رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢)

ما قدم تعالى البر على البحر وتهمم بتقديمه إلا ليعلم أنه من قدر على البر لا يسافر في البحر إلا من ضرورة ، فلو لا أن لله فيه سرا ما قدمه وما أخر البحر ، إلا إذا لم يجد المسافر سبيلا إلى البر ، فإنه من التزم تقديم ما قدم الله رأى خيرا في حركاته ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لو لا هذه الآية ثم يتلو (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لضربت بالدرة من سافر في البحر. ولو لم يكن في الإشارة إلى ترك السفر إلا قوله في ذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لكانت هذه الآية كافية (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) بالأخذ ، من أحاط بهم العدو ، فلا يجدون مفلتا ولا منفذا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عند ما رأوا آيات الله غير المعتادة تنبهوا من غفلتهم ، فدعوا الله مخلصين له الدين (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الآية ، وهو ما وقع بهم من العذاب والهلاك (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فعادوا إلى شركهم وبغيهم بعد إخلاصهم لله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهكذا يقولون في

٣٠١

النار (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) يقول تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) كما عاد أصحاب الفلك إلى شركهم وبغيهم بعد إخلاصهم لله (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤)

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما أخفاه الله من غامض حكمته في أحكامه ، واعلم أن الله تعالى أعطانا قوة الفكر لننظر بها فيما يعرفنا بأنفسنا وبه ، ولننظر بها في الآيات في الآفاق وفي أنفسنا ليتبين لنا بذلك أنه الحق ، واختلفت الأمزجة والأمشاج ، فاختلفت المقالات في الله اختلافا كثيرا من قوة واحدة وهي الفكر ، وما جعل الله تعالى الفكر إلا ليعلم أنه لا يعلم أمر من الأمور إلا بالله ، لا ليعلم العقل الله تعالى به ، فيكون طلسما على العقول.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥)

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) فإن الله تعالى الهادي إليها ، والسلام اسمه تعالى ، والعارفون لا يزالون يسمعون دعاء الحق في قلوبهم مع أنفاسهم ؛ فهم ينتقلون من حال إلى حال بحسب ما يدعوهم إليه الحق ، وهكذا المؤمنون الصادقون في الدنيا ، بما دعاهم الشرع إليه في جميع أفعالهم ، وإجابتهم هي العاصمة لهم من وقوعهم في محظور ، فهم ينتقلون من حال إلى حال لدعاء ربهم إياهم ، فهو داع أبدا ، والعارف غير محجوب السمع فهو مجيب أبدا ، جعلنا الله ممن شق سمعه دعاء ربه ، وشق بصره لمشاهدة تجليه ، فالتجلي لا ينقطع ، فشهود الحق ما لا يرتفع ، فدوام لدوام ، واهتمام لاهتمام.

٣٠٢

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦)

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) بالأعمال (الْحُسْنى) بما لهم من الأجور ، بل بما للأعمال من الأجور ، فمعيّن لمعيّن ، وهو الحد ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف «فللذين أحسنوا الحسنى» جزاء ، وزاد غير معيّن فقال : (وَزِيادَةٌ) وهو قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وهو ما جاوز الحد ، فزيادة الإحسان بعد العدل ، وهو الفضل ما زاد على المثل ، وهو ما لم يخطر بالبال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر] فلا بد أن يكون غير معلوم للبشر.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ

٣٠٣

فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٣٢)

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) فهذا توحيد أشار به الحق ، يدل عليه إما العقل السليم أو الشرع المعصوم ، فإذا لم يكن حقا (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) وليس إلا الخلق ، والضلال حيرة ، فالحق الوجود والضلال الحيرة ، وبالخلق ظهر حكم الضلال ، ففي الخلق تاه الخلق ، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي كيف تصرفون عن معرفة هذه الحقائق ، ومن صرف عن الحق أين يذهب؟ فما عدا هذين القرينين العقل والشرع ، يقول بخلاف ذلك ويصرف الألوهية إلى ما يراه.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

فمن حقت عليه كلمة الله بأمر فإنه يعمل في غير معمل ، ويطمع في غير مطمع.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣٤)

البدء افتتاح وجود الممكنات على التتالي والتتابع ، لكون الذات الموجدة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان ، إذ الزمان من جملة الممكنات الجسمانية ، فكان في مقابلة وجود الحق أعيان ثابتة موصوفة بالعدم أزلا ، وهو الكون الذي لا شيء مع الله فيه ، إلا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان على حسب ما اقتضته استعداداتها ، فتكونت لأعيانها لا له من غير بينية تعقل أو تتوهّم ، وسبب عزة ذلك ، الجهل بذات الحق ، وكان البدء عن نسبة أمر فيه رائحة جبر ، إذ الخطاب لا يقع إلا على عين ثابتة معدومة ، عاقلة سميعة عالمة بما تسمع ، بسمع ما هو سمع وجود ولا عقل وجود ولا علم وجود ، فالبدء حالة مستصحبة قائمة لا تنقطع ، فإن معطي الوجود لا يقيده ترتيب الممكنات ، فالنسبة منه واحدة ، فالبدء ما زال ولا يزال ، فكل شيء من الممكنات له عين الأولية في البدء ، ثم إذا نسبت الممكنات بعضها إلى بعض ، تعيّن التقدم والتأخر ، لا بالنسبة إليه سبحانه.

٣٠٤

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦)

اعلم أنه من أقام في نفسه معبودا يعبده على الظن لا على القطع ، خانه ذلك الظن وما أغنى عنه من الله شيئا.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) (٤٢)

حقيقة السمع الفهم عن الله فيما يتلوه عليك سبحانه وتعالى ، لتعقل عنه إن كنت عالما ، والصمم آفة تمنع من إدراك تلاوة الحق عليك من القرآن ومن خارج.

٣٠٥

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) كلمة تحقيق ، فإن الناس لا يملكون شيئا حتى يكون من يأخذ منهم بغير وجه حق غاصبا ، فكل ما يقال فيه إنه ملك لهم فهو ملك الله ، ومن ذلك أعمالهم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فكنى سبحانه عن نفسه «بأنفسهم» لما وقع الظلم في العالم ، فلو كان ما عند الناس ملكا لهم ما حجر الله عليهم التصرف فيه ، ولا حدّ لهم فيه حدودا متنوعة ، فهذا يدلك على أن أفعال المكلّف ما هي له إنما هي لله ، فالظلم على الحقيقة في الناس دعواهم فيما ليس لهم أنه لهم ، فما عاقبهم الله إلا على دعواهم الكاذبة.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧)

قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكلاب : إنها أمة من الأمم ، فما من شيء في الوجود إلا وهو أمة من الأمم ، فالطفل الرضيع وجميع الحيوان لهم تكليف إلهي برسول منهم في ذواتهم ، لا يشعر به ، وإن الصغير إذا كبر وكلف لا يشعر ولا يتذكر تكليفه في حال صغره ، لما يقوم به من الآلام وبالحيوان ، فإنه تعالى لا يعذب ابتداء ، ولكن يعذب جزاء ، فإن الرحمة لا تقتضي في العذاب إلا الجزاء للتطهير ، ولو لا التطهير ما وقع العذاب ، فعمّت الرسالة الإلهية جميع الأمم صغيرهم وكبيرهم ، فما من أمة إلا وهي تحت خطاب إلهي على لسان نذير بعث إليها منها ، ليعلمها ما هو الأمر عليه الذي

٣٠٦

خلقوا له ، ويعلمهم بما للحق عليهم أن يفعلوه ، وما لهم إذا فعلوا ذلك من الخير عند الله في الدار الآخرة ، وماذا عليهم إذا لم يفعلوا من العقوبة عند الله في الدار الدنيا إذا علم ولاة أمورهم بذلك وفي الآخرة.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤٩)

جميع أنواع المخلوقات في الدنيا أمم لها أجل بين بدء وختام «فإذا جاء أجلهم» وهو انتهاء مدة الأجل (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦)

٣٠٧

سمي الحق محييا لكون حياة الأشياء من فيض اسم الحي كنور الشمس من الشمس المنبسط على الأماكن ، ولم تغب الأشياء عنه لا في حال ثبوتها ولا في حال وجودها ، فالحياة لها في الحالتين مستصحبة ، فهو يحيي ويميت ، وليس الموت بإزالة الحياة منه في نفس الأمر ، ولكن الموت عزل الوالي وتولية وال ، لأنه لا يمكن أن يبقى العالم بلا وال يحفظ عليه مصالحه لئلا يفسد ، فالموت عبارة عن انتقال وعزل ، ألا ترى إلى الميت يسئل ويجيب إيمانا وحقيقة ، وأنت تحكم عليه في هذه الحال عينا أنه ميت ، وما أزال عنه اسم الموت السؤال ، فلو لا أنه حي في حال موته ما سئل ، فليس الموت بضد للحياة ، فبالحياة يسبح كل شيء ، والميت مسبح حيث أنه شيء ، فالموت عبارة عن الانتقال من منزل الدنيا إلى منزل الآخرة ، ما هو عبارة عن إزالة الحياة منه في نفس الأمر ، وإنما الله أخذ بأبصارنا فلا ندرك حياته ، فالميت ينتقل وحياته باقية عليه لا تزول ، وإنما يزول الوالي وهو الروح عن هذا الملك الذي وكّله الله بتدبيره أيام ولايته عليه ، والميت عندنا يعلم من نفسه أنه حي ، وإنما تحكم عليه بأنه ليس بحي لوقوفك مع بصرك ومع حكمك في حاله قبل اتصافه بالموت ، من حركة ونطق وتصرف وقد أصبح متصرفا فيه ، فالموت انتقال خاص على وجه مخصوص.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧) الشفاء زوال العلة ووجود الراحة بانتقالها.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨)

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) وفضل الله لا انقطاع له لأنه خارج عن الجزاء الوفاق (وَبِرَحْمَتِهِ) ورحمة الله لا تخص محلا من محل ، ولا دارا من دار ، بل وسعت كل شيء ، فدار الرحمة هي دار الوجود (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أعني بفضل الله ورحمته ، لأن المآل رحمة مطلقة عامة ، فإنه خير مما يجمعون فيفرحون به ، ولا يفرح عاقل إلا بثابت لا بزائل ، فأمر الله عباده أن يفرحوا بفضله وبرحمته لا بما يجمعه من المال ، فإنه يتركه بالموت في الدنيا ولا يقدمه ، فأمرك بالفرح بالفضل ، والفضل ما زاد ، فاحمد الله حيث جعلك محلا لفضله ورحمته ، فافرح

٣٠٨

لأمره إياك بالفرح تجن ثمرة أداء الواجب في الفرح ـ تحقيق ـ ومن تحقق هذه الآية تراه أبدا حزين القلب ما دام في الدنيا إلى الموت ، وإن فتح له ما يقع له به الفرح فإنه يرى ما عليه من الشكر لله فيما فتح له فيه ، فيعظم حزنه أشد مما كان فيه قبل الفتح ، ومن كان في مقام يريد أن يوفيه حقه لا يمكن أن يفرح إلا بعد أن لا يبقى عليه من حقه شيء ، ولا يزال هذا الحق المعيّن على المكلف المبشر بفضل الله ورحمته عليه إلى آخر نفس يكون عليه في الدنيا ، فإنه لا يفرح إلا عند خروجه ، فإنه لا يسقط عنه التكليف إلا بعد رحلته من دار التكليف ، وهي الدار الدنيا.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦١)

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) والشأن ليس لي ، فإن الشأن الظاهر في وجودي إنما هو لله ، وهو قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) فالله شهيد على ما يخلق منا وفينا (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) فإنه يعلمها ويراها (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فمن تحقق بهذه الآية كان رقيبا على نفسه وعلى آثار ربه فيما يورده على قلبه ، وعلى موازنة الحق المشروع في عباد الله ، فالعالم الناصح نفسه لا ينسى الله في شؤونه ، ويكون مراقبا له تعالى عند شهوده ، فإن العالم بإنزال الشرائع يعرف ما خاطب الحق منه

٣٠٩

في نظره إليه ، فإن الأحوال تطلب الأحكام المنزلة في الدنيا ، لهذا نزلت الشرائع على الأحوال والمخاطبون أصحابها.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢)

(لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مطلقا ، فإن الله تعالى لم يقل في الآخرة ، فالولي من كان على بينة من ربه في حاله ، فعرف مآله بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ، وبشارته حق وقوله صدق وحكمه ، فالقطع حاصل ، فالمراد بالولي من حصلت له البشرى من الله كما قال تعالى ، وأي خوف وحزن يبقى مع البشرى بالخبر الذي لا يدخله تأويل ، فهذا هو الذي أريد بالولي في هذه الآية ، واعلم أن النبوة اختصاص من الله يختص بها من يشاء من عباده ، وقد أغلق ذلك الباب وختم برسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والولاية مكتسبة إلى يوم القيامة ، فمن تعمل في تحصيلها حصلت له ، والتعمل في تحصيلها اختصاص من الله ، يختص برحمته من يشاء ، فالأولياء هم ولاة الحق على عباده ، والخواص منهم الأكابر يقال لهم رسل وأنبياء ، ومن نزل عنهم بقي عليه اسم الولاية ، فالولاية الفلك المحيط الجامع للكل ، وأما صفتهم فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قيل له : يا رسول الله من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، واهتموا بآجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم ، فما عرضهم من نائلها عارض إلا رفضوه ، ولا خادعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فما يجددونها ، وخربت بيوتهم فما يعمرونها ، وماتت في صدورهم فما يحيونها ، بل يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما بقي لهم ، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلّت بهم المثلات ، فما يرون أمانا دون ما يرجون ، ولا خوفا دون ما يحذرون ـ رقيقة ـ اعلم أنه على قدر ما يخرج به العبد من عبوديته ينقصه من تقريبه من سيده ، لأنه يزاحمه في أسمائه ، وأقل المزاحمة الاسمية ، والولي من أسمائه سبحانه ، فالذي ينبغي للعبد أن لا يزيد على هذا الاسم غيره ، فإن أطلق الله ألسنة الخلق عليه بأنه ولي لله ورأى أن الله قد أطلق عليه اسما أطلقه تعالى على نفسه فلا يسمعه ممن يسميه به إلا على أنه بمعنى المفعول لا معنى الفاعل ، حتى يشم فيه

٣١٠

رائحة العبودية ، فإن بنية فعيل قد تكون بمعنى الفاعل ، والاسم الولي الذي قد تسمى به الله بمعنى الفاعل ، فينبغي أن لا ينطلق ذلك الاسم على العبد ، وإن أطلقه الحق عليه فذلك إليه تعالى ، ويلزم الإنسان عبوديته وما يختص به من الأسماء التي لا تنطلق قط على الحق لفظا.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣)

الإيمان لا يكون إلا بعد سماع الخبر وعقله ، وقلنا إن الولاية مكتسبة والتعمل في تحصيلها اختصاص ، فمنهم من تحصل له الولاية بالصدقة والقرض الحسن وصلة الرحم ، ومن الناس من تحصل له بمراقبة الله والمبادرة لأوامره التي ندب إليها لا التي افترضها عليه ، وهو قوله : [ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا] ومن الناس من تحصل له بالمسارعة إلى ما أوجب الله عليه من الطاعات وافترضها عليه ، فأخذ أوامره على الوجوب ولم يتأول عليه كلامه ولا أمره.

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٤)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى) جعل الله تعالى البشرى للمؤمنين العاملين بما آمنوا به ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الإيمان فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن يؤدو الخمس من المغنم ، ونهاهم عن الدّبا والحنتم ، والمزفت والنقير ، وقال : احفظوه وأخبروا به من وراءكم ـ ففسر الإيمان بالأفعال ، وهو الذي أراد بالمؤمنين هنا ، زيادة على التصديق ، لأن البشرى الواردة في القرآن للمؤمنين مقرونة بالأعمال الصالحة ، قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) فما بشر إلا العاملين بما آمنوا به ، فقوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) جزاء ، مؤكدا لبشراهم بإجابة داعي الحق بالعبادات ، وقوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هذا عموم الدنيا ، فما ينقلب أحد من أهل السعادة إلى الآخرة حتى يبشر في الدنيا

٣١١

ولو بنفس واحد ، فيحصل المقصود ، وقد علمنا في الدنيا بإعلام الله أن الرسل والأنبياء ومن عينته الرسل بالبشرى أنه سعيد ، فبشارة الحق لا يدخلها نسخ ، فيؤمن بوجودها المكر إذا كانت نصا ، وقد بشّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة بالجنة وعاشوا بعد ذلك زمانا طويلا ، فهذه صورة للبشرى بخلاف بشرى المحتضر ، ومثل قوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فكان تعريف الحق إيّانا بما قاله رسوله بشرى من الله لنا في الحياة الدنيا ، وللعارفين مقام الآخرة في الدنيا فلهم الكشف والمشاهدة ، وهما أمران يعطيهما عين اليقين ، وهو أتم مدارك العلم ، فالعلم الحاصل عن العين له أعظم اللذات في المعلومات المستلذة ، فهم في الآخرة حكما وفي الدنيا حسا ، وهم في الآخرة مكانة وفي الدنيا مكانا (وَفِي الْآخِرَةِ) من القبر إلى الجنة ، وما بينهما منازل الآخرة ، فهو نعيم متصل ، ولما كانت البشرى من كلمات الله قال تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) هو قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي قولنا واحد لا يقبل التبديل.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٥)

فعزته تعالى مانعة من الوصول إلى علم الأمر على ما هو عليه في نفسه.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٧)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) وهم أهل الفهم عن الله ، وقد حصرت الآيات في السمع والبصر ، فإما شهود وإما خبر ، وعلامة السامعين المحققين في سماعهم ، انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله تعالى من جهة سماعه ، أعني من التكليفات المتوجهة على الأذن من أمر ونهي ، كسماعه العلم والذكر والثناء على الحق تعالى والموعظة الحسنة والقول

٣١٢

الحسن ، ومن علامته أيضا التصامم عن الغيبة والنميمة والبهتان والسوء من القول كالخوض في آيات الله تعالى.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٧٢)

الرسل قاطبة وهم الكمل بلا خلاف ، تقول : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فإن المقام يعطي الأجر ولا بد ، فإن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الأجرة ، فما من نبي دعا قومه إلا قيل له : «قل ما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله» فأثبت الأجرة على دعائه ، وسألها من الله لا من المدعو ، حتى إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سأل منا في الأجر على تبليغ الدعاء إلا المودة في القربى ، وهو حب أهل البيت وقرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يكرموا من أجله ، كانوا ما كانوا ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله] في حديث الذي رقى اللديغ بفاتحة الكتاب واستراح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اضربوا لي فيها بسهم] يعني في الغنم التي أخذوها أجرا على ذلك ، فالإنسان الداعي بوعظه وتذكيره عباد الله إن

٣١٣

أخذ أجرا فله ذلك ، فإنه في عمل يقتضي الأجر بشهادة كل رسول ، وإن ترك أخذه من الناس وسأله من الله فله ذلك ، وسبب ترك الرسل لذلك وسؤالهم من الله الأجر ، كون الله هو الذي استعملهم في التبليغ ، فكان الأجر عليه تعالى لا على المدعو ، وإنما أخذ الراقي الأجر من اللديغ لأن اللديغ استعمله في ذلك ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اضربوا لي بسهم] لأن الرسول عليه‌السلام هو الذي أفاد الراقي ما رقى به ذلك اللديغ ، واعلم أن هذا الأجر أجر تفضل إلهي ، عيّنه السيد لعبده ، فإن العبد لا ينبغي له استحقاق الأجر على سيده فيما يستعمله فيه ، فإنه ملكه وعين ماله ، ولكن تفضل سيده عليه بأن عيّن له على عمله أجرا ، فأنت العبد في صورة الأجير ، وما هو أجر الأجير ، فإن الأجير من استؤجر ، فهذا أجنبي ، والسيد لا يستأجر عبده ، لكن العمل يقتضي الأجرة ولا يأخذها ، وإنما يأخذها العامل ، والعامل العبد ، فهو قابض الأجرة من الله ، فأشبه الأجير في قبض الأجرة وفارقه بالاستئجار ـ راجع سورة هود آية ٢٩.

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي

٣١٤

بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠)

لما علم فرعون الحق ، وأثبت في كلامه بأن موسى عليه‌السلام مرسل بقوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فإنه ما جاء من نفسه ، لأنه دعا إلى غيره ، فبقيت

٣١٥

تلك الخميرة عند فرعون تختمر بها عجين طينته ، وما ظهر حكمها ولا اختمر عجينه إلا في الوقت الذي قال فيه : (آمَنْتُ) فتلفظ باعتقاده الذي معه (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وما سمى الله ، ليرفع اللبس والشك ، إذ قد علم الحاضرون أن بني إسرائيل ما آمنت إلا بالإله الذي جاء موسى وهارون من عنده إليهم ، فلو قال : «آمنت بالله» وهو قد قرر أنه ما علم لقومه من إله غيره ، لقالوا : لنفسه شهد لا للذي أرسل موسى إلينا ، كما شهد الله لنفسه ، فرفع هذا اللبس بما قاله ، عند ذلك أخذ جبريل حال البحر فألقمه في فم فرعون حتى لا يتلفظ بالتوحيد ، ويسابقه مسابقة غيره على جناب الحق ، مع علمه بأنه علم أنه لا إله إلا الله ، وغلبه فرعون ، فإنه قال كلمة التوحيد بلسانه كما أخبر الله تعالى عنه في كتابه العزيز ، فجاء فرعون باسم الصلة وهو (الَّذِي) ليرفع اللبس عند السامعين ولرفع الإشكال عند الأشكال ، وهذا هو التوحيد الثاني عشر في القرآن ، وهو توحيد الاستغاثة ، وهو توحيد الصلة ، فإنه جاء بالذي في هذا التوحيد ، وهو من الأسماء الموصولة ، وقدم الهوية في قوله : أنه» ليعيد ضميربه» عليه ، ليلحق بتوحيد الهوية ، ثم تمم وقال : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) خطاب منه للحق ، لعلمه بأنه تعالى يسمعه ويراه ، قال ذلك لما علم أن الإله هو الذي ينقاد إليه ولا ينقاد هو لأحد ، أعلم بذلك فرعون ، ليعلم قومه برجوعه عما كان ادعاه فيهم من أنه ربهم الأعلى ، فأمره إلى الله ، فإنه آمن عند رؤية البأس ، وما نفع مثل ذلك الإيمان فرفع عنه عذاب الدنيا ، إلا قوم يونس ، ولم يتعرض للآخرة ، ثم إن الله صدّقه في إيمانه بقوله :

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١)

قال تعالى لفرعون : (آلْآنَ) قلت ذلك ، فأثبت الله بقوله : (آلْآنَ) أنه آمن عن علم محقق والله أعلم وإن كان الأمر فيه احتمال ، فدل على إخلاصه في إيمانه ، ولو لم يكن مخلصا لقال فيه تعالى كما قال في الأعراب الذين قالوا : (آمَنَّا) (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فشهد الله لفرعون بالإيمان ، وما كان الله ليشهد لأحد بالصدق في توحيده إلا ويجازيه به ، وبعد إيمانه فما عصى ، فقبله الله إن كان قبله طاهرا ، والكافر إذا أسلم وجب عليه أن يغتسل ، فكان غرقه غسلا له وتطهيرا ، حيث

٣١٦

أخذه الله في تلك الحال نكال الآخرة والأولى ، وجعل ذلك عبرة لمن يخشى ، وما أشبه إيمانه إيمان من غرغر ، فإن المغرغر موقن بأنه مفارق ، قاطع بذلك ، وهذا الغرق هنا لم يكن كذلك ، لأنه رأى البحر يبسا في حق المؤمنين ، فعلم أن ذلك لهم بإيمانهم ، فما أيقن بالموت ، بل غلب على ظنه الحياة ، فليس منزلته منزلة من حضره الموت فقال : (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ولا هو من الذين يموتون وهم كفار فأمره إلى الله تعالى.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢)

كان حكم آل فرعون في نفس الأمر خلاف حكم فرعون في نفسه ، فإنه علم صدق موسى عليه‌السلام ، وعلم حكم الله في ظاهره بما صدر منه ، وحكم الله في باطنه بما كان يعتقده من صدق موسى فيما دعاهم إليه ، وكان ظهور إيمانه المقرر في باطنه عند الله مخصوصا بزمان مؤقت ، لا يكون إلا فيه ، وبحالة خاصة ، فظهر بالإيمان لما جاء زمانه وحاله ، فغرق قومه آية ، ونجاة فرعون ببدنه دون قومه عند ظهور إيمانه آية ، فمن رحمة الله بعباده أن قال (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) يعني دون قومك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي علامة لمن آمن بالله أي ينجيه الله ببدنه أي بظاهره ، فإن باطنه لم يزل محفوظا بالنجاة من الشرك ، لأن العلم أقوى الموانع ، فسوّى الله في الغرق بينهم ، وتفرقا في الحكم ، فجعلهم سلفا ومثلا للآخرين ، يعني الأمم الذين يأتون بعدهم ، وخص فرعون بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى الله بالنجاة ، فإن الحق خاطب فرعون بلسان العتب وأسمعه (آلْآنَ) أظهرت ما قد كنت تعلمه (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فهي كلمة بشرى لفرعون عرفنا الحق بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ، ثم قال : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) فبشره قبل قبض روحه (بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك (آيَةً) علامة ، إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك ، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع ولا أن إيمانه لم يقبل ، وإنما في الآية أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال رؤيته إلا قوم يونس ، فقوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) إذ العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك ، وقد أريت الخلق نجاته من العذاب ، فكان

٣١٧

ابتداء الغرق عذابا ، فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصية ، فقبضت على أفضل عمل ، وهو التلفظ بالإيمان ، كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله ، والأعمال بالخواتيم ، فلم يزل الإيمان بالله يجول في باطن فرعون ، وجاء طوعا في إيمانه ، وما عاش بعد ذلك ، فقبض فرعون ولم يؤخر في أجله في حال إيمانه ، لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) وقد أظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة ، فغفل أكثر الناس عن هذه الآية وقضوا على المؤمن بالشقاء ، وأما قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) فما فيه نص أنه يدخلها معهم ، بل قال الله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) ولم يقل (أدخلوا فرعون وآله) ورحمة الله أوسع من حيث أن لا يقبل إيمان المضطر ، وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق ، والله يقول : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) فقرن للمضطر إذا دعاه الإجابة وكشف السوء عنه ، وهذا آمن لله خالصا ، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض ، أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال ، فرجح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفظ بالإيمان ، وجعل ذلك الغرق (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج ، وقبضه على أحسن صفة هذا ما يعطي ظاهر اللفظ ، وهذا معنى قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى ، وقدم ذكر الآخرة وأخر الأولى ليعلم أن العذاب ـ أعني عذاب الغرق ـ هو نكال الآخرة ، فلذلك قدمها في الذكر على الأولى ، وهذا هو الفضل العظيم.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤)

٣١٨

معلوم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس في شك ، فالمقصود من هو في شك من الأمة ، فهو المخاطب والقصد أمته ، مثل قولهم : إياك أعني فاسمعي يا جارة.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨)

إن الإنسان ولد على الفطرة ، وهي العلم بوجود الرب أنه ربنا ، ونحن عبيد له ، والإنسان لا يقبض حين يقبض إلا بعد كشف الغطاء ، فلا يقبض إلا مؤمنا ولا يحشر إلا مؤمنا ، غير أن الله تعالى لما قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) فما آمنوا إلا ليندفع عنهم ذلك البأس ، فما اندفع عنهم ، وأخذهم الله بذلك البأس ، وما ذكر أنه لا ينفعهم في الآخرة ، ويؤيد ذلك قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) حين رأوا البأس (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذا معنى قولنا : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) في رفع البأس عنهم في الحياة الدنيا كما نفع قوم يونس ، فما تعرض إلى الآخرة ومع هذا فإن الله يقيم حدوده على عباده حيث شاء ومتى شاء ، فثبت أن انتقال الناس في الدارين في أحوالهم من نعيم إلى نعيم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعيم ، من غير مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أن هذا القدر مدة إقامة الحدود ، ودلت هذه الآية على أن يونس عليه‌السلام كان محبوبا لله ، حيث خص قومه من أجله بما لم يخص به أمة قبلها ، وعرفنا بذلك ، فعامل قوم يونس بما عاملهم به من كونه كشف عنهم العذاب بعد ما رأوه نازلا بهم ، فآمنوا ، أرضاه الله في أمته فنفعها إيمانها ، ولم يفعل ذلك مع أمة قبلها ، ومتعهم إلى حين فأمدّ لهم في التمتع في مقابلة ما نالوه من الألم عند رؤية العذاب ، فلما اشتد البلاء

٣١٩

على قوم يونس وكانت اللحظة الزمانية عندهم في وقت رؤية العذاب كالسنة أو أطول ، ذكر أنه تعالى في مقابلة هذا الطول الذي وجدوه في نفوسهم أنه متعهم إلى حين ، فبقوا في نعيم الحياة الدنيا زمنا طويلا ، لم يكن يحصل لهم ذلك لو لا هذا البلاء وقد قيل إن الحين الذي جعله غاية تمتعهم أنه القيامة والله أعلم.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ

٣٢٠