رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٠٥)

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) فإنه بالله يسمع ويبصر وينطق.

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢)

قالت السحرة ذلك ، أي الذي يدعوان إليه رب موسى وهارون ، فجاءت بذلك لرفع الارتياب.

١٦١

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١٢٧)

... (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) والمعبودين الذين نعبدهم ، وقد قرىء «ويذرك وألهتك» والألهة العبادة ، أي وعبادتك (قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) هذه الصفة في المخلوقين لا تكون قط عن حقيقة ، بل يعلمون عجزهم وقصورهم ، وإنما ذلك صورة ظاهرة كبرق الخلب ، وعلى قدر ما يظهر من هذه الصفة يتوجه القهر الإلهي والبطش الشديد.

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١٢٨)

قال موسى لقومه : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) فشرّك الحق نفسه مع العبد في الفعل ، وأمر الحق بالاستعانة بالله تقريرا للدعوى ، حتى يكون ذلك عن أمره ، وأمثالنا نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومثل هذا كله ، تعبدا ، ونثابر عليه بخلاف من لا يعلم ، وما قرر الحق لعباده هذا إلا غيرة ، فيتخذون ذلك عبادة ، ويقولون إذا رجعوا إليه وكان الملك لله الواحد القهار في موطن الجمع ، وسئلوا عن مثل هذا الشرك الخفي ، يقولون : أنت أمرتنا بالاستعانة بك ، فأنت قررت لنا أن لنا قوة ننفرد بها ، وإن كان أصلها منك ، ولكن ما لها النفوذ إلا بمعونتك ،

١٦٢

فطلبنا القوة منك ، فإنك ذو القوة المتين ، فيصدقهم الله في كونهم جعلوا القوة منه التي فيهم ، وأنهم رأوا فيها القصور لخاصية المحل ، فما لها نفوذ الاقتدار الإلهي إلا بمساعدة الاقتدار الإلهي ، فشرع لهم سبحانه قول [لا حول ولا قوة إلا بالله] رحمة بهم (وَاصْبِرُوا) على حمل المشاقات والتكاليف بلا حول ولا قوة إلا بالله (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فأنت وارث والحق موروث منه ، فإن الحق ما خلق الأشياء لنفسه ، وإنما خلقها بعضها لبعض من هذا الوجه ، فخلق الخلق للخلق لا لنفسه ، فإن المنافع تعود من الخلق على الخلق ، والله هو النافع الموجد للمنافع.

(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥)

١٦٣

كشف ما نزل بالخلق بيد الحق.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٣٦)

كل انتقام إلهي يقع بالعالم لا يكون إلا بعد إغضاب ، لأن الله خلق العالم بالرحمة وليس من شأنها الانتقام ، كما أن الغضب من شأنه الانتقام ، ويظهر الانتقام على ميزانه من غير زيادة ولا نقصان ، ولا يقع الانتقام أبدا إلا تطهيرا لمن كان منه الإغضاب ، فلذلك لا يكون الانتقام إلى غير نهاية بل ينتهي الحكم به إلى أجل مسمى عند الله ، وتعقبه الرحمة به ، لأنّ لها الحكم الأبدي الذي لا يتناهى.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢)

١٦٤

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) وهو الميقات الموسوي الأول ، إلا أنه طرأ أمر أخل به ، فزاد عشرا جبرا لذلك الخلل ، فقال تعالى : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ـ إشارة ـ ضرب الحق لموسى الميقات ليعلم أنه تحت رق الأوقات ، وجاء العدد بالليل ولم يجىء بالنهار لاحتجاب الحق عن الأبصار ، ومقامات الخلفاء ، ومصابيح الظلماء ثمانية وعشرون ، وحضراتهم اثنتا عشرة لتتميم الأربعين ، وهي منازل السالكين فجعله يسلك أربعين مقاما من مغيبات الأسرار ، فصح له الاتصال عند الأسحار ، وانتظم بها في شمل أمة محمد الداعي من مقام الأرواح ، في تخلقهم بالأربعين صباح ، وهو ميقات الوارثين ، فشرف بذلك كليم رب العالمين ، ولذلك كان منه مع محمد عليهما‌السلام في أمر الصلاة ما شهر ، لأنه في أمته يطلب الرفق بإخوته كما ذكر ، وذلك لما وقع هنالك في حدسه ، أن محمدا عليه‌السلام سيقول : لا يكمل عبد الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ، ألا تراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في موسى : لو كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ، فأوضح لنا المعنى ، وبيّن لنا حقيقة أنه منا ـ إشارة ـ اترك الحق خليفتك على أهلك كما قال عليه‌السلام : اللهم أنت الخليفة في الأهل ، فاستخلف الحق في الحقيقة ، ولا تبال حينئذ بمن يختاره من عالم الحس ، فإنك إذا توكلت على الحق واستخلفته ، وفق خليفتك الذي هو في عالم التكليف ، وهي سنة الله تعالى.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣)

اعلم أن المناجاة كلام لا مشاهدة فيها ، فإن الحجاب يصحبها ، فإن الله يقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وكذلك كلم الله موسى ، ولذلك طلب الرؤية ، وموسى عليه‌السلام من العلماء بالله ، وقد سأل الله الرؤية ، فما سألها عليه

١٦٥

السلام إلا من كونها واجبة وجوبا عقليا ، والمعلوم إذا شوهد تعطي مشاهدته أمرا لا يمكن أن يحصل من غير مشاهدة ، كما قيل.

ولكن للعيان لطيف معنى

لذا سأل المعاينة الكليم

فإنه ليس حكم من شاهد الأمور حكم من لم يشاهدها إلا بالإعلام ، فللعيان حال لا يمكن أن يعرفه إلا صاحب العيان ، كما أن للعلم حالا لا يعرفه إلا أولو العلم ، ليس لغيرهم فيه ذوق ، وما أسمع الرحمن كلامه بارتفاع الوسائط إلا ليتمكن الاشتياق في السامع إلى رؤية المتكلم ، لما سمعه من حسن الكلام ، فتكون رؤية المتكلم أشد ، ولا سيما ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله جميل يحب الجمال ، والجمال محبوب لذاته ، وقد وصف الحق نفسه به ، فشوق النفوس إلى رؤيته ، وما شوق الله عباده إلى رؤيته بكلامه سدى ، ولو لا أن موسى عليه‌السلام فهم من الأمر إذ كلمه الله بارتفاع الوسائط ما جرأه على طلب الرؤية ما فعل ، فإن سماع كلام الله تعالى بارتفاع الوسائط عين الفهم عنه ، فلا يفتقر إلى تأويل وفكر في ذلك ، وإنما يفتقر من كلمة الله بالوسائط من رسول أو كتاب ، فلما كان عين السمع في هذا المقام عين الفهم ، سأل الرؤية ، ليعلم التابع ومن ليست له هذه المنزلة عند الله ، أن رؤية الله ليست بمحال ، وقد شهد الله لموسى أنه اصطفاه على الناس برسالاته وبكلامه ، فهل رآه في وقت سؤاله بالشرط الذي أقامه له كما ورد في نص القرآن (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أو لم يره؟ والاية محتملة المأخذ ، فإنه ما نفى زمان الحال عن تعلق الرؤية ، وإنما نفى الاستقبال بأداة سوف ، ولا شك أن الله تجلى للجبل وهو محدث ، وتدكدك الجبل لتجليه ، فحصل لنا من هذا رؤية الجبل ربه التي أوجبت له التدكدك ، فقد رآه محدث ، فما المانع أن رآه موسى عليه‌السلام في حال التدكدك ووقع النفي على الاستقبال؟ ما لذلك مانع لمن عقل ، ولا سيما وقد قام الصعق لموسى عليه‌السلام مقام التدكدك للجبل ، قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) لما كلم موسى عليه‌السلام ربه أدركه الطمع فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فسأله ما يجوز له السؤال فيه ، إذ كانت الرسل أعلم الناس بالله ، وأنه ذو إدراك يدركه به ، وأنه المدرك بالإدراك لا الإدراك ، فإنه عالم بأن الأبصار لا تدركه ، وإنما هي آلة يدرك بها ، فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بعيني ، فإن الرؤية بأداة إلى رؤية العين ، فقال له الحق : (لَنْ تَرانِي) بعينك ،

١٦٦

لان المقصود من الرؤية حصول العلم بالمرئي ، ولم يكن ذاك موطنه ومقامه ، ولا تزال ترى في كل رؤية خلاف ما تراه في الرؤية التي تقدمت ، فلا يحصل لك علم برؤية أصلا في المرئي ، فقال : (لَنْ تَرانِي) فإني لا أقبل من حيث أنا التنوع ، فإن رؤية المرئي تعطي العلم به ، ويعلم الرائي أنه راء أمرا ما ، وقد أحاط علما بما رآه ، والحق لا تنضبط رؤيته ، وما لا ينضبط لا يقال فيه إن الذي رآه عرف أنه رآه ، ولا تتعجب من طلب موسى عليه‌السلام رؤية ربه ، فإنه ثمّ مقام يقتضي طلب الرؤية ، والإنسان بحكم الوقت ، ويحتمل أن موسى عليه‌السلام منع من الرؤية بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) لكونه سألها عن غير أمر إلهي ، فقيل له : (لَنْ تَرانِي) ثم استدرك استدراك لطيف بعبده ، لما انته فيه حد عقوبة فوت الأدب بالسؤال ابتداء ، الذي حمله عليه شوقه ، فلما علم أن اليأس قد قام به فيما طلبه ، استدرك بالإحالة على الجبل في استقراره ، عند التجلي ، فقال : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) والجبل من الممكنات (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) اعلم أنه لا يثبت لتجلي الحق ، فلا بد من تغير الحال ، فإن التجلي الإلهي يورث الخشوع ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله إذا تجلى لشيء خشع له] فلما تجلى الحق للجبل نقله من حال الشموخ إلى حال الخشوع والاندكاك ، فإن للتجلي النقيضين ، يمحو ويثبت ، ويوجد ويعدم ، فقال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ) ذلك التجلي (دَكًّا) فما أعدمه ، ولكنه أزال حاله ونعته ، ولم يزل عينه ، ولكن أزال شموخه وعلوه ، فكان أول جبل أنزله الله عن قهره وجبروته ، فإن الجبال ظهرت بصورة القهر حيث سكّنت ميد الأرض ، فلا تعرف التواضع ، فإنها ما كانت أرضا ثم صارت جبالا ، فصار جبل موسى بالتدكدك أرضا بعد ما كان جبلا ، ولو لا العظمة التي في نفس الجبل من ربه لما تدكدك لتجلي الرب له ، فإن الذوات لا تؤثر في أمثالها ، وإنما يؤثر في الأشياء قدرها ومنزلتها في نفس المؤثر فيه ، فعلمه بقدر ذلك المتجلي أثر فيه ، ما أثر فيه ما ظهر له ، فإنا نرى الملك إذ دخل في صورة العامة ومشى في السوق بين الناس وهم لا يعرفون أنه الملك لم يقم له وزن في نفوسهم ، فإذا لقيه في تلك الحالة من يعرفه قامت بنفسه عظمته وقدره ، فأثر فيه علمه به ، وكان نظر موسى عليه‌السلام للجبل في حال شموخه ، وكان التجلي له من الجانب الذي لا يلي موسى ، فلما صار دكا ظهر لموسى ما صير الجبل دكا ، فخر موسى صعقا ، فإنه لما كان الجبل حجابا

١٦٧

للتجلي ، لم يثبت التجلي ما دام الجبل باقيا ، الذي هو الحجاب ، فلما تدكدك الجبل الذي هو الحجاب بقي التجلي بلا حجاب ، فرآه موسى فصعق كما صعق الجبل ، وقامت فيه علامة الرؤية التي قامت في الجبل ، وذلك قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) فكان الدك للجبل كالصعق لموسى ، والذي دك الجبل أصعق موسى ، وما أصعقه إلا ما عنده ، أي ما شاهده ، فعلم عند ذلك ما لم يكن يعلم من صورة الحق مع العالم ، ولا أدري اندك الجبل عن رؤية أو عن مقدمة رؤية ، لا بل عن مقدمة رؤية ، وصعق موسى عن تلك المقدمة ، وكان موسى عليه‌السلام ناظرا إلى الجبل طاعة لأمر الله ، فلاح له عند تدكدكه الأمر الذي جعل الجبل دكا ، فخر موسى صعقا ، وكان هذا من ضروب الوحي لموسى عليه‌السلام ، فإنه ورد في الخبر : أن الله إذا تكلم بالوحي كأنه سلسلة على صفوان صعقت الملائكة ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي ميتا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت] فلذلك لما سأله موسى الرؤية أجابه فخر صعقا ، فرآه تعالى في صعقته ، وقد شك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر موسى إذا وجده يوم البعث ، فلا يدري أجوزي بصعقة الطور فلم يصعق في نفخة الصعق؟ فإن نفخة الصعق ما تعم ، وقد صعق بالطور ، فما رآه تعالى حتى مات ، ثم أفاق فعلم من رأى. واعلم أن الحق إذا تجلى في صفة الجبروت لمن تجلى من عباده ، فإن كان المتجلّى له ليس له مدبر غير الله ، كجبل موسى ، تدكدك لتجليه ، فإنه ما فيه غير نفسه ، وإن كان له مدبر قد جعله الله له كتدبير النفوس الناطقة أبدانها ، لم تتدكدك أجسامها ، لكن أرواحها حكم فيها ذلك التجلي حكمه في الجبل ، فبعد أن كان قائما بتدبير الجسد ، زال عن قيامه ، فظهر حكم الصعق ، في جسد موسى ، وما هو إلا إزالة قيام المدبر خاصة ، كما زال الجبل عن وتديته ، فزال حكمه إذ زالت جبليته ، كما زال تدبير الروح لجسد صاحب الصعق ، إذ زال قيامه به ، لأن موسى ذو روح له حكم في مسك الصورة على ما هي عليه ، وما عدا الحيوان فروحه عين حياته ، لا أمر آخر ، فكان الصعق لموسى مثل الدك للجبل لاختلاف الاستعداد ، إذ ليس للجبل روح يمسك عليه صورته ، فزال عن الجبل اسم الجبل ، ولم يزل عن موسى بالصعق اسم موسى ولا اسم الإنسان ، فأفاق موسى ولم يرجع الجبل جبلا بعد دكه ، لأنه ليس له روح يقيمه ، فإن حكم الأرواح في الأشياء ما هو مثل حكم الحياة لها ، فالحياة دائمة في كل شيء ، والأرواح

١٦٨

كالولاة ، وقتا يتصفون بالعزل ، ووقتا يتصفون بالولاية ، ووقتا بالغيبة عنها ، مع بقاء الولاية ، فالولاية ما دام مدبرا لهذا الجسد الحيواني ، والموت عزله ، والنوم غيبته عنه مع بقاء الولاية عليه ، وأفاق موسى بعد صعقته ولم يرجع الجبل إلى وتديته لوجود العوض ، وهو غيره من الجبال ، وهذا الجسد الخاص ما له مدبر مخلوق سوى هذا الروح ، فطلب الجسم من الله بالحال مدبره ، فرده الله إليه ، فهذا سبب علة إفاقة موسى وعدم رجوع الوتدية للجبل ، لأن الأرض استغنت عنه بأمثاله ، وفي تدكدك الجبل وصعق موسى عليه‌السلام إشارة لقول العارف : إن المحدث إذا ظهر له القديم يمحو أثره ، إذ لا طاقة للمحدث على رؤية القديم ، ولهذا جاء الخبر الصحيح الإلهي بأن الحق قد يكون بصر العبد وسمعه ، حتى يثبت لظهور الحق في التجلي أو في الكلام ، ألا ترى إلى موسى عليه‌السلام لما كان الحق سمعه ثبت لكلام الله فكلمه ، فلما وقع التجلي ولم يكن الحق عند ذلك بصر موسى كما كان سمعه صعق ولم يثبت ، فلو كان بصره لثبت ، وكان اندكاك الجبل عن تجلي الحق لكون روحه ما أوجده الله لحفظ الصورة على الجبل مثل الأرواح المدبرة ، وإنما أوجده ليكون مسبحا له ، فلذلك لم تحفظ عليه صورة الجبلية ، وأثر فيه التجلي جعله دكا ، وحفظ روح موسى عليه‌السلام على موسى في صعقته عند رؤية ما رآه الجبل الذي كان حجابا عليه صورة نشأته (فَلَمَّا أَفاقَ) رجع موسى موسى وما رجع الجبل جبلا ، فعلم موسى أنه قد وقع منه ما كان ينبغي له أن لا يقع إلا بأمر إلهي (قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) لما علم أن الله يحب التوابين ، قال : رجعت إليك ، أو رجعت إلى الحالة التي لم أكن سألتك فيها الرؤية ، فلا أطلب رؤيتك على الوجه الذي كنت طلبتها به أولا ، فإني قد عرفت ما لم أكن أعلمه منك (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) على وجهين : ـ الوجه الأول ـ أول المؤمنين بوقوع هذا الجائز ، إذ ما تقدم لأحد من هذا النوع الإنساني أنه سأل ربه رؤيته ، ولا أنه رآه ، فلذلك ادعى موسى أنه أول المؤمنين ، فما انحجب موسى عن ربه ، واستصحبته رؤيته إلى أبد الأبد ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمنا أنه ما من أحد إلا سيرى ربه ويكلمه كفاحا ، وأبان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته عن صورة تجلي الحق لعباده ، ونحن نعلم قطعا أن ذوق الرسل فوق ذوق الأتباع بما لا يتقارب ، فلا تظن أن سؤال موسى رؤية ربه أنه فاقد للرؤية التي كانت حالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله : ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله ، هذه الرؤية ما هي الرؤية التي طلبها موسى من ربه ، فإنها رؤية

١٦٩

حاصلة له لعلو مرتبته ، فإن ذوق الصادق ما هو ذوق الصديق ، فالرؤية ثابتة بلا شك ذوقا ونقلا لا عقلا ، فإن رؤية الله تعالى من محارات العقول ، ومما يوقف عندها ولا يقطع عليها بحكم من أحكامها الثلاثة ، إذ ليس للأنبياء ولا للأولياء علم بالله يكون عن فكر ، قد طهرهم الله عن ذلك ـ الوجه الثاني ـ (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين بقولك (لَنْ تَرانِي) فإنه ما نزل هذا القول ابتداء إلا عليّ ، فأنا أول المؤمنين به ، ثم يتبعني في الإيمان به من سمعه إلى يوم القيامة ، فإنك ما قلت ذلك إلا لي ، وهو خبر ، فلذلك ألحقه بالإيمان لا بالعلم ، ولو لا ما أراد الإيمان بقوله (لَنْ تَرانِي) ما صحت الأولية ، فإن المؤمنين كانوا قبله ، ولكن بهذه الكلمة لم يكن ، فما ظهر الحق لطالب الرؤية ولا للجبل ، لأنه لو رآه الجبل أو موسى لثبت ، ولم يندك ولا صعق ، فإنه تعالى الوجود ، فلا يعطي إلا الوجود ، لأن الخير كله بيديه ، والوجود هو الخير كله ، فلما لم يكن مرئيا أثر الصعق والاندكاك ، ولذلك قلنا إن الصعق والاندكاك كانا عن مقدمة الرؤية ، ومن هذه الآية نفرق بين الرؤية والمشاهدة ، فالمشاهدة في حضرة التمثل كالتجلي الإلهي في الدار الآخرة الذي ينكرونه ، فإذا تحول لهم في علامة يعرفونه بها أقروا به وعرفوه ، وهو عين الأول المنكور ، وهو هذا الآخر المعروف ، فما أقروا إلا بالعلامة لا به ، فالمشاهدة شهود الشاهد الذي في القلب من الحق ، وهو الذي قيد بالعلامة ، والرؤية ليست كذلك ، ولهذا قال موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وما قال أشهدني ، فإنه مشهود له ما غاب عنه ، وكيف يغيب عن الأنبياء وليس يغيب عن الأولياء العارفين به؟ فقال له : (لَنْ تَرانِي) ولم يكن الجبل بأكرم على الله تعالى من موسى ، وإنما أحاله على الجبل لما قد ذكر سبحانه في قوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) والجبل من الأرض وموسى من الناس فخلق الجبل أكبر من خلق موسى من طريق المعنى ، أي نسبة الأرض والسماء إلى جانب الحق أكبر من خلق الناس من حيث ما فيهم من سماء وأرض ، فإنها في السماء والأرض معنى وصورة ، وهما في الناس معنى لا صورة ، والجامع بين المعنى والصورة أكبر في الدلالة ممن انفرد بأحدهما ، فجمع الجبل بين الصورة والمعنى ، فهو أكبر من جبل موسى المعنوي ، فإذا كان الجامع بين الأمرين وهو الأقوى والأحق باسم الجبل صار دكا عند التجلي ، فكيف يكون موسى حيث جبليته التي هي فيه معنى لا صورة؟ ولما كانت الرؤية لا تصح إلا لمن يثبت

١٧٠

لها إذا وقعت ، والجبل موصوف بالثبوت في نفسه وبالإثبات لغيره ، إذ كان الجبل هو الذي يسكّن ميد الأرض ، ويقال فلان جبل من الجبال إذا كان يثبت عند الشدائد والأمور العظام ، فلهذا أحاله على الجبل الذي من صفاته الثبوت ، فإن ثبت الجبل إذا تجليت له ، فإنك ستراني من حيث ما فيك من ثبوت الجبل.

فرؤية الله لا تطاق

فإنها كلها محاق

فلو أطاق الشهود خلق

أطاقه الأرض والطباق

لهذا قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت ربك؟ قال نور أنّي أراه ـ تحقيق ـ فإن قلت : إنك تزعم أن أهل الله الذين هم أهله لم يزالوا ولا يزالون دنيا وآخرة في مشاهدة عينية وإن اختلفت الصور ، فلا يقدح ذلك عندهم ، فموسى أحق بهذه الصفة من الولي ، وقد سأل الرؤية ، قلنا : قد ثبت عندك إن كنت مؤمنا ـ وإن لم تكن من أهل الكشف ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبر أن الله يتجلى في صورة ويتحول إلى صورة ، وأنه يعرف وينكر ، إن كنت مؤمنا لا تشك في هذا ، وأنه قد بيّن أن التجلي في الصور بحسب قدر المتجلى له ، فإذا علمت هذا ، تعلم أن موسى قد رأى الحق بما هو متجل للأولياء ، إذ علم أنه يتجلى للأولياء في صور مختلفة ، لأن موسى ولي لله ، وقد علم ذلك ، ومثل هذا فلا يخفى ، وإنما سأل التجلي في الصورة التي لا يدركها إلا الأنبياء ، ومن الأنبياء من خصه الله بمقام لم ينله غيره ، كالكلام بارتفاع الوسائط لموسى عليه‌السلام ، فطلب موسى عليه‌السلام من ربه أن يراه في تلك الصورة التي يطلبها مقامه ، وأما رؤيته إياه في الصورة التي يراها الأولياء فذلك خبره وديدنه ، فإن قلت : قال تعالى : (لَنْ تَرانِي) ولن تنفي الأفعال المستقبلة ، قلنا : إن الحق ما يتجلى لمخلوق إلا في صورة المخلوق ، إما التي هو عليها في الحال فيعرفه ، أو ما يكون عليها بعد ذلك فينكره ، حتى يرى تلك الصورة قد دخل فيها فحينئذ يعرفه ، فإن الله علمه وعلم ما يؤول إليه ، والمخلوق لا يعلم من أحواله إلا ما هو عليه في الوقت ، فالصورة صورتك ، فصدق (لَنْ تَرانِي) واعلم أنه ليس هناك منع بل فيض دائم وعطاء غير محظور ، ولو لم يكن المتجلى له على استعداد أظهر له ذلك الاستعداد هذا المسمى تجليا ، ما صح أن يكون له هذا التجلي ، فالحق متجل دائما ، والقابل لإدراك هذا التجلي لا يكون إلا باستعداد خاص ، وقد صح له ذلك الاستعداد فوقع التجلي في حقه ، ولا يخلو أن يكون له أيضا

١٧١

استعداد البقاء عند التجلي أو لا يكون له ذلك ، فإن كان له ذلك فلا بد أن يبقى ، وإن لم يكن له ، فكان له استعداد قبول التجلي ولم يكن له استعداد البقاء ، ولا يصح أن يكون له ، فإنه لا بد من اندكاك أو صعق أو فناء أو غيبة أو غشية ، فإنه لا يبقى له مع الشهود غير ما شهد ، فلا تطمع في غير مطمع ، قال بعضهم : شهود الحق فناء ما فيه لذة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فليس التفاضل ولا الفضل في التجلي ، وإنما التفاضل والفضل فيما يعطي الله لهذا المتجلى له من الاستعداد ، وعين حصول التجلي عين حصول العلم ، لا يعقل بينهما بون ، وأما التجلي الذي يكون معه البقاء والعقل والالتذاذ والخطاب والقبول فذلك التجلي الصوري ، ومن لم ير غيره ربما حكم على التجلي بذلك مطلقا من غير تقييد ـ إشارة ـ لم سأل موسى عليه‌السلام الرؤية وهو يعجز عن النظر؟ حتى لا يبقى له من الميراث أثر ، فإن الرؤية للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانظر إلى كثرة سواد موسى عليه‌السلام في الآخرة لقرب نسبته من الرسول عليهما‌السلام.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤)

فشهد الله لموسى أنه اصطفاه على الناس برسالاته وبكلامه ثم قال له : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ولا شك أن موسى قد شكر الله على نعمة الاصطفاء ونعمة الكلام شكرا واجبا مأمورا به ، فيزيده الله لشكره نعمة رؤيته إياه ـ إشارة ـ أمره أن يكون من الشاكرين ليزيد في القرب والتمكين.

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥)

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) ألواح موسى (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وهو اللوح المحفوظ (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) ففصلت الكتب المنزلة مجمل اللوح المحفوظ ، وأبانت عن موعظته

١٧٢

فاللوح المحفوظ هو المعبر عنه بكل شيء في الكتاب العزيز من باب الإشارة والتنبيه ، تسمية إلهية ، ومنه كتب الله كتبه وصحفه المنزلة على رسله ـ إشارة ـ كان في ألواح موسى عليه‌السلام تفصيل كل شيء علم ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوامع الكلم.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٤٦)

اعلم أن الله ما صرف أحدا عن الآيات إلا وقد صرفه عن العلم بالأمر على ما هو عليه الأمر والشأن ، والآيات التي صرف العبد عنها هي الآيات التي أراها لمن أراها في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، فلا تكن من الذين صرفوا عن الآيات ، فإن الذين صرفوا عنها حجبوا بنفوسهم ، فنسبوا إليها ما ليس لها ، فعموا عن الآيات ، فحلّت بهم الآفات ـ الوجه الثاني ـ الآية هنا من حيث كونها معجزة لا من حيث كونها آية فقط ، فإن المعجزة إذا كانت مقدورة للبشر ادعي الصرف عنها مطلقا ، فلا تظهر إلا على يدي من هو رسول إلى يوم القيامة ، فإن المعجزات نصبت للخصم الألد الفاقد نور الإيمان ، لذلك قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فمن تكبر من الخلق بغير الحق فما هو كبير في نفس الأمر ، وإنما هي دعوى حال لا وجود له في عين المدعي ، والحق هو الذي له الكبرياء ، فما سمي متكبرا إلا لكون الدعوى ما ظهرت إلا في محل ما له الكبرياء ، فالمتكبر في الأرض بغير الحق أجهل الجاهلين ، لأنه وضع الكبرياء في غير موضعه ، إذ من شرطه أمران : الواحد : الحق الذي يقبله المخلوق ، والثاني : العلو ، ومن تكبر في الأرض بالحق ، فالحق له العلو بالذات والسمو ، لم يصرف الله عنه الآيات ، فيريه إياها تشريفا ، فإذا رآها تبيّن له عين الحق ، فإنه ما رآها إلا بالحق ، والموفقون هم الذين إذا رأوا سبيل الرشد اتخذوه سبيلا ، فيمشي بهم إلى السعادة الأبدية ، فإنهم نسبوا تكوين الآيات إلى الحق ، وأن قوى سلطان الطبيعة إنما هو في قبولها لما يكونه الحق فيها ، وأما الذين نسبوا التكوين إلى الطبيعة وأضافوه إليها ونسوا الحق بها فأنساهم أنفسهم إذ صرفهم عن آيات أنفسهم (وَكانُوا عَنْها

١٧٣

غافِلِينَ) فللطبيعة القبول ، وللحق الوهب والتأثير.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (١٤٨)

لما علم السامري أنّ حب المال يلصق بالقلوب صاغ لهم العجل بمرأى منهم من حليهم ، لعلمه أن قلوبهم تابعة لأموالهم ، فسارعوا إلى عبادته حين دعاهم إلى ذلك ، وإنما كان عجلا ، لأن السامري لما مشى مع موسى عليه‌السلام في السبعين الذين مشوا معه ، كشف الله عنه غطاء بصره ، فما وقعت عيناه إلا على الملك الذي على صورة الثور ، وهو من حملة العرش ، لأنهم أربعة ، واحد على صورة أسد ، وآخر على صورة نسر ، وآخر على صورة ثور ، ورابع على صورة إنسان ، فلما أبصر السامري الثور تخيل أنه إله موسى الذي يكلمه ، فصور لهم العجل وقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) وصاغه من حليهم ليتبع قلوبهم أموالهم ، لعلمه أن المال حبه منوط بالقلب ، وعلم أن حب المال يحجبهم أن ينظروا فيه ، هل يضر أو ينفع أو يرد عليهم قولا إذا سألوه؟ وقال لهم هارون : (يا قوم إنما فتنتم به) أي اختبرتم به لتقوم الحجة لله عليكم إذا سئلتم (وإن ربكم الرحمن) ومن رحمته بكم أن أمهلكم ورزقكم مع كونكم اتخذتم إلها تعبدونه غيره سبحانه ، ثم قال لهم : (فَاتَّبِعُونِي) لما علم أن في اتباعهم إياه الخير (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) لكون موسى عليه‌السلام أقامه فيهم نائبا عنه ، فقالوا : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) يريدون عبادة العجل (عاكفين) أي ملازمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) الذي بعث إلينا وأمرنا بالإيمان به ، فحجبهم هذا النظر أن ينظروا فيما أمرهم به هارون عليه‌السلام ، وأما الخوار فإنه من الأثر المقبوض من وطء الروح ، فقبض السامري من أثر جبريل لما علم أن الروح تصحبه الحياة حيث حلّ ، فرمى ما قبضه في العجل فخار العجل بذلك الأثر المقبوض ، ولو رماه في شكل فرس لصهل ، أو شكل إنسان نطق ، فإن الاستعداد لما ظهر بالحياة إنما كان للقابل.

١٧٤

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠)

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) وجدهم قد فعلوا ما فعلوا (غَضْبانَ) على قومه (أَسِفاً) عليهم لما فعلوه من اتخاذهم العجل إلها (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) لما ترك موسى قومه خلفه وسار إلى ربه سماهم خلفاء ، وما استخلفهم ولكنه تركهم خلفه (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) من يده (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) عقوبة له بتأنيه في قومه ، ولو لم يلق موسى الألواح ما أخذ برأس أخيه ، فإن في نسختها الهدى والرحمة تذكرة لموسى ، فكان يرحم أخاه بالرحمة ، وتتبين مسألته مع قومه بالهدى ، فناداه هارون عليه‌السلام بأمه ، فإنها محل الشفقة والحنان (قالَ ابْنَ أُمَّ) لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) كما قال له أيضا (إِنِّي خَشِيتُ) لما وقع ما وقع من قومك ، أن تلومني على ذلك ، وتقول : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ) أي تلزم (قَوْلِي) الذي أوصيتك به (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فهذا هارون الخليفة العلي ، المنيع السني ، سقاه كأس الذل ، من أوى إلى الظل ، فناداه بذات الرحم ، وقد علم أنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، فسوى بينهما في النور والضيا ، وتبرزا في صدر الخلفا ـ إشارة ـ أتعرف ما جزاء من استخلف في مقام الإحسان؟ أن يأخذ بلحيته كليم الرحمن ، أي أن العبد ما دام في عبوديته ، كانت السلامة له مصاحبة ، فإذا قبل النيابة في الخلافة فقد تلبسها وظهر بأوصافها ، وأبطن عبوديته ، فحينئذ يبتلى بمن يأخذ بلحيته للاختبار ـ إشارة ـ لا شك أن هارون عليه‌السلام أعلى رتبة ممن قال من العارفين : إن

١٧٥

الوجود ينعدم في حقهم ، فلا يرون إلا الله ولا يبقى للعالم عندهم ما يلتفتون به إليه في جنب الله ، ومع ذلك فقد أخبرنا الحق عنه أنه قال لأخيه موسى في وقت غضبه (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) فجعل لهم قدرا ، وهذا هو الواقع ، لأن العالم ما زال عند من زال عندهم في نفس الأمر ، فنقصهم من العلم بما هو الأمر عليه على قدر ما فاتهم ، فعندهم عدم العالم ، فنقصهم من الحق على قدر ما انحجب عنهم من العالم ، فإن العالم كله هو عين تجلي الحق لمن عرف الحق ، ثم رد موسى عليه‌السلام وجهه إلى السامري فقال له : (فَما خَطْبُكَ) أي ما حديثك (يا سامِرِيُّ) فقال له السامري ما رآه من صورة الثور الذي هو أحد حملة العرش ، فظن أنه إله موسى الذي يكلمه ، فلذلك صنعت لهم العجل ، وعلمت أن جبريل ما يمر بموضع إلا حيي به ، لأنه روح ، فلذلك قبضت من أثره ، لعلمه بتلك القبضة ، فنبذتها في العجل فخار ، فما فعله السامري إلا عن تأويل فضلّ وأضلّ ، وقبل موسى عليه‌السلام عذر أخيه ، وأما الذين عبدوا العجل فما أعطوا النظر الفكري حقه للاحتمال الداخل في القصة ، فما عذرهم الحق ، ولا وفّى عابدوه النظر في ذلك.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١)

(وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بعباده.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤)

لما سكن عن موسى الغضب أخذ الألواح ، فما وقعت عيناه مما كتب فيها إلا على الهدى والرحمة ، فإنه بالضدّ يزول الضد ، فقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ

١٧٦

أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ومن لم يلزم الأدب الشرعي لم يغضب لله ، والغضب لله أسلم وأنجى وأحسن بالإنسان ، فإن فيه لزوم الأدب المشروع ، ولما كان الغضب في أصل جبلة الإنسان ، كالجبن والحرص والشره ، بيّن الحق له مصارف إذا وقع من العبد واتصف به ، وللتسليم محال ومواضع قد شرعت ، التزم بها الأدباء ، حالا وغاب عنها أصحاب الأحوال ، ولعدم التسليم محال ومواضع قد شرعت ، فالأديب هو الواقف من غير حكم حتى يحكم الشارع الحق ، وهو خير الحاكمين ، فإذا وقف الأديب حيث حكم لا يزيد ولا ينقص ، والغضب صفة باطنة في الإنسان قد يكون لها أثر في الظاهر وقد لا يكون ، فإن الحال أغلب ، والأحوال يعلو بعضها على بعض في القهر والغلبة على من قامت بهم ، وأما الغضب لغير الله ، فالطبع البشري يقتضي الغضب والرضى ، يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر] ـ الحديث ـ.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥)

جزى الله عنا موسى عليه‌السلام خيرا ، إذ ترجم عنا بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي اختبارك ، اختبرت بها عبادك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) أي تحيره (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي تبين له طريق نجاته فيها (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) بستر جلاله ، وأي غفر أشد من حيرة العقول ، وما خاطب الحق إلا العقول ، ونصب أدلتها متقابلة ، فما أثبته دليل نفاه الآخر ، فاختبرت عبادك بالأدلة ، وما ثم دليل يوصل إليك.

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ

١٧٧

الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) رجعنا عما كنا عليه من مخالفتك ، من حال البطر والأشر وكفران النعم ، إلى حال التوبة والافتقار (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ثم قال تعالى مبالغة في الرحمة الواجبة والامتنانية : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وهي رحمة الامتنان ، وهي الرحمة العامة التي يرحم الله بها العالم من عين المنة ، لا الرحمة الواجبة المخصوصة ، فإن الرحمة جعلها الله لخلقه ، فمنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن الوجوب ، ومنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن المنن ، فالكل طامع ، والمطموع فيه واسع (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أترى هذه السعة الربانية تضيق عن شيء وهي لم تضق عن الممكنات إذ كانت في الشر المحض وهو العدم؟ فكيف تضيق عن الممكنات إذ هي في الشر المشوب؟ فقوله تعالى : (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وجد ويوجد إلى غير نهاية ، فبرحمة الله يحيا ويرزق كل موجود سوى الله ، فالرحمة شاملة ، وهي في كل موطن بحسب ذلك الموطن ، فأثرها في النار بخلاف أثرها في الجنة ، فوسعت كل شيء من مكروه وغيره ، وغضب وغيره ، فما في العالم عين قائمة ولا حال إلا ورحمة الله تشمله وتحيط به ، وهي محل له ، ولا ظهور له إلا فيها ، والرحمة حكم لا عين ، فإنها لو كانت عينا وجودية لانتهت وضاقت عن حصول ما لا يتناهى فيها وإنما هي حكم يحدث في الموجودات بحدوث أعيان الموجودات ، وغضبه تعالى شيء ، فقد وسعته الرحمة وحصرته وحكمت عليه ، فلا يتصرف إلا بحكمها ، فترسله إذا شاءت ، وتمسكه إذا شاءت ، ومن ذلك أن ملائكة العذاب قد وسعتهم الرحمة كسائر الأشياء ، فيمنعهم ما وسعهم منها عن مقاومة الرحمة ، فيجدون في نفوسهم رحمة بأهل النار ، لأنهم يرون الله قد تجلى في غير صورة الغضب الذي كان قد حرضهم على الانتقام من الأعداء ، فيشفعون عند الله في حق أهل النار الذين لا يخرجون منها ، فيكونون لهم بعد ما كانوا عليهم ، فيقبل الله شفاعتهم فيهم ، وقد حقت الكلمة الإلهية أنهم عمار تلك الدار ، فيجعل الحكم فيهم للرحمة التي وسعت كل شيء ، فأعطاهم في جهنم نعيم المقرور والمحرور ، لأن نعيم المقرور بوجود النار ، ونعيم المحرور بوجود الزمهرير ، فتبقى جهنم على صورتها ذات حر وزمهرير ، ويبقى أهلها متنعمين فيها بحرها وزمهريرها ، فمآل

١٧٨

الكل إلى الرحمة وإن تخلل الأمر آلام وعذاب وعلل وأمراض مع حكم الاسم الرحمن ، فإنما هي أعراض عرضت في الأكوان دنيا وآخرة ، فانقسمت رحمته تعالى بعباده إلى واجبة وامتنان ، فبرحمة الامتنان ظهر العالم ، وبها كان مآل أهل الشقاء إلى النعيم في الدار التي يعمرونها ، وابتداء الأعمال الموجبة لتحصيل الرحمة الواجبة ، وهي الرحمة التي قال الله فيها ، لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريق الامتنان (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) رحمة امتنان ، وبها رزق العالم كله فعمت ، والرحمة الواجبة لها متعلق خاص بالنعت والصفات التي ذكرها الله في كتابه فقال : (فَسَأَكْتُبُها) يعني الرحمة الواسعة ، فأدخلها تحت التقييد بعد الإطلاق من أجل الوجوب ، فهي الرحمة التي أوجبها على نفسه (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وهذه كلها واجبات ، فأوجب الرحمة لهم بلا شك ، واستوجب هؤلاء هذه الرحمة على ربهم في موطن ، بكونهم يتقون ويؤتون الزكاة على مفهوم الزكاة لغة وشرعا (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) فما كتب الله على نفسه ما كتب إلا لمن قام بحق النيابة عنه فيما استنابه ، وليس إلا المتقين ، وهم الذين جعلوا الله وقاية لهم منه ، ومن كل شيء يكون منه ، كما جعلهم الله وقاية بينه وبين ما ذمّه من الأمور مما هو خلق لله ، فينسب ذلك إلى الآلة التي وقع بها الفعل ، فلما وفّاه وقاه ، وصح له ما كتب على نفسه ، وما عدا هؤلاء فهم أهل المنن ، فنالوا أغراضهم على الاستيفاء ، ثم ان الله امتن عليهم بعد ذلك بالمغفرة والرحمة التي عم حكمها ، ومنهم من لم يتقل فيخصه بالحرمة المطلقة ، وهي رحمة الامتنان ولا تتقيد بحصر ـ تحقيق ـ قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فيها علم دقيق خفي لا يشعر به لخفائه مع ظهوره ، فإن العلماء بالله قد علموا شمول الرحمة ، والمؤمنون قد علموا اتساعها ، ثم يرونها مع الشمول والاتساع ، ما لها صورة في بعض المواطن ، ومع كونها ما لها صورة ظاهرة في بعض المواطن فإن الحكم لها في ذلك الموطن الذي ما لها فيه صورة ، ولا يكون لها حكم إلا بوجودها ، ولكن هو خفي لبطونها ، جلي لظهور حكمها ، وأكثر ما يظهر ذلك في صنعة الطب وإقامة الحدود ، فالله يقول في إقامة الحدود في حد الزاني والزانية (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فهذا عين انتزاع الرحمة بهم ، وإقامة الحدود من حكم الرحمة وما لها عين ظاهرة ، وكالطب إذا قطع الطبيب رجل صاحب الأكله ، فإن رحمه في هذا الموطن ولم يقطع رجله هلك ، فحكم الرحمة حكم

١٧٩

بقطع رجله ولا عين لها ، فللرحمة موطن تظهر فيه بصورتها ، ولها موطن تظهر فيه بحكمها ، فيتخيل أنها قد انتزعت من ذلك المحل ، وليس كذلك ، وفي الأحكام الشرعية في هذه المسألة خفاء إلا لمن نور الله بصيرته ، فإن القاتل ظلما قد نزع الله الرحمة من قلبه في حق المقتول ، وهو تحت حكم الرحمة في قتله ظلما ، وبقي حكمها في القاتل ، فإما أن يقاد منه ، وإما أن يموت فيكون في المشيئة ، وإن كان القاتل كافرا فإما أن يسلم فتظهر فيه الرحمة بصورتها ، وحيثما كانت الرحمة بالصورة كانت بالحكم ، وقد تكون بالحكم ولا تكون بالصورة. واعلم أن الرحمة الإلهية التي أوجدها الله في عباده ليتراحموا بها مخلوقة من الرحمة الذاتية التي أوجد الله بها العالم حين أحب أن يعرف ، وبها كتب على نفسه الرحمة ، وهذه الرحمة المكتوبة منفعلة عن الرحمة الذاتية ، والرحمة الامتنانية هي التي وسعت كل شيء ، فرحمة الشيء لنفسه تمدها الرحمة الذاتية وتنظر إليها ، وفيها يقع الشهود من كل رحيم بنفسه ، وأما رحمة الراحم بمن أساء إليه وما يقتضيه شمول الإنعام الإلهي والاتساع الجودي ، فلا مشهد لها إلا رحمة الامتنان ، وهي الرحمة التي يترجاها إبليس فمن دونه ، لا مشهد لهؤلاء في الرحمة المكتوبة ولا في الرحمة الذاتية ، وبهذا كان الله والرحمن دون غير الرحمن من الأسماء له الأسماء الحسنى ، فجميع الأسماء دلائل على الاسم الرحمن وعلى الاسم الله ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون ، فإن الرحمة الإلهية وسعت كل شيء ، فما ثم شيء لا يكون في هذه الرحمة ، إن ربك واسع المغفرة ، فلا تحجروا واسعا ، فإنه لا يقبل التحجير ، قال بعض الأعراب : يا رب ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمعه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا هذا لقد حجّرت واسعا ، يعني حجّرته قولا وطلبة ، قال سهل بن عبد الله : لقيت إبليس فعرفته وعرف مني أني عرفته ، فوقعت بيننا مناظرة ، فقال لي وقلت له ، وعلا بيننا الكلام وطال النزاع ، بحيث أن وقفت ووقف ، وحرت وحار ، فكان من آخر ما قال لي : يا سهل الله عزوجل يقول : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فعمّ ، ولا يخفى عليك أني شيء بلا شك ، لأن لفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم ، وشيء أنكر النكرات ، فقد وسعتني رحمته ، قال سهل : فو الله لقد أخرسني وحيّرني بلطافة سياقه ، وظفره بمثل هذه الآية ، وفهم منها ما لم نفهم ، وعلم منها ما لم نعلم ، فبقيت حائرا متفكرا وأخذت أتلو الآية في نفسي ، فلما جئت إلى قوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها) الآية ، سررت وتخيلت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم

١٨٠