رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

(١١) سورة هود مكيّة

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شيبتني هود وأخواتها من كل سورة فيها ذكر الاستقامة ، فإنه والمؤمنين مأمور بها والحكم للعلم الإلهي لا للأمر ، ولم يكن شيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكثير ، وإنما كان شعرات معدودة ، لم تبلغ العشرين متفرقة لعلمه بالأمر على ما هو عليه.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١)

وقال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) قرآنا عربيا لقوم يعقلون) إحكام الآيات فيه وتفصيلها ، لا يعرفه إلا من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وصورة الحكمة التي أعطاها الحكيم الخبير لأهل العناية على مراتب الأمور ، وما تستحقه الموجودات والمعلومات من الحق الذي هو لها ، وهو إعطاء كل شيء خلقه إعطاء إلهيا ليعطي كل خلق حقه إعطاء كونيا ، بما آتانا الله فنعلم بالقوة ما يستحقه كل موجود في الحدود ، ونفصله بعد ذلك آيات بالفعل لمن يعقل كما أعطاه الخبير الحكيم ، فننزل الأمور منازلها ، ونعطيها حقها ولا نتعدى بها مراتبها ، فتفصيل الآيات والدلالات من المفصّل إذا جعلها في أماكنها بهذا الشرط (لأنه ما كل مفصّل حكيم) دليل على أنّه قد أوتي الحكمة ، وعلم إحكام الآيات ورحمته بالآيات والموجودات التي هي الكتاب الإلهي ، وليس إلا العالم الذي هو كتاب مسطور في رق منشور ، وهو الوجود ، دليل على علمه بمن أنزله ، وليس إلا الرحمن الرحيم. وخاتمة الأمر ليست سوى عين سوابقها ، وسوابقها الرحمن الرحيم ، فمن هنا تعلم مراتب العالم ومآله ، أنه إلى الرحمة المطلقة وإن تعب في الطريق ، وأدركه العناء والمشقة ، فمن

٣٢١

الناس من ينال الرحمة والراحة بنفس ما يدخل المنزل الذي وصل إليه ، وهم أهل الجنة ومنهم من يبقى معه تعب الطريق ومشقته ونصبه بحسب مزاجه ، وربما مرض واعتل زمانا ثم انتقل من دائه ، واستراح وهم أهل النار الذين هم أهلها ، ما هم الذين خرجوا منها إلى الجنة فمستهم النار بقدر خطاياهم ، مع كونهم أماتهم الله فيها إماتة فإن أولئك ليست النار منزلا لهم يعمرونه ، ويقيمون فيه مع أهليهم ، وإنما النار لهؤلاء منهل من المناهل التي ينزلها المسافر في طريقه حتى يصل منزله الذي فيه أهله ، فهذا معنى الحكمة والتفصيل من لدن حكيم خبير لمن أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وليس إلا الرسل والورثة خاصة.

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣)

قال الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل رسول : أن يقول لنا (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) ولا خوف علينا إلا منا ، فإن أعمالنا ترد علينا.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) جميعا يعني مرجع اليوم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

٣٢٢

فأعلم سبحانه الإنسان أنه يرزقه ولا بد سواء كان كافرا أو مؤمنا لكونه حيوانا ، ولكن ما قال له : متى ولا من أين؟ فما عيّن الزمان ولا السبب ، بل أعلمه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، لذلك اضطرب من اضطرب لبشريته وإحساسه بألم الفقد وعدم الصبر ، فإنه ما يدري عند فقد السبب المعتاد لحصول الرزق وعند وجوده ، هل فرغ وجاء أجله أم لا ، فيكون فزعه واضطرابه من الموت ، وإن كان لم يفرغ رزقه في علم الله ، فيكون اضطرابه لجهله بوقت حصول الرزق بانقطاع السبب ، لأنه علم أنّ الله بحكمته ربط المسببات بالأسباب ، فيخاف من طول المدة وألم الجوع المتوقع ، وهذا كله لضعف نفسه واضطراب إيمانه وركونه إلى الأسباب والاعتماد عليها ، كما يضطرب في صدق وعده تبارك وتعالى في الرزق مع قسمه سبحانه عليه لعباده فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

قال تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ) هذا العرش عرش الهوية ، فإنه تعالى أضافه إلى الهوية وهو عرش الحياة ، فأظهر الحياة فيكم ، ففلك الحياة اسم الأسماء ومقدمها وبه كانت (عَلَى الْماءِ) ـ الوجه الأول ـ على هنا بمعنى في ، أي : كان العرش في الماء كما أن الإنسان في الماء أي منه تكون ، فإن الماء أصل الموجودات كلها ، وهو عرش الحياة الإلهية ، ومن الماء خلق الله كل شيء حي ، وكل ما سوى الله حي ، فإن كل ما سوى الله مسبح بحمد الله ، ولا يكون التسبيح إلا من حي ، فالعرش هنا عبارة عن الملك ، وكان حرف وجودي فمعناه أن الملك موجود في الماء ، أي الماء أصل ظهور عينه ، فهو للملك كالهيولى ظهر فيه صور العالم الذي هو ملك الله ـ الوجه الثاني ـ كان أول اسم كتبه القلم الأسمى في اللوح المحفوظ المصون دون غيره من الأسماء إني أريد أن أخلق من أجلك يا محمد العالم الذي هو ملكك ،

٣٢٣

فأخلق جوهرة الماء ، فخلقتها دون حجاب العزة الأحمى ، وأنا على ما كنت عليه ولا شيء معي في عما ، فخلق الماء سبحانه بردة جامدة كالجوهرة في الاستدارة والبياض ، وأودع فيها بالقوة ذوات الأجسام وذوات الأعراض ، ثم خلق العرش واستوى عليه اسمه الرحمن ، ونصب الكرسي وتدلت إليه القدمان ، فنظر بعين الجلال إلى تلك الجوهرة فذابت حياء وتحلّلت أجزاؤها فسالت ماء ، وكان عرشه على ذلك الماء ، قبل وجود الأرض والسماء ، وليس في الوجود إذ ذاك إلا حقائق المستوى عليه والمستوي والاستواء ، فأرسل النفس فتموج الماء من زعزعه وأزبد ، وصوّت بحمد الحمد المحمود الحق عند ما ضرب بساحل العرش ، فاهتز الساق وقال له : أنا أحمد ، فخجل الماء ورجع القهقرى يريد ثبجه ، وترك زبده بالساحل الذي أنتجه ، فهو مخضة ذلك الماء ، الحاوي على أكثر الأشياء ، فأنشأ سبحانه من ذلك الزبد الأرض ، مستديرة النشء مدحية الطول والعرض ، ثم أنشأ الدخان من نار احتكاك الأرض عند فتقها ، ففتق فيه السموات العلى ، وجعلها محلّ الأنوار ومنازل الملأ الأعلى ، وقابل بنجومها المزينة لها النيرات ، ما زيّن به الأرض من أزهار ونبات (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) لما كان العرش على الماء قبل الحياة بذاته فإن الله تعالى جعل من الماء كل شيء حي ، ولما كان الماء أصل الحياة وكل شيء حي ، قرن بين العرش المجعول على الماء وبين خلقه الموت والحياة في الابتلاء ، فقال : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ) أي يختبركم ، وقال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) فالحياة للأعيان ، والموت للنسب ، فظهور الروح للجسم حياة ذلك الجسم ، وغيبة الروح عن الجسم زوال الحياة من ذلك الجسم ، وهو الموت ، والابتلاء فتنة. فإبليس ما له نظر إلا في الأوضاع الإلهية الحقيقية ، فيقيم في الخيال أمثلتها ليقال : هي عينها فيغتر بها من نظر إليها ، وما ثمّ شيء كما فعل بابن صياد حيث وضع إبليس عرشه على الماء ، لما علم أن العرش الرحماني على الماء ، يلبّس بذلك على الناس أنه الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن صياد : [ما ترى؟ قال : أرى عرشا على البحر فقال : ذلك عرش إبليس] فإن الله قد أعطى إبليس السلطنة على خيال الإنسان ، فيخيل إليه ما يشاء ، فإذا وضع عرشه على الماء ، بعث سراياه شرقا وغربا وجنوبا وشمالا إلى قلوب بني آدم ، إلى الكافر ليثبت على كفره وإلى المؤمن ليرجع عن إيمانه ، وأدناهم من إبليس منزلة أعظمهم فتنة ، فنعوذ بالله من الخذلان فقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

٣٢٤

بالتكليف ، وجعل الحق الاختبار تمحيص عباده ، فكان ابتلاء مدرجا في نعمة ، أو نعمة مدرجة في ابتلاء ، مثل خلق الحياة والموت ، فأحسن المؤمنون فربحوا ، ولم يحسن الكفار فخسروا. ـ إشارة ـ بالماء حياة الأحياء ، لما فيه من سرّ الإحياء ، جعل الله من الماء كل شيء حي فكان عرشه على الماء ، قبل الاستواء ، ثم استوى عليه ، وأضاف ما أحاط به إليه ، فهو بكل شيء محيط من مركب وبسيط ، وعلم وجيز وبسيط ووسيط ، استوى عليه اسم الرحمن ، وعمّ حكمه الإنس والجان (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣)

للقرآن سور هي منازله ، وله آيات هي دلائله ، وفيه كلمات هي صوره ، وله حروف هي جواهره ودرره ، فالحرف ظرف لمن هي منعوتة بقاصرة الطرف ، والكلمات في الكلام كالمقصورات في الخيام ، فلا تعجز لمفهوم الإشارات ، ولا تعجز عن مدلول العبارات ، فما وقع الإعجاز ، إلا بتقديسه عن المجاز ، فكلّه صدق ، ومدلول كلمه حق ، والأمر ما

٣٢٥

به خفاء ، وإن كان في نسبة المناسبة للطلب بالإتيان بسور مثله جفاء ، فما أرسل رسول إلا بلسان قومه فتأمل ، فللمنزل الأين ، وللمنزلة العين ، فالأمر والشان ، في المكانة والمكان ، والنازل من معناه في منزلته ، وفي منزله من حيث صورته.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤)

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) يعني المدعوين (لَكُمْ) يعني الداعين (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) فالضمير في فاعلموا يعود على الداعين ، وهم عالمون بأنه انما أنزل بعلم الله ، ولو أراد المدعين لقال : فليعلموا بالياء كما قال : يستجيبوا بياء الغيبة ، ثم قال : (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله إلا هو كما علمتم ، أنه أنّما أنزل بعلم الله ، ثم قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقد كانوا مسلمين ، وهذا كله خطاب للداعين إن كانت هل على بابها ، وإن كانت مثل ما هي في قوله (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) اعتمادا على قرينة الحال فأخرجت عن الاستفهام ، وإلا فما هذا خطاب الداعين ، إلا أن يكون مثل قولهم : إياك أعني فاسمعي يا جارة. وحكمة ذلك مقابلة الإعراض بالإعراض ، لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الداعين ، فأعرض الله عنهم ، بالخطاب ، والمراد به هم فأسمعهم في غيرهم ، وأما فائدة العلم في ذلك فهي أن تقول لما علم الله أن قوما لا يؤمنون ارتفعت الفائدة في خطابهم ، وكان خطابهم عبثا ، فأخبرهم الله تعالى أن نزول الخطاب بالدعوة لمن ليس يقبله في علم الله ، أنما نزل بعلم الله أي سبق في علم الله إنزاله فلا بد من إنزاله ، فكما هو واحد في ألوهيته ، هو واحد في أمره ، فما أنزل إلا بعلم الله سواء نفذ أو لم ينفذ.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (١٥)

اعلم أن الحياة الدنيا ليست غير نعيمها ، فمن فاته من نعيمها شيء فما وفيت له ، وقوله تعالى : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) فوصف الله نفسه بأنّه يوفي كل أحد عمله أي أجرة عمله في الزمان الذي يريدها فيه ، وما ذكر الله إلا توفية العمل ، فهو نعيم العمل (وَهُمْ فِيها لا

٣٢٦

يُبْخَسُونَ) لا يبخسه من ذلك شيئا ، فقد حبط عمله إن كانت إرادته الحياة الدنيا ، فلا حظّ له في الآخرة التي هي الجنة ، أو النعيم الذي ينتجه العمل لأنه قد استوفاه في الدنيا ، فإن كان العبد ممن يريد الحياة الدنيا ، ونقصه من ذلك نفس واحد ، لم ينعم به فليس هو ممن وفّى الله له فيها عمله ، لأنه ما مكنه من كل ما تعلقت به إرادته في الحياة الدنيا ، وهل يتصور وجود هذا مع قرصة البرغوث والعثرة المؤلمة في الطريق أو لا؟ فالآية تتضمن الأمرين ، وهي في الواحد المحال وقوعه في الوجود أظهر ، فإنه بعيد أن لا يتألم أحد في الدنيا ، فمن أراد الحياة الدنيا فقد أراد المحال ، فلو صحّ أن يقع هذا المراد ، لكان إرادة ما يلايم طبعه ويحصل غرضه ، وهي الإرادة الطبيعية الأصلية ، فإن الله تعالى وصف نفسه بأنه لا يبخس أحدا في مراده ، كان المراد ما كان لكنه ليس بواقع ، وأما الأمر الآخر فإنه إذا تألم مثلا بقرصة البرغوث إلى ما فوق ذلك من أكبر أو أصغر ، فإن كان مؤمنا ، فله عليه ثواب في الآخرة ، فيكون لهذا المريد الحياة الدنيا ، يعطيه الله ذلك الثواب في الدنيا معجلا فينعم به ، وإن لم يكن مؤمنا بالدار الآخرة وفّاه الله ما يطلبه ذلك العمل في الحياة الدنيا ، وأما المؤمن فيعطيه نعيم العمل وصبره الذي ذكرناه على العثرة في محلّ التكليف وقرصة البرغوث ، فما أعطى الله أحدا الحياة الدنيا مخلصة قط ، ولا هو واقع ، ولو وقع له كل مراد ، لكان أسعد الخلق ، فإنه من إرادته النجاة والبشرى من الله تعالى له بها ، وإن لم يكن مؤمنا فما وقع المشروط وقوع عموم الشرط.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧)

٣٢٧

اعلم أن بينة الله في عباده على قسمين : القسم الواحد هو البينة الحقيقية ، وهو قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني في نفسه ، والبينة هنا الهدى ، وأما من تقام له البينة في غيره فقد يمكن أن يقبلها ، ويمكن أن لا يقبلها والذي يقبلها إن قبلها تقليدا ، لم تكن في حقّه آية بينة ولا تنفعه ، وإنما يكون التقليد فيما يجيء به الرسول من الأحكام لا من البينات والشواهد على صدقه ، وإن لم يقبلها تقليدا ، فما قبلها إلا أن يكون هو على بينة من ربه في أن تلك آية بينة على صدق دعوى من ظهرت على يديه فيما ادعاه. واعلم أن الأمر الذي كنى عنه الحق ، بأنه بينة لك من عنده هو سفير من الله إلى قلبك من خفي غيوبه مختص بك من حضرة الخطاب الإلهي والتعريف من الله أنه من عنده ، ومن كان على بينة من ربه فقد سعد وارتفع الإشكال ، ولا بد للبينة التي يكون عليها أن تكون بينة له (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) الشاهد حصول صورة المشهود في النفس عند الشهود ، فيعطي خلاف ما تعطيه الرؤية فإن الرؤية لا يتقدمها علم بالمرئي ، والشهود يتقدمه علم بالمشهود ، وهو المسمى بالعقائد ، ولهذا يقع الإقرار والإنكار في الشهود ، ولا يكون في الرؤية إلا الإقرار وليس فيها إنكار ، وإنما سمي شاهدا لأنه يشهد له ما رآه بصحة ما اعتقده ، فكل مشاهدة رؤية ، وما كل رؤية مشاهدة ، وفي هذه الآية وجوه كلها مقصودة لله ، فيكون العبد على كشف من الله لما يريده به أو منه ، وذلك لا يكون إلا بإخبار إلهي وإعلام بالشيء قبل وقوعه ، وقد يكون الشاهد الذي يتلوه منه هو ما يوافقه على ذلك من النفوس التي كشف الله لها عن ذلك ، وقد يكون أي شاهد يشهد له بصدق البيند التي هو عليها ، فإنه مهما تخلّق العبد باسم ما من الأسماء ، فشاهد حاله يشهد بتصحيح أو بفساد شواهد الأحوال ، فإن من قام به توفيق في أمر من الأمور المطلوبة بالسعادة وغيرها فشاهده يصدّق دعواه أو يكذبها ، وشواهد الأحوال على ضربين : ضرب يقوم بذات صاحب الدعوى ، وضرب يقوم بذات غيره مقارنا لدعواه ، فالمنوط به كصفرة الوجل وحمرة الخجل وترك الاعتراض على الله تعالى في أحكامه ، والصبر إذا نالته المصائب في حق من ادعى أنه في مقام الرضا بالقضا والتسليم لمجاري القدرة على الإطلاق ، والضرب الثاني ينبىء عن ذاته القائم بذات غيره ، كتحدثه بانفصال كون ما معيّن عنه بهيئته وهو ساكت ، ويكون ذلك على نوعين : إما بأن يجوز أن يوصل إليه بحيلة ما حتى يقع ذلك ولم تعلم هذه الحيلة من هذا المدّعي لقرينة

٣٢٨

حال صحت عند المشاهدة المتقدمة به ، وإما أن يكون خارجا عن مقدور البشر ، فهذه شواهد الأحوال محصورة وقد يكون الشاهد منه بصدق اتباعه ، وهو اتباعه سنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما شرع لنا ، لم يخل بشيء منها ولا ارتكب مخالفة بتحليل ما حرم الله أو تحريم ما حلّل ، فإن لله عبادا عملوا على إيمانهم ، وصدقوا الله في أحوالهم ، ففتح الله أعين بصائرهم ، وتجلّى لهم في سرائرهم فعرفوه على الشهود ، وكانوا في معرفتهم تلك على بصيرة وبينة وشاهد منهم ، وهو الرسول المبعوث إليهم ، فإنّ الله جعل الرسل شهداء على أممهم ولأممهم ، فمع كون هذا المؤمن على بينة من ربه حين تجلى له ، تلاه في تلك الحال شاهد منه وهو الرسول ، فأقامه له في الشهود مرآة فقال له : هذا الذي جئتك من عنده ، فلما أبصره ما أنكره بعد ذلك مع اختلاف صور التجلي ـ إشارة ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ما يراه أهل الله من التجلي في الأسماء الإلهية ، هل يقف مع رؤيته أو يتوقف حتى يقوم له شاهد من كتاب أو سنة؟ فقوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو صاحب الرؤية (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) هو ما ذكرناه من العمل على الخبر إما كتاب أو سنة ، وهو الشاهد الواحد ، والشاهدان الكتاب والسنة ، وإنما احتجنا إلى العمل عليهما دون العثور على النقل الذي يشهد لصاحب هذا المقام ، لأن ذلك يتعذر إلا بخرق العادة ، وهو أن يعرّف من هناك بآية الدليل أو الخبر.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي

٣٢٩

الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٩)

العمل يقتضي الأجرة لذاته ، وهي العوض في مقابلة ما أعطى من نفسه ، وما بقي إلا ممن يؤخذ فما من نبي ولا رسول إلا قد قال إذ قيل له : قل : فأمر فقال «لا أسئلكم عليه من أجر» من مال يعني في التبليغ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فما خرجوا عن الأجرة ، والتبليغ عن الله أفضل القرب إلى الله ، وإن الله استخدمه في التبليغ من كونه عبدا ، فتعينت عليه الأجرة سبحانه بتعيينه عوضا مما أعطاه من نفسه ، فيما استخدمه فيه وترك مباحه الذي هو له وتخييره ـ تحقيق ـ اعلم أن الإنسان مع الحق على حالين : حالة عبودية ، وحالة إجارة ، فمن كونه عبدا يكون مكلفا بالفرض كالصلاة المفروضة ، والزكاة وجميع الفرائض ، لا اجر له عليها جملة واحدة في أداء فرضه ، فإن العبد فرض عليه طاعة سيده

٣٣٠

بل له ما يمتنّ به عليه سيده من النعم التي هي أفضل من الأجور لا على جهة الأجر ، ثم انّ الله تعالى ندبه إلى عبادته في أمور ليست عليه فرضا ، فعلى تلك الأعمال المندوب إليها فرضت الأجور ، فإن تقرب العبد بها إلى سيده أعطاه إجارته عليها ، وإن لم يتقرب لم يطلب بها ، ولا عوتب عليها فمن هنا كان العبد حكمه حكم الأجنبي في الإجارة ، فالفرض له الجزاء الذي يقابله ، فإنه العهد الذي بين الله وعباده ، والنوافل لها الأجور ، والعلة في ذلك أن المتنفل عبد اختيار كالأجير ، فإذا اختار الإنسان أن يكون عبدا لله ، لا عبد هواه فقد آثر الله على هواه ، وهو في الفرائض عبد اضطرار ، لا عبد اختيار فتلك العبودية أوجبت عليه خدمة سيده ، فيما افترضه عليه ، فبين الإنسان في عبوديته الاضطرارية ، وبين عبوديته الاختيارية ما بين الأجير والعبد المملوك ، فالعبد الأصلي ما له على سيده استحقاق إلا ما لا بد منه ، يأكل من سيده ، ويلبس من سيده ، ويقوم بواجبات مقامه ، فلا يزال في دار سيده ليلا ونهارا لا يبرح إلا إذا وجهه في شغله ، فهو في الدنيا مع الله وفي القيامة مع الله وفي الجنة مع الله ، فإنها جميعها ملك سيده ، فيتصرف فيها تصرف الملّاك ، والأجير ما له سوى ما عيّن له من الأجرة ، منها نفقته وكسوته ، وما له دخول على حرم سيده ومؤجره ولا الاطلاع على أسراره ، ولا تصرف في ملكه إلا بقدر ما استؤجر عليه ، فإذا انقضت مدة إجارته ، وأخذ أجرته فارق مؤجره ، واشتغل بأهله وليس له من هذا الوجه حقيقة ولا نسبة تطلب من استأجره ، إلا أنّ يمنّ عليه رب المال بأن يبعث خلفه ، ويجالسه ويخلع عليه ، فذلك من باب المنة ، وقد ارتفعت عنه في الدار الآخرة عبودية الاختيار ، فمن أي مقام قالت الأنبياء ـ مع كونهم عبيدا مخلصين له لم يملكهم هوى أنفسهم ولا أحد من خلق الله ومع هذا قالوا ـ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ)؟ فيعلم أن ذلك راجع إلى دخولهم تحت حكم الأسماء الإلهية ، فمن هناك وقعت الإجارة ، فهم في الاضطرار والحقيقة عبيد الذات ، وهم لها ملك ، وصارت الأسماء الإلهية تطلبهم لظهور آثارها فيهم ، فلهم الاختيار في الدخول تحت أي اسم إلهي شاؤوا ، وقد علمت الأسماء الإلهية ذلك ، فعينت لهم الأسماء الإلهية الأجور ، يطلب كل اسم إلهي من هذا العبد الذاتي أن يؤثره على غيره من الأسماء الإلهية بخدمته ، فيقول له : ادخل تحت أمري ، وأنا أعطيك كذا وكذا ، فلا يزال في خدمة ذلك الاسم حتى يناديه السيد من حيث عبودية الذات ، فيترك كل اسم إلهي ، ويقوم لدعوة

٣٣١

سيده ، فإذا فعل ما أمره به حينئذ ، رجع إلى أي اسم شاء ، فإذا رأى العبد ملهوفا ، فأغاثه فيعلم أنه تحت تسخير الاسم المغيث ، فيكون له من المغيث ما عيّن له في ذلك من الأجر ، وإذا رأى ضعيفا في نفسه ، فتلطف به كان تحت تسخير الاسم اللطيف ، وكذلك ما بقي من الأسماء ، فتحقق يا ولي كيف تخدم ربك وسيدك ولكن على علم صحيح في نفسك وفي سيدك ، تكن من العلماء الراسخين في العلم الحكماء الإلهيين ، وتفز بالدرجة القصوى والمكانة العليا مع الرسل والأنبياء.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ

٣٣٢

وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٩)

فهذا استهزاء جزاء وقد خلّصه بالاستقبال بقوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهو يوم القيامة

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (٤٢)

جمع لنوح عليه‌السلام في الهلاك بين المائين ماء الأرض وماء السماء ، ولم تزل تجري بهم السفينة في موج كالجبال ، ونوح عليه‌السلام ينادي ابنه ، وكان في معزل يا بني : اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣)

والابن ينادي قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه‌السلام : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) وهم أهل السفينة فإن دعاءه (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) سبقت وأجيبت ، فغرق من آوى إلى الجبل وكل من لم يكن في السفينة وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ـ إشارة ـ (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ... وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) ـ إشارة ـ (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ... وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) هذا حال ومآل من اتخذ غير الله مستندا.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ

٣٣٣

وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

(وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهم الذين سخروا ـ إشارة ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ) فارتفعت الأنواء (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وظهر في النجاة السر (وَاسْتَوَتْ) سفينة نوح عند ما أقلعت السماء وأشرقت يوح (عَلَى الْجُودِيِّ) على جودي الجود ، لتتم كلمة الوجود بوالد ومولود إلى اليوم الموعود ، فإنه لو انقطع الأصل ، لانقطع النسل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). ـ إشارة ـ من اعتصم بغير الحق هلك ، ولم تنفعه شفاعة الشافعين ، قال العمل غير الصالح (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) فأصبح من المغرقين ، ثم جاء النداء من الغيب من الهواء فإنه لم يذكر المنادي نفسه فيه وجاء بالقول دون النداء للقرب (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فبلعت الأرض ماءها وأقلعت السماء (وَغِيضَ الْماءُ) وانتقص الماء (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ) سفينة النجاة (عَلَى الْجُودِيِّ) إشارة إلى الجود الإلهي.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) (٤٥)

(وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) بفصل قضائه.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)

فعلّمه سبحانه الأدب ، وأن من الأدب أن لا تسأل عن علم ما لا يعلم ، فإذا علم فإن كان من أهل الشفاعة والسؤال فيه ، سأل فيه وإن لم يكن لم يسأل فيه ، ولكن غلبت عليه رحمة الأبوة ، وهي شفقة طبيعية عنصرية فصرفها في غير موطنها ، فأعلمه الله أن ذلك من صفات الجاهلين ، وفي هذه الآية تعليم لنا وأدب إلهي في مخاطبة الشيوخ ، قال تعالى لنوح عليه‌السلام : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) وكان قد شاخ وحصل في العمر

٣٣٤

الذي لا يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة ، فرفق به في قوله : (أَعِظُكَ) لشيخوخته وكبر سنه ، ومخاطبة الشيوخ ، لها حد ووصف معلوم ، ومخاطبات الشباب لها حد معلوم ، قال تعالى في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) فأين ذلك اللطف من هذا القهر؟ فذلك لضعف الشيخوخة وذا لقوة الشباب ، وأين مرتبة الخمسين سنة من رتبة خمسمائة وأزيد؟ فوقع الخطاب ، على الحالات في أول الرسل ، وهو نوح عليه‌السلام وفي آخرهم وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إشارة ـ الجهل لا يكون معه خير ، كما أن العلم لا يكون معه شر ، وأعظم المعاصي ما يميت القلوب ، ولا تموت إلا بعدم العلم بالله ، وهو المسمى بالجهل ، لأن القلب هو البيت الذي اصطفاه الله من هذه النشأة الإنسانية لنفسه ، فغصبه فيه هذا الغاصب ، وحال بينه وبين مالكه ، فكان أظلم الناس لنفسه ، لأنه حرمها الخير الذي يعود عليها من صاحب هذا البيت لو تركه له ، فهذا حرمان الجهل.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

٣٣٥

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٥٤)

قال ذلك هود عليه‌السلام لقومه المكذبين به وبرسالته ، فأشهد عليه‌السلام قومه مع كونهم مكذبين به على نفسه بالبراءة من الشرك بالله والإقرار بأحديته ، لما علم عليه‌السلام أن الله سبحانه سيوقف عباده بين يديه ويسألهم عما هو عالم به ، لإقامة الحجة لهم أو عليهم ، حتى يؤدي كل شاهد شهادته ، فقال عليه‌السلام (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فسأل هود عليه‌السلام قومه الشهادة مع شركهم لعلمه بأنهم لا بد أن يسألهم الله عنه.

(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦)

فأتى بالصراط نكرة لأنه على كل صراط شهيد ، وجاء في فاتحة الكتاب في (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بالتعريف لأنه صراط مخصوص ، وهو المؤدي إلى السعادة ، ومع هذا فإن هذا القول من الكلام القديم ، والقرآن الحكيم ، جاء به الرؤوف الرحيم ، الخبير بما هناك العليم ، فمع الحق مشى من مشى ، وما تشاؤون إلا أن يشا ، فالسعادة كاملة ، والرحمة شاملة ، فإن أهل الاستقامة في الاستقامة هم أهل السلامة في القيامة ، وأما الماشي في الاستقامة بغير استقامة ، فهو المنحاز عن دار الكرامة ، وكما أنه سبحانه في قبلة المصلي ، فهو تعالى من ورائه محيط فهو السائق والهادي ، فهو سبحانه الذي نواصي الكل بيده الهادي إلى صراط مستقيم ، والذي يسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، وإليه يرجع الأمر كله ، وإن كان الصراط المستقيم الذي عليه الرب الكريم يتضمن الخير والشر ، والنفع والضر ، والفاجر والبر ، (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو البر الرحيم ،

٣٣٦

فلا ينفع الاحتجاج بما سبق وإن كان حقا ، فهي حجة لا تنفع قائلها ولا تعصم حاملها لما يؤدي إليه من درس الطريق الأمم ، الذي أجمع على صحته الأمم (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) دخل في حكم هذه الآية جميع ما دبّ علوا وسفلا دخول ذلة وعبودية ، لأنها أعطته بحقيقتها وقبولها التمكن من الأخذ بناصيتها إذلالا ، لأنها عبد ، وكل من أخذ بناصيته فإنه ذليل ، والكل عبيد الله تعالى ، فالكل أذلاء بالذات ، وهو العزيز الحكيم ، وإنما جعل يده بناصيتك ابتغاء عافيتك ، فأثبت أمرا هو عليه ، وما سواه ، فانظر من يصل إليه ، وهذا من كرمه وسابقة قدمه ، فما ثمّ إلا مستقيم وعلى منهج قويم ، لأنه بيد الكريم ، وتدل هذه الآية على أنه ما ثمّ إلا من الحق آخذ بناصيته ، ولا يمكن إزالة ناصيته من يد سيده ، ونكّر لفظ دابة فعمّ ، فهو مسلوك به ، سالك بحكم الجبر ، هكذا قال هود عليه‌السلام ، فلهذا كان المآل إلى الرحمة وإذا أدركه في الطريق النصب ، فتلك أعراض عرضت له ، فإنه أخبر بأنه تعالى على صراط مستقيم ، فما ثمّ إلا من هو مستقيم على صراط الرب ، فهذه الآية دليل لمن قال بالجبر ، ويحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فيما شرع ، مع كونه تعالى آخذ بنواصي عباده إلى ما أراد وقوعه منهم وعقوبته إياهم مع هذا الجبر ، فاجعل بالك ، وتأدب واسلك سواء السبيل ، فهذه آية بشرى لنا ، فما في العالم إلا مستقيم لأن الآخذ بناصيته هو الماشي به ، وهو على صراط مستقيم ، فكل حركة وسكون في الوجود فهي إلهية ، لأنها بيد حق ، وصادرة عن حق موصوف بأنه على صراط مستقيم بإخبار الصادق ، فإن الرسل لا تقول على الله إلا ما تعلمه منه ، فهم أعلم الخلق بالله ، وليس للكون معذرة أقوى من هذه ، فمن رحمة الرسل بالخلق تنبيه الخلق على مثل هذا ، فإن الله أخبر عن نبيه ورسوله هود عليه‌السلام قوله هذا ، وما خطّأ هذا الرسول في هذا القول ، ومعلوم أن تصرف كل دابة قد يتعلق به لسان حمد أو ذم لأمور عرضية في الطريق ، عينتها الأحوال وأحكام الأسماء ، والأصل محفوظ في نفس الأمر ، تشهده الرسل عليهم‌السلام والخاصة من عباد الله ، ومع هذا التحقيق فإن قوله (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) من حيث ما يقود الماشي عليه إلى سعادته ، وعلى هذا الصراط كل دابة عموما ما عدا الإنس والجن ، فإنه ما دخل من الثقلين إلا الصالحون منهم خاصة ، ولو دخل جميع الثقلين لكان جميعهم على طريق مستقيم ـ نصيحة ـ لا تجعل زمامك إلا بيد ربك ، فإن له كما قال يدين كما

٣٣٧

أنه قد أخبرك أن يده بناصيتك اضطرارا ، فاجعل زمامك بيده اختيارا فتجن ثمرة الاختيار والاضطرار بجمعك بين اليدين ، واعلم أن العباد في قبضة الحق ، قال تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) لما هي مصرفة فيه ، فالكل في قبضته من قضائه في قضائه ، ومع ذلك عليك بأمر الحق فاتبعه ، ولا تغتر بكونك لا ترى شيئا إلا تحت تصريفه وحكم إرادته ، هذا لا ينجيك والأخذ بأمر الحق ينجيك ، لكن انظر ذلك عقدا وتصرّف بالأمر.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٥٧)

اعلم أن النبي لا بد له من النظر إلى نفسه ، فإن الجلوس مع الله لا تقتضي البشرية دوامه ، وإذا لم يدم فما ثم إلا النفس ، وكذا ورد ما من نبي إلا وقد قال (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فأضاف التبليغ إلى نفسه ولم يقل في هذه الحال ، قد بلّغ الله إليكم بلساني ما قد أسمعكم ، لذلك ابتلى الله الأنبياء بمخالفة أممهم ، فاختلفوا عليه ، واختلفوا فيما بينهم وإن اجتمعوا عليه ، فإن النبي في تلك الحالة صاحب دعوى ، أنه بلغ رسالة ربه ، وفي هذا لله حكم خفي ليعلم العبد أنه محلّ للتوفيق ونقيضه ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله على ما أمر به ونهى عنه (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) إذا أخليت العالم عن حفظ الله ، لم يكن للعالم وجود وفني ، وإذا سرى حفظ الله في العالم بقي العالم موجودا ، فبظهوره وتجليه يكون العالم باقيا ، وبهذا يصح افتقار العالم إلى الله في بقائه في كل نفس ، واجتمع الموحدون والمشركون في الحفظ الإلهي عناية من الله بالخلق ، فإن الممكن إذا وجد لا بد من حافظ يحفظ عليه وجوده ، وبذلك الحافظ بقاؤه في الوجود كان ذلك الحافظ ما كان من الأكوان ، فالحفظ خلق الله ، فلذلك نسب الحفظ إليه ، لأن الأعيان القائمة بأنفسها قابلة للحفظ بخلاف ما لا يقوم بنفسه من الممكنات ، فإنه لا يقبل الحفظ ويقبل الوجود ولا يقبل البقاء ، فليس له من الوجود غير زمان وجوده ، ثم ينعدم ، ومتعلق الحفظ إنما هو الزمان الثاني الذي يلي زمان وجوده فما زاد ، فالله حفيظ رقيب ، فكل موجود له بقاء في وجوده ، فلا بد من حافظ كياني يحفظ عليه وجوده ، وذلك

٣٣٨

الحافظ خلق لله مثل قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) فنكّر فدخل تحت هذا اللفظ حفظة الوجود وحفظة الأفعال ، والاسم الحفيظ خزانة سعي الأعمال من حيث نسبتها إلى العاملين.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠)

هم عاد الأولى أرسل إليهم هود عليه‌السلام فكذبوه فأهلكهم الله ، بعث عليهم طيرا أسود فنقلهم إلى البحر ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ، وكانت مساكنهم الشمر بين عمان وحضر موت.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ

٣٣٩

تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٦٥)

كانت مساكن ثمود الحجر من وادي القرى والشام ، وكانت آية ثمود ناقة أخرجها الله من هضبة من الأرض ، يتبعها فصيل لها ، فيحلبون منها ريهم ، وتشرب في ذلك اليوم جميع مياههم ، ويشربون هم اليوم الثاني الماء ولا تأتيهم ، فلما طال ذلك عليهم ملّوها ، فاجتمعوا تسعة من شرار قومه على عقرها وخرجوا لها ، فعقرها رجل منهم ، فوعدهم الله بالعذاب بعد ثلاث ، فأتتهم صيحة من السماء فماتوا كلهم ، ولحق صالح ومن معه من قومه بمكة ، وأول يوم اصفرت وجوه القوم ، وفي الثاني احمرت ، وفي الثالث اسودت.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (٧٠)

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) يعني إلى العجل الحنيذ ، أي لا يأكلون منه (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) خاف فإن الملائكة ولو تجسدت في صورة محسوسة ، لا يكون غذاؤها الطعام الطبيعي ، وهنا مسألة هل الأعيان التي من حقيقتها أن لا تكون على صورة طبيعية جسمية في نفسها إذا ظهرت لمن ظهرت له في صورة طبيعية جسدية في عالم التمثيل ، كالملك يتمثل بشرا سويا وكالتجلي الإلهي في الصور ، هل تقبل تلك الصورة الظاهرة في عين الرائي حكم ما لتلك الصورة في التي هي له حقيقة كصورة الإنسان والحيوان؟ فتحكم عليه

٣٤٠