أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

فأخذتهم صيحة طاغية (١) ، (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي ذات صوت شديد (عاتِيَةٍ) أي عتت على خزانها في الهبوب. (سَخَّرَها) الله (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ (٢) حُسُوماً) أي متتابعات بلا انقطاع حسما لوجودهم كما يحسم الدواء بالكي الحاسم للداء المتتابع. وقوله تعالى (فَتَرَى) أيها الرسول (الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي فترى القوم في تلك الليالي والأيام صرعى ساقطين على الأرض كأنهم أصول نخل ساقطة فارغة ليس في أجوافها شيء (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي من نسلهم لا شيء إذ هلكوا كلهم أجمعون ، وقوله تعالى (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) كقوم نوح وعاد وثمود (وَالْمُؤْتَفِكاتُ (٣) بِالْخاطِئَةِ) أي بالأفعال الخاطئة وهي الشرك والمعاصي وبينها تعالى بقوله (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي زائدة في الشدة على غيرها وقوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي ماء الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي حملنا آباءكم في الجارية التي هي سفينة نوح عليه‌السلام وقوله (لِنَجْعَلَها لَكُمْ (٤) تَذْكِرَةً) أي لنجعل السفينة تذكرة لكم عظة وعبرة (وَتَعِيَها) أي وتحفظ هذه العظة (أُذُنٌ) حافظة لا تنسى ما هو حق وخير من المعاني.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان أن كلا من عاد وثمود كانوا يكذبون بالبعث وبيان ما أهلكهم الله به.

٣ ـ بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي والأخروي.

٤ ـ التذكير بحادثة الطوفان وما فيها من عظة وعبرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ

__________________

(١) هي أشبه بصيحة النفخ في الصور وثمود هم قوم صالح ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز وتعرف اليوم بمدائن صالح على أميال من مدينة العلا اليوم. وأما عاد فمنازلهم كانت بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضر موت باليمن وأهلكوا بريح صرصر.

(٢) قيل بدأ من صباح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال وكانت في آخر الشتاء.

(٣) أي المتقلبات من ائتفك الشيء إذ قلب قراهم الخمسة منع وصعر وعمر ودوما وسدوم وهي القرية العظمى قلبها الملك فجعل عاليها سافلها.

(٤) وجائز أن يكون الضمير في ليجعلها عائد إلى العملية عملية إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين تذكرة وموعظة.

٤٢١

(١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

شرح الكلمات :

(نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) : أي النفخة الأولى.

(حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) : أي رفعت من أماكنها.

(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) : أي ضرب بعضها ببعض فاندكت وصارت كثيبا مهيلا.

(وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) : أي قامت القيامة.

(فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) : أي مسترخية ضعيفة القوة.

(عَلى أَرْجائِها) : أي على أطرافها وحافاتها.

(ثَمانِيَةٌ) : أي من الملائكة وهم حملة العرش الأربعة وزيد عليهم أربعة.

(لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) : أي لا تخفى منكم سريرة من السرائر التي تخفونها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الدافع إلى فعل الخير وترك الشر في الدنيا فقال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) (١) أي نفخ اسرافيل في الصور الذي هو البوق أو القرن النفخة الأولى وهو المراد بقوله (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) ، وقوله تعالى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي ضرب بعضها ببعض فاندكت فصارت هباء منبثا ، (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انفطرت وتمزقت (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ضعيفة مسترخية. (وَالْمَلَكُ (٢) عَلى أَرْجائِها) أي على أطرافها وحافاتها ، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ثمانية (٣) من الملائك أربعة هم حملة العرش دائما وزيد عليهم أربعة فصاروا ثمانية قال تعالى (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) (٤) على الله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي سريرة مما كنتم تسرون.

__________________

(١) الفاء تفريعية لتفريع ما بعدها من تفصيل أحوال الدار الآخرة على ما تقدم من ذكر الحاقة أي القيامة والمكذبين بها وما نالهم من عذاب في الدنيا.

(٢) (الْمَلَكُ) اسم جنس المراد به أعداد هائلة من الملائكة.

(٣) قيل هم ثمانية صفوف ، وقيل ثمانية أعشار أي نحو ثمانين من عدد الملائكة. وما في التفسير هو الراجع الصحيح.

(٤) أصل العرض إمرار الشيء على من يريد التأمل فيه كعرض السلعة على المشتري وكاستعراض الجيوش اليوم والمراد بالعرض الحساب والجزاء.

٤٢٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان كيفية الانقلاب الكوني لنهاية الحياة الأولى وبداية الحياة الثانية.

٣ ـ تقرير العرض على الله عزوجل للحساب ثم الجزاء.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

شرح الكلمات :

(هاؤُمُ) : أي خذوا.

(إِنِّي ظَنَنْتُ) : أي علمت.

(راضِيَةٍ) : أي يرضى بها صاحبها.

(قُطُوفُها دانِيَةٌ) : أي ما يقتطف ويجنى من الثمار.

(بِما أَسْلَفْتُمْ) : أي بما قدمتم.

(فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) : أي الماضية.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة فقال تعالى (١) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ (٢) هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٣) أي إنه بعد مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل

__________________

(١) الفاء لتفصيل ما أجمل فيما تقدمها من الكلام ، وفي الكلام إيجاز بالحذف تقديره فيؤتى كل آخذ كتاب أعماله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ.). الخ والباء للمصاحبة في يمينه وفي إعطاء الكتاب باليمين كرامة وتبشير لصاحبه كقول الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(٢) (هاؤُمُ) هذا اللفظ مركب من ها ممدود أو مقصور مبني على الفتح ومعناه تعالوا أو خذوا كما في الرباء ها وهاء أي خذ. يقال ها يا رجل اقرأ وللإثنين هاؤما يا رجلان وهاؤم يا رجال ، وللمرأة هاء بكسر الهمزة وهاؤما للاثنتين وهاؤمن لجمع الإناث والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف.

(٣) قيل نزلت هذه الآية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الخ .. في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزمي والآية التالية لها وأما من أوتي كتابه بشماله نزلت في أخيه الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، والمعنى عام في كل سعيد وشقي.

٤٢٣

القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا كتابي فاقرأوه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات ، ويعلل لسلامة كتابه (١) من السيئات فيقول (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي علمت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) لا محالة فلذا لم أقارف السيئات وإن قدر علي شيء فقارفته جهلا فإني تبت منه فورا فانمحى أثره من نفسي فلم يكتب علي قال تعالى مخبرا عن آثار نجاحه في سلامة كتابه من السيئات (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). أي يرضاها لهناءتها وسعة خيراتها (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها) (٢) أي جناها وما يقتطف منها (دانِيَةٌ) أي قريبة التناول ينالها بيده وهو متكيء على أريكته ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من طعام الجنة وشرابها (هَنِيئاً) ويذكر لهم سبب فوزهم فيقول (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي قدمتم لأنفسكم (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي أيام الدنيا الماضية إذ كانوا مؤمنين صوامين قوامين بالمعروف آمرن وعن المنكر ناهين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء أي الإيمان باليوم الآخر.

٢ ـ آثار الإيمان بالبعث والجزاء ظاهرة في سلامة كتاب المؤمن من السيئات. وقد علل لذلك بقوله إني ظننت أني ملاق حسابي فلذا لم أعص ربي.

٣ ـ إثبات حقيقة هي قول العامة الدنيا مزرعة الآخرة أي من عمل في الدنيا نال ثمار عمله في الآخرة خيرا أو شرا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)

__________________

(١) (كِتابِيَهْ) الهاء فيه وفي الأتي بعده هي هاء السكت عند الوقف إلا أنها أبقيت في الوصل والوقف مراعاة للسجع ولعلها تحكي صوت صاحبها يوم القيامة زيادة في التقرير والتوكيد حتى لهجة أحدهم محفوظة لم تتغير.

(٢) القطوف جمع قطف بكسر القاف وسكون الكاف.

٤٢٤

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) : أي يتمنى أنه لم يعط كتابه لما رأى فيه من السيئات.

(كانَتِ الْقاضِيَةَ) : أي الموتة في الدنيا كانت القاطعة لحياتي حتى لا أبعث.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) : أي قوتي وحجتي.

(خُذُوهُ) : أي أيها الزبانية خذوا هذا الكافر.

(فَغُلُّوهُ) : أي اجعلوا يديه إلى عنقه في الغل.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) : أي ثم في النار المحرقة أدخلوه وبالغوا في تصليته كالشاة المصلية.

(حَمِيمٌ) : أي من قريب ينفعه أو صديق.

(إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) : أي صديد أهل النار الخارج من بطونهم لأكلهم شجر الغسلين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجرى من أحداث وقد تقدم ذكر الذي أوتي كتابه (١) بيمينه وما له من كرامة عند ربه وفي هذه الآيات ذكر الذي أوتي كتابه بشماله وما له من مهانة وعذاب جزاء كفره فقال تعالى (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) (٢) أي في عرصات القيامة فيقول بعد النظر فيه وما يلوح له فيه من السيئات (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) يتمنى لو أنه لم يعط كتابه ولم يدر (٣) ما حسابه وأن الموتة التي ماتها في الدنيا يتمنى لو كانت القاطعة لحياته حتى لا يبعث ، ثم يواصل تحسره وتحزنه قائلا (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي مالي والهاء في ماليه وفي كتابيه وحسابيه وفي ماليه وسلطانيه يقال لها هاء السكت يوقف عليها بالسكون قراءة كافة القراء وقوله (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهبت عني حججي (٤) فلم أجد ما احتج به لنفسي قال تعالى للزبانية

__________________

(١) تقدم أنه أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته هي أم المؤمنين تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موت زوجها أبي سلمة وإن الشقي هو الأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة.

(٢) أي بشماله ووراء ظهره وهو كتاب سيئاته من الشرك والمعاصي كبيرها وصغيرها.

(٣) هذا من عظم ما يشاهد من شدة الحساب وشناعته هذا داخل في حيز متمنياته ، كما هو إشارة إلى أنه كان في الدنيا لا يؤمن بالحساب ولم يدر ما يجري فيه ولذا اصابته الحيرة هنا وألم به الكرب.

(٤) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٤٢٥

(خُذُوهُ (١) فَغُلُّوهُ) أي شدوا يديه في عنقه بالغل (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٢) أي أدخلوه فيها وصلوه بحرها المرة بعد المرة كما يصلى الكبش المشوى المصلي ، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) طويلة (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ولم يعرف مدى طول هذه الذراع إلا انه إذا كان الكافر ما بين كتفيه كما بين مكة وقديد قرابة مائة وخمسين ميلا فإن السلسلة في ذرعها السبعين ذراعا لا بد وأن تكون مناسبة لهذا الجسم (فَاسْلُكُوهُ) أي ادخلوه فيها فتدخل من فمه وتخرج من دبره كسلك الخرزة في الخيط وذكر تعالى علة هذا الحكم عليه فقال (إِنَّهُ كانَ) أي في الدنيا (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣) فانحصرت جريمته في شيئين الكفر بالله ومنع الحقوق الواجب في المال ثم أخبر تعالى عن حال هذا الكافر الشقي في جهنم فقال (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا) أي في جهنم (حَمِيمٌ) (٤) أي صديق أو قريب ينتفع به فيدفع عنه العذاب أو يخففه (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٥) أي وليس له طعام يأكله إلا من طعام الغسلين الذي هو صديد أهل النار فإنهم عندما يأكلون شجر الغسلين يكون كالمسهل في بطونهم فيخرج كل ما في بطونهم وذلك هو الغسلين الذي يأكلونه ذلك الغسلين الذي (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي الذين ارتكبوا خطيئة الكفر والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها.

٢ ـ المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئا.

٣ ـ التنديد بالكفر بالله وأهله.

٤ ـ عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها.

__________________

(١) (خُذُوهُ) مقول قول ذكر في التفسير وغلوه أمر من غله يغله إذا وضع الغل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني.

(٢) صلى النار يصلاها إذا أصابه حرها أو استدفأ بها ، ويعدى بالتضعييف فيقال صلاه النار وبالهمز أيضا أصلاه يصليه نارا.

(٣) الطعام بمعنى الإطعام وضع موضعه كوضع العطاء موضع الإعطاء كما في قول الشاعر :

أكفرا بعد رد الموت عنى

وبعد عطائك المائه الرتاعا

الرتاع الإبل ترتع.

(٤) الحميم هنا الغريب الذي يرق له ويدفع عنه المكروه ، وهو مأخوذ من الماء الجار كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له.

(٥) الغسلين فعلين مأخوذ من الغسل كأنه ينغسل في أبدانهم وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وخروجهم قال الضحاك : الغسلين شجر وهو شر الطعام وأبشعه وهو من أطعمة أهل النار مثل الضريع والزقوم وبناء على ما ذكر ان الغسلين مجموع شجر اسمه الغسلين وما تجمع من صديد أهل النار من دم وعرق ونحوه فصدق عليه لفظ الغسلين وهذا من اعجاز القرآن البلاغي.

٤٢٦

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

شرح الكلمات :

(بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) : أي بكل مخلوق في الأرض وفي السماء.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : أي القرآن قاله تبليغا رسول كريم هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وما هو بقول كاهن : أي ليس القرآن بقول كاهن إذ ليس فيه من سجع الكهان شيء.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) : أي بالقوة أو لأخذنا بيمينه لنقتله.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) : أي نياط القلب الذي إذا انقطع مات الإنسان.

(حاجِزِينَ) : أي مانعين وهو خبر ما النافية العاملة عمل ليس وجمع لأن احد يدل على الجمع نحو لا نفرق بين أحد من رسله وبين لا تقع إلا بين اثنين فأكثر.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) : أي التكذيب بالقرآن حسرة يوم القيامة على المكذبين به.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) : أي الثابت يقينا أو اليقين الحق.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (١) : أي نزه ربك العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير أي قل سبحان ربي العظيم.

__________________

(١) الباء للمصاحبة والزيادة لتقوية الكلام والتقدير سبح اسم ربك والتقدير نزه اسم ربك في أن يسمى به غيره إذ سمى المشركون العزى بدل العزيز واللات بدل الله وجائز أن يكون اسم مقحما والتقدير فسبح ربك أي نزهه عن الشريك والشبيه وعن كل نقص وهو العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.

٤٢٧

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ (١) بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي فلا (٢) الأمر كما ترون وتقولون أيها المكذبون أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من المخلوقات في الأرض وفي السموات (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) على ربه تعالى وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنه تبليغه وقوله إليكم (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ). كما تقولون كذبا (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (٣) أي إن إيمانكم قليل ضيق الدائرة فلو كان واسعا لا تسع للإيمان بالقرآن إنه كلام الله ووحيه وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظما ومعنى. وما هو (بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس القرآن بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي تذكركم قليل جدا فلو تذكرتم كثيرا لعلمتم أن القرآن ليس بكلام الكهان لملازمته للصدق والحق والهدى ولبعد قائله عن الإثم والكذب بخلاف قول الكهان فإن سداه ولحمته الكذب وقائله هو الإثم كله فأين القرآن من قول الكهان؟ وأين محمد الرسول من الكهان اخوان الشيطان إنه (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أيها المكذبون الضالون. وأمر آخر وهو أن الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ تَقَوَّلَ (٤) عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) ونسبها إلينا (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لبطشنا به وأخذنا بيمينه (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) فيهلك إذ الوتين هو عرق القلب إذا قطع مات الإنسان وإذا فعلنا به هذا فمن منكم يجحزنا عنه؟ وهو معنى قوله تعالى (فَما مِنْكُمْ (٥) مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وقوله تعالى (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ) (٦) أي موعظة عظيمة (لِلْمُتَّقِينَ) (٧) الذين يخافون عقاب الله ويخشون نقمه وعذابه (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ) (٨) أيها الناس (مُكَذِّبِينَ) ليس بخاف عنا أمرهم وسنجزيهم وصفهم (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ) أي يوم القيامة عند ما يرون المؤمنين به يؤخذ بهم ذات اليمين إلى دار السلام والمكذبين به يؤخذ بهم ذات الشمال إلى دار

__________________

(١) الفاء للتفريع لإثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى ونفي ما ادعاه المشركون.

(٢) هذا بناء على أن لا رد لكلام سابق وليست زائدة وكونها زائدة لتأكيد الكلام أولى من كونها نافية ، إذ وجدت في فاتحة سورتي القيامة والبلد وليس قبلهما ما ينفى كأنه يقول لا أقسم لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم كالمتحرج من الإقسام.

(٣) جائز أن يكون لفظ قليلا في الموضعين مرادا به انتفاء ذلك كلية لأنه وقع بقلة ، وقليلا صفة لموصوف محذوف أي إيمانا قليلا ، وتذكرا قليلا ، وما مزيدة لتوكيد الكلام كما في قول الشاعر :

قليلا به ما يحمدنك وارث

إذا نال مما كنت تجمع مغنما

(٤) التقول نسبة قول إلى من لم يقله ، والأقاويل جمع أقوال الذي هو جمع قول.

(٥) من مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم وفي الآية دليل أن من يدعي أنه يوحى إليه لا يلبث طويلا حتى يأخذه الله تعالى.

(٦) التذكرة اسم مصدر بمعنى التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.

(٧) خص المتقون لأنهم هم المنتفعون به لاستعدادهم بقوة ايمانهم وصحة علمهم وكمال رغبتهم في الطاعة.

(٨) في الكلام إيجاز والتقدير إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون.

(٩) جائز أن يكون الضمير عائدا على التكذيب إذ به كانت حسرة الكافرين يوم القيامة وجائز أن يكون عائدا على القرآن لأنهم لم يؤمنوا به ويعملوا بما دعا إليه من الإيمان وصالح الأعمال.

٤٢٨

الوار. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (١) أي اليقين الحق. بعد هذا التقرير في إثبات الوحي والنبوة أمر تعالى رسوله الذي كذب برسالته المكذبون أمره أن يستعين على الصبر بذكر الله تعالى فقال له (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي قل سبحان ربي العظيم منزها اسمه عن تحريفه وتسمية المحدثات به معظما ربك غاية التعظيم إذ هو العلي العظيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لله تعالى أن يحلف بما شاء من مخلوقاته لحكم عالية وليس للعبد أن يحلف بغير الرب تعالى.

٢ ـ تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.

٣ ـ وصف الرسول بالكرم وبكرامته على ربه تعالى.

٤ ـ عجز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكذب على الله تعالى وعدم قدرته على ذلك لو أراده ولكن الذي لا يكذب على الناس لا يكذب على الله كما قال هرقل ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ردا على أبي سفيان لما قال له لم نجرب عليه كذبا قط.

٥ ـ مشروعية التسبيح بقول سبحان ربي العظيم إن صح أنه لما نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم فكانت سنة مؤكدة سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع أو اكثر.

سورة المعارج

مكية وآياتها أربع واربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ

__________________

(١) أي القرآن الكريم بلا خلاف.

٤٢٩

(٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

شرح الكلمات :

(سَأَلَ سائِلٌ) : أي دعا داع بعذاب واقع.

(لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ) : أي فهو واقع لا محالة.

(ذِي الْمَعارِجِ) : أي ذي العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) : أي تصعد الملائكة وجبريل إلى الله تعالى.

(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : أي تصعد الملائكة وجبريل من منتهى امره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى امره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) : أي العذاب الذي يطالبون به لتكذيبهم وكفرهم بالبعث.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) : أي كذائب النحاس.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) : أي كالصوف المصبوغ الوانا في الخفة والطيران بالريح.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) : أي قريب قريبه لانشغال كل بحاله.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) : أي يبصر الأحماء بعضهم بعضا ويتعارفون ولا يتكلمون.

(وَصاحِبَتِهِ) : أي زوجته.

(وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) : أي عشيرته التي تضمه إليها نسبا وتحميه من الأذى عند الشدة.

(إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١) : أي ان جهنم هي لظى نزاعة للشوى جمع شواة جلدة الرأس.

(أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) : أي عن طاعة الله ورسوله وتولى عن الإيمان فأنكره وتجاهله.

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور برفع نزاعة وقرأ حفص بنصبها.

٤٣٠

(وَجَمَعَ فَأَوْعى) : أي جمع المال وجعله في وعاء ومنع حق الله تعالى فيه فلم ينفق منه في سبيل الله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (سَأَلَ (١) سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) هذه الآيات نزلت ردا على دعاء النضر بن الحارث ومن وافقه اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم فأخبر تعالى عنه بقوله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ) (٢) (واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ) أي انه واقع لا محالة إذ ليس له دافع من الله (ذِي الْمَعارِجِ) أي صاحب العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات وقوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) أي (٣) تصعد الملائكة وجبريل إليه تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي يصعدون من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق (فَاصْبِرْ (٤) صَبْراً جَمِيلاً) (٥) وقوله تعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) يعني أن المشركين المكذبين يرون العذاب بعيدا لتكذيبهم بالبعث الآخر. ونحن نراه قريبا ويبين تعالى وقت مجيئه فقال (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي تذوب فتصير كذائب النحاس (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي الصوف المصبوغ خفة وطيرانا بالريح وهذا هو الانقلاب الكوني حيث فني كل شيء ثم يعيد الله الخلق فإذا الناس في عرصات القيامة واقفون حفاة عراة (لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لانشغال كل بنفسه كما قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عن السؤال عن غيره أو عن سؤال غيره وقوله تعالى (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي عدم سؤال بعضهم بعضا ليس ناتجا عن عدم معرفتهم لبعضهم (٦) بعضا لا بل يبصرهم ربهم بهم فيعرف كل قريب قريبه ولكن اشتغاله بنفسه يحول دون سؤال غيره ، ويشرح هذا المعنى قوله تعالى (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي ذو الاجرام على نفسه بالشرك والمعاصي (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) أي أولاده الذكور ففضلا عن الإناث (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) بأن تضمه إلى نسبها والفصيلة العشيرة انفصلت

__________________

(١) قرأ نافع سال بدون همزة تخفيفا وقرأ حفص (سَأَلَ) بالهمزة على الأصل.

(٢) وإن كانت الباء في بعذاب بمعنى عن فيكون السائل سأل عن العذاب لمن يقع أو متى يقع كقوله تعالى فاسأل به خبيرا أي عنه خبيرا وكقول الشاعر :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

ومن بلاغة القرآن تعدية سأل بالباء ليكون صالحا للاستفهام والدعاء والاستعجال.

(٣) هذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.

(٤) الفاء للتفريع إذ سبق أن السائل بالعذاب كان مستهزئا مستخفا فلذا أمر الله رسوله بالصبر الجميل على ما يقوله المشركون.

(٥) الجملة تعليلية لكل من جملة سأل سائل بعذاب وللأمر بالصبر.

(٦) قرأ نافع (يَوْمِئِذٍ) بفتح يومئذ وقرأ الجمهور بكسرها بإضافة عذاب إليها.

٤٣١

من القبيلة (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) لنتصور عذابا يود المجرم من خوفه منه أن يفتدي بكل شيء في الأرض كيف يكون؟ ومن هنا يرى القريب قريبه ولا يسأله عن حاله لانشغال نفسه عن نفس غيره. وقوله تعالى (كَلَّا) (١) أي لا قرابة يومئذ تنفع ولا فداء يقبل (إِنَّها) أي جهنم (لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي لجلدة الرأس ولكل عضو غير قاتل للإنسان إذا نزع منه. (تَدْعُوا) أي جهنم المسماة لظى تدعو تنادي إلي إلي يا (مَنْ أَدْبَرَ) عن طاعة الله ورسوله وتركها ظهره فلم يلتفت إليها (وَتَوَلَّى) عن الإيمان فلم يطلبه تكميلا له ليصبح إيمانا يحمله على الطاعات (وَجَمَعَ) الأموال فأوعاها في أوعية (٢) ولم يؤد منها الحقوق الواجبة فيها من زكاة وغيرها إذ في المال حق غير الزكاة. ومن دعته جهنم دفع إليها دفعا كما قال تعالى (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) نعوذ بالله من جهنم وموجباتها من الشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة سؤال العذاب فإن عذاب الله لا يطاق ولكن تسأل الرحمة والعافية.

٢ ـ وجوب الصبر على الطاعة وعلى البلاء فلا تسخط ولا تجزع.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٤ ـ عظم هول الموقف يوم القيامة وصعوبة الحال.

٥ ـ التنديد بالمعرضين عن طاعة الله ورسوله الجامعين للأموال المشتغلين بها حتى سلبتهم الإيمان والعياذ بالله فأصبحوا يشكون في الله وآياته ولقائه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ

__________________

(١) (كَلَّا) حرف ردع وإبطال لكلام سابق.

(٢) ومنه الحديث لا توعي فيوعى عليك أي لا تمسكي عن الإنفاق فيمسك عليك.

٤٣٢

رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) : أي إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا أي كثير الجزع سريعه وكثير المنع حريصا عليه.

(عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) : أي لا يقطعونها أبدا ما داموا أحياء يعقلون.

(حَقٌّ مَعْلُومٌ) : أي نصيب معين عينه الشارع وهو الزكاة.

(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : أي الطالب الصدقة والذي لا يطلبها حياء وتعففا.

(يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) : أي يؤمنون بيوم القيامة للبعث والجزاء.

(مُشْفِقُونَ) : أي خائفون متوقعون العذاب عند المعصية.

(لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) : أي صائنون لها عن النظر إليها وعن الفاحشة.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : أي من السريات من الجواري التي يملكونها.

(فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) : أي المعتدون الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.

(لِأَماناتِهِمْ) : أي ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا.

(راعُونَ) : أي حافظون غير مفرطين.

(قائِمُونَ) : أي يقيمون شهاداتهم لا يكتمونها ولا يحرفونها.

(يُحافِظُونَ) : أي يؤدونها في أوقاتها في جماعات مع كامل الشروط والأركان والواجبات والسنن.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي هذا الآدمي المنتصب القامة الضاحك الذي سمي بالإنسان لأنسه

٤٣٣

بنفسه ورؤية محاسنها ولنسيانه واجب شكر ربه هذا الإنسان (خُلِقَ هَلُوعاً) قابلا لوصف الهلع فيه عند بلوغه سن التمييز والهلع مرض نفسي عرضه الذي يعرف به جزعه الشديد متى مسه الشر ، ومنعه القوي للخير متى مسه وظفر به. فقد فسر تعالى الهلع بقوله ، (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). ثم ذكر تعالى ما يعالج به هذا المرض باستثنائه من جنس الإنسان من يتصفون بالصفات الآتية وهي عبارة عن عبادات شرعية بعضها فعل وبعضها ترك من شأنها القضاء على هذا المرض الخطير المسمى بالهلع والذي لا يعالج إلا بما وصف تعالى في قوله :

١) إدامة الصلاة بالمواظبة عليها ليل نهار إذ قال تعالى (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (١) (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢) وبشرط أن تؤدى إيمانا واحتسابا وأداء صحيحا بمراعاة شروطها وأركانها وسننها.

٢) الاعتراف بما اوجب الله في المال من حق واعطاء ذلك الحق بطيب نفس لمن سأل ولمن لم يسأل ممن هم أهل للزكاة والصدقات لقوله (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

٣) التصديق الكامل بيوم القيامة وهو البعث والجزاء لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ).

٤) الاشفاق والخوف من عذاب الله عند عروض خاطر المعصية بترك واجب أو فعل محرم لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي دائما وأبدا لأن (عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) الوقوع.

٥) حفظ الفرج بستره عن أعين الناس ما عدا الزوج وصيانته من فاحشة الزنا واللواط وجلد عميرة أي الاستمناء باليد والمعروف اليوم بالعادة السرية لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من السراري (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) في إتيانهم أزواجهم وجواريهم اللائي ملكوهن بالجهاد أو الشراء الشرعي وقوله تعالى (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب ما وراء الزوجة والسرية (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي الظالمون الذين تجاوزوا الحلال إلى الحرام فكانوا بذلك معتدين ظالمين.

٦) حفظ الأمانات والعهود ومن أبرز الأمانات وأقوى العهود ما التزم به العبد من عبادة الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله والوفاء بذلك حتى الموت زيادة على أمانات الناس والعهود لهم الكل واجب الحفظ والرعاية لقوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون.

__________________

(١) الاستثناء منقطع أي لكن المصلين الذين وصفهم كيت وكيت وهي ثمان صفات وهي صفات المؤمنين الصادقين.

(٢) الدوام على الشيء عدم تركه وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه.

٤٣٤

٧ ـ إقامة الشهادة بالاعتدال فيها بحيث يؤديها ولا يكتمها ويؤديها قائمة لا اعوجاج فيها لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ) (١) (بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٢).

٨ ـ المحافظة على الصلوات الخمس مستوفاة الشروط والأركان من الخشوع إلى الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال في القيام لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) بعد أدائها وعدم قطعها بحال من الأحوال.

فهذه الوصفة الربانية متى استعملها الإنسان المؤمن تحت إشراف عالم رباني إن وجده وإلا فتطبيقها بدون إشراف ينفع بإذن الله متى اجتهد المؤمن في حسن تطبيقها برىء من ذلك المرض الخطير وأصبح أهلا لإكرام الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى في ختام هذه الوصفة (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣) أي أولئك المطبقون لهذه الوصفة الناجحون فيها (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) في جوار ربهم اللهم اجعلنا منهم يا غفور يا رحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بين شر صفات الإنسان وانها الهلع.

٢ ـ بيان الدواء لهذا الداء داء الهلع الذي لا فلاح معه ولا نجاح.

٣ ـ انحصار العلاج في ثماني صفات أو ثماني مركبات دوائية.

٤ ـ وجوب العمل بما اشتملت عليه الوصفة من واجبات.

٥ ـ حرمة ما اشتملت عليه الوصفة من محرمات.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ

__________________

(١) قرأ نافع شهادتهم بالإفراد وقرأ حفص (بِشَهاداتِهِمْ) بالجمع وقراءة الإفراد بمعنى الجمع لأن شهادة اسم جنس تدل على متعدد.

(٢) القيام بالشهادة : الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى.

(٣) والإكرام : التعظيم وحسن اللقاء أي هم مع جزائهم بالجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء. في جنات خبر أولئك ومكرمون خبر ثان.

٤٣٥

وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ؟) : أي نحوك مديمي النظر إليك.

(عِزِينَ) : أي جماعات حلقا حلقا يقولون في استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلها قبلهم.

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) : أي من مني قذر وإنما يستوجب دخول الجنة بالطاعات المزكية للنفوس.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) : أي إنا لقادرون على أن نهلكهم ونأتي بأناس خير منهم.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) : أي بعاجزين عن إيجاد ما ذكرنا من اهلاك القوم والإتيان بخير منهم.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي من القبور مسرعين إلى المحشر.

(سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) : أي كأنهم في إسراعهم إلى المحشر إلى نصب أي شىء منصوب كراية أو علم يسرعون.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : أي تغشاهم ذلة.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) : أي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَما لِ الَّذِينَ (١) كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) يخبر تعالى مقبحا سلوك المشركين إزاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول ما للذين كفروا من كفار مكة قبلك أي جهتك حيث كنت في المسجد الحرام مهطعين أو مسرعين مديمي النظر إليك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي عن يمينك وعن شمالك عزين جمع عزة أي جماعة فهم حلق حلق يستمعون إلى قراءتك بحثا عن كلمة يمكنهم أن يشنعوا بها عليك ويجعلونها مطعنا في دعوتك أي سخرية يسخرون بها وبك ويقولون استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم فرد تعالى عليهم منكرا طمعهم الفارغ بقوله (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ (٢)

__________________

(١) الاستفهام إنكاري تعجبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بالنار ، ومعنى الآية أي شيء ثبت للذين كفروا في حال إهطاعهم إليك.

(٢) هذه الجملة بدل اشتمال من جملة فما للذين كفروا.

٤٣٦

مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي بستان إكرام وتنعم (كَلَّا) لن يتم هذا لهم ولن يكون وهم أنجاس الأرواح بالشرك والمعاصي ، ولفت النظر إلى أصل الخلقة وهي المني القذر والقذر لا يدخل دار السلام فمن أراد الجنة فليزك نفسه وليطهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدسيها من الشرك والمعاصي وهو ما تضمنه قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ (١) مِمَّا يَعْلَمُونَ) وقوله عزوجل (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي فلا الأمر كما يتصورون من أنهم لا يبعثون بعد موتهم أقسم برب المشارق الثلاثمائة والستين مشرقا ومغربا حيث الشمس تطلع كل يوم في مطلع وتغرب في آخر لا تعود إليه إلا بعد سنة في مثل ذلك اليوم فأقسم تعالى بنفسه ، والمقسم عليه قوله (إِنَّا لَقادِرُونَ) أي على أن نهلكهم ونأتي بخير منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي عاجزين عن ذلك فكيف إذا لا نعيدهم أحياء بعد موتهم يوم القيامة (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي أمر تعالى رسوله أن يتركهم وما يخوضون فيه من اللهو واللعب والباطل في القول والعمل ، وهو تهديد خفي لهم (حَتَّى يُلاقُوا) على ما هم عليه من أدران الشرك وأوضار المعاصي يومهم الذي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة وشرح حال اليوم فقال (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور جمع جدث (سِراعاً) أي مسرعين (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) (٢) أي شيء منصوب من راية أو علم أو تذكار (يُوفِضُونَ) أي يحشرون مسرعين حال كون أبصارهم خاشعة أي ذليلة من الفزع والخوف (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذلة عجيبة عظيمة. وقوله تعالى (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة الذي أنكروه وكذبوا به ها هو ذا قد حصل فليتجرعوا غصص الندم وألوان العذاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحال التي كان عليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة بين ظهراني قريش وما كان يلاقي من أذاهم.

٢ ـ بيان أن الجنة تدخل بالطهارة الروحية من قذر الشرك والمعاصي وإلا فأصل الناس واحد المني القذر باستثناء آدم وحواء وعيسى فآدم أصله الطين وحواء خلقت من ضلع آدم ، وعيسى كان بنفخ روح القدس في كم درع مريم فكان بكلمة الله تعالى ومن عدا الثلاثة فمن ماء مهين ونطفة قذرة.

__________________

(١) في قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ازدراء بهم وتهكم من حالهم إذ يجادلون ويعاندون وهم مخلوقون من نطفة مذرة.

(٢) النصب بفتح النون وسكون الصاد : الصنم قرأ نافع نصب بفتح وسكون وقرأ حفص نصب بضم كل من النون والصاد والمعنى واحد وهو الصنم قال الشاعر :

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

لعافية والله ربك فاعبدا

٤٣٧

٣ ـ الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان الثانية.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٥ ـ بيان أن حياة أهل الكفر مهما تراءى لهم ولغيرهم أنها حياة مدنية سعيدة لم تعد كونها باطلا ولهوا ولعبا.

سورة نوح

مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

شرح الكلمات :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) : أي أهل الأرض كافة والدليل إغراقهم أجمعين.

(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) : أي بإنذار قومك.

(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي بين النذارة ظاهرها.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) : أي وحده بفعل محابه وترك مكارهه ولا تشركوا به شيئا.

(وَاتَّقُوهُ) : فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به.

(وَأَطِيعُونِ) : فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : أي ذنوبكم التي هي الشرك والمعاصي فمن زائدة لتقوية الكلام أو هي تبعيضية لأن ما كان حقا لآدمي كمال وعرض لا يغفر إلا بالتوبة.

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى نهاية آجالكم المسماة لكم في كتاب المقادير فلا يعجل لكم بالعذاب.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ) : أي بعذابكم.

(لا يُؤَخَّرُ) : إن لم تؤمنوا.

٤٣٨

(لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : أي لآمنتم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) يخبر تعالى لافتا نظر منكري رسالة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مشركي قريش وكفار مكة أن محمدا رسول الله ليس بأول رسول حتى تنكر رسالته ، كما أن السورة بجملتها فيها تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلاقي من مشركي قومه إذ نوح عليه‌السلام قد لاقى ما هو أشد وأطول مدة والآيات ناطقة بذلك وقوله تعالى (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي أرسلناه بإنذار قومه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) هو عذاب الدنيا بالاستئصال وعذاب الآخرة بالاستمرار والدوام. وقوله تعالى (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي امتثل نوح أمر ربه وقال لقومه يا قوم أني لكم نذير مبين أي مخوف من عواقب كفركم بالله وشرككم به. (أَنِ اعْبُدُوا (٣) اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا واتقوه فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به ، وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم ولا آمركم إلا بما يكملكم ويسعدكم ولا أنهاكم إلا عما يضركم ولا يسركم فإن تجيبوا لما دعوتكم إليه (يَغْفِرْ لَكُمْ) (٤) (مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى نهاية آجالكم فلا يعاجلكم بالعقوبة (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي بعذابكم إذا جاء (لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٥) أي لو علمتم ذلك لأنبتم إلى ربكم فتبتم إليه واستغفرتموه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية إذ الذي أرسل نوحا يرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شاء إلى من شاء.

٢ ـ تقرير التوحيد إذ نوح أرسل إلى قوم مشركين لإبطال الشرك وتحقيق التوحيد.

٣ ـ تقرير معتقد القضاء والقدر لقوله (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي في كتاب المقادير.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ

__________________

(١) نوح هو ابن لامك بن متوشلخ بن أختون وهو إدريس بن برد بن مهلايل بن أنوش ابن قينان بن شيت بن آدم عليه‌السلام.

(٢) جائز أن يكون العذاب في الدنيا وأن يكون عذاب النار يوم القيامة.

(٣) (إِنَ) مفسرة كالتي في قوله أن أنذر قومك.

(٤) جائز أن يكون (مِنْ) زائدة لتقوية الكلام وأن تكون تبعيضية إذ بعض الذنوب لا تغفر إلا بالتحلل من أصحابها وهي حقوق الآدميين.

(٥) روي أنهم كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

٤٣٩

فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

شرح الكلمات :

(لَيْلاً وَنَهاراً) : أي دائما باستمرار.

(إِلَّا فِراراً) : أي مني ومن الحق الذي ادعوهم إليه وهو عبادة الله وحده.

(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) : أي حتى لا يسمعوا ما أقول لهم.

(وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) : أي تغطوا بها حتى لا ينظروا إلي ولا يروني.

(وَأَصَرُّوا) : على باطلهم وما هم عليه من الشرك.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) : أي ينزل عليكم المطر متتابعا كلما دعت الحاجة إليه.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) : أي بساتين.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) : أي لا تخافون لله عظمته وكبرياءه وهو القاهر فوق عباده.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) : أي حالا بعد حال فطورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة.

(وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) : أي مضيئة.

٤٤٠