تقليد في علم ، لأنه نصب الأسباب وأزال عنها حكم الأرباب لما قالوا : (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض عن الشرك لا عن السبب ، فإنه قال في مصالح الدنيا :

١٠٦

(ولكم في القصاص حياة) فعلل ولام العلة في القرآن كثير ، فكأنه توحيد في مجلس محاكمة ، فيدخل فيه توحيد القسط لإقامة الوزن في الحكم بين الخصماء ، بيّن ذلك قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وخص به الداعي لمجيئه بالتوحيد الإيماني.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢)

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) الشيطان الحسي على قسمين : إنسي وجني ، وشياطين الإنس لهم سلطان على ظاهر الإنسان وباطنه ، وشياطين الجن هم نواب شياطين الإنس في بواطن الناس ، وشياطين الجن هم الذين يدخلون الآراء على شياطين الإنس ويدبرون دولتهم ، فيفصّلون لهم ما يظهرون فيها من الأحكام ، ولذلك قال تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (يُوحى

١٠٧

بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) هو قدحهم في أهل الإيمان من حيث إيمانهم ، وتزيين ما هم عليه من الباطل ، ومداخل الشيطان إلى نفوس العالم كثيرة ، وهو يستدرج كل طائفة من حيث ما هو الغالب عليها ، فإنه عالم بمواقع المكر والاستدراج ، وقد أعطاك الله في العامة ميزان الشريعة ، وميّز لك بين فرائضه ومندوباته ومباحه ومحظوره ومكروهه ، ونص على ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله ، فإذا خطر لك خاطر من محظور أو مكروه فتعلم أنه من الشيطان بلا شك ، فوحي الشيطان هو ما يزينه من الأعمال وإن كان لها وجه إلى الحق ، فالمعدن خبيث ، يروى أن إبليس جاء إلى عيسى عليه‌السلام فقال له : قل لا إله إلا الله ، فهذه كلمة حق من معدن خبيث ، فقال له عيسى عليه‌السلام : يا ملعون أقولها لا لقولك وأمرك. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) اعلم أن المهانة حقيقة العالم التي هو عليها ، لأنه بالذات ممكن فقير ، فهو ممنوع من نيل جميع أغراضه وإرادته منعا ذاتيا ، ولا يحجبنك وقوع بعض مراداته ، ونيل بعض أغراضه ، عما قلناه في حقه ، فإن ذلك ما وقع له إلا بإرادة الحق لا بإرادته ، فذلك المراد وإرادة العبد معا إنما هما واقعان بإرادة الحق ، فهو ممتنع بالذات أن يكون شيء في الوجود موجودا عن إرادة العبد ، ولو كان لإرادة العبد نفوذ في أمر خاص لعم نفوذها في كل شيء ، لو كان ذلك المراد وقع لعين إرادة الممكن ، فتعين أن ذلك الواقع وقع بإرادة الله عزوجل ، فالعالم ممنوع لذاته كما هو ممكن مهان لذاته ، وإنما كان مهانا لذاته لأن العبودية له ذاتية ، وهي الذلة ، وكل ذليل مهان ، وكل مهان محتقر ، وكل محتقر مغلوب (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) فجعلهم أهل افتراء على الله.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (١١٣)

فالسامع إذا كان سريع الانفعال لما يسمع فيجب عليه عقلا أن لا يصغي لقائل شر.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

١٠٨

(١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧)

فإن العلم إنما يتعلق بالمعلوم على ما هو المعلوم عليه ، لذلك كانت وظيفة الرسل والورثة من العلماء إنما هي التبليغ بالبيان والإفصاح لا غير ذلك.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩)

اعلم أن تغير الأحوال يغير الأحكام ، فالشخص الواحد الذي لم يكن حاله الاضطرار ، أكل الميتة عليه حرام ، فإذا اضطر ذلك الشخص عينه فأكل الميتة له حلال ، فاختلف الحكم لاختلاف الحال ، والعين واحدة. ومن هذه الآية علمنا أن الحكم بالمنع وغيره مبناه على حال المكلّف ، فإن المنع في حق من منع منه لا في عين الممنوع ، فإن ذلك الممنوع بعينه قد أبيح لغيره ، لكون ذلك الغير على صفة ليست فيمن منع منه ، أباحته تلك الصفة بإباحة الشارع ، فلهذا قلنا : لا في عين الممنوع ، فإنه ما حرم شيء لعينه جملة واحدة ، وفي مواضع على اسم الممنوع ، فإن تغير الاسم لتغير قام بالمحرم تغير الحكم على المكلف في تناوله ، إما بجهة الإباحة أو الوجوب ، وكذلك إن تغير حال المكلف الذي خوطب بالمنع من ذلك الشيء واجتنابه لأجل تلك الحال ، فإنه يرتفع عنه هذا الحكم ولابد ، وإن كان الأمر على هذا الحد ، فما ثمّ عين محرمة لعينها ، وعلق الذم بفعل المكلف لا بالعين التي حجر عليه تناولها ، فقال : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فإن المضطر لا تحجير عليه ، وقوله : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) هو الرزق الذي به بقاء الحياة ، وما به حياتك لا يصح فيه تحجير.

١٠٩

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١)

المجادل الذي هو ولي الشيطان يظن أن ذلك من نفسه ومن نظره وعلمه ، وهو من وحي الشيطان إليه ـ إشارة ـ أهل السماع والوجد بالأشعار التي أهلت لغير الله ، هم أبعد الخلق عن الحق ، فإنهم أكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، ولما كان الوجد يستدعي التنزل جاء في الآية (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) في مقابلة الوحي الحق فتفطن ، فلا ينبغي أن ينشد في حق الله شعرا قصد به قائله في أول وضعه غير الله ، نسيبا كان أو مديحا ، فإنه بمنزلة من يتوضأ بالنجاسة قربة إلى الله ، فإن القول في المحدث حدث بلا شك ، وقد نبه الله في كتابه على هذه المنزلة بقوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وقال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) والشعر في غير الله مما أهل لغير الله به ، فإن للنية أثرا في الأشياء ، والله يقول : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) والإخلاص النية ، وهذا الشاعر ما نوى في شعره إلا التغزل في محبوبه ، والمديح فيمن ليس له بأهل لما شهد به فيه ، وكل ما كان قربة إلى الله شرعا فهو مما ذكر اسم الله عليه وأهل به لله ، وإن كان بلفظ التغزل وذكر الأماكن والبساتين والجوار ، وكان القصد بهذا كله ما يناسبها من الاعتبار في المعارف الإلهية والعلوم الربانية فلا بأس ، وإن أنكر ذلك المنكر فإن لنا أصلا نرجع إليه فيه ، وهو أن الله تعالى يتجلى يوم القيامة لعباده في صورة ينكر فيها ، حتى يتعوذ منها ، فيقولون : نعوذ بالله منك لست بربنا ، وهو يقول : أنا ربكم وهو هو تعالى.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢)

١١٠

هذا ضرب مثل في الكفر والإيمان ، والعلم والجهل ، فالجهل موت والعلم حياة لذلك قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) أراد بالموت الجهل (فَأَحْيَيْناهُ) بالعلم وهي الحياة العلمية التي تحيى بها القلوب فحياة العلم يقابلها موت الجهل ، وبالنور يقع حصوله كما بالظلمة يكون الجهل (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) وهي الضلال (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) أي لا يهتدي أبدا. واعلم أن الموت عبارة عن مفارقة الروح الجسد الذي كانت به حياته الحسية ، وهو طارىء عليها بعد ما كانا موصوفين بالاجتماع الذي هو علة الحياة ، فكذلك موت النفس بعدم العلم ، فان قلت إن العلم بالله طارئ الذي هو حياة النفوس ، والجهل ثابت لها قبل وجود العلم ، فكيف يوصف الجاهل بالموت وما تقدمه علم؟ قلنا إن العلم بالله سبق إلى نفس كل إنسان في الأخذ الميثاقي حين أشهدهم على أنفسهم ، فلما عمرت الأنفس الأجسام الطبيعية في الدنيا فارقها العلم بتوحيد الله ، فبقيت النفوس ميتة بالجهل بتوحيد الله ، ثم بعد ذلك أحيا الله بعض النفوس بالعلم بتوحيد الله ، وأحياها كلها ، بالعلم بوجود الله ، إذ كان من ضرورة العقل العلم بوجود الله ، فلهذا سميناه ميتا ، فقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) يعني بما كان الله قد قبض منه روح العلم بالله ، فقال تعالى في معرض الامتنان : (فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) فرد إليه علمه فحيى به ، كما ترد الأرواح إلى أجسامها في الدار الآخرة يوم البعث (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) يريد مقابلة النور الذي يمشي به في الناس ، وما هو عين الحياة ، فالحياة الإقرار بالوجود ، أي بوجود الله لا بتوحيده ، ما تعرض للتوحيد في الإشهاد ، ولهذا أردف الله في الآية حين قال : (فَأَحْيَيْناهُ) فلم يكتف حتى قال : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يريد العلم بتوحيد الله لا غيره ، فإنه العلم الذي يقع به الشرف له والسعادة ، وما عدا هذا لا يقوم مقامه في هذه المنزلة ، ونور العلم ينفر ظلمة الجهل. وقد يكون قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) به يشهد ، وهو نور الإيمان ، والكشف الذي أوحى الله به إليه ، أو امتن به عليه ، فليس مثله (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) وإن كان حيا ـ وجه آخر ـ (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) هو قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ويعني بالنور المجعول هنا الشرع الموحى به (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ولا حكم إلا للنور المجعول وهو الظاهر ، وهذا حكم نور الشرع على نور العقل من قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) شعر :

١١١

فليس له سوى التسليم فيه

وليس له سوى ما يصطفيه

فإن أوّلته لم تحظ منه

بعلم في القيامة ترتضيه

فتحشر في ظلمة جهلك ، ما لك نور تمشي به ، ولا يسعى بين يديك. فترى أين تضع قدمك ، وإذا بلغ العبد مقام المحبة الإلهية كما قال : إذا أحب عبدا كان سمعه الذي يسمع به ، إلى أن قال ورجله التي يسعى بها ، فهو يمشي بهذا النور في الناس من حيث كون الله تسمى بالاسم النور (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو نور ذاتي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [واجعلني كلي نورا] فهو يمشي في الناس بربه وهم لا يشعرون ، ثم لنعلم أن الأنوار وإن اجتمعت في الإضاءة والتنفير ، فإن لها درجات في الفضيلة ، كما أن لها أعيانا محسوسة ، كنور الشمس والقمر والنجوم والسراج والنار والبرق ، وكل نور محسوس أو منور ، وأعيانا معقولة ، كنور العلم ونور الكشف ، وهذه أنوار البصائر والأبصار ، وهذه الأنوار المحسوسة والمعقولة ، على طبقات يفضل بعضها بعضا ، فنقول عالم وأعلم ، ومدرك وأدرك ، كما تقول في المحسوس نير وأنور ، أين نور الشمس من نور السراج؟.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣)

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم (وَما يَشْعُرُونَ) فكان مكر الله بهؤلاء هو عين مكرهم الذي اتصفوا به وهم لا يشعرون.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤)

ـ قراءة ـ إذا قرأت رسل الله الله ، فإن انقطع نفسك على الجلالة الثانية كان ، وإلا

١١٢

فاقصد ذلك ، ثم ابتدىء (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) قال تعالى في الذين يبايعون الرسول إنما يبايعون الله ، فأنزله منزلته ، ف (اللهُ أَعْلَمُ) موجه ، له وجه بالخبرية إلى (رُسُلُ اللهِ) ، وله وجه بالابتداء إلى (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، وكلا الوجهين حقيقة فيه.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥)

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) كأنما يخرج عن طبعه ، والشيء لا يخرج عن حقيقته.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦)

(وَهذا) إشارة إلى ما تقدم ذكره (صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) وما ذكر إلا إرادته للشرح والضيق ، فلا بد منهما في العالم ، لأنه ما يكون إلا ما يريد ، وأضاف الصراط إلى الاسم الرب لاستدعائه المربوب ، وجعله مستقيما ، فمن خرج عنه فقد انحرف وخرج عن الاستقامة ، وصراط الرب لا يكون إلا مع التكليف ، فإذا ارتفع التكليف لم يبق لهذا الصراط عين وجودية.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧)

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ) هي دار لا يمسهم فيها نصب ، فهم فيها سالمون.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ

١١٣

مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠)

خلق الله الجان شقيا وسعيدا ، وكذلك الإنس ، وخلق الله الملك سعيدا ، لا حظ له في الشقاء ، فسمي شقي الإنس والجان كافرا ، وسمي السعيد من الجن والإنس مؤمنا ، وأخسر الأخسرين شاهد يشهد على نفسه ، فهم الذين أشقوا أنفسهم بشهادتهم.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (١٣٣)

ـ رقيقة ـ قال تعالى : (إِنْ يَشَأْ) فهل يشاء أم لا؟ هذا لا يكون ، فمشيئة الحق أحدية التعلق ، وهي نسبة تابعة للعلم ، والعلم نسبة تابعة للمعلوم ، والمعلوم أنت وأحوالك ، فليس للعلم أثر في المعلوم ، بل للمعلوم أثر في العلم ، فيعطيه ما هو عليه في عينه ، وإنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون ، وما أعطاه النظر العقلي ، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف ، ولذلك كثر المؤمنون ، وقل العارفون أصحاب الكشف.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ

١١٤

الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ

١١٥

الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥)

اتفق العلماء على تحريم الدم المسفوح من الحيوان المذكى ، واختلفوا في غير المسفوح منه ، والسفح الذي يشترط إنما هو الدم السائل من التزكية في الحيوان الحلال الأكل ، إذ الدم السائل من الحي فهو حرام بلا خلاف ، قليله وكثيره ، وكذلك ما سال من دم الحيوان المحرم الأكل وإن ذكي فقليله وكثيره حرام بغير خلاف ، وأما اختلافهم في دم الحوت فمن حرمه فبعموم اللفظ ، ومن أحله فليس له دليل ، إلا أنه رأى أن الدم تابع في الحرمة والحل لميتة الحيوان ، فمن كان ميتته حرام قدمه حرام ، ومن كان ميتته حلالا فدمه حلال فالتحريم ينسحب على كل دم مسفوح من أي حيوان كان ، ويحرم أكله ، وأما كونه نجاسة ، فلا أحكم بنجاسة المحرمات إلا أن ينص الشارع على نجاستها على الإطلاق ، أو يقف على القدر الذي نص على نجاسته ، وليس النصّ بالاجتناب نصا في كل حال ، فيفتقر إلى قرينة ولا بد ، فما كل محرم نجس ، وإن اجتنبناه فما اجتنبناه لنجاسته ، فإن كونه نجس حكم شرعي ، وقد يكون غير مستقذر عقلا ولا مستخبث.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا

١١٦

لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩)

اعلم أن لله الحجة البالغة ، لأنه لا يجري عليك من الأقدار إلا ما كنت عليه ، فإنه يقول كذا علمتك ، وما علمتك إلا منك ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فإن العلم تابع للمعلوم ، فإن قال المعلوم شيئا كان لله الحجة البالغة عليه بأن يقول : ما علمت هذا منك إلا بكونك عليه ـ في حال عدمه ـ وما أبرزتك في الوجود إلا على قدر ما أعطيتني من ذاتك بقبولك ، فيعرف العبد أنه الحق فتندحض حجة الخلق ، فيأخذ الناس ذلك إيمانا ، وأما أرباب الشهود فيأخذونه عيانا ، فيعلمون موقعها ومن أين جاء بها الحق ، فإن من المحال أن يتعلق العلم إلا بما هو المعلوم عليه في نفسه ، ولذلك وصف الحق نفسه بأن له الحجة البالغة لو نوزع ، فلو احتج أحد على الله بأن يقول له : علمك سبق فيّ بأن أكون على كذا ، فلم تؤاخذني؟ يقول له الحق : هل علمتك إلا بما أنت عليه؟ فلو كنت غير ذلك لعلمتك على ما تكون عليه ، فارجع إلى نفسك وأنصف في كلامك ، فإذا رجع العبد على نفسه ونظر في الأمر كما ذكرنا علم أنه محجوج وأن الحجة لله تعالى عليه ، أما سمعته تعالى يقول : (وما ظلمهم الله) (وما ظلمناهم) وقال : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) كما قال : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) يعني أنفسهم ، فإنهم ما ظهروا لنا حتى علمناهم وهم معدومون إلا بما ظهروا به في الوجود من الأحوال ، فالعلم تابع للمعلوم ، ما هو المعلوم تابع للعلم فافهمه. ومن وجه آخر : ما حكم الله في العباد إلا بهم ، وهو قوله : (جَزاءً وِفاقاً) (وجزاء بما كنتم تعملون) (وجزاء بما كنتم تكسبون) فأعمالهم عذبتهم وأعمالهم نعمتهم فما حكم فيهم غيرهم ، فلله الحجة البالغة ولا حجة لأحد على الله فمدح الله نفسه

١١٧

بأن له الحجة البالغة وليس إلا العلم فإنه أعلى ما يطلب وأفضل ما يكتسب وأعظم ما به يفتخر ، وأسد آلة تعد وتدخر (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولو حرف امتناع لامتناع ، فما شاء إلا ما هو الأمر عليه ، ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل ، وأي الحكمين المعقولين وقع ، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته ، ومعنى لهداكم أي ليبين لكم ، وما كل ممكن في العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه ، فمنهم العالم والجاهل ، فما هداهم أجمعين ولا يشاء.

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

(بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له مشابها ومماثلا.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢)

اليتيم من لا أب له بالحياة ، وهو غير بالغ أي لم يبلغ الحلم بالسن أو الإنبات أو رؤية الماء ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتجارة في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة ، فإن الزكاة واجبة

١١٨

في مال اليتيم ، يخرجها وليه. (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) اعلم أن العدل هو الميل ، يقال عدل عن الطريق إذا مال عنه ، وعدل إليه إذا مال إليه ، وسمي الميل إلى الحق عدلا كما سمي الميل عن الحق جورا.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)

قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وهي أحكام الطريقة ، ولهذا خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا ، وخط عن جنبتي ذلك الخط خطوطا ، فكان ذلك الخط شرعه ومنهاجه الذي بعث به ، وقيل له قل لأمتك تسلك عليه ، ولا تعدل عنه ، وكانت تلك الخطوط شرائع الأنبياء التي تقدمته ، والنواميس الحكمية الموضوعة ، ثم وضع يده على الخط وتلا : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) فأضافه إليه ، ولم يقل صراط الله ، ووصفه بالاستقامة ، وما تعرض لنعت تلك الخطوط بل سكت عنها ، فهو شرع خاص ، ثم قال : (فَاتَّبِعُوهُ) الضمير يعود على صراطه (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) يعني شرائع من تقدمه ومناهجهم ، فإنه أشار إلى تلك الخطوط التي خطها على يمين الخط ويساره من حيث ما هي شرائع لهم ، إلا إن وجد حكم منها في شرعي فاتبعوه من حيث ما هو شرع لنا لا من حيث ما كان شرعا لهم (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) يعني تلك الشرائع عن سبيله التي لكم فيها السعادة ، وهي الطريق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلا فالسبل كلها إليه ، لأن الله منته كل سبيل ، فإليه يرجع الأمر كله ، ولكن ما كل من رجع إليه سعد ، فسبيل السعادة هي المشروعة ، ولذلك لم يقل عن سبيل الله ، لأن الكل سبيل الله ، إذ كان الله غايتها. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) فجعل هذا التعريف وصية ليعمل بها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تتخذون تلك السبيل وقاية ، تحول بينكم وبين المشي على غيره من السبل ، فهذا يدلك أن الشريعة هي المحجة البيضاء ، محجة السعداء ، وطريق السعادة ، من مشى عليها نجا ، ومن تركها هلك ، فإن السبل المشروعة ، الحكم فيها مجموعة ، فمن احترمها وأقامها أعطته ما فيها ، وأتحفته بمعانيها ، فكان علّامة الزمان ، مجهولا في الأكوان ، معلوما للواحد الرحمن ، على أن الرسل لما طرقت السبل وسهلت حزنها ، وذللت صعبها ، وأزالت غمها وحزنها ، أخبرت أن دين الله في

١١٩

يسر ، فلا تجعلوه في عسر ، فما كلف الله نفسا إلا ما آتاها ، وما شرع لها إلا ما واتاها ، فإنه العالم بالمصالح والمنافع ، والدواء الناجع ، فمن استعمل ما شرع ، اندفع عنه الضر وانتفع ، فذهب الله بالشرائع كل مذهب ، لمن عرف كيف يذهب. فما من قالة إلا وللشرع فيها مقالة ، إما بتقرير أو إزالة ، فما فرط في الكتاب من شيء حين أنزله ، ولا كتم رسول ما به الحق عزوجل أرسله.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤)

(وَهُدىً) أي بيانا ورحمة بما يحصل لهم من العلم من ذلك البيان.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ـ الوجه الأول ـ ذلك عند مفارقة الروح لهذه النشأة ، لأن زمان التكليف

١٢٠