رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٢

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٠

سمع الله صوت سائله

بالذي قد أراده منا

فلهذا نكونه أبدا

ولهذا عنا فما زلنا

فأعطانا الحق تعالى الوجود أولا ، وهو الخير الخالص ، وهو صفته تعالى ، ولو كان عنده أكمل من ذلك ما بخل به علينا ، ثم لم يزل يعطي ما يستحقه الموجود مما به قوامه وصلاحه ، فقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) نعم الله لا تحصى من حيث أسبابها الموجبة لها ، أي للذة والتنعم ، فالأسباب لا تحصى كثرة ، واللذة واحدة ، وهي النعمة المحققة ، فسمى الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له أو كان منه بسبب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) للبقاء على المخالفة مع إرداف النعم ، فالصبر على إرداف النعم لما في طيها من المكر الإلهي أعظم من الصبر على الرزايا ، فإن النعم أعظم حجاب عن الله إلا من وفقه الله.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ

٤٤١

لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

وصف الله تعالى الظالمين يوم القيامة بكونهم مقنعي رؤسهم ، أي رافعين إلى الله يسألونه المغفرة عن جرائمهم ، فإن الإقناع ارتفاع (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) بهتا لتعظيم ما يروا (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ).

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (٤٧)

يستدل بهذه الآية على عموم الرحمة ، فإن الخبر الصدق إذا لم يكن حكما لا يدخله النسخ ، وقد ورد بطريق الخبر الوعد والوعيد ، ولما كانت الشريعة نزلت بلسان قوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخاطبهم بحسب ما تواطؤوا عليه فممّا تواطؤوا عليه في حق المنعوت بالكرم والكمال إنفاذ الوعد وإزالة حكم الوعيد ، والوعد يكون في الخير والشر معا ، والإيعاد في الشر خاصة ، وما ورد في الشرع نص في نفاذ الإيعاد وورد في الوعد ، والله أكرم من أن ينسب إليه إنفاذ الوعيد ، بل ينسب إليه المشيئة وترجيح الكرم ، وصف بعض الأعراب مع كونه من أهل الأغراض نفسه على طريق التمدح :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

٤٤٢

وقد ورد في الصحيح ليس شيء أحب إلى الله من أن يمدح ، والمدح بالتجاوز عن المسيء غاية المدح ، فالله أولى به تعالى ، والصدق في الوعد مما يتمدح به ، فقال تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) فذكر الوعد ، فالثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز ، قال تعالى : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) مع أنه توعد على ذلك ، وأخبر عن الإيعاد في تمام الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) وقال في الوعيد بالمشيئة وفي الوعد بنفوذه ولا بدّ ، ولم يعلّقه بالمشيئة في حقّ المحسن ، لكن في حقّ المسيء علّق المشيئة بالمغفرة والعذاب ، والله عند ظن عبده به ، فليظن به خيرا ، والظن هنا ينبغي أن يخرج مخرج العلم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) لما كان الانتقام من رحمة المنتقم بنفسه في الخلق ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) عن مثل هذا (ذُو انتِقامٍ).

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨)

ـ الوجه الأول ـ كما كان في أول الخلق أن الأرض خلقت قبل السماء في ترتيب وجود خلق العالم ، كذلك لما وقع التبديل ابتدأ بالأرض قبل السموات ، فوقف الخلق على الجسر دون الظلمة ، وبدل الأرض غير الأرض ، لا في الصفة ، فلو كان في الصفة ما ذكر العين ، فبدل الأرض والسماء في العين ـ الوجه الثاني ـ تبدل الأرض كيف شاء سبحانه إما بالصورة وإما بأرض أخرى ما نيم عليها تسمى بالساهرة ـ الوجه الثالث ـ إذا بدلت السماء والأرض فإنما يقع التبديل في الصور لا في الأعيان ، فقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) التبديل في الصفة لا في العين ، فتكون أرض صلاح لا أرض فساد ، وتمد مد الأديم فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا (وَالسَّماواتُ) هنا هي السموات المعروفة ، وهي السبع السموات خاصة ، لا السماء ذات البروج ، ولا فلك المنازل الذي هو سقف النار ، فإن ما دون فلك المنازل يخرب نظامه وتبدل صورته ويزول ضوء كوكبه (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤٩)

٤٤٣

أورثهم ذلك غضب الله تعالى مكانا ضيقا لما في الغضب من الضيق ، فكان المشرك مع أمثاله من المشركين ، كونهم مقرنين في الأصفاد.

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

ـ الوجه الأول ـ (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) فهو بلاغ للإنسان من كونه من الناس (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) من كونه على قدم غرور وخطر فيحذروا (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي بفعل ما يريد ما ثمّ آخر يرده عن إرادته فيك ويصده (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) بما أشهدهم على نفسه أنه ربه ، ليقوم بما يجب على المملوك في حق سيده الذي أقر له بالملك ، فإن التذكر لا يكون إلا عن علم متقدم منسي ، فيذكره من يعلم ذلك ، فالقرآن بلاغ من وجه وإنذار من وجه وإعلام من وجه وتذكرة لما نسيه من وجه ، والمخاطب بهذا كله واحد العين وهو الإنسان ـ الوجه الثاني ـ ميز الله بين طبقات العالم ليعلموا أن الله قد رفع بعضهم فوق بعض درجات فقال : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) يريد طائفة مخصوصة لا يعقلون منه سوى أنه بلاغ ، يسمعون حروفه إيمانا بها أنها من عند الله لا يعرفون غير ذلك (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) في حق طائفة أخرى عينها بهذا الخطاب (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) في حق طائفة أخرى عينها بهذا الخطاب ، وأراد بالعلم هنا الإيمان ، وهو الذي يعول عليه في السعادة ، فإن الله به أمر ، وسميناه علما لكون المخبر هو الله فقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وقال تعالى : (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) في حق طائفة أخرى وهم العلماء بالله وبالأمر على ما هو عليه ، فيتذكر أرباب العقول ما كانوا قد علموه قبل ، أي ما جاؤوا بما تحيله الأدلة الغامض إدراكها ، فإنها لب الدلالات ، والقرآن واحد في نفسه ، تكون الآية منه تذكرة لذي اللب ، وتوحيدا لطالب العلم بتوحيده ، وإنذارا للمترقب الحذر ، وبلاغا للسامع ليحصل له أجر السماع ، كالأعجمي الذي لا يفهم اللسان ، فيسمع

٤٤٤

فيعظم كلام الله من حيث نسبته إلى الله ، ولا يعرف معنى ذلك اللفظ حتى يشرح له بلسانه ويترجم له عنه.

(١٥) سورة الحجر مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

من مال إلى الآمال اخترمته الآجال ، لله رجال أعطاهم التعريف طرح التسويف فأزال عنهم الحذر والخوف السين والسوف ، تعبدهم الحال في زمان الحال ، ليس بالمواتي من اشتغل بالماضي والآتي ، إذا علم صاحب الأمل أن كل شيء يجري إلى أجل اجتهد في العمل ، فإذا انقضى العدد ، وانتهت المدد وطال الأمد ، وجاء الرحيل ، ووقف الداعي على رأس السبيل ، لم يحز قصب السبق ، إلا المضمر المهزول في الحق.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦)

أخفى الله تعالى في الدنيا ما يجب من تعظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلو منزلته ، كما أخفى ما يستحقه جل جلاله من تعظيم عباده إياه وأطلق الألسنة عليه بأن له صاحبة وولدا وما وقع به التعريف مما لا يليق به ، كذلك قيل فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ساحر مجنون كذاب وغير ذلك ، فإذا كان يوم القيامة ، وظهر الحق سبحانه في عزته وكبريائه ، فذل كل موجود تحت عزته على الكشف ، وذهبت الدعاوى وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد

٤٤٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيادته على الناس ، وافتقار الخلق إليه من سائر الأمم في فتح باب الشفاعة ، وبان فضله على سائر الأنبياء والرسل ، فعلم هنالك عظم منزلته عند ربه ، كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه ودولته.

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) نون العظمة في الواحد قول من لا علم له بالحقائق ولا بلسان العرب ، والله كثير بالأحكام ، فإن له الأسماء الحسنى ، وكل اسم علامة على حقيقة معقولة ليست هي الأخرى ، فمعقول نحن ما هو معقول إني ، فالجمع على حقيقته من حيث الأسماء الإلهية ، فالنون على بابها في الجمع ، وغاية من قدر على معناها وقرب أن قال إذا قال بقوله جماعة لمكانته وشرفه ولا يرد له قول ، فبذلك الاعتبار يكنى بالنون عن الواحد ، وليس كذلك ولكنه أقرب الوجوه ، بل الوجه الصحيح أن الكناية هنا عن الأسماء التي عنها تقع الآثار على اختلافها ، وإن جمعتها ذات واحدة ، فهو العالم من حيث كذا ، والقادر من حيث كذا ، والمريد من حيث كذا ، والرازق من حيث كذا ، فكثرت الوجوه والنسب فطلبت النون (الذِّكْرَ) يريد القرآن ، فالذكر هو القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التغيير والتبديل والتحريف ، فهو محفوظ أن يزاد فيه أو ينقص منه بطريق التغيير لكونه معجزة ، ولم يكن ذلك لغيره من الكتب ، لأن سائر الكتب لم تنزل على طريق الإعجاز ، فلذلك حرف فيها من حرف وبدل من بدل ، ولما كان الحق في هذه الأمة سمع العبد وبصره ولسانه ويده تولى الله فينا حفظ ذكره ، واستحفظ كتابه غير هذه الأمة فحرفوه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ

٤٤٦

(١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١)

إن هنا بمعنى ما ، فعم بها وبشيء ، وجعله مخزونا في خزائن غيبه ، ولهذا قلنا إن الكون صادر من وجود ، وهو ما تحويه هذه الخزائن إلى وجود ، وهو ظهورها من هذه الخزائن لأنفسها بالنور الذي تكشف به نفسها ، فإنها في ظلمة الخزائن محجوبة عن رؤية ذاتها ، فهي في حال عدمها ، والحقيقة أنّا عن الحق صدرنا من كوننا عنده في الخزائن كما أعلمنا فعلمنا ، فهو صدور لم يتقدمه ورود كما هو في بعض الأمور فمن قال إن الصدور بعد الورود فما عنده علم بحقائق الوجود ، فلو لا نحن ثابتين في العدم ما صح أن تحوي علينا خزائن الكرم ، فلنا في العدم شيئية غير مرئية ، أما قوله : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) فذلك إذ لم يكن مأمورا ، فقيده بالذكر في محكم الذكر (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) عندية الله على قسمين ، أعني ما هو عنده ، القسم الواحد ما هو عليه من الأمر الذي يعقل زائدا على هويته ، وإن لم نقل فيه إنه غير ولا عينه أيضا ، كالصفات المنسوبة إليه ، لا هي هو ولا هي غيره ، وقد يكون عنده ما يحدث فينا ولنا ، والكل عند الله ، فما ثم معقول ولا موجود يحدث عنده ، بل الكل مشهود العين له بعين ثبوت ووجود ، فالثبوت خزائنه ، والوجود ما يحدثه عندنا من تلك الخزائن ، والعندية أضيفت إلى الحق ، فاختلفت إضافات العندية باختلاف ما أضيفت إليه من اسم وضمير وكناية ، وهي ظرف ثالث ليس بظرف زمان ولا ظرف مكان مخلص ، بل ما هو ظرف مكانة جملة واحدة على الإطلاق ـ الوجه الأول ـ الخزائن :

٤٤٧

ثم إن الله جعل عنديته ظرفا لخزائن الأشياء ، ومن هذه الخزائن تخرج الأشياء إلى وجود أعيانها ، فهي في الخزائن محفوظة موجودة لله ، ثابتة لأعيانها غير موجودة لأنفسها ، فالأشياء الموجودة بالنظر إلى أعيانها موجودة عن عدم ، وبالنظر إلى كونها عند الله في هذه الخزائن هي موجودة عن وجود ، فأعيان العالم محفوظون في خزائنه عنده ، وخزائنه علمه ، ومختزنه نحن ، فنحن أثبتنا له حكم الاختزان ، لأنه ما علمنا إلا منا ، ومعلوم أن الله يخلق الأشياء ويخرجها من العدم إلى الوجود ، وهذه الإضافة تقتضي بأنه يخرجه من الخزائن التي عنده ، فهو يخرجها من وجود لم تدركه إلى وجود تدركه ، فما خلصت الأشياء إلى العدم الصرف ، بل ظاهر الأمر أن عدمها من العدم الإضافي ، فإن الأشياء في حال عدمها مشهودة له يميزها بأعيانها ، مفصلة بعضها عن بعض ، ما عنده فيها إجمال ، فخزائنها أعني خزائن الأشياء التي هي أوعيتها المخزونة فيها إنما هي إمكانات الأشياء ليس غير ذلك ، لأن الأشياء لا وجود لها في أعيانها ، بل لها الثبوت ، والذي استفادته من الحق الوجود العيني ، فتفصلت للناظرين ولأنفسها بوجود أعيانها ، ولم تزل مفصلة عند الله تفصيلا ثبوتيا ، ثم لما ظهرت في أعيانها وأنزلها الحق من عنده أنزلها في خزائنها ، فإنّ الإمكان ما فارقها حكمه ، فلو لا ما هي في خزائنها ما حكمت عليها الخزائن ، فما لها خروج من خزائن إمكانها ، والخزائن لا تكون خزائن إلا بما يختزن بها ، فالأشياء عند الله مختزنة في حال ثبوتها ، فإذا أراد تكوينها لها أنزلها من تلك الخزائن وأمرها أن تكون ، فتكتسي حلة الوجود فيظهر عينها لعينها ، ولم تزل ظاهرة لله في علمه أو لعلمه بها ، فليست الخزائن إلا المعلومات الثابتة ، فإنها عنده ثابتة يعلمها ويراها ويرى ما فيها ، فيخرج منها ما شاء ، وهي مع كونها في خزائن ، فيتخيل فيها الحصر والتناهي ، وإنما هي غير متناهية ، ـ الوجه الثاني ـ اعلم أن الخزائن التي عند الحق على نوعين ، نوع منها خزائن الثبوت للممكنات ، والنوع الثاني منها خزائن وجودية لمختزنات موجودة ، كشيء يكون عند زيد ، من جارية أو غلام أو فرس أو ثوب أو دار أو أي شيء كان ، فزيد خزانته ، وذلك الشيء هو المختزن ، وهما عند الله ، فإن الأشياء كلها بيد الله ، فيفتقر عمرو إلى الله تعالى في ذلك الذي عند زيد أن يكون عنده ، كان ما كان ، فيلقي الله في قلب زيد أن يهب ذلك الشيء أو يبيعه أو يزهد فيه ويكرهه فيعطيه عمروا ، فمثل هذا من خزائن الحق التي عنده ، والعالم على هذا كله خزائن بعضه لبعض ، وهو عين

٤٤٨

المختزن ، والعالم خزانة مخزون ، وانتقال مختزن من خزانة إلى خزانة فما أنزل منه شيء إلى غير خزانة ، فكله مخزون عنده ، فهو خزانته على الحقيقة التي لا يخرج شيء عنها ، وما عدا الحق فإن المختزن يخرج عنها إلى خزانة أخرى ، فالافتقار للخزائن من الخزائن إلى الخزائن ، والكل بيد الله وعنده ، فهو الصمد الذي يلجأ إليه في الأمور ويعول عليه ، ومن هنا يتعلق المتوكلون في حال توكلهم على ما توكلوا عليه ، فمنهم المتوكل على الله ، ومنهم المتوكل على الأسباب ، غير أن الأسباب قد تخون من اعتمد عليها ولجأ إليها في أوقات ، والحق تعالى لا يسلم من توكل عليه وفوض أمره إليه. ـ الوجه الثالث ـ في هذه الخزائن : هي الخزائن الموجودة في الفلك الأطلس فلك البروج ، فإن لكل ملك من الأملاك الاثني عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة ، تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن ينزل بهم على قدر ما تعطيه رتبة هذا النازل (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فله موازين ، فما يتميز عنده إلا ما هو موجود له ، ولا يجري القدر إلا في عين مميزة عن غيرها ، وليس هذا صفة المعدوم من كل وجه ، فدل ذلك كله على وجود الأعيان لله تعالى في حال اتصافها بالعدم لذاتها ، وهذا هو الوجود الأصلي لا الإضافي والعدم الإضافي ، كما يدل قوله تعالى (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) على أن ترتيب الإيجاد يؤذن بالتوقيت على مقتضى الحكمة من اسمه الحكيم ، فينزل الأرزاق بقدر معلوم في الدنيا ، فإذا كان في الآخرة عاد الحكم فيما تحوي عليه هذه الخزائن التي عند الله إلى العبد العارف الذي كمل الله سعادته ، فيدخل فيها متحكما فيخرج منها ما يشاء بغير حساب ، ولا قدر معلوم ، بل بحكم ما يختاره في الوقت ، فإن المسعود في الآخرة يعطى التكوين ، ويكشف له عن نفسه أنه عين الخزانة التي عند الله ، فإنه عند الله ، فكل ما خطر له تكوينه كونه ، فلا يزال في الآخرة خلاقا دائما ، فارتفع التقدير فهو يتبوأ من الجنة حيث يشاء.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

٤٤٩

(٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦)

لما خلق الله الإنسان من طين تركه مدة يختمر بما يمر عليه من الهواء الحار الذي يتخلل أجزاء طينته ، فتخمر وتغيرت رائحته فكان حمأ مسنونا متغير الريح ، ثم طبخت هذه الطينة بركن النار فظهرت فخارة الإنسان والتأمت أجزاؤه وقويت وصلبت ، فكان صلصالا كالفخار.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧)

الجان خلقه الله قبل خلق آدم ، والجان مخلوق من الأركان ، وجعل أغلب جزء فيه النار ، كما جعل أعظم جزء في آدم التراب ، لذا علا إبليس عند نفسه لأن أصله من اللهب ، ولهب النار يطلب العلو ، فلهذا تكبر ، ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من أعلاه عكس رأس اللهب إلى السفل قسرا وقهرا ، كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره على آدم لنشأته عكسه إلى الأرض فأهبط ، لا بل أهبط إلى أسفل سافلين.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٨)

لما غلب على آدم في نشأته التراب ، وله السكون بخلاف لهب النار ، ثبت على عبوديته وتواضعه فسعد ، وكونه (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) لهذا يتغير كل ما يحل فيه من الأطعمة والأشربة ويستحيل إلى الروائح القبيحة ، ويندرج في هذا الكلام النشأة الأخروية واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروائح الطيبة.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩)

خلق الإنسان الأول ـ لما خلق الله العالم من أفلاك وسموات وجان ومعدن ونبات وحيوان أخذ التراب اللزج وخلطه بالماء ، فصيره طينا بيديه تعالى كما يليق بجلاله ، إذ ليس كمثله شيء ، وتركه مدة يختمر بما يمر عليه من الهواء الحار الذي يتخلل أجزاء طينته ، فتخمر

٤٥٠

وتغيرت رائحته فكان حمأ مسنونا متغير الريح ، ثم طبخت هذه الطينة بركن النار ، فظهرت فخارة الإنسان والتأمت أجزاؤه وقويت وصلبت ، فقصرها بالماء الذي هو عنصر الحياة ، فأعطاها الماء من رطوبته وألان بذلك من صلابة الفخار ما ألان ، فسرت فيه الحياة وأمده الركن الهوائي بما فيه من الرطوبة والحرارة ليقابل بحرارته برد الماء ، فامتنعا فتوفرت الرطوبة عليه فأحال جوهرة طينته إلى لحم ودم وعضلات وعروق وأعصاب وعظام ، وهذه كلها أمزجة مختلفة لاختلاف آثار طبيعة العناصر الأربعة ، وهي الماء والتراب والهواء والنار واستعدادات أجزاء هذه النشأة ، فلذلك اختلفت أعيان هذه النشأة الحيوانية فاختلفت أسماؤها لتتميز كل عين عن غيرها ، فلما أكمل النشأة الجسمية النباتية الحيوانية وظهر فيها جميع قوى الحيوان أعطاه الفكر من الاسم الإلهي المدبر ، فإن الحيوان جميع ما يعمله من الصنائع وما يعلمه ليس عن تدبير ولا روية ، بل هو مفطور على العلم بما يصدر عنه ، لا يعرف من أين حصل له ذلك الإتقان والإحكام ، كالعناكب والنحل بخلاف الإنسان ، فإنه يعلم أنه ما استنبط أمرا من الأمور إلا عن فكر وروية وتدبير ، فيعرف من أين صدر ، وبهذا القدر سمي إنسانا لا غير ، وهي حالة يشترك فيها جميع الناس إلا الإنسان الكامل ، فإنه زاد على الإنسان الحيواني بتصريفه الأسماء الإلهية التي أخذ قواها من خلقه على الصورة ، فجعل الإنسان الكامل خليفة ، وأما الإنسان الحيواني فحكمه حكم سائر الحيوان ، إلا أنه يتميز عن غيره من الحيوان بالفصل المقوم له ، كما يتميز الحيوان بعضه عن بعض بالفصول المقومة لكل واحد من الحيوان ، فالإنسان الحيوان من جملة الحشرات ، فإذا كمل فهو الخليفة فاجتمعا لمعان وافترقا لمعان ، وبعد استعداد خلق الجسد نفخ فيه الحق من روحه فصار للإنسان نفس أصلها الطهارة من حيث أبوها ، ولم يظهر لها عين إلا بوجود الجسد الطبيعي ، فكانت الطبيعة الأب الثاني ، فخرجت النفوس ممتزجة فلم يظهر فيها إشراق النور الخالص المجرد عن المواد ولا الظلمة الغائية التي هي حكم الطبيعة ، واعلم أن النفس التي هي لطيفة العبد المدبرة هذا الجسم لم يظهر لها عين إلا عند تسوية هذا الجسد وتعديله ، فحينئذ نفخ فيه الحق من روحه ، فظهرت النفس بين النفخ الإلهي والجسد المسوى ، ولهذا كان المزاج يؤثر فيها ، فالنفوس الإنسانية نتيجة عن هذه الأجسام العنصرية ومتولدة عنها ، فإنها ما ظهرت إلا بعد تسوية هذه الأجسام واعتدال أخلاطها ، فهي للنفوس المنفوخة فيها من الروح

٤٥١

المضاف إليه تعالى كالأماكن ، تطرح الشمس شعاعاتها عليها فتختلف آثارها باختلاف القوابل ، أين ضوء الشمس في الأجسام الكثيفة منه في الأجسام الصقيلة؟ فلهذا تفاضلت النفوس لتفاضل الأمزجة ، فترى نفسا سريعة القبول للفضائل والعلوم ، ونفسا أخرى من الضد منها ، وبينهما متوسطات ، فكانت النفوس عن الطبيعة فهي أمها وأبوها الروح ، ولا تتقوى النفس بأبيها إلا إذا أيدها الله بروح قدسي ينظر إليها ، فحينئذ تقوى على حكم الطبيعة ، فلا تؤثر فيها التأثير الكلي وإن بقي فيها أثر ، فإنه لا يمكن زواله بالكلية ، ففرّق الحق بين روح الأمر وبين روح ياء الإضافة ، فجعل روح الأمر لما يكون به التأييد ، وجعل روح الياء لوجود عين الروح الذي هو كلمة الحق المنفوخ في الطبيعة ، فمن حيث النفخ الإلهي لا تفاضل ، وإنما التفاضل في القوابل ، فالنفس لها وجه إلى الطبيعة ووجه إلى الروح الإلهي ، وأضاف الروح إلى نفسه بياء الإضافة ينبه على مقام التشريف ، أي أنك شريف الأصل فلا تغفل إلا بحسب أصلك ، لا تفعل فعل الأراذل ، وسميت حقيقة الإنسان لطيفة لأنها ظهرت بالنفخ عند تسوية البدن للتدبير من الروح المضاف إلى الله ، من قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهو النفس الإلهي ، فهي سر إلهي لطيف ينسب إلى الله على الإجمال من غير تكييف ، وأعطيت هذه الحقيقة في هذا المركب الآلات الروحانية والحسية لإدراك علوم لا يعرفها إلا بوساطة هذه الآلات ، وهذا من كونه لطيفا أيضا ، فإنه من الإمكان العقلي فيما يظهر لبعض العقلاء من المتكلمين أن يعرف ذلك الأمر من غير وساطة هذه الآلات ، وهذا ضعيف في النظر ، فإنا ما نعني بالآلات إلا المعاني القائمة بالمحل ، فنحن نريد السمع والبصر والشم ، لا الأذن والعين والأنف ، وهو لا يدرك المسموع إلا من كونه صاحب سمع لا صاحب أذن ، وكذلك لا يدرك المبصر إلا من كونه صاحب بصر لا صاحب حدقة وأجفان ، فإذا إضافات هذه الآلات لا يصح ارتفاعها ، ولما ظهر عين هذه اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان كان هذا أيضا عين تدبيرها لهذا البدن من باب اللطائف ، لأنه لا يعرف كيف ارتباط الحياة لهذا البدن بوجود هذا الروح اللطيف ، لمشاركة ما تقتضيه الطبيعة فيه من وجود الحياة التي هي الروح الحيواني ، فظهر نوع اشتراك ، فلا يدري على الحقيقة هذه الحياة البدنية الحيوانية هل هي لهذه اللطيفة الظاهرة عن النفخ الإلهي المخاطبة المكلفة أو الطبيعة أو للمجموع إلا من علم ذوقا أنه ما في العالم

٤٥٢

إلا حي ناطق بتسبيح ربه تعالى بلسان فصيح ينسب إليه بحسب ما تقتضيه حقيقته ، واعلم أنه لما خلق الله تعالى الإنسان من جملة خلقه ، خلقه إماما وأعطاه الأسماء ، وأسجد له الملائكة وجعل له تعليم الملائكة ما جهلوه ، ولم يزل في شهود خالقه ، فلم تقم به عزة بل بقي على أصله من الذلة والافتقار ، ولما حمل الأمانة عرضا وجرى ما جرى قال هو وزوجته إذ كانت جزءا منه (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) بما حملاه من الأمانة ، ثم إن بنيه اعتزوا لمكانة أبيهم من الله لما اجتباه ربه وهدى به من هدى ، ورجع عليه بالصفة التي كان يعامله بها ، ابتداء من التقريب والاعتناء الذي جعله خليفة عنه في خلقه وكمل به وفيه وجود العالم ، وحصّل الصورتين ، صورة خلقه على صورة الحق وصورة خلقه مجموعا لصورة العالم ، ففاز بالسورتين أعني المنزلتين ، منزلة العزة بالسجود له ومنزلة الذلة بعلمه بنفسه ، وجهل من جهل من بنيه ما كان عليه أبوه من تحصيل المنزلتين والظهور بالصفتين ، فراضهم الاسم المذل من حضرة الإذلال ، فأخرجهم عن الإدلال بالدال اليابسة ، وذلك لما اعتنى الله به من بنيه فأشهدهم عبوديتهم فتقربوا إليه بها ، ولا يصح أن يتقرب إلى الله إلا بها ، وكان سبب ذلك ما حصل في نفوس البنين من العزة التي حصلت له من رتبة أبيه من خلقه على الصورة الإلهية ، كما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله خلق آدم على صورته ، واختلف في ضمير الهاء من صورته على من يعود ، فهو على الصورة الإلهية وفي رواية وإن ضعفت على صورة الرحمن ، ولو علم من يجهل هذا أنه ما من شيء في العالم إلا وله حظ من الصورة الإلهية ، والعالم كله على الصورة الإلهية ، وما فاز الإنسان الكامل إلا بالمجموع ، وما كملت الصورة من العالم إلا بوجود الإنسان ، فامتاز الإنسان الكامل عن العالم ، مع كونه من كمال الصورة للعالم الكبير بكونه على الصورة بانفراده من غير حاجة إلى العالم ، فلما امتاز سرى العز في أبنائه ، أي في بعض بنيه ، فراضهم الله بما شرع لهم ، فقال لهم إن كنتم اعتززتم بسجود الملائكة لأبيكم فقد أمرتكم بالسجود للكعبة ، فالكعبة أعز منكم إن كان عزكم للسجود ، فإنكم في أنفسكم أشرف من الملائكة التي سجدت لكم أي لأبيكم ، وأنتم مع دعواكم في هذا الشرف تسجدون للكعبة الجمادية ، ومن عصى منكم عن السجود لها التحق بإبليس الذي عصى بترك سجوده لأبيكم ، فلم يثبت لكم العز بالسجود مع سجودكم للكعبة وتقبيلكم الحجر الأسود على أنه يمين الله محل البيعة الإلهية كما أخبرتكم ، وإن كنتم اعتززتم بالعلم لكون أبيكم علم الملائكة الأسماء كلها

٤٥٣

فإن جبريل عليه‌السلام من الملائكة وهو معلم أكابركم ، وهم الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، والنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين تدلى إليه ليلة إسرائه رفرف الدر والياقوت فسجد جبريل عليه‌السلام ولم يسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : فعلمت فضل جبريل علي في العلم عند ذلك ، ثم إنكم عن لمة الملك تتصرفون في مرضاة الله ، فهم الذين يدلونكم على طرق سعادتكم والتقرب ، فبأي شيء تعتزون على الملائكة ، فكونوا مثل أبيكم تسعدوا ، وما ثم فضل إلا بالسجود والعلم وقد خرج من أيديكم ، والذين لهم العزة من النبيين ليس إلا الرسل والمؤمنون ، فمن ارتاض برياضة الله فقد أفلح وسعد ـ سر في السجود ـ قال تعالى في الملأ الأعلى إذ يختصمون ، ولهذا أمروا بالسجود لآدم عليه‌السلام ، فإن الاعتراض خصام في المعنى والخصم قوي ، فلما أعطي الإمامة والخلافة وأسجدت له الملائكة ، وعوقب من أساء الأدب عليه وتكبر عليه بنشأته ، وأبان عن رتبة نفسه بأنها عين نشأته ، فجهل أوّلا فكان بغيره أجهل ، ولا شك أن هذا المقام يعطي الزهو والافتخار لعلو المرتبة ، والزهو والفخر داء معضل وإن كان بالله تعالى ، فأنزل الله لهذا الداء دواء شافيا ، فأمر الإمام بالسجود للكعبة ، فلما شرب هذا الدواء برىء من علة الزهو وعلم أن الله يفعل ما يريد وما تقدم على من تقدم عليه من الملائكة بالصفة التي أعطاه الله لعلو رتبته على الملائكة ، وإنما كان ذلك تأديبا من الله لملائكته في اعتراضهم ، وهو على ما هو عليه من البشرية ، كما أنه قد علم أنه ما سجد للكعبة لكون هذا البيت أشرف منه ، وإنما كان دواء لعلة هذه الرتبة ، فكأن الله حفظ على آدم صحته قبل قيام العلة به ، فإنه من الطب حفظ الصحة ، وهو أن يحفظ المحل أن يقوم به مرض لأنه في منصب الاستعداد لقبول المرض ، وقد علم أنه وإن سجد للبيت فإنه أتم من البيت في رتبته ، فعلم أن الملائكة ما سجدت له لفضله عليهم ، وإنما سجدت لأمر الله ، وما أمرها الله إلا عناية بها لما وقع منهم مما يوجب وهنهم ، ولكنهم لما لم يقصدوا بذلك إلا الخير اعتنى الله بهم في سرعة تركيب الدواء لهم بما علمهم آدم من الأسماء ، وبما أمروا به من السجود له ، وكل له مقام معلوم ، فابتليت الملائكة بالسجود جبرا لما أخذت من طهارتها الدعوى (وهي قولها أتجعل فيها ...) ، فكان ذلك للملائكة كالسهو في الصلاة للمصلي ، فأمر أن يسجد لسهوه ، كذلك أمرت الملائكة أن تسجد لدعواها ، فإن الدعوى سهو في حقها ، فكان ذلك ترغيما للدعوى لا لهم

٤٥٤

ـ وجه ـ اعلم أن أول ما خلق الله العقل ، وهو الذي ظهرت منه هذه العقول بوساطة هذه النفوس الطبيعية ، وسماه الله في كتابه العزيز الروح ، وأضافه إليه فقال في حق النفوس الطبيعية وحق هذا الروح وحق هذه الأرواح الجزئية التي لكل نفس طبيعية (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهو هذا العقل الأكبر (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠)

فما بقي ملك إلا سجد لأنهم الذين قال الله لهم اسجدوا لآدم ، والملائكة هي الرسل من الأرواح خاصة ، فإن الألوكة هي الرسالة في لسان العرب ، والسجود هو التطاطي في اللسان فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ـ كسجود الناس إلى الكعبة ـ وتشريف ، لا سجود عبادة نعوذ بالله ، وهو التواضع والخضوع والإقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه ، وإذا حصل موجود في مقام تتعلم منه الملائكة ، فأحرى من دونهم ، وذلك تشريف من الله سبحانه ، ودليل قاطع على ثبوت إرادته (يختص برحمته من عباده من يشاء) ـ إشارة ـ إن المقام المحمود يكون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة ، وكان في الدنيا لآدم أبي البشر ، وقام فيه حين سجدت له الملائكة ، وظهر آدم في ذلك المقام لكونه كان يتضمن جسده بشرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآدم هو الأب الأعظم في الجسمية والمقرب عند الله ، وأول هذه النشأة الترابية الإنسانية ، فظهرت فيه المقامات كلها حتى المخالفة ، إذ كان جامعا للقبضتين قبضة الوفاق وقبضة الخلاف.

(إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١)

ونصب إبليس على الاستثناء المنقطع لا المتصل ، ولو لا ما ذكر الله إبليس بالإباية ما عرفنا أنه أمر بالسجود.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥)

٤٥٥

فأقّت الله اللعنة إلى يوم الدين ، فإنه تعالى أخبر عنه حاكيا وأقره عليه ولم ينكره (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ...) الآية وأخبر عنه بقوله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) الآية ، فالشيطان جرم النار لو فهمت.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩)

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) فالتزيين الذي جاء به من قوله تعالى (وَعِدْهُمْ) فإنه يتضمنه وقوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) هو عن تخلق من قوله (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) ولو لا التكليف ما قرب شيطان إنسانا بإغواء أبدا ، واعلم أن إبليس يستدرج كل طائفة من حيث ما هو الغالب عليها ، فإنه عالم بمواقع المكر والاستدراج ، فيرسل خواطره الشيطانية على العامة بالمحظور فعلا كان أو تركا ، وبالمكروه فعلا كان أو تركا في حق العبّاد من العامة ، ويأتي بالمباح في حق المبتدىء من أهل طريق الله ، ويأتي بالمندوب في حق المتوسطين من أهل الله أصحاب السماع ، ويأتي العارفين بالواجبات ، فلا يزال بهم حتى نووا مع الله فعل أمر ما من الطاعات ، وهو في نفس الأمر عهد يعهده مع الله ، فإذا استوثق منه في ذلك وعزم وما بقي إلا الفعل أقام له عبادة أخرى أفضل منها شرعا ، فيرى العارف أن يقطع زمانه بالأولى ويشرع في الثاني ، فيفرح إبليس حيث جعله ينقض عهد الله بعد ميثاقه والعارف لا خبر له بذلك ، وكل متمكن من أهل الله من ورثة الأنبياء يراها مع كونها حسنة هي خواطر شيطانية.

(إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠)

وهم الذين أخلصهم الله إليه مما ألقى إليهم العدو وفيهم من نور الحفظ والعصمة.

٤٥٦

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢)

(إِنَّ عِبادِي) فأضافهم إليه ، وعبيد الله عبدان : عبد ليس للشيطان عليه سلطان ، وهو عبد الاختصاص ، وهو الذي لا ينطق إلا بالله ، ولا يسمع إلا بالله ، فالحجة لله لا له ، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فإنها حجة الله ومن عبيد الاختصاص من ينطق عن الله ويسمع من الله ، فهذا أيضا من أهل الحجة البالغة ، لأنه لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) والعبد الثاني ، عبد العموم ، وهو الذي قال عنهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) فأضافهم إليه (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي قوة وقهر وحجة ، لأن الله تولى حفظهم وتعليمهم بما جعل فيهم من التقوى ، وما تجد في القرآن عبادا مضافين إليه سبحانه إلا السعداء خاصة ، وجاء اللفظ في غيرهم بالعباد ، فكل عبد توجه لأحد عليه حق من المخلوقين فقد نقص من عبوديته لله بقدر ذلك الحق ، فإن ذلك المخلوق يطلبه بحقه وله عليه سلطان به ، فلا يكون عبدا محضا خالصا لله ، فالمضاف إليه سبحانه من عباده الذين هم عباده ، وهم الذين لا سلطان لمخلوق عليهم في الآخرة ، وهم المعصومون المحفوظون القائمون بحدود سيدهم الواقفون عند مراسمه ، وقطع الله بهذه الآية يأس إبليس من عباد الله المخلصين أن يكون له عليهم سلطان وحكم فيهم ، فهم المعصومون والمحفوظون في الباطن وفي الظاهر من الوقوع عن قصد انتهاك حرمة الله ، فخواطر المعصومين والمحفوظين كلها ما بين ربانية أو ملكية أو نفسية ، وعلامة ذلك عند المعصوم أنه لا يجد ترددا في أداء الواجب بين فعله وتركه ، ويجد التردد بين المندوب والمكروه ، ولا في ترك واجب تركه ، لا يجد فيه التردد ، لأن التردد في مثل هذين هو من خواطر الشيطان ، فمن وجد في نفسه هذه العلامة علم أنه معصوم.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

٤٥٧

اعلم أن جهنم تحتوي على السموات والأرض والكواكب كلها فيها طالعة وغاربة على أهل النار بالحرور والزمهرير ، وأبوابها سبعة بحسب أعضاء التكليف الظاهرة ، لأن باب القلب مطبوع عليه لا يفتح من حين طبع الله عليه عند ما أقر له بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية ، فللنار على الأفئدة اطلاع لا دخول لغلق هذا الباب ، وأسماء أبواب النار السبعة : باب جهنم ، باب الجحيم ، باب السعير ، باب سقر ، باب لظى ، باب الحطمة ، باب سجين ، وقيل باب الحامية والهاوية بدلا من جهنم وسجين ، والباب المغلق وهو الثامن الذي لا يفتح ، فهو الحجاب عن رؤية الله تعالى ، والأبواب السبعة مفتحة ، لكل باب جزء من العالم ومن العذاب مقسوم ، وعلى كل باب ملك من الملائكة ملائكة السموات السبع ، وسميت الأبواب بصفات ما وراءها مما أعدت له ، ووصف الداخلون فيها بما ذكر الله تعالى في مثل قوله في لظى (إنها (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) وقال ما يقول أهل سقر إذا قيل لهم (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) وقال في أهل الجحيم (إنه يكذب بيوم الدين) ووصفه بالإثم والاعتداء ثم قال فيهم (إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) وهكذا في الحطمة والسعير.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤٧)

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي يقابل بعضهم بعضا.

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٤٨)

النشأة التي تقوم من العناصر كلما نزل فيها من معدن إلى نبات إلى حيوان إلى إنسان كان التعب أقوى في آخر الدرجات وهو الإنسان ، والنصب أعم من التعب ، فإنه سريع التغير فإن له الوهم ، ولا شك أن الأوهام تلعب بالعقول (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي باقون في دار الكرامة لا يخرجون منها.

٤٥٨

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤٩)

ـ إشارة ـ لا يمتحن بالدليل إلا صاحب الدعوى ، فمن ادعى فقد عرض نفسه للبلوى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فقلنا بالجرأة على الخطايا.

(وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠)

فحلت الرزايا بحلول البلايا.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١)

ـ إشارة ـ الصوفية أضياف الله ، فإنهم سافروا من حظوظ أنفسهم وجميع الأكوان إيثارا للجناب الإلهي ، فنزلوا به ، فلا يعملون عملا إلا بإذن من نزلوا عليه ، وهو الله ، فلا يتصرفون ولا يسكنون ولا يتحركون إلا عن أمر إلهي ، ومن ليست هذه صفته فهو في الطريق يمشي يقطع مناهل نفسه حتى يصل إلى ربه ، فحينئذ يصح أن يكون ضيفا ، وإذا أقام عنده ولم يرجع كان أهلا ، لأن أهل القرآن ـ وهو الجمع به تعالى ـ هم أهل الله وخاصته.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (٥٦) لا يقنط من رحمة الله ، إلا من ضل عن الطريق وتاه.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)

٤٥٩

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧٥)

السمة هي العلامة وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) فالفراسة نور من أنوار الله عزوجل يهدي له عباده ، ولها دلائل ، والفراسة الشرعية لا تشذ لأنها عن أمر إلهي ، فهي مستمرة عند أهلها لأن دلائلها ، في نفس من قامت به ، بخلاف الفراسة الحكمية فإن أدلتها في نفس المتفرس فيه فقد تشذ ، فالفراسة الشرعية هي أعلى درجات المكاشفة وذلك أن لها علامات في الحس ، بينها وبين عالم الغيب ارتباط ، وهذا علم موقوف على الذوق خلاف الفراسة الحكمية فإنها موقوفة على التجربة والعادة وقد لا تصدق ، ولما كانت الفراسة الشرعية نور الله تعالى فهي لا تعطي إلا الحقائق ، وسبب حصولها جلاء عين البصيرة ، وقد جعل الله لعالم علمها علامات في ظاهر الموجودات ، كما جاء في الأثر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أخذ على الرجل في نظره إلى ما لا يحل له فقال له الرجل أوحي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا ولكن قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» رأيت ذلك في عينيك ، فما جار وما ظلم ، من تفرس وحكم ، يستخرج خفايا الأسرار ، بما عنده من الأنوار ، يعرف الماء في

٤٦٠