رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

(٩) سورة التوبة مدنيّة

اختلف الناس في سورة التوبة ، هل هي سورة مستقلة كسائر سور القرآن؟ أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة؟ فإنهم كانوا لا يعرفون كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ، ولم يجىء هنا ، فدل أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه. وإن كان لترك البسملة وجه ، وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ، فإن بسملة سورة براءة هي التي في النمل ، والحق تعالى إذا وهب شيئا لم يرجع فيه ولا يرده إلى العدم ، فلما خرجت رحمة براءة وهي البسملة ، حكم التبري من أهلها برفع الرحمة عنهم ، وأعطيت هذه البسملة للبهائم التي آمنت بسليمان عليه‌السلام ، وهي لا يلزمها إيمان إلا برسولها ، فلما عرفت قدر سليمان وآمنت به أعطيت من الرحمة الإنسانية حظا ، وهي بسم الله الرحمن الرحيم الذي سلب عن المشركين. ولكن ما لهذا الوجه تلك القوة بل هو وجه ضعيف ، وسبب ضعفه أنه في الاسم الله المنعوت بجميع الأسماء ما هو اسم خاص يقتضي المؤاخذة ، والبراءة إنما هي من الشريك ، وإذا تبرأ من المشرك فلكونه مشركا ، لأن متعلقه العدم ، فإن الخالق لا يتبرأ من المخلوق ، ولو تبرأ منه من كان يحفظ عليه وجوده ، ولا وجود للشريك ، فالشريك معدوم ، فلا شركة في نفس الأمر ، فإذا صحت البراءة من الشريك فهي صفة تنزيه وتبرئة لله من الشريك ، وللرسول من اعتقاد الجهل. ووجه آخر في ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ، وهو أن البسملة موجودة في كل سورة أولها (وَيْلٌ) وأين الرحمة من الويل؟ ولهذا كان للقراء في مثل هذه السورة مذهب مستحسن فيمن يثبت البسملة من القراء ، وفيمن يتركها كقراءة حمزة ، وفيمن يخير فيها كقراءة ورش ، والبسملة إثباتها عنده أرجح ، فأثبتناها عند قراءتنا بحرف حمزة في هذين الموضعين لما فيهما من قبيح الوصل بالقراءة ، وهو أن يقول (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ويل) فبسملوا هنا ، وأما مذهبنا فيه فهو أن يقف على آخر السورة ويقف على آخر البسملة ، ويبتدىء بالسورة من غير وصل. والخلاف في سورة التوبة أنها والأنفال سورة واحدة حيث لم يفصل بينهما بالبسملة خلاف منقول بين علماء هذا الشأن من الصحابة ، ولما علم الله ما يجري من الخلاف في هذه الأمة في حذف البسملة في سورة براءة ، فمن ذهب إلى أنها سورة مستقلة وكان القرآن عنده مائة وثلاث

٢٤١

عشرة سورة فيحتاج إلى مائة وثلاث عشرة بسملة ، أظهر لهم في سورة النمل بسملة ليكمل العدد ، وجاء بها كما جاء بها في أوائل السور بعينها ، فإن لغة سليمان عليه‌السلام لم تكن عربية ، وإنما كانت أخرى في كتب لغة هذا اللفظ في كتابه ، وإنما كتب لفظة بلغته يقتضي معناها باللسان العربي إذا عبر عنها بسم الله الرحمن الرحيم ، وأتى بها محذوفة الألف كما جاءت في أوائل السور ، ليعلم أن المقصود بها هو المقصود بها في أوائل السور ، ولم يعمل ذلك في (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فأثبت الألف هناك ليفرق بين اسم البسملة وغيرها ، ولهذا تتضمن سورة التوبة من صفات الرحمة والتنزل الإلهي كثيرا ، فإن فيها شراء الله نفوس المؤمنين منهم بأن لهم الجنة وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده؟ وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا؟ فلا بد أن تكون التوبة والأنفال سورة واحدة ، أو تكون بسملة النمل السليمانية لسورة التوبة ، ثم انظر في اسمها ، فإن من يجعلها سورة على حدة منفصلة عن سورة الأنفال سماها سورة التوبة ، وهو الرجعة الإلهية على العباد بالرحمة والعطف ، فإن الرجعة الإلهية لا تكون إلا بالرحمة ، لا يرجع على عباده بغيرها ، فإن كانت الرجعة في الدنيا ردّهم بها إليه ، وإن كانت في الآخرة فتكون رجعتهم مقدمة على رجعته ، لأن الموطن يقتضي ذلك ، فإن كل من حضر من الخلق في ذلك المشهد سقط ورجع بالضرورة إلى ربه ، فيرجع الله إليهم وعليهم ، فمنهم من يرجع الله عليه بالرحمة في القيامة ومنازلها ، ومنهم من يرجع عليه بالرحمة بعد دخول النار ، وذلك بحسب ما تعطيه الأحوال ، فالتوبة تطلب الرحمة ما تطلب التبري ، وإن ابتدأ عزوجل بالتبري فقد ختم بآية لم يأت بها ولا وجدت إلا عند من جعل الله شهادته شهادة رجلين ، فإن كنت تعقل علمت ما في هذه السورة من الرحمة المدرجة ، ولا سيما في قوله تعالى : (ومنهم) ومنهم ، وذلك كله رحمة بنا لنحذر الوقوع فيه ، والاتصاف بتلك الصفات ، فإن القرآن علينا نزل ، فلم تتضمن سورة من القرآن في حقنا رحمة أعظم من هذه السورة ، لأنه كثر من الأمور التي ينبغي أن يتقيها المؤمن ويجتنبها ، فلو لم يعرفنا الحق تعالى بها ، وقعنا فيها ولا نشعر ، فهي سورة رحمة للمؤمنين.

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه نائب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلاوة سورة براءة على أهل مكة ، وقد كان بعث بها أبا بكر ثم رجع عن ذلك فقال : لا يبلغ عني القرآن إلا رجل

٢٤٢

من أهل بيتي ، فدعا بعلي فأمره فلحق أبا بكر ، فلما وصل إلى مكة حج أبو بكر بالناس وبلغ عليّ إلى الناس سورة براءة ، وتلاها عليهم نيابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مما يدلك على صحة خلافة أبي بكر ومنزلة علي رضي الله عنهما.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١)

فهو يتبرأ من الشريك لأن الشريك ليس ثم فهو عدم.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣)

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه نائب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلاوة سورة براءة على أهل مكة (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) هو يوم النحر بمنى ، وإنما سمي يوم الحج الأكبر لأنه كان مجمع الحاج بجملته ، إذ كان من الناس من يقف بعرفة ، وكانت الحمس تقف بالمزدلفة ، فكانوا متفرقين فلما كان يوم منى اجتمعوا فيه ، أهل الموقف بالمزدلفة وبعرفة ، فكان يوم الحج الأكبر لاجتماع الكل فيه ، وسنّ طواف الإفاضة في هذا اليوم ، فأحل الحاج في هذا اليوم من إحرامه مع كونه متلبسا بالحج حتى يفرغ من أيام منى ، فلما أحل من إحرامه في هذا اليوم ، زال عن التحجير الذي كان تلبس به في هذه العبادة ، وأبيح له ما كان حرّم عليه ، وأحلّ الحل كله في هذا اليوم ، وكان إحلاله عبادة ، كما كان إحرامه عبادة ، وما زال عنه اسم الحج لما بقي عليه من الرمي ، فكان يوم الحج الأكبر لهذا السراح والإحلال ، فكانت أيام منى أيام أكل وشرب وبعال ، فمن أراد فضل هذا اليوم فليطف فيه طواف الإفاضة ، ويحل الحل كله. (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) لا

٢٤٣

تصح البراءة من الأعداء إلا لله ولرسله عليهم‌السلام ومن كوشف على الخواتم ، ومن سواهم فما لهم التبري ، وإنما لهم أن لا يتخذوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة لا غير ، (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

نزل القرآن على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدي العين ، فتلاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسانه أصواتا وحروفا سمعها الأعرابي بسمع أذنه في حال ترجمته ، فالكلام لله بلا شك والترجمة للمتكلم به ، وأضاف الكلام إلى الله تعالى لا إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعله مسموعا للعربي المخاطب بحاسة سمعه ، فما أدركه إلا متقطعا متقدما متأخرا ومن لم ينسب ذلك الكلام المسمى قرآنا إلى الله فقد جحد ما أنزل الله ، فإن كلام الله في هذه الآية هو ما أنزله خاصة ، وإنما سمي الكلام كلاما لما له من الأثر في النفس ، من الكلم الذي هو الجرح في الحس ، وهذا الكلام هو النوع الثالث من كلام الله للبشر في قوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) فقد يكون الرسول بشرا ، فأضاف الكلام إلى الله ، وما سمعته الصحابة ولا هذا الأعرابي إلا من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي تلا عليه القرآن ، والقرآن كلام الله تعالى فناب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناب الحق هنا من الاسم الظاهر ، فكأن الحق ظهر في عالم الشهادة بصورة التالي كلامه ، فإن الأعرابي ما سمع إلا الأصوات والحروف من فم

٢٤٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الله : إن ذلك كلامي وأضافه إلى نفسه ، ومن وجه آخر كان الحجاب للأعرابي على كلام الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واعلم أن من المتشابه صفة الكلام ، ومنه نسبة الصوت والحرف إلى كلام الله سبحانه ، وقد وردت آيات وأحاديث توهم ذلك ، وهي مسألة مهمة بعيدة الغور تزلزلت فيها أقدام المتكلمين ، ومذهب أهل الحق أن لله تعالى كلاما قديما قائما بذاته واحدا في حقيقته ، مخالفا لصفة علمه وإرادته ، منزها عن الظروف المرتبة والأصوات المحدثة ، منزلا على نبيه مقروءا بالألسنة مكتوبا في المصاحف ، مسموعا لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة ، ولمن يريد الله تعالى إسماعه ، غير مخلوق في الشجرة ، ولا قائم بالحوادث. وكلام الله سبحانه صفته ، وصفة القديم قديمة تتقدس عن الحدوث ، والحروف في إفادة الكلام يلزمها الترتيب وتقدم بعضها على بعض ، وذلك مستحيل على القديم ، ولما كان الحق تعالى لصفاته مظهران علم أن لكلامه مظهرين ، مظهر علوي روحاني ، وهو روح القدس ، وكلمة العلي ، والحروف والأصوات من لوازم المظهرين ، وكلامه منزه عنها كتنزه القلب في كلامه عن الحروف اللسانية والأصوات الهوائية وإن كانت مظاهر له ، فقوله تعالى : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي بواسطة مظاهره الجسمانية ، وهي أصوات العباد وحروفهم ، وإطلاق كونه سامعا لكلام الله بذلك مجاز لما قدمناه أن المظاهر الجسمانية ليست منسوبة إلى الله تعالى لغة ، ولا شرعا ، وروي عن عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما ، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ، قال : وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. وهذا يحقق لك أن لكلام الله تعالى في الروحانيات مظهرين ، مظهر جلي يتشكل بالمظاهر الجسمانية وأصواتها وحروفها ، ومظهر آخر له حروف وأصوات خفي روحاني ، لأن الجرس في أصله هو الصوت الخفي ، والصلصلة صوت اليابس الصلب إذا حرك ، ويصح نسبة المسموع حينئذ إلى الله تعالى بالتأويل الذي ذكرته لك ، وإفادة الشجرة لإسماع كلام الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام ، كإفادة ألسنة القراء ، وكلاهما في ذلك بمثابة القلم في إفادة المكتوب ، وكما أن المكتوب لا يحل بالقلم ، ولا يكون صفة له ، ولا ينتقل به عمن هو صفته ، كذلك الكلام المسموع لا يحل بالألسنة ولا بالمصاحف ولا بالأقلام ، ولا يكون صفة للقارىء ولا ينتقل بالقراءة

٢٤٥

والكتابة عن موصوفه تبارك وتعالى. واعلم أن من مقام هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، فإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده. واعلم أن من سمع كلام الله من الله استفاد ، ومن سمعه من المحدث ربما عاند وربما قبل بحسب ما يوفق له. ـ إشارة ـ لا تقل نحن إياه ، لقوله فأجره حتى يسمع كلام الله ، أنت الترجمان ، والمتكلم الرحمن ، تقيد كلام الله بالأمكنة ، بكونه في المصاحف والألسنة. الحروف ظروف ، والصفة عين الموصوف ، فإذا نطقت فاعلم بمن تنطق ، فعليك بالصدق. ـ تحقيق ـ لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المتكلم بالقرآن ، فليس أحد من خلق الله يجوز أن يخبر عن نفسه ولا عن غيره ، وإنما إخبار الجميع عن الله ، فإنه سبحانه هو الذي يخلق فيهم بكن ما يخبرون به ، فالعارف يقبل كل كلام ، وينزله في المنزلة التي عينها الله على لسان الشرع.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

(لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) الإل بكسر الهمزة هو الله تعالى ، والإل أيضا العهد بكسر الهمزة ، فالإل اسم من أسماء الله ، (وَلا ذِمَّةً) الذمة العهد والعقد.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)

٢٤٦

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤)

اعلم أنه ليس في الوجود فاعل إلا الله تعالى ، وأفعال العباد بجملتها عند أهل السنة والجماعة منسوبة الوجود والاختراع إلى الله تعالى ، بلا شريك ولا معين ، فهي على الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون. ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الآلات والجوارح ، مع أنها منسوبة إليه ، وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياته لعباده مظهرين : مظهر عبادي سفلي منسوب لعباده ، وهو الصور والجوارح الجسمانية ، ومظهر حقيقي علوي منسوب إليه ، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لأفهامهم ، والتأنيس لقلوبهم ، ونبه تعالى في كتابه العزيز على التنبيهين ، وأنه منزه عن الجوارح في الحالين ، ونبه على الأول بقوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) وذلك يفهم أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه وفعل له ، وأن جوارحنا مظهر له وواسطة فيه ، فهو على الحقيقة الفاعل بجوارحنا ، مع القطع الضروري لكل عاقل أن جوارح العبد ليست بجوارح لربنا تعالى ولا صفات له ، ونبه على الثاني بقوله تعالى فيما أخبر عنه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم وغيره «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها» ـ الحديث ـ وقد حقق الله تعالى لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) بعد قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وبقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فنزل يد نبيه منزلة يده في المبايعة ، وأخذ الصدقات ، والرمي في قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، ذلك كله يفهم أن العبد إذا صار

٢٤٧

محمودا صارت أفعاله ناشئة عن أنوار علوية روحانية من عند ربه سبحانه ، تكون له بمثابة الجوارح ، وأن الله سبحانه يكون له بواسطتها سمعا وبصرا ويدا ورجلا ، مع القطع الضروري أن الله تعالى لا يكون جارحة لعبده ، فإن ذاته المتقدسة متعالية عن الاتصاف بها ، لأن الجوارح يلزمها الحدوث ، وذاته واجبة القدم ، وكل ما كان واجب القدم استحال عليه القدم.

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

لما كان العذاب فيه ضرب من اللذة ومنه في صفة الماء عذب فرات ، وكان في إيلام الكفار بالله ورسوله سرور المؤمنين قال : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) بالانتقام من الكفار في مقابلة ما ضيقوا به صدور المؤمنين ، وسمي العذاب عذابا للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

٢٤٨

أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (٢١)

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) البشرى مختصة بالمؤمن ، والكافر لا حظ له في البشرى الإلهية برفع الوسائط ، وكانت البشرى من الحق في مقابلة إجابتهم داعي الحق بالعبادات ، وكذلك في قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) النعيم والتنعم له أسباب ظاهرة وهي نيل الأغراض كانت ما كانت ، فإن صاحبها يتنعم بوجودها فهو صاحب تنعم في مقام تنعيم ، وتسمى أسباب وجود اللذة في الملتذ نعيما ، وليس النعيم في الحقيقة إلا اللذة الموجودة في النفس ، وهي لذات حسية ونفسية. وفي الجنان في كل حين خلق جديد ، ونعيم جديد ، حتى لا يقع الملل ، فإن كل شيء طبيعي إذا توالى عليه أمر ما من غير تبدل لا بد أن يصحب الإنسان فيه ملل ، فإن الملل نعت ذاتي له ، فإن لم يغذه الله بالتجديد في كل وقت ليدوم له النعيم بذلك ، وإلا كان يدركهم الملل. فأهل الجنان يدركون في كل نظرة ينظرونها إلى ملكهم أمرا وصورة لم يكونوا رأوها قبل ذلك ، فينعمون بحدوثها ، وكذلك في كل أكلة وشربة يجدون طعما جديدا لذيذا لم يكونوا يجدونه في الأكلة الأولى ، فينعمون بذلك وتعظم شهواتهم.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

ثم قال تعالى فيمن تربص في أهله ولم يفر إليه.

٢٤٩

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤)

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) وهو كل من له عليك ولادة (وَأَبْناؤُكُمْ) كل من لك عليه ولادة (وَإِخْوانُكُمْ) كل ما قابلك من الأمثال ، وداخلك من الأشباه ، ومازجك أو قارب من الأنداد (وَأَزْواجُكُمْ) وهو كل ثنّاك وجوده ، وانفعل لك فيما تريده ، وكنت فيه خلاقا ، وإليه إذا غاب عنك مشتاقا ، وجمعتكما الرحمة والمودة الثابتة ، وسكنت إليه ، وسكن إليك ، وأعطاك من نفسه التحكم فيه ، وظهر فيه اقتدارك ، فهو زوجك ، تحبه طبعا وتتحد به ، ويكون ملكا لك شرعا (وَعَشِيرَتُكُمْ) العشائر : الأصحاب ، وكل ما تعتضد به في أمورك (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) وهو كل ما تميل إليه فيميل إليك ، ويحضره ديوان نيلك ، ويقف عند فعلك فيه وقولك ، ويتحكم فيه سلطان طولك ، وتصل في اقتنائه نهارك بليلك ، من ثابت كالعقار ، ومن غير ثابت كالعروض والدرهم والدينار ، وكل منقول لا يقر به قرار ، وكله مال ، لأنه مال ، وإليه المآل بعد الرحلة عنه والانتقال ، (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) وهو كل أمر تطلب الخروج عنه ، ليكون ذلك الخروج سببا لتحصيل ما يكون عندك أنفس منه ، فتطلب به النفاق في الأسواق ، تخشى كسادها وتخاف فسادها (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) وهو كل ما اتخذته محلا ، وكنت به محلى ، وجعلته لك حرما وحلا ، فذلك مسكنك الذي ترضاه ، ومنزلك الذي تقصده وتتوخاه ، كل ذلك قاله لك الحق فيما أنزله إليك ، ووفد به رسوله الأمين عليك ، إذا لم تر وجه الحق في كل ما ذكرته وتعشقت به لعينه ، وتعرف أنه من عنده ما هو عينه ، وآثرته مع هذا الحجاب على ما دعاك الحق إليه من الزهد فيه إذا فقدت فيه وجه الحق فتعلم أن الله ما أراد منك إلا أن تعرفه فيما أمرك بالزهد فيه ، والرغبة عنه ، وأحببته حب عين ، وصورة كون ، وكان أحب إليك من الله

٢٥٠

الجامع للرغبة فيه ، والرغبة عنه ، فإنه المعطي المانع ، والضار النافع ، وأحب إليك من رسوله الوافد عليك المعرف بما هو حجاب عن المقصود ، وستر بين العابد والمعبود ، مع علمك بما أعلمك أنه ما خلقك إلا لتعبده ، وتؤثره على ما تراه وتقصده ، وأحب إليك من جهادك في سبيل الله الذي يجمع لك بين الحياتين فلا تعرف للموت طعما ، ولا للحصر حكما (فَتَرَبَّصُوا) كلمة تهديد ووعيد ، والتربص : نقيض الفرار المأمور به وهو قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فتعرف عند ذلك خيره من شره ، وحلوه من مره ، وتذوق شهده من صبره ـ تفسير من باب الإشارة ـ اعلم أن قوله تعالى : (فَتَرَبَّصُوا) عقيب ما تعدد من الأعيان إذن وأمر بالتربص إن كان الله مشهودا لكم في كل ما ذكرناه ، فإن ذلك الشهود هو المطلوب بالفرار إلى الله ، لأن الله أمرنا بالفرار إلى الله ، وقوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) أي من أجل الله أي شهودكم الله في هذه الأعيان أحب إليكم من شهودكم إياه في أعيان غيرها ، للمناسبة القريبة بينكم وبين هذه الأشياء المذكورة ، وإن كان الكامل يشهده في كل عين ، ولكن بعض الأعيان قد يكون لبعض الأشخاص أحب من أعيان أخر ، وقوله : (وَرَسُولِهِ) مثل قوله : (مِنَ اللهِ) أي ومن أجل رسوله حيث أمركم ببر هؤلاء ، وجعل لهم حقوقا عليكم فحقوق الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر معلومة ، منصوص عليها لا تخفى على من وقف على العلم المشروع ، وكذلك حقوق الأموال ، نعم المال الصالح للرجل الصالح ، وحقوق التجارة معلومة ، فإن صدق التجارة لا يكون لغيرها ، والتاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين والشهداء كذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (تَخْشَوْنَ كَسادَها) يقول تخافون أن تتركوها لأجل الكساد طلبا للأرباح ، وأي ربح أعظم من ربح صدق التاجر وقوله : (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي ومن أجل أيضا شهودكم إياه تعالى في الجهاد في سبيله لأنه أمركم بهذا ، وعلمتم أن مشهودكم في كل ما ذكرناه ولما ذكرناه منزلة شريفة عندكم (فَتَرَبَّصُوا) أي لا تفروا فإنه ما أمرنا بالفرار إلّا لكوننا ليست لنا هذه المشاهدة. وقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) وهو قيام الساعة ، أو الموت الذي يخرجكم عن مشاهدة هؤلاء وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) يقول الخارجين عن حكم هذه المشاهدة التي أنتم فيها ، والتي دعيتم إليها ، فما هي في حق أصحاب هذا النظر آية وعيد ، وإنما هي آية وعد وبشرى ، وتقرير حال وسكون أي تربصوا إذا كان هذا

٢٥١

مشهدكم ، فقد حصل المطلوب ، فإن انتقلتم بعد هذا فهو انتقال من خير إلى خير ، أو من خير أدنى إلى خير أعلى.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥)

المؤمن الكامل منصور أبدا ، ولهذا ما انهزم نبي قط ، ولا ولي ، ألا ترى يوم حنين لما ادعت الصحابة رضي الله عنهم توحيد الله ، ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم فنسوا الله عند ذلك ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ، مع كون الصحابة مؤمنين بلا شك ، ولكن دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ، ونسوا قول الله : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ).

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢٦)

السكينة هي مطالعة الأمر بطريق الإحاطة من كل وجه ، وما لم يكن ذلك فالسكينة لا تصح ، فالسكينة هي الأمر الذي تسكن له النفس لما وعدت به ، أو لما حصل في نفسه من طلب أمر ما ، وسميت سكينة لأنها إذا حصلت قطعت عنه وجود الهبوب إلى غير ما سكنت إليه النفس ، ومنه سمي السكين سكينا.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨)

٢٥٢

العالم كله طاهر ، فإن عرض له عارض إلهي يقال له نجاسة حكمنا بنجاسة ذلك المحل على الحد المقدر شرعا خاصة في عين تلك النسبة الخاصة ، فالنجاسة في الأشياء عوارض نسب وأعظم النجاسات الشرك بالله ، فالمشرك نجس العين ، فإذا آمن فهو طاهر العين ، أي عين الشرك وعين الإيمان ، وهذا يدل على أن النجاسة عوارض ونسب ، وهذه الآية نص في المسجد الحرام الذي بمكة بأن لا يقربه مشرك ، وأنه نجس ، فمن علل المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره ، وعلل المسجد لكونه مسجدا. منع الكفار كيفما كانوا من جميع المساجد ، ومن رأى أن ذلك خاص بالمسجد الحرام ولهذا خص بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن كان كافرا ، لا يتنزل منزلته منع دخول المشرك المسجد الحرام وكل مسجد ، لقوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) وجوز الدخول فيه لمن ليس بمشرك ، ومن أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة من المسجد الحرام خاصة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبس في المسجد في المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو مشرك وهو الأوجه ، ولم يمنع غير المشرك من المسجد الحرام ومن المساجد ، ومنع المشرك من سائر المساجد أولى إلا أن يقترن بذلك أمر أو حالة فلا بأس.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩)

لم تضرب الجزية على المشرك ، وفرق بينه وبين الكفار من أهل الكتب المنزلة ، فإن المشرك قادح في الحق وفي الكون بشركه ، فلم يكن له مستند يعصمه من القتل ، لأنه قدح في التوحيد وفي الرسل ، والكفار من أهل الكتاب لم يقدحوا في التوحيد ولا في الكون ، أعني الرسل ، لكن قدحوا في رسول معين لهوى ، أو شبهة قائمة بنفوسهم ، أداهم ما قام بهم إلى جحود الحق ظلما وعلوا مع اليقين به ، وإما لشبهة قامت بهم لم يثبت صدق صاحب الدعوى عندهم ، فلهذا كان لهم في الجملة مستند صحيح عندهم لا في نفس الأمر ،

٢٥٣

يعصمهم من القتل ، فضربت عليهم الجزية ، وهذا من رحمة الله ، إبقاء عليهم وتركوا على دينهم ليقيموه أو يقيموا بعضه على قدر ما يوفقون إليه. وهنا نكتة لمن فهم أن دينهم مشروع لهم بشرعنا حيث قررهم عليه ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع أن الروم قد ظهرت على فارس يظهر السرور في وجهه ، مع كون الروم كافرين به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن الرسول لعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان منصفا ، لأنه علم أن مستند الروم لمن استند إليه أهل الحق ، لأنهم أهل كتاب ، مؤمنون به لكنهم طرأت عليهم شبهة ، من تحريف أئمتهم ، ما أنزل عليهم ، حالت بينهم وبين الإيمان والإقرار بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعمومها ، فعذرهم الشرع لهذا القدر الذي علمه منهم ، وراعى فيه جناب الحق تعالى حيث وحدوده ، وما أشركوا به حين أشرك به فارس وعبدة الأوثان ، وقدحت في توحيد الإله وما يستحقه من الأحدية. واعلم أن كل مشرك كافر ، فإن المشرك باتباع هواه فيمن أشرك واتخذه إلها ، وعدوله عن أحدية الإله ، يستر نفسه عن النظر في الأدلة ، والآيات المؤدية إلى التوحيد ، فسمي كافرا لذلك الستر ظاهرا وباطنا ، وسمي مشركا لكونه نسب الألوهية إلى غير الله مع الله ، فجعل لها نسبتين ، فأشرك فهذا الفرق بين المشرك والكافر ، وأما الكافر الذي ليس بمشرك فهو موحد غير أنه كافر بالرسول ، وببعض كتابه ، وكفره على وجهين : الوجه الواحد أن يكون كفره بما جاء من عند الله ، مثل كفر المشرك في توحيد الله ، والوجه الآخر : أن يكون عالما برسول الله ، وبما جاء من عند الله أنه من عند الله ، ويستر ذلك عن العامة والمقلدة من أتباعه ، رغبة في الرياسة ، وهو الذي أراد عليه‌السلام بقوله في كتابه إلى قيصر : «فإن توليت فعليك إثم اليريسيين» يعني الأتباع. (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) فيتعذبون عذابين عذابا بإخراج المال من أيديهم ، وعذاب الصغار والقهر الذي هو عذاب نفوسهم مما يجدون في ذلك من الحرج ، ومما جاء في الشروط التي اشترطها أمير المؤمنين ، وإمام المتقين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة ، أن لا يحدثوا في مدينتهم ، ولا ما حولها كنيسة ، ولا ديرا ولا قة ولا صومعة راهب ، ولا يجددوا ما خرب منها ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال ، يطعموهم ، ولا يؤوا جاسوسا ، ولا يكتموا غشا للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ، ولا يظهروا شركا ، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس ،

٢٥٤

ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ، في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ، ولا يتكنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجا ، ولا يتقلدوا سيفا ، ولا يتخذوا شيئا من السلاح ، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ، ولا يظهروا صليبا ، ولا شيئا من كتبهم في طرق المسلمين ، ولا يجاوروا موتى المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليهم سهام المسلمين ، فإن خالفوا في شيء مما شورطوا عليه ، فلا ذمة لهم ، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) أي بالتبني (وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) يعنون بنوّة الصلب ، إذ لم يعرفوا له أبا ولا تكون عن أب لجهلهم بما قال الله ، من تمثل الملك لمريم بشرا سويا ، وجعله الحق روحا إذ كان جبريل روحا ، فما تكون عيسى إلا عن اثنين ، فجبريل وهب لها عيسى في النفخ ، فلم يشعروا بذلك كما ينفخ الروح في الصورة عند تسويتها ، فما عرفوا روح عيسى ولا صورته ، وأنّ صورة عيسى مثل تجسد الروح ، لأنه عن تمثل ، فلو تفطنت لخلق عيسى لرأيت علما عظيما ، تقصر عنه أفهام العقلاء.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١)

٢٥٥

إن من حمل العبادة هنا على الأعمال ، لا معرفة له باللسان ، فالعمل صورة ، والعبادة روح تلك الصورة العملية التي أنشأها المكلف ، فحظ المؤمن المخاطب بهذه الآية توحيد الأمر بالعبادة من حيث أحدية العين مع كثرة الأسماء الإلهية ، فإن حقيقة الطالب للرزق إنما تعبد الرزاق ، وحقيقة الطالب للعافية إنما تعبد الشافي ، فقيل لهم : لا تعبدوا إلا إلها واحدا ، وهو أن كل اسم إلهي وإن كان يدل على معنى يخالف الآخر فهو أيضا يدل على عين واحدة تطلبها هذه النسب المختلفة ، وأما غير المؤمنين وهم المشركون فهم الذين نسبوا الألوهة إلى غير من يستحقها ، ووضعوا اسمها على غير مسماها ، وادعوا الكثرة فيها ، ولذلك تعجبوا من توحيدها فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) فأمرهم الله أن لا يعبدوا إلا إلها واحدا لا إله إلا هو» في نفس الأمر (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هو بعيد أن يشرك في ألوهته ، وهذا هو التوحيد العاشر في القرآن وهو توحيد الأمر بالعبادة وهو من أعجب الأمر كيف يكون الأمر فيما هو ذاتي للمأمور؟ فإن العبادة ذاتية للمخلوقين ، فكانت في حق المؤمنين والمشركين ما أوضحناه.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤)

اعلم أن ذلك كان قبل فرض الزكاة التي فرض الله على عباده في أموالهم ، فلما فرض الله الزكاة على عباده المؤمنين ، طهر الله بها أموالهم ، وزال بأدائها اسم البخل من مؤديها ، فإنه قد أدى ما أوجب الله عليه في ماله ، ثم فسر العذاب الأليم بما هو الحال عليه فقال تعالى :

٢٥٦

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

ما يراد المال للاكتناز ، وإنما خلقه الله للإنفاق فمن اكتنزه ولم يعط حق الله منه الذي عينه له حمي عليه في نار جهنم ، فيكوى به جبينه ، فإنه أول ما يقابل به السائل فيتغير منه إذا رآه مقبلا إليه ، فإن السائل إذا رآه صاحب المال مقبلا إليه انقبضت أسارير جبينه ، لعلمه أنه يسأله من ماله ، فتكوى جبهته ، فإن السائل يعرف ذلك في وجهه ثم إن المسؤول يتغافل عن السائل ، ويعطيه جانبه إعراضا عنه ، كأنه ما رآه ، وكأنه ما عنده خبر منه ، فيكوى بها جنبه ، فإذا علم من السائل أنه يقصده ولا بد أعطاه ظهره ، وانصرف حتى لا يقابله بالسؤال. فأخبر الله أنه تكوى بها ظهورهم ، فهذا حكم مانعي الزكاة ، أعني زكاة الذهب والفضة ، فصار بالكي عين المكان الذي اختزنه فيه فهو خزانته ، وأما زكاة الغنم والبقر والإبل فأمر آخر ، كما ورد في النص أنه يبطح لها بقاع قرقر ، فتنطحه بقرونها ، وتطؤه بأظلافها ، وتعضه بأفواهها ، فلهذا خص الجباه والجنوب والظهور في الكي وأنزل الله الزكاة طهارة للأموال.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

٢٥٧

كانت العرب تنسأ في الشهور ، فترد المحرم منها ـ وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر ـ حلالا ، والحلال منها حراما ، فجاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرد الزمان إلى أصله الذي حكم الله به عند خلقه ، فعين المحرم من الشهور على حد ما خلقها الله عليه ، ولهذا قال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٣٨)

متاع الدنيا قليل ، فما من قبيل ولا جيل ، إلا وهو مملوك للقطمير والنقير والفتيل ، فالكل تائه ، ولهذا قنعوا بالتافه ، فلا يرضى بالحقير إلا من لا يعرف قبيلا من دبير.

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

(إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) حكاية اللفظ بعينه ، والمعية هنا معية اختصاص ، لا معية عامة ، مثل قوله تعالى للعموم : وهو معكم أينما كنتم ، ومن هنا تعرف مرتبة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلوها على رتبة غيره من الرسل ، فإن الله أخبر عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال خوف الصديق عليه وعلى نفسه فقال لصاحبه يؤمنه ويفرحه ، إذ هما في الغار ، وهو كنف الحق عليهما (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الإخبار مقام الحق في معيته لموسى

٢٥٨

وهارون ، وناب منابه في قوله تعالى لهما : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحبه : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» يريد أن الله عزوجل حافظهما ، يعني في الغار ، زمان هجرة الدار. ـ وجه آخر ـ المقالة عندنا إنما كانت لأبي بكر رضي الله عنه ، ويؤيدنا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمصاحب ، وبعضهم أصحاب بعض ، وهم له أنصار وأعوان ، فإن النبي لا يصحب إلا نبوته ، فإنه لا يتمكن للنبي أن يكون من صاحبه بحيث ما يريد صاحبه منه ، وإنما هو مع ما يوحى إليه به ، لا يفعل إلا بحسبه ، فالصاحب من يترك إرادته لإرادة صاحبه ، فالنبي يصحب ولا يصحب ، فإن الناس مع الرسول بحكم ما يشرع لهم ، ما هم بحكم إرادتهم ، برهانه قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). فلذلك صحبوه وما صحبهم ، فالصحبة لا تصح إلا من الطرف الواحد ، وهو الأدنى ، ولهذا ليست الصحبة فعل فاعلين. فكان أبو بكر رضي الله عنه واقفا مع صدقه ، ومحمد عليه‌السلام واقفا مع الحق في الحال الذي هو عليه في ذلك الوقت ، فهو الحكيم ، كفعله يوم بدر في الدعاء والإلحاح ، وأبو بكر عن ذلك صاح ، فإن الحكيم يوفي المواطن حقها ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق ذلك الوقت وحكيمه ، وما سواه تحت حكمه ، ولما لم يصح اجتماع صادقين معا ، لذلك لم يقم أبو بكر في حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وثبت مع صدقه به ، فلما نظر أبو بكر رضي الله عنه إلى الطالبين ، أسف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأظهر الشدة ، وغلّب الصدق وقال : (لا تَحْزَنْ) لأثر ذلك الأسف الذي رآه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي بكر (إِنَّ اللهَ مَعَنا) كما أخبرتنا. وإن جعل المنازع أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائل لم نبال ، لما كان مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجمع والتفرقة ، وعلم من أبي بكر الأسف ، وعلم أن أمره مستمر. ـ تحقيق ـ أشرف مقام ينته إليه تقدم الله عليك يقول الصديق : «ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله» شهود بكري وراثة محمدية (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) الكافر هنا : هو المشرك من جهة الشريك خاصة (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) راجع سورة ٨ آية رقم ٦١ (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

٢٥٩

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١)

اعلم أن الشيطان إذا رأى عزم العبد في الجهاد أخطر له أنه يقاتل ليقال ، رغبة منه وحرصا أن يحبط عمل هذا العبد ، وكان قد أخلص النية أولا عند شروعه في القتال أنه يقاتل ذابا عن دين الله ، فلا يبالي العبد بهذا الخاطر ، فإن الأصل الذي بني عليه صحيح ، والأساس قوي ، وهو النية في أول الشروع.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢)

العرض المال وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال لما فيه من المشقة والجهد لأهل الثروة واليسار ، فكيف حال الضعفاء؟!.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣)

قدم الله البشرى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل العتاب ، وهذه الآية عندنا خاصة ما فيها عتاب ، بل هو استفهام لمن أنصف ، وأعطى أهل العلم حقهم ، فإن مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي أن ذلك استفهام لا إنكار ، فإنما استفهم العالم ليتميز به من في قلبه ريب ممن ليس في قلبه ريب ، فيعلم العالم من غير العالم لإقامة الحجة ، فالسؤال هنا عن العلة ، لا سؤال عن توبيخ ، لأن العفو تقدمه ، فإن العفو لا سيما إذا تقدم والتوبيخ لا يجتمعان ، لأنه من وبّخ فما عفا مطلقا ، فإن التوبيخ مؤاخذة وهو قد عفا ، ولما كان هذا اللفظ قد يفهم منه في اللسان التوبيخ ،

٢٦٠