رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

ناس ، ولكن أوجبت روح أوامرك في أسرار الكائنات ، فذكرك الناسي بنسيانه ، وأطاعك العاصي بعصيانه ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، إن عصى داعي إيمانه ، فقد أطاع داعي سلطانك ولكن قامت عليه حجتك ، فلله الحجة البالغة ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١٩)

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فلا يؤثر فيهم عوارض يوم القيامة ، بل تخاف الناس ولا يخافون ، وتحزن الناس ولا يحزنون ... (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) فالرضى منا ومنه ـ الوجه الأول ـ رضي الله عنهم : بما أعطوه من بذل المجهود ، وغير بذل المجهود (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم مما يقتضي الوجود الجود أكثر من ذلك ، لكن العلم والحكمة غالبة ـ الوجه الثاني ـ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : بما أعطاه العبد من نفسه رضي الله به ، ورضي عنه فيه وإن لم يبذل استطاعته ، فرضي الله منك إذا أعطيت ما كلفك حد الاستطاعة التي لا حرج عليك فيها (وَرَضُوا عَنْهُ) رضي العبد من الله بالذي أعطاه من حال الدنيا ورضي عن الله في ذلك ، فإن متعلق الرضى القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلا بد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك ، بما أعطيته منك ، وهو يعلم أن الاستطاعة فوق ما أعطيته ـ الوجه الثالث ـ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) في يسير العمل (وَرَضُوا عَنْهُ) في يسير الثواب ، لأنه لا يتمكن تحصيل ما لا يتناهى في الوجود ، لأنه لا يتناهى ، فإن كل ما أعطاك الحق في الدنيا والآخرة من الخير والنعم فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو متناه بحصوله ، وما قدم الله رضاه عن عبيده ، بما قبله من اليسير من أعمالهم التي كلفهم إلا ليرضوا عنه في يسير الثواب ، لما علموا أن عنده ما هو أكثر من الذي وصل إليهم. ـ الوجه الرابع ـ أخبرهم في التوقيع أنه عنهم راض تعالى وتقدس جلاله ، ثم أنه ناب عنهم في الخطاب بأنهم عنه راضون ، فقال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). وهنا نكتة لمن فهم ما تدل عليه ألفاظ القرآن من الرضى فقطع عليهم بذلك لعلمه بأنه واقع

٦١

منهم ـ تحقيق الرضا ـ اعلم أن الله تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإنه إذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضى به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، فلما أطلق الرضا علمنا أنه أراد الإجمال ، والقدر توقيت الحكم ، فكل شيء بقضاء وقدر ، أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، وإنما قلنا : يجب الإيمان به أنه شر كما يجب الإيمان بالخير أنه خير ، فنقول : إنه يجب علي الإيمان بالشر أنه شر ، وأنه ليس إلى الله من كونه شرا ، لا من كونه عين وجود إن كان الشر أمرا وجوديا ، فمن حيث وجوده أي وجود عينه هو إلى الله ، ومن كونه شرا ليس إلى الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه : والشر ليس إليك ، فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠)

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ) هما الدار الدنيا.

(٦) سورة الأنعام مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١)

العدل هنا على وجوه منها عدولهم إلى القول بأن له أمثالا وليس كمثله شيء ، فإن العدل المثل ، ومنها أنهم بربهم عدلوا لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، ومنها أن الباء في «بربهم» بمعنى اللام ، فلربهم عدلوا لكون من عدلوا إليه إنما عدلوا إليه لكونه عندهم إلها ، وفي هذه الآية يخاطب الله الذين جعلوا له أمثالا ، مثل المانية الذين يقولون : إن الإله الذي خلق

٦٢

الظلمة ، ما هو الإله الذي خلق النور ، فعدلوا بالواحد الآخر ، وكذلك الذين يقولون بخلق السموات والأرض ، إنها معلولة لعلة ليست علته الإله ، أي ليست العلة الأولى ، لأن العلة عندهم إنما صدر عنها أمر واحد لحقيقة أحديتها وليس إلا العقل الأول ، فهؤلاء أيضا مما قيل فيهم إنهم بربهم يعدلون ، وسماهم كفارا لأنهم إما ستروا ، أو منهم من ستر عقله عن التصرف فيما ينبغي له بالنظر الصحيح في إثبات الحق ، والأمر في نفسه على ما هو عليه ، فاقتصر على ما بدا له ، ولم يوف الأمر حقه في النظر. وإما إن علم وجحد فستر عن الغير ما هو الأمر عليه في نفسه ، لمنفعة تحصل له من رياسة أو مال ، فلهذا قيل فيهم : إنهم كفروا أي ستروا.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢)

ـ الوجه الأول ـ الأجل المقضي هو الموت الاختياري ، وهو موت في حياة دنياوية ، ولما كان هذا الأجل المقضي معلوم الوقت عند الله مسمى عنده ، كان حكمه حكم الأجل المسمى ، وهو الموت الاضطراري في العموم والعرف فمن قتل نفسه في الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس ، رزقه الله حكم الشهادة ، فموته معنوي في حياته الدنيا ، وقتله مخالفة نفسه ـ الوجه الثاني ـ (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) وهو نهاية عمر كل حي يقبل الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو ميقات حياة كل من كان قبل الموت في حياته الأولى ، وهو المعبر عنه بالبعث ، ولذلك قال تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) يعني فيه فإنّ الموت لا يمترون فيه ، فإنه مشهود لهم في كل حيوان مع الأنفاس ، وإنما وقعت المرية في البعث وهو الأجل المسمى المذكور.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) بيده ميزان الرفع والخفض (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) من حيث اسمه الباطن ، ويعلم (جَهْرَكُمْ) من حيث اسمه الظاهر ، فهو معكم بكل أسمائه (يَعْلَمُ

٦٣

سِرَّكُمْ) من كونه في الأرض (وَجَهْرَكُمْ) من كونه في السماء ، (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) من كونه في السماء وهو معناكم الذي خفي عن الأبصار عينه ويعلم (جَهْرَكُمْ) من كونه في الأرض وهو ظاهركم الذي ظهر للأبصار عينه من أمراض الأفعال أن يكون أداؤك لذلك الفعل الذي هو عبادة ، كالصلاة مثلا ، في الملأ أحسن من أدائك في السر ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثل هذه الفعلة : [تلك استهانة استهان بها ربه] في رجل حسّن صلاته في الملأ ، وأساءها في الخلوة ، وهذا من أصعب الأمراض النفسية ، ودواؤه (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [والله أحق أن يستحى منه] وأمثال هذه الآيات والأخبار. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وكذلك أكثرهم لا يؤمنون.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)

اختلفوا في القرن ما قدره من الزمان؟ ومن جملة أقوالهم : إن القرن ثلاثون سنة.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩)

أي لو كان الرسول للبشر ملكا لنزل في صورة رجل ، حتى لا يعرفوا أنه ملك ، فإن

٦٤

أول ابتلاء ابتلى الله به خلقه بعث الرسل إليهم منهم لا من غيرهم ، وإنما جعل الرسول من الجنس لاستخراج عيب النفس ، وأنزل بلسان قومه لرفع اللبس ، فالرسول من جنس المرسل إليه ، فإن دعا أمر أن يكون من غير الجنس في الحقيقة فلا بد وأن يظهر لهم في صورة الجنس في عالم تمثيل الرقيقة ، مثل تمثل الروح لمريم بشرا سويا.

خليفة القوم من أبناء جنسهم

لأن ذلك أنكى في نفوسهم

لو لم يكن منهم لصدقوه ولم

يقم بهم حسد لغير جنسهم

فتنكر الأشخاص للجنسية ، وهي الفتنة الإلهية وقال تعالى : (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) وقالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) وقال تعالى : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فهم ينظرون ظاهره وينكرونه إنكارا يؤدي إلى الموت.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢)

الرحمة ثلاث رحمات : الرحمة الذاتية ، ومنها الرحمة المخلوقة في عباده ليتراحموا بها ، والرحمة الثانية : هي الرحمة المكتوبة ، وهي منفصلة عن الرحمة الذاتية ، والرحمة الثالثة : هي الرحمة الامتنانية التي وسعت كل شيء ، فمن كرمه تعالى كتب على نفسه الرحمة ، أي أوجب وفرض على نفسه الرحمة ، لم يوجب ذلك عليه موجب ، بل هو سبحانه الموجب على نفسه منة منه وفضلا علينا ، فإنه لا يجب على الله شيء بإيجاب موجب غير نفسه ، فإن أوجب هو على نفسه أمرا ما ، فهو الموجب والوجوب والموجب عليه لا غير ، ومع أن الحق أوجب على نفسه ، فإن الحقيقة تعطي أن العبد لا يستحق شيئا على سيده فمن منته سبحانه على عبده أن أوجب له على نفسه ليأنس العبد بما أوجبه الحق عليه من طاعته ليسارع

٦٥

بأداء ما وجب عليه فقال تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ومن رحمة الله أنه قال : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) فما نجتمع إلا فيما نفترق فيه وهو الإقرار بربوبيته سبحانه ، وإذا جمعنا من حيث إقرارنا له بالربوبية ، فهي آية بشرى وذكر خير في حقنا بسعادة الجميع ، وإن دخلنا النار ، فإن الجمعية تمنع من تسرمد الانتقام ، لا إلى نهاية ، لكن يتسرمد العذاب ، وتختلف الحالات فيه ، فإذا انتهت حالة الانتقام ووجدان الآلام ، أعطي من النعيم والاستعذاب بالعذاب ما يليق بمن أقر بربوبيته ، ثم أشرك ثم وحّد في غير موطن التكليف ، والتكليف أمر عرض في الوسط بين الشهادتين لم يثبت ، فبقي الحكم للأصلين الأول والآخر.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣)

(وَلَهُ ما سَكَنَ) ـ الوجه الأول ـ أي ما ثبت ، والاعتماد لا نشك أنه سكون إلى من يعتمد عليه لا بد من ذلك ، ولا يعتمد إلا على من له ثبوت الوجود ، ولا يقبل التغيير ولا الانتقال من حال الثبوت ، ومن علم أنه يقبل الانتقال من الثبوت لا يعتمد عليه ، لأنه يخون المعتمد عليه ذلك الاعتماد لارتباطه بمن لا ثبوت له ، فلا يعتمد على محدث إلا عن إعلام إلهي ، فيكون اعتمادنا على من له نعت الثبوت ، كاعتمادنا على الشرائع فيما يجب الإيمان به ، وكالإيمان الذي ثبت بإعلام الله أنه معه السعادة فيعتمد عليه ـ الوجه الثاني ـ اعلم أنه لمّا لم يكن في العالم سكون البتة ، وإنما هو متقلب دائما أبدا ، من حال إلى حال ، دنيا وآخرة ، ظاهرا وباطنا ، فإن قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي كل شيء كان ولا زال في علمه لم يخرج منه عدما ووجودا ، فهو ساكن في علم الله ليل نهار ، فدخل في ذلك السكون والحركة ـ الوجه الثالث ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) والسكون ضد الحركة ، والحركة هي الدعوى في الأعمال ، والسكون هو التبري من الحركة إذا أقيم الإنسان فيها بلا حول ولا قوة إلا بالله ، فعرّى الحق خلقه في هذه الآية عن إضافة ما ادعوه لأنفسهم ، فمن فهم تنبيه الحق بأنه أخلص السكون له ، علم أن الحركة فيها الدعوى ، وأن السكون لا تشوبه دعوى ، فإنه نفي الحركة ، اختار السكون على الحركة ، وهو الإقامة على الأصل بلا حول ولا قوة إلا بالله ، فالسكون أولى من الحركة ، فإن العبد مأمور بالسكون تحت مجاري الأقدار ، وما يأتي الله إليه في الليل والنهار ، والسكون مع المشاهدة ،

٦٦

والحركة مع الفقد ، إلا الحركة المأمور بها ، فالسكون بالله مع الله أولى لراحة الوقت ، لو لم يكن من شرف السكون إلا ورود الأسماء الإلهية عليك ، ونزول الحق إليك ، لأنك إن تحركت إليه حددته ، وإن سكنت معه عبدته ، فالحركة إليه عن الجهل به ، والسكون معه عين العلم به ، إذا كان الحق جليس الذاكر فإلى أين يرحل؟ (وَهُوَ السَّمِيعُ) يسمع دعواكم في نسبة ما هو له ، وقد نسبتموه إليكم (الْعَلِيمُ) بأن الأمر على خلاف ما ادعيتموه. ـ إشارة ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ما أحسنه في الاعتبار! لأن ما تحرك فيه مشاركة الأغيار وما ثم سكون ، ولكن حركة ، وفي الحركة الزيادة والبركة ، فلله ما سكن في الليل والنهار ، وما ثم ساكن في الأغيار ، لا في البصائر ولا في الأبصار ، فلله ما سكن ، وهو له نعم السكن ، ولنا ما تحرك ، وبه نتملك ، فكما يكون مع الحركة البركة الكونية ، فكذلك مع السكون البركة الإلهية ، السكون ثبوت عند الحق ، والحركة خروج.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤)

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الفطر الشق ، فقوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو قوله تعالى : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي فاتق السموات والأرض لتمييزها ، ففتق السموات والأرض بعد رتقهما ليتميزا (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) لا أحقر ممن يسأل أن يطعم لاقامة نشأته ، وإبقاء الحياة الحيوانية عليه ، وعلى قدر الاحتقار يكون الافتقار ، وأي افتقار أعظم ممن لا يكون له ما يريد إلا بغيره لا بنفسه؟ فقوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) تنزيه الحق عن حاجته لذلك وإشارة إلى نقصك وعجزك وافتقارك ، فإن الممكن إذا وجد لا بد من حافظ يحفظ عليه وجوده ، وبذلك الحافظ بقاؤه في الوجود كان ذلك الحافظ ما كان من الأكوان ، فالحفظ خلق لله ، فلذلك نسب الحفظ إليه ، والحق سبحانه غير محفوظ للعبد ، فإنه لا يقبل أن يكون محفوظا. فإنه الصمد الذي لا مثل له ، فقال لنبيه عليه‌السلام ، ما يقوله لمن عبد غير الله ، ينبهم أن كل ما سوى الله من معبود ، يطلب بذاته من يحفظ عليه بقاء وجوده ، فقال له : يا محمد (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ، فاطِرِ السَّماواتِ

٦٧

وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) وقد قرىء الثاني في الشاذ بفتح الياء ، فكل موجود له بقاء في وجوده ، فلا بد من حافظ كياني يحفظ عليه وجوده ، وذلك الحافظ خلق الله ، وهو غذاء هذا المحفوظ عليه الوجود ، فلا تزال عينه وإن تغيرت صورته ما دام الله يغذيه بما به بقاؤه من لطيف وكثيف ، ومما يدرك ومما لا يدرك ـ إشارة ـ قل لسمائك لا تحجب بلطافتها ، ولأرضك لا تحجب بكثافتها ، فإنه لا بد عند تجليه لسمائك من تخلخلها ، ولأرضك من تزلزلها ، فإياك أن تقع في شرك الإشراك ، لعظيم آفات الاشتراك ، والزم الوحدة ، فيها تحصل رفده ومجده.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨)

ـ الوجه الأول ـ أي قهر عباده لما صدر منهم من النزاع ، وأظهر النزاع مخالفة أمر الله ، وأدق ما يكون من الخلاف النزاع الإلهي بإناية العبد ، فإذا زال العبد عن إنايته لم يجد القهار من يقف له فيقهره ، واعلم أن الدعاء لا يقتضي المنازعة حيث أراد ما أراد الله ، فإن الدعاء ذلة وافتقار ، والنزاع رياسة وسلطنة ومن النزاع الخفي الصبر على البلاء ، إذا لم يرفع إزالته إلى الله ، فمن حبس نفسه عند الضر النازل به عن الشكوى إلى الله في رفع ما نزل به ، وصبر مثل هذا الصبر ، فقد قاوم القهر الإلهي ، فإن الله قاهر هذا العبد ، وإن كان محمودا في الطريق ولكن الشكوى إلى الله أعلى منه وأتمّ والقهر الإلهي يخفى بخفاء النزاع ، ويظهر بظهور النزاع ، ومن غفل عن ربه نازع بباطنه ما يجده من الأثر فيه مما يخالف غرضه ، فيجيء القهر الإلهي فيقهره ، فلولا النزاع القائم بنفوس الرعية الذي لو مكنوا من إرساله لوقع منهم ، ما أضيف إلى الرعية أنهم مقهورون تحت سلطان مليكهم ، ومن لم يخطر له شيء من ذلك ، ولم ينازع فما هو مقهور ، ولا الملك له بقاهر ، بل هو به رؤوف رحيم ـ الوجه

٦٨

الثاني ـ هو القاهر بالحجة فوق عباده (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) حيث يظهر على كل صنف بما تقوم به الحجة لله عليهم. واعلم أن صفة الفوقية ونسبتها إلى الله تعالى قد جاء بها الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) وقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) وآيات كثيرة وأحاديث ، وهو معدود من المتشابه ، وذلك لأن (فَوْقَ) كلمة موضوعة لإفادة جهة العلو ، والله تعالى منزه عن الجهات ، وإنما المراد منهما حيث أطلقت في حق ربنا سبحانه إفادة العلو الحقيقي ، ومما يدل على عدم اختصاصه بجهة فوق قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) وآيات كثيرة يطول ذكرها ولو كان في جهة العلو ، تعارضت هذه الآيات واختلفت ، وهو مناف لقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد] فنفى تقيده بجهة فوق ، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، والذي يجمع بين الآيات والأحاديث أن تعلم أن العلو له اعتباران : اعتبار إضافي ، واعتبار حقيقي ، فعلو المخلوقات بعضها على بعض إنما هو علو إضافي ، لأن ما من مخلوق له جهة علو إلا وهو مستفل بالنسبة إلى مخلوق آخر هو فوقه إلّا ما يشاء الله ، وهذا العلو الإضافي قسمان : قسم حسي وهو المفهوم بالنسبة إلى الجهات المكانية المخصوص بالجواهر المفتقرة إلى الحيز ، وقسم معنوي وهو المفهوم بالنسبة إلى درجات الكمال العرفاني لأرباب القلوب أو الكمال الوهمي لأرباب النفوس ، قال تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) هذا كله في العلو الإضافي ، وأما العلو الحقيقي ، فإنما هو لله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وعلوه هذا محقق قبل الجهات والأماكن ، مفهوم بدون النسب والإضافات ، عام في جميع تجلياته على مخلوقاته ، بأسمائه وصفاته ، وإنما يعرفه ويشهده أرباب البصائر والقلوب ، لتجلي نور توحيده بعلو فوقيته ، فإذا أردت أن تحقق أن فوقيته ليست فوقية مكان ، وإنما هي الفوقية الحقيقية بقهر الربوبية للعبودية ، فتفكر في أنه تعالى كان ولا شيء معه ، ولم يتجدد له بخلقه السموات علو ، ولا بخلقه الأرض نزول ، ولا بخلقه العرش استواء ، وإنما عن تجلي أسمائه وصفاته نشأت أعداد مخلوقاته ، غير مماسة له ، ولا منتسبة إليه

٦٩

بفوق ولا تحت ، ولا شيء من الجهات ، قال تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) فوصفه بالأعلى حال اتصافه بالخلق فدل على أن علوه محقق قبل الخلق ، وكذا قال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية. ووصف نفسه آخر الآية بالعلو والتنزه بعد ذكره قبض الأرض وطيه للسماء ، فدل أن علوه حقيقي لا مكاني ، وتأمل قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) مع قول فرعون عن بني إسرائيل : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) فهل يفهم أحد أن فرعون ادعى أنه فوق بني إسرائيل بالمكان أو بالجهة وإنما لما ادعى الربوبية بقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) كان من لازم دعواه ادعاء الفوقية اللائقة بالربوبية ، وهي الفوقية الحقيقية بالقهر فلذلك قال : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ). وبالجملة فالأحاديث الدالة على عموم إحاطة ربنا سبحانه بجميع الجهات وعدم اختصاصه كثيرة ، والقصد حصل بما ذكرنا ، ولا يلزم من الإيمان القول بالجهة ، فلا يلزم الشبه ، الجهة ما وردت ، والفوقية الإلهية قد ثبتت.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩)

لفظة الشيئية لا تنطلق على الحق ، قال عليه‌السلام «كان الله ولا شيء معه» فهذا وصف ذاتي للحق سلب الشيئية عنه ، وسلب معية الشيئية له تعالى ولو تسمى بالشيء لسميناه الشيء فإنه دليل على ذات غير مركبة لكنه لم يرد في الأسماء الإلهية يا شيء ، ولو كان الحق شيئا لجمعته الشيئية مع الأشياء فيقع التماثل فيها ، وهو يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إذا فلا شيئية له فليس هو [شيئا] ، ولا هو لا شيء ، فإن [لا شيء] صفة المعدوم فيماثله المعدوم في أنه لا شيء وهو لا يماثل فليس مثله شيء وليس مثله لا شيء ، ونحن لا نثبت إطلاق لفظة الشيئية على ذات الحق لأنها ماوردت ولا خوطبنا بها والأدب أولى.

٧٠

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠)

وهم الذين قال تعالى عنهم في سورة البقرة : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقوله : (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول : إن الحق أبلج لا لبس فيه لقوة الدلالة عليه ، ولذلك قال : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك ولا لبس فهم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ، فلا يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ، بل يسترونه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ، فهؤلاء جاحدون معاندون.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢٢)

فإن موطن يوم الحشر يعطي عجز العالم عما كان ينسب إليه في موطن الدنيا من الاقتدار عليه.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ

٧١

بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧)

يزيد العالم الشقي من أهل الدنيا حسرة إلى حسرته يوم القيامة ، عند ما يرى خلعة علمه على المؤمن المقلد ، وأنه قد أعطي جهله فيقول : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لعلمهم إذا كانوا مؤمنين ـ وإن كانوا جاهلين ـ أنهم إذا انتقلوا إلى دار السعادة ، خلعت عنهم ثياب الجهل ، وخلع عليهم خلع العلم ، فلا يبالون بما كانوا عليه من الجهل في الدنيا لحسن العاقبة. وما علموا أنهم لو ردوا إلى الدنيا في النشأة التي كانوا عليها لعادوا إلى حكمها ، فإن الفعل بالخاصية لا يتبدل ، فما تكلموا بما تكلموا به من هذا التمني إلا بلسان النشأة التي هم فيها ، وتخيلوا أن ذلك العلم يبقى عليهم ، وما جعل الله في هذه النشأة الدنيا النسيان للعلماء بالشيء فيما قد علموه ، ويعلمون أنهم قد كانوا علموا أمرا ، فيطلبون استحضاره ، فلا يجدونه بعد ما كانوا عالمين به ، إلا إعلاما وتنبيها على أنه على كل شيء قدير ، بأن يسلب عنهم العلم بما كانوا به عالمين إذا دخلوا النار.

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨)

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) البدا هو أن يظهر لهم ما لم يكن ظهر ، ولما قدر الله أن يكونوا أهلا للنار ، وأنه ليس لهم في علم الله دار يعمرونها سوى النار ، قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) حتى يدخلوا النار باستحقاق المخالفة ، إلى أن يظهر سبق الرحمة الغضب ، فيمكثون في النار مخلدين لا يخرجون منها أبدا على الحالة التي قد شاءها الله أن يقيمهم عليها ، ومع هذا العلم الذوقي الذي حصل لهم قيل فيهم : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لأن الله يعلم أن هذه الدار الدنيا جعلها على طبيعة مخصوصة ، وجعل نشأة الإنسان على مزاج يقبل النسيان والغفلة وحب العاجلة ، ويقبل ضد هذا على حسب ما يقام فيه ، فعلم سبحانه أن نشأة هؤلاء الذين عينهم أنهم لو ردوا إلى الدنيا في نشأتهم التي كانوا عليها في الدنيا ، لعادوا إلى نسيان ما كانوا قد علموا ، وجعل على أعينهم غطاء على ما لو شهدوه ، لعلموا الأمر فعملوا له ، فهذا معنى (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لأن النشأة ليست إلا تلك فلو بقي لهم هذا العلم لما عادوا ، ألا ترى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في الصحيح أنه يؤتى

٧٢

في القيامة بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له : «هل رأيت نعيما قط؟ فيقول : لا والله ، ومعلوم أنه رأى نعيما ولكن حجبه شاهد الحال عن ذلك النعيم فينسيه ، وكذلك صاحب البؤس إذا غمس في الجنة غمسة يقال له : هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول : لا والله ما رأيت بؤسا قط ، فكذلك لو ردوا لكانوا بحسب النشأة والحال التي يردون فيها ـ تحقيق ـ (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) أعمى الله أبصارهم ، فمن كتبه الله شقيا لا يسعد ، ومن كتبه سعيدا لا يشقى ولا يبعد.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢٩)

لو لا حشر الأجسام في الآخرة ، لقامت بنفوس الزهاد والعارفين في الآخرة حسرة الفوت ، ولتعذبوا لو كان الاقتصار على الجنات المعنوية لا الحسية ، فخلق الله في الآخرة جنة حسية ، وجنة معنوية وأباح لهم في الجنة الحسية ما تشتهي أنفسهم ، ورفع عنهم ألم الحاجات ، فشهواتهم كالإرادة من الحق ، إذا تعلقت بالمراد تكون ، فما أكل أهل السعادة لدفع ألم الجوع ، ولا شربوا لدفع ألم العطش ، فلهم الجنة الحسية لأجسامهم الطبيعية ، وهم وغير العارفين في هذه الصورة الحسية على السواء ويفوز العارفون بما يزيدون عليهم بجنات المعاني.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١)

ـ نصيحة ـ ما أثقل الظهر ، سوى الوزر ، فلا تضف إلى أثقالك أثقالا ، وكن لرحى ما يراد منك ثقالا ، احذر من الابتداع بسبب الاتباع ، ولا تفرح بالأتباع ، وكن مثل

٧٣

صاحب الصواع ، فإنك لا ينفعك توبتك ولا يزول عنك حوبتك ، واقتصر على ما شرع ، واتبع ولا تبتدع ، وكن مع الله في كل حال ، تحمد العاقبة والمآل.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢)

«وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب» ما أمحن باطن الدنيا ، مساكنها خراب ، وملابسها خرق ، ومناكحها ومراكبها جيف ، ومطاعمها ومشاربها عذرتان ، وليت لو وقف الحال هنا ، ولا يبقى على الإنسان تبعات ذلك في الدار الآخرة ، حين يسأل ، ممن كسبت؟ وفيم أنفقت؟ يسأل عن الفتيل والقطمير ، بل في مثقال ذرة ، الحجة علينا في هذا بينة ، لأنه لو كان خبرا كان بعض عذر ، وإنما هو معاين منا لتغير هذه الأحوال مشاهدة ، والداء العضال والطامة الكبرى والداهية العظمى ، أن النفس في أشر ما تكون فيه من هذه الأحوال ، إن قضى لها به ويعطيها الله مرادها كما شاءت ، تسلب عنه وعن هذه الدار بالموت ، وينقل إلى منزل لا يجد فيه شيئا إلا ما قدمته في دنياها بعمل صالح عملته (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥)

النفق والنفقاء هو الجحر الذي له بابان. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) يقول : إن طلبك الأعداء من جانب خرجت من الجانب الآخر طلبا للسلامة (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فجاء بحرف لو وهو حرف امتناع لامتناع فنكون من أهل باب واحد ،

٧٤

ولكن وقع الأمر الإلهي في العالم بخلاف هذا ، لأن مشيئة الله تعلقت بأن الله لا يجمعهم على الهدى ، للعلم السابق والمشيئة الإلهية ، ليكون الخلاف في الدنيا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ما ثم صفة ولا عقوبة أقبح من الجهل ، فإن الجهل مفتاح كل شر ، ولهذا قال تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ولا ينتهي إلا عن معلوم محقق ، فإنه إن لم يعلم الجهل فلا يدري ما نهى عنه ، وخاطبه بمثل هذا الخطاب لحداثة سنه وقوة شبابه ، فقابله بخطاب قوي في النهي عن ذلك ، وقال تعالى لنوح عليه‌السلام لما لم يكن له قوة الشباب ، وكان قد شاخ وحصل في العمر الذي لا يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة : (فإني (أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فرفق في الخطاب حين وعظه ، فإنه لا بد من الفرق بين خطاب الشباب وخطاب الشيوخ ـ إشارة ـ اعلم أن العلم أشرف حلّة ، وأن الجهل أقبح حلية ، وأن جهنم ليست بدار لشيء من الخير ، كما أن الجنة ليست بدار لشيء من الشر ، وأن الإيمان قد يقوم بقلب من لا علم له بما ينبغي لجلال الله ، وأن العلم بجلال الله وما ينبغي له قد يقوم بمن ليس عنده شيء من الإيمان ، فهذا العالم بعدم الإيمان استحق دار الشقاء ، والجاهل المؤمن استحق دار السعادة ، والدرجات في مقابلة الدركات ، فاعلم أن الله تعالى يسلب العالم المستحق دار الشقاء علمه يوم القيامة كأنه ما علمه ، أو لم يعلم شيئا ، فيتعذب بجهله أشد منه من عذابه بحسّه ، وهو أشده عليه ويخلع علمه على هذا الجاهل المؤمن الذي دخل الجنة بإيمانه ، فنال المؤمن بذلك العلم الذي خلع عن هذا الذي استحق الإقامة بدار الشقاء درجة ما يطلبه ذلك العلم ، فيتنعم به نفسا وجسما وفي الكثيب عند الرؤية ، ويعطى ذلك الكافر جهل هذا المؤمن الجاهل ، فينال بذلك الجهل دركات ذلك من النار ، وتلك أشد حسرة تمر عليه ، فإنه يتذكر ما كان عليه من العلم ولا يعلم ذلك الآن ، ويعلم أنّه سلبه ، ويكشف الله عن بصره حتى يرى مرتبة العلم الذي كان عليه في الجنان ، ويرى حلّة علمه على غيره ممن لم يتعب في تحصيله ، ويطلب شيئا منه في نفسه فلا يقدر عليه ، وينظر هذا المؤمن ويطلع على سواء الجحيم فيرى شر جهله على ذلك العالم الذي ليس بمؤمن فيزيد نعيما وفرحا فتحقق قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقوله تعالى : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) نفعنا الله بالعلم وجعلنا من أهله ولا يجعلنا ممن يسعى بخيره في حق غيره ويشقى آمين بعزته.

٧٥

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦)

فأثنى عليهم لما سمعوا داعيه بالإجابة التي أمرهم بها سبحانه في قوله : (يا قومنا أجيبوا داعي الله) وكرامة عنده سبحانه وتعالى إجابته لهم إذا دعوه ، لارتباط الحكمة في المناسبة ، فلا يجاب إلا من يجيب ، ألا تراه سبحانه وتعالى كيف قال : (أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي) فإذا صحت لهؤلاء الإجابة لما دعاهم إليه ، وهو حقيقة السماع ، صحّ لهم إجابته إذا دعوه ، والله ذو الفضل العظيم. وجعل تعالى علة الإجابة السماع ، لا من قال إنه سمع وهو لم يسمع ، كما قال تعالى ينهانا أن نكون مثل هؤلاء فقال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) فالسمع هنا هو عين العقل لما أدركته الأذن بسمعها من الذي جاء به المترجم عن الله تعالى ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، فإذا علم ما سمع ، كان بحسب ما علم ، فإن العلم حاكم قاهر في حكمه لا بد من ذلك ، وإن لم يكن كذلك فليس بعلم ، وقد دعانا الله لما خلقنا له من عبادته فسمعنا ولما سمعنا استجبنا ، فأخبر الله عنا بسرعة الإجابة لما ذكرها ببنية الاستفعال ، وهنا نكتة وسر دقيق ، فهذه الآية تشير إلى شمول رحمة الله بخلقه فأخبر أنه ما استجاب إلا من سمع فوجد العذر من لم يسمع ، كما وجد العذر من لم تبلغه الدعوة الإلهية ، فحكمه حكم من لم يبعث الله إليه رسولا ، وهو تعالى يقول : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وما هو رسول لمن أرسل إليه حتى يؤدي رسالته ، فإذا سمع المرسل إليه أجاب ولا بد ، كما أخبر الله تعالى عنه لما جاء به هذا الرسول في رسالته ، فإذا رأينا من لم يجب علمنا بإخبار الله أنه ما سمع ، فأقام الله له حجة يحتج بها يوم يجمع الله الرسل ، وما أقام الله العذر عن عباده إلا وفي نفسه أن يرحمهم ، فرحم بعض الناس بما أسمعهم فاستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ، ومن لم يستجب اعتذر الله عنه بأنه لم يسمع ، وهذا من حكم الغيرة الإلهية على الألوهة أن يقاومها أحد من عباده بخلاف ما دعت إليه ، إذ لو علم أنهم سمعوا وما استجابوا لعظّمهم في أعين الناس ، وجعلهم في مقام المقاومة له ، فلا تقل فيمن لم يجب إنه سمع فتخالف الله فيما أخبر عنهم ، وقد أخبر الله تعالى عنهم أن بهم صمما وأخبر عنهم أنهم قالوا : في آذاننا وقر ، فطابق قولهم في آذاننا وقر قول الله أنهم صم ، فلم يسمعوا.

٧٦

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨)

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في كل شيء ، أي كما انطلق عليكم اسم الأمة ، كذلك ينطلق اسم الأمة على كل دابة وطائر يطير بجناحيه ، فما من شيء في الوجود إلا وهو أمة من الأمم ، والأمثال هم الذين يشتركون في صفات النفس ، فكلهم حيوان ناطق. واعلم أن الأمثال معقولة لا موجودة ، فتطلق المثلية من حيث الحقيقة الجامعة المعقولة ، لا الموجودة ، فإن التوسع الإلهي يقتضي أن لا مثل في الأعيان الموجودة ، وأن المثلية أمر معقول متوهم ، فإنه لو كانت المثلية صحيحة ما امتاز شيء عن شيء مما يقال هو مثله ، فإن الأصل الذي نرجع إليه في وجودنا وهو الله تعالى ، ليس كمثله شيء ، فلا يكون ما يوجد عنه إلا على حقيقة أنه لا مثل له ، فكل جوهر فرد في العالم لا يقبل المثل ، فما في الوجود شيء له مثل ، بل كل موجود متميز عن غيره بحقيقة هو عليها في ذاته ، فإن أطلقت المثلية على الأشياء أطلقت عرفا ، ولم تبق المثلية الواردة في القرآن وغيره إلا في الافتقار إلى الله موجد أعيان الأشياء ، ثم قال تعالى في هذه الأمم : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يعني كما تحشرون أنتم ، قال تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) فإنها أمم أمثالنا ، وقال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فهو الجامع لكل شيء ، وهو القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فبالقرآن يكشف جميع ما في الكتب المنزلة من العلوم ، وفيه ما ليس فيها ، فمن أوتي القرآن فقد أوتي الضياء الكامل الذي يتضمن كل علم ، وبه صحّ لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوامع الكلم ، فعلوم الأنبياء والملائكة وكل لسان علم ، فإن القرآن يتضمنه ويوضحه لأهل القرآن ، فمن أعطي القرآن فقد أعطي العلم الكامل وهذا يعني أنه قد حوى جميع المعارف وأحاط بما في العلم الإلهي من المواقف وإن لم تتناه ، فقد أحاط علما بها ، وأنها لا تتناهى ، فالمريد من يجد في القرآن كل ما يريد ، وهذا لا يكون إلا إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند تلاوته ، فإن القرآن هو الجامع. واعلم أن الولي

٧٧

لا يتعدى كشفه في العلوم الإلهية فوق ما يعطيه كتاب نبيه ووحيه ، قال الجنيد في هذا المقام : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، وقال الآخر : كل فتح لا يشهد له الكتاب والسنة فليس بشيء. فلا يفتح لولي قط إلا في الفهم في الكتاب العزيز ، لهذا قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فلا يخرج علم الولي جملة واحدة عن الكتاب والسنة ، فإن خرج أحد عن ذلك فليس بعلم ، ولا علم ولاية معا ، بل إذا حققته وجدته جهلا ، والجهل عدم ، والعلم وجود محقق ، فالولي لا يأمر أبدا بعلم فيه تشريع ناسخ لشرعه ، ولكن قد يلهم لترتيب صورة لا عين لها في الشرع من حيث مجموعها ، ولكن من حيث تفصيل كل جزء منها وجدته أمرا مشروعا ، فهو تركيب أمور مشروعة ، أضاف بعضها إلى بعض هذا الولي ، أو أضيفت إليه بطريق الإلقاء فظهر بصورة لم تظهر في الشرع بجمعيتها. فهذا القدر له من التشريع ، وما خرج بهذا الفعل من الشرع المكلف به ، فإن الشارع قد شرع له أن يشرع مثل هذا ، فما شرع إلا عن أمر الشارع ، فما خرج عن أمره ، فمثل هذا قد يؤمر به الولي ، وأما خلاف هذا فلا. فإن قلت وأين جعل الله للولي العالم ذلك بلسان الشرع؟ قلنا : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا». فقد سن له أن يسن ، ولكن مما لا يخالف فيه شرعا مشروعا ، ليحلّ به ما حرم أو يحرم به ما حلل.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠)

أي إن صدقتم ولا تكتمون ما تجدونه في نفوسكم من قولي إنكم ما تدعون في الشدائد إلا الله ، الذي ما زالت قلوبكم منطوية عليه ، فهم بلا شك مصدقون لعلمهم فهل يصدقون إذا سئلوا أم لا.

٧٨

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١)

ـ الوجه الأول ـ وتنسون ما تشركون أي تتركون الشرك. وهذه شهادة من الله تعالى على نفسه لنا في دار التكليف بتوحيده في المهمات ، وهو قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ)؟ فما دعا أحد من الخلق في حال شدته إلا الله ، ولو لم يكن في علمه في حال الرخاء أن حلّ الشدائد بيد الله خاصة ـ وهذا هو التوحيد ـ ما أظهر ذلك الاعتقاد عند الشدائد ، فلم يزل المشرك موحدا بشهادة الله في حال الرخاء والشدة ، غير أن المشرك في حال الرخاء لا يظهر عليه علم من أعلام التوحيد الذي هو معتقده ، فإذا اضطر رجع إلى علمه بتوحيد خالقه ، ولم يظهر عليه علم من أعلام الشرك ، وكل ذلك في دار التكليف ، وأكثر العلماء غائبون عن هذا الفضل الإلهي ـ الوجه الثاني ـ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) هل تدعون الشريك لعينه؟ لا والله إلا لكونه في اعتقادكم إلها ، فالله دعوتم لا تلك الصورة ، ولهذا أجيب دعاؤكم ، والصورة لا تضر ولا تنفع ، انظر في قوله : (سَمُّوهُمْ) فإن سموهم بهم فهم عينهم ، فلا يقولون في معبودهم حجر ولا شجر ولا كوكب ، ينحته بيده ثم يعبده ، فما عبده وجوهره والصورة من عمله وإنما سموهم بالإله فما عبدوا إلا الله ، وقد أشار إلى ذلك الآية الواردة في القرآن بقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وهو عندنا بمعنى حكم ، وعند من لا علم له بالحقائق بمعنى أمر ، فأين يذهب العبد إن أتاه عذاب الله فإن أمره تعالى مسموع.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣)

«وزين لهم الشيطان أعمالهم» تنبيه على الأدب ، ويضاف إلى الشيطان إذ جرى عليه لسان الذم من الله تعالى تنزيها لجنابه (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) وهو قول الله تعالى : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).

٧٩

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ

٨٠