أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

معنى الآيات :

بعدما بين تعالى حال الأبرار في دار الأبرار وذكر ما شاء الله أن يذكر من نعيمهم ترغيبا وتعليما بعد أن ذكر في الآيات قبلها حال المجرمين وما أعدلهم من عذاب في دار العذاب. ذكر تعالى هنا في خاتمة السورة ما أوجب للمجرمين وهو النار ، وما أوجب للمؤمنين وهو الجنة فذكر طرفا من سلوك المجرمين وآخر من سلوك المؤمنين فقال عز من قائل (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) (١) أي على أنفسهم أي أفسدوها بالشرك والشر والفساد كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي وغيرهم كانوا من الذين آمنوا كبلال وعمار وصهيب وخبيب وأضرابهم من فقراء المؤمنين (يَضْحَكُونَ) (٢) استهزاء بهم وسخرية. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) في شوارع مكة وحول المسجد الحرام (يَتَغامَزُونَ) يشيرون إليهم بالجفن والحاجب على عادة المتكبرين (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي رجعوا (إِلى أَهْلِهِمُ) في ديارهم (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣) ناعمين معجبين بحالهم فرحين بما عندهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي وإذا رأى أولئك المجرمون المؤمنين أشاروا إليهم وقالوا (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) بتركهم دينهم واعتناق دين محمد الجديد في نظرهم. قال تعالى (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ (٤) حافِظِينَ) أي على أعمالهم وأحوالهم حتى يقولوا ما قالوا وإنما هم متطفلون يدعون ما ليس لهم لقبح سلوكهم وسوء فهو مهم ، قال تعالى (فَالْيَوْمَ) (٥) يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي من الكفار (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرة ذات الحجال (يَنْظُرُونَ) إلى الكفار وهم في النار ويضحكون منهم وهم يعذبون ولا عجب في كيفية رؤيتهم لهم وهم في النار أسفل سافلين والمؤمنون في أعلى عليين إذ البث التلفزيوني اليوم قطع العجب وأبطله وقوله تعالى (هَلْ ثُوِّبَ (٦) الْكُفَّارُ) أي هل جوزي الكفار على أفعالهم الإجرامية؟ والجواب معلوم مما تقدم إذ وصفت حالهم وبين عذابهم والعياذ بالله من عذابه وأليم عقابه.

__________________

(١) الإجرام مصدر أجرم إذا ارتكب الجرم وهو الإثم العظيم وأعظمه الشرك والكفر.

(٢) معنى يضحكون منهم أنهم يضحكون من حالهم وهي حال خاصة كالفقر والضعف أو ترك دينهم إلى دين آخر قال الحارث بن عبد يغوث :

وتضحك مني شيخة عبشمية

كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا

(٣) قرأ نافع والجمهور فاكهين بصيغة اسم الفاعل ، وقرأ حفص بدون ألف على أنه جمع فكه صفة مشبهة ، والمعنى واحد كفارح وفرح.

(٤) الجملة متضمنة معنى التهكم بأولئك الضاحكين الساخرين من فقراء المؤمنين.

(٥) تقديم الظرف فاليوم للاهتمام به لأنه يوم الجزاء وفيه تشفى صدور المؤمنين من الأعداء.

(٦) الجملة فذلكة ما تقدم من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة والاستفهام بهل تقريري وتعجب من عدم إفلاتهم منه بعد دهور ، وثوب بمعنى أعطى الثواب يقال أثابه وثوبه إذا أعطاه ثوابه وهو جزاء عمله وفي التفسير الثواب تهكم واضح بالمشركين نحو بشرهم بعذاب أليم.

٥٤١

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالإجرام والمجرمين.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون في مكة إبان الدعوة وما لقيه المؤمنون منهم.

٣ ـ بيان أن المؤمنين سيرون المشركين في الجحيم ويضحكون منهم وهم في نعيمهم والمشركون في جحيمهم.

٤ ـ بيان إكرام الله لأوليائه ، وإهانته تعالى لأعدائه.

سورة الانشقاق

مكية وآياتها خمس وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

شرح الكلمات :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) : أي بالغمام وهو سحاب أبيض رقيق وذلك لنزول الملائكة.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) : أي سمعت وأطاعت.

(وَحُقَّتْ) : أي وحق لها أن تسمع أمر ربها وتطيعه.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) : أي زيد في سعتها كما يمد الأديم أي الجلد إذ لم يبق عليها بناء ولا جبل.

٥٤٢

(وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) : أي ألقت ما فيها من الموتى ألقتهم أحياء إلى ظهرها وتخلت عنه أي عما كان في بطنها.

(إِنَّكَ كادِحٌ) : أي عامل كاسب للخير أو الشر.

(إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) : أي إلى أن تلقى ربك وأنت تعمل وتكسب فليكن عملك مما يرضي عنك ربك.

(فَمُلاقِيهِ) : أي ملاق ربك بعد موتك وبعملك خيره وشره.

(كِتابَهُ) : أي كتاب عمله وذلك بعد البعث.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) : أي بعد الحساب اليسير يرجع إلى أهله في الجنة من الحور العين فرحا.

(وَراءَ ظَهْرِهِ) : أي يأخذه بشماله من وراء ظهره إهانة له.

(يَدْعُوا ثُبُوراً) : أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي يا هلاكه.

(وَيَصْلى سَعِيراً) : أي ويحرق بالنار تحريقا وينضج انضاجة بعد اخرى على قراءة يصلى بالتضعيف.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) : أي انه كان في الدنيا يظن انه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت فلذا لم يعمل خيرا قط ولم يتورع عن ترك الشر قط لعدم إيمانه بالبعث.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) يخبر تعالى أنه إذا انشقت السماء أي تصدعت وتفطرت وذابت فصارت كالدهان (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي وسمعت (١) لأمر ربها واستجابت فكانت كما أمرها الله أن تكون منشقة منفطرة حتى تكون كالمهل ، (وَإِذَا الْأَرْضُ (٢) مُدَّتْ) من الأديم واتسعت رقعتها حيث زال منها الجبال والآكام والمباني والعمارات وأصبحت قاعا صفصفا (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي ما في بطنها من أموات (وَتَخَلَّتْ) عنه أي عما كان في بطنها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في ذلك كله أي سمعت وأجابت (وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تسمع وتجيب وتطيع

__________________

(١) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع لشيء الخ .. وقال الشاعر :

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أذنوا بمعنى سمعوا.

(٢) (إِذَا) ظرف خافض لشرطه منوصب بجوابه.

٥٤٣

وجواب إذا الأولى والثانية واحد وهو (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (١) أو ما أحضرت كما تقدم نظيره في التكوير والانفطار. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أي يا بن آدم (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ (٢) كَدْحاً) أي إنك عامل تعمل يوميا وليل نهار إلى أن تموت وتلقى ربك إنك لا تبرح تعمل لا محالة وتكسب بجوارحك الخير والشر إلى الموت حيث تنتقل إلى الدار الآخرة وتلقى ربك وتلاقيه هذا يشهد له قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح (٣) [كلكم يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها] ، إذا فمن الخير لك يا أيها الإنسان المكلف أن تعمل خيرا تلاقي به ربك فيرضى عنك به ويكرمك إنك حقا ملاق ربك بعملك فأنصح لك أن يكون عملك صالحا وانظر إلى الصورة التالية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) لأنه حوى الخير ولا شر فيه (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٤) ينظر في كتابه ويقرر هل فعلت كذا فيعترف ويتجاوز عنه (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) في الجنة وهم الحور العين والنساء المؤمنات والذرية الصالحة يجمعهم الله ببعهضهم كرامة لهم وهو قوله تعالى (وَالَّذِينَ (٥) آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي كتاب أعماله (وَراءَ ظَهْرِهِ) حيث تغل اليمني مع عنقه وتخرج الشمال وراء ظهره ويعطى كتابه وراء ظهره (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي باهلاكه احضر فهذا أوان حضورك (وَيَصْلى (٦) سَعِيراً) أي ويدخل نارا مستعرة شديدة الالتهاب ويصلى أيضا فيها تصلية أي ينضح فيها لحمه المرة بعد المرة وأبدا. والعياذ بالله وعلة ذلك وسببه هو (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) في الدنيا (مَسْرُوراً) لا يخاف الله ولا يرجو الدار الآخرة يعمل ما يشاء ويترك ما يشاء (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ (٧) يَحُورَ) أي انه لا يرجع حيا بعد موته ولا يحاسب ولا يجزى هذه علة هلاكه وشقائه فاحذروها

__________________

(١) اضطرب المفسرون والنحاة في جواب إذا فمنهم من قال إنه يا أيها الإنسان ، ومنهم من قال أذنت لربها. على أن الواو زائدة ، ومنهم من قال إنه فأما من أوتي كتابه ، وغاب عنهم أن جواز حذف الشرط كجواز حذف القسم. لا سيما وقد تقدم جواب الشرط كهذا في التكوير والانفطار إذا فما كان هناك جوابا يكون هنا جوابا.

(٢) الكدح الكسب والعمل قال ابن مقبل :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

والإنسان هنا الجنس فهو عام في كل إنسان من بني آدم.

(٣) في صحيح مسلم حديث طويل أوله : ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.

(٤) (حِساباً يَسِيراً) أي مناقشة فيه كما في حديث عائشة إذ قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حوسب يوم القيامة عذب قالت يا رسول الله أليس قد قال الله فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ فقال ليس ذلك الحساب إنما ذلك العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب رواه البخاري وغيره.

(٥) الآية من سورة الطور.

(٦) قرأ نافع ويصلى بتشديد اللام وسعيرا منصوب على نزع الخافض أي بسعير ، وقرأ حفص بتخفيف اللام والبناء للفاعل مضارع صلى كرضى يصلى كيرضى إذا مسته النار.

(٧) يحور بمعنى يرجع شاهده قول الشاعر :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

٥٤٤

أيها الناس اليوم فآمنوا بربكم ولقائه واعملوا عملا ينجيكم من عذابه. وقوله تعالى (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي ليحورن وليبعثن وليحاسبن وليس كما يظن انه لا يبعث ولا يحاسب ولا يجزى بل لا بد من ذلك كله إن ربه تعالى كان به وبعمله بصيرا لا يخفى عليه من أمره شيء ونتيجة لذلك تم له هذا الحساب والعقاب بأمر العذاب وأشده دخول النار وتصلية جحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان مقدماته في انقلاب الكون.

٢ ـ بيان حتمية لقاء الإنسان ربه.

٣ ـ كل إنسان مكلف بالعقل والبلوغ فهو عامل وكاسب لا محالة إلى أن يموت ويلقى ربه.

٤ ـ أهل الإيمان والتقوى يحاسبون حسابا يسيرا وهو مجرد عرض لا غير ويفوزون أما من نوقش الحساب فقد هلك وعذب لأنه لا يملك حجة ولا عذرا.

٥ ـ التنعم في الدنيا والانكباب على شهواتها وملاذها مع ترك الطاعات والصالحات ثمرة عدم الإيمان أو اليقين بالبعث والجزاء.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)) (١)

شرح الكلمات :

(بِالشَّفَقِ) : أي بالحمرة في الأفق بعد غروب الشمس.

(وَما وَسَقَ) : أي دخل عليه من الدواب وغيرها.

(إِذَا اتَّسَقَ) : اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض.

__________________

(١) جائز أن يكون (فَلا) صلة أي فأقسم بالشفق وكونها نافية لكلام سابق كما في التفسير هو اختيار بن جرير.

٥٤٥

(طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : أي حالا بعد حال الموت ، ثم الحياة ، ثم ما بعدها من أحوال القيامة.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : أي أي مانع لهم من الإيمان بالله ورسوله ولقاء ربهم والحجج كثيرة تتلى عليهم.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) : أي تلي عليهم وسمعوه.

(لا يَسْجُدُونَ) : أي لا يخضعون فيؤمنوا ويسلموا.

(بِما يُوعُونَ) : أي يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب.

(لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : أي غير مقطوع.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ) أي فليس الأمر كما تدعون من أنه لا بعث ولا جزاء أقسم (بِالشَّفَقِ) وهي (١) حمرة الأفق بعد غروب الشمس (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي وما جمع من كل ذي روح من سابح في الماء وطائر في السماء وسارح في الغبراء (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض. وجواب القسم قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي حالا بعد (٢) حال الموت ثم الحياة ، ثم العرض ، ثم الحساب ، ثم الجزاء فهي أحوال وأهوال فليس الأمر كما تتصورون من أنه موت ولا غير. وقوله تعالى (٣) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي ما للناس لا يؤمنون أي شيء منعهم من الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة مع كثرة الآيات وقوة الحجج وسطوع البراهين. وما لهم أيضا إذا تلي عليهم القرآن وسمعوه لا يخضعون ولا يخشعون ولا يخرون ساجدين مع ما يحمل من أنواع الحجج والبراهين وقوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بدل أن يؤمنوا ويسلموا (يُكَذِّبُونَ (٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في قلوبهم من الكفر والتكذيب وفي نفوسهم من الحسد والكبر والغل والبغض وبناء على ذلك (فَبَشِّرْهُمْ) (٥) يا رسولنا أي أخبرهم بما يسوءهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) عاجلا وآجلا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٦) أي منهم آمنوا بالله ورسوله وآيات الله ولقائه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فأدوا الفرائض واجتنبوا

__________________

(١) أكثر أهل العلم على أن الشفق الحمرة بعد غروب الشمس قال الفراء سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وقال الشاعر : وأحمر اللون كمحمر الشفق.

(٢) من شواهد هذه الحقيقة قول الشاعر :

كذلك المرء إن ينسأ له أجل

يركب على طبق من بعده طبق

(٣) الاستفهام للإنكار عليهم والتعجب من حالهم في ترك الإيمان.

(٤) (يُكَذِّبُونَ) صيغة المضارع تدل على استمرار تكذيبهم والصلة هي الكفر. فلو آمنوا ما كذبوا ولكفرهم يكذبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به وأخبر عنه.

(٥) (فَبَشِّرْهُمْ) الفاء للتفريع والترتيب والبشارة هنا للتهكم بهم.

(٦) الاستثناء منقطع بمعنى لكن الذين آمنوا ، الخ.

٥٤٦

المحارم فهؤلاء (لَهُمْ أَجْرٌ) أي ثواب عند الله إلى يوم يلقونه (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير منقوص ولا مقطوع في الجنة دار السلام. اللهم اجعلنا من أهلها برحمتك يا أرحم الراحمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الإنسان مقبل على أحوال وأهوال حالا بعد حال وهولا بعد هول إلى أن ينتهى إلى جنة أو نار.

٢ ـ بيان أن عدم إيمان الإنسان بربه أمر يستدعي العجب إذ لا مانع للعبد من الإيمان بخالقه وهو يعلم أنه مخلوق وقد تعرف إليه فأنزل كتبه وبعث رسله وأقام الأدلة على ذلك.

٣ ـ مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية وهي وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون.

٤ ـ علم الله تعالى بما يعي الإنسان في قلبه وما يحمل في نفسه فذكره للعبد بأن يراقب ربه فلا يعي في قلبه إلا الإيمان ولا يحمل في نفسه إلا الخير فلا غل ولا حسد ولا شك ولا عداء ولا بغضاء.

سورة البروج

مكية وآياتها ثنتان وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

٥٤٧

شرح الكلمات :

(ذاتِ الْبُرُوجِ) : أي منازل الشمس والقمر الاثنى عشر برجا.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) : أي يوم القيامة إذ وعدت لله تعالى عباده أن يجمعهم فيه لفصل القضاء.

(وَشاهِدٍ) : أي يوم الجمعة.

(وَمَشْهُودٍ) : أي يوم عرفة.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) : أي لعن أصحاب الأخدود.

(الْأُخْدُودِ) : أي الحفر تحفر في الأرض وهو مفرد وجمعه أخاديد.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) : أي على حافتها وشفيرها.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) : أي ما عابوا أي شيء سوى إيمانهم بالله تعالى.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) هذا قسم من أعظم الأقسام إذ أقسم تعالى فيه بالسماء ذات البروج وهي منازل الشمس والقمر الأثنا عشر برجا ، (٢) وباليوم الموعود وهو يوم القيامة إذ وعد الرب تعالى عباده أن يجمعهم فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون وبالشاهد (٣) وهو يوم الجمعة وبالمشهود وهو يوم عرفة وجواب القسم أو المقسم عليه محذوف قد يكون تقديره لتبعثن ثم لتنبؤن لأن السورة مكية والسور المكية تعالج العقيدة بأنواعها الثلاثة التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، وجائز أن يكون الجواب (قُتِلَ) بتقدير اللام وقد نحو لقد قتل أي لعن أصحاب الأخدود وهي حفر حفرها الكفار وأججوا فيها نارا وأتوا بالمؤمنين المخالفين لدينهم وعرضوا عليهم الكفر أو الإلقاء في النار فاختاروا الإلقاء في النار مع بقاء إيمانهم حتى إن امرأة كانت ترضع صبيا فأحجمت عن إلقاء نفسها مع طفلها في النار فأنطق الله الصبي فقال لها : أماه امضي فإنك على الحق فاقتحمت النار. وقوله (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) بيان للحال التي كانوا يفتنون فيها المؤمنين والمؤمنات إذ كانوا على شفير النار وحافتها قاعدين ، وقوله تعالى (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ

__________________

(١) روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج وروي أيضا عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يقرأ في العشاء بالسموات أي السماء ذات البروج والسماء والطارق.

(٢) (الْبُرُوجِ) هي منازل الكواكب والشمس والقمر يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين. وتسير الشمس في كل برج منها شهرا وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، والبروج في لغة العرب القصور.

(٣) روى الترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة وقال فيه حديث حسن غريب ، وجائز أن يكون الشهود الكرام الكاتبين والمشهود عليهم بنو آدم ، وجائز أن يكون الشاهد هذه الأمة والشهود عليهم سائر الأمم وجائز غير ما ذكر.

٥٤٨

بِالْمُؤْمِنِينَ) من الإلقاء في النار والارتداد عن الإسلام (شُهُودٌ) أي حضور ، ولم يغيروا منكرا ولم يأمروا بمعروف. وقوله تعالى (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي وما عابوا عنهم شيئا سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فحسب العبد من الله هذه الصفات فإنها توجب الإيمان بالله وطاعته ومحبته وخشيته وهي كونه سبحانه وتعالى عزيزا في انتقامه لأوليائه حميدا يحمده لآلائه ونعمه سائر خلقه مالكا لكل ما في السموات والأرض ليس لغيره ملك في شيء معه وعلمه الذي أحاط بكل شيء دل عليه قوله وهو على كل شيء شهيد. فكيف ينكر على المؤمن إيمانه بربه ذي الصفات العلا. والجلال والجمال والكمال. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك. وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ (١) وَالْمُؤْمِناتِ) أي فتنوهم عن دينهم فأحرقوهم بالنار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) بعد فتنتهم للمؤمنين والمؤمنات (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء لهم. (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) عذاب جهنم في الدار الآخرة وعذاب الحريق في الدنيا. فقد روي أنهم لما فرغوا من إلقاء المؤمنين في النار والمؤمنون كانت تفيض أرواحهم قبل وصولهم إلى النار فلم يحسوا بعذاب النار والكافرون خرجت لهم النار من الأخاديد وأحرقتهم فذاقوا عذاب الحريق في الدنيا ، وسيذوقون عذاب جهنم في الآخرة هذا بالنسبة إلى أبدانهم أما أرواحهم فإنها بمجرد مفارقة الجسد تلقى في سجين مع أرواح الشياطين والكافرين وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنوا بالله ربا وإلها وعبدوه بأداء فرائضه وترك محارمه (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها. وقوله تعالى (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (٣) حقا هو فوز كبير ، لأنه نجاة من النار أولا ودخول الجنة ثانيا. كما قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

__________________

(١) (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) الخ .. الآية عامة ليست خاصة بأصحاب الأخدود ولا بكفار قريش ، وإنما هي عامة في كل من يفتن المؤمنين والمؤمنات في دينهم.

فيصرفهم عنه بأنواع من التعذيب وجزاؤهم ما ذكر في الآية وهو عذاب جهنم وعذاب الحريق إلا من تاب قبل موته وقد عد ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات في مكة أبو جهل رأس الفتنة وأمية بين خلف والأسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة وعد من المعذبين المفتونين بلال بن رباح ، وأبو فكيهة وخباب بن الأرت وياسر والد عمار وعامر بن فهيرة وعدد من النساء المعذبات حمامة أم بلال ، وزنيرة ، وسمية والدة عمار.

(٢) هذا الكلام مستأنف يبين فيه تعالى جزاء من آمن وعمل صالحا وهو دعوة إلى الإيمان والعمل الصالح والتخلي عن الشرك والشر والفساد. إنه لما ذكر جزاء الكفر وهو عذاب جهنم وعذاب الحريق ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان وصالح الأعمال.

(٣) اسم الإشارة (ذلِكَ) عائد إلى ما اختصهم الله تعالى به من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل في دار السلام.

٥٤٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ فضل يومي الجمعة وعرفة.

٣ ـ بيان ما يبتلى به المؤمنون في هذه الحياة ويصبرون فيكون جزاؤهم الجنة.

٤ ـ الترهيب والترغيب في ذكر جزاء الكافرين والمؤمنين الصالحين.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

شرح الكلمات :

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) : أي أخذه إذا أخذ الكافر شديد.

(يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) : أي يبدىء الخلق ويعيده بعد فنائه ويبدىء العذاب ويعيده.

(الْغَفُورُ الْوَدُودُ) : أي لذنوب عباده المؤمنين المتودد لأوليائه.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) : أي صاحب العرش إذ هو خالقه ومالكه والمجيد المستحق لكمال صفات العلو.

(فِي تَكْذِيبٍ) : أي بما ذكر في سياق الآيات السابقة.

(مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) : أي هم في قبضته وتحت سلطانه وقهره.

(قُرْآنٌ مَجِيدٌ) : أي كريم عظيم.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) : أي من الشياطين والمراد به اللوح المحفوظ.

٥٥٠

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ما توعد به الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم أخبر رسوله معرضا بمشركي قومه وطغاتهم الذين آذوا المؤمنين في مكة من أجل إيمانهم أخبره بقوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ (١) لَشَدِيدٌ) أي إن أخذه إذا بطش أخذه أليم شديد ودلل على ذلك بقوله (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) فالقادر على البدء والإعادة بطشه شديد. وقوله (يُبْدِئُ) أي الخلق ثم يعيده. ويبدىء العذاب (٢) أيضا ثم يعيده (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) فهو قادر على البطش بأعدائه ، وهو الغفور لذنوب أوليائه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) أي صاحب العرش خلقا وملكا المجيد العظيم الكريم ، (فَعَّالٌ لِما (٣) يُرِيدُ) إذ لا يكره تعالى على شيء ولا يقدر أحد على إكراهه.

وقوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) كيف أهلكهم الله لما طغوا وبغوا وكفروا وعصوا نعم قد أتاك وقرأته عى قومك الكافرين ولم ينتفعوا به لأنهم يعيشون في تكذيب لك يحيط بهم لا يخرجون منه لأنه تكذيب ناشئ من الكبر والحسد والجهل فلذا هم لم يؤمنوا بعد. وقوله تعالى (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٤) أي هم في قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يخفى عليه منهم شيء ولا يحول بينه وبينهم متى أراد أخذهم شيء. وقوله تعالى (بَلْ هُوَ (٥) قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٦) يرد بهذا على المشركين الذين قالوا في القرآن إنه سحر وشعر وأساطير الأولين فقال ليس هو كما قالوا وادعوا وإنما هو قرآن مجيد في لوح محفوظ من الشياطين فلا تمسه ولا تقربه ولا من غير الشياطين من سائر الخلق أجمعين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تهديد الظلمة بالعذاب عقوبة في الدنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) يرى بعضهم أن قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) هو جواب القسم (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ). وأنه وإن كان جائزا فإن تقديره في أول الكلام أولى من تأخيره. وهذه الآية مستأنفة تحمل الوعيد والتعريض بمجرمي قريش كأبي جهل وأضرابه.

(٢) إنه هو يبدىء ويعيد الجملة تعليلية إذ الذي يبدي ويعيد لا يكون بطشه إلا قويا شديدا ومن مظاهر الكمال الألهي جمعه بين صفتي البطش ، والمغفرة والود ، فهنيئا لأوليائه ، ويا ويل أعدائه.

(٣) روي أن أناسا دخلوا على أبي بكر في مرضه الذي مات فيه يعودونه فقالوا له ألا نأتيك بطبيب؟ قال قد رآني قالوا فما قال لك؟ قال قال لي : إني فعال لما أريد وفي بعض الروايات قال الطبيب أمرضني.

(٤) فهو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون ، وعاد وثمود قبله.

(٥) (بَلْ) للإضراب الإبطالي أي ليس القرآن كما يصفونه بأنه أساطير الأولين ، وإفك مفترى وما إلى ذلك مما قالوه في القرآن من رده وعدم الإيمان به بل هو قرآن مجيد بالغ الغاية في المجد والشرف والسمو والعلو في ألفاظه ومعانيه ، وما يحمل من هدى وتشريع وأنه في مناعته لا تصل إليه أيدي الخلق بالتحريف والتبديل إذ هو في لوح محفوظ.

(٦) قرأ نافع وحده يرفع محفوظ صفة القرآن وجره الباقون حفص وغيره على أنه نعت للفظ لوح وحفظ اللوح حفظ للقرآن المكتوب عليه.

٥٥١

٢ ـ إن الله تعالى لكرمه يتودد لأوليائه من عباده.

٣ ـ فائدة القصص هي الموعظة تحصل للعبد فلا يترك واجبا ولا يغشى محرما.

٤ ـ بيان إحاطة الله تعالى بعباده وأنهم في قبضته وتحت سلطانه.

٥ ـ شرف القرآن الكريم ، وإثبات اللوح المحفوظ وتقريره.

سورة الطارق

مكية وآياتها سبع عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

شرح الكلمات :

(وَالطَّارِقِ) : أي كل ما يطرق ويأتي ليلا وسمي النجم طارقا لطلوعه ليلا.

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) : أي الثريا والثاقب المضيء الذي يثقب الظلام بنوره.

(لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) : أي إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها.

(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) : أي ماء ذي اندفاق وهو بمعنى مدفوق أي مصبوب في الرحم.

(مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) : الصلب : عظم الظهر من الرجل ، والترائب عظام الصدر والواحدة تريبة.

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) : أي تختبر ضمائر القلوب في العقائد والنيات. والسرائر جمع سريرة كالسر.

٥٥٢

(ذاتِ الرَّجْعِ) : أي ذات المطر لرجوعه كل حين والرجع من أسماء المطر.

(ذاتِ الصَّدْعِ) : أي التصدع والتشقق بالنبات.

(لَقَوْلٌ فَصْلٌ) : أي يفصل بين الباطل وفي الخصومات يقطعها بالحكم الجازم.

(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) : أي باللعب والباطل بل هو الجد كل الجد.

(يَكِيدُونَ كَيْداً) : أي يعملون المكائد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَكِيدُ كَيْداً) : أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون لأوقعهم في المكروه.

(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : أي زمنا قليلا وقد أخذهم في بدر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) هذا قسم إلهي حيث أقسم تعالى بالسماء والطارق ولما كان لفظ الطارق يشمل كل طارق آت بليل ، وأراد طارقا معينا فخم من شأنه بالاستفهام عنه الدال على تهويله فقال (٢) (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) ثم بينه بقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) وكل نجم هو ثاقب للظلام بضوئه. والمراد به هنا الثريا لتعارف العرب على إطلاق النجم على الثريا. هذا هو القسم والمقسم عليه هو قوله تعالى (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ (٣) لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤). وهنا قراءتان سبعيتان الأولى بتخفيف ميم لما وحينئذ تصبح زائدة لتقوية الكلام لا غير واللام للفرق بين إن النافية والمؤكدة الداخلة على الأسم وهو هنا ضمير شأن محذوف والتقدير أنه أي الحال والشأن كل نفس عليها حافظ. والثانية بتشديد لما وحينئذ تكون إن نافية بمعنى ما ولما بمعنى إلا ويصير الكلام هكذا. ما كل نفس إلا عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشر. وقوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) (٥) أي الكافر المكذب بالبعث والجزاء (مِمَّ خُلِقَ) أي من أي شيء خلق. وبين تعالى مما خلقه بقوله (خُلِقَ مِنْ (٦) ماءٍ دافِقٍ) أي ذي اندفاق وهو المني يصب في الرحم (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي يخرج الماء من صلب الرجل وهو عظام ظهره وترائب المرأة وهي محل القلادة من صدرها ، وقد اختلف في تقدير فهم هذا الخبر عن الله تعالى وجاء

__________________

(١) قال العلماء افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق اليه.

(٢) (وَما أَدْراكَ) استفهام المراد منه تهويل الأمر وتعظيمه.

(٣) الإخبار بأن كل نفس عليها حافظ يحفظ أعمالها لتحاسب عليها وتجزى بها إثبات للبعث الآخر بطريق الكناية.

(٤) قرأ نافع بتخفيف الميم من لما وشددها حفص.

(٥) الفاء للتفريع إذ الجملة متفرعة عن قوله إن كل نفس لما عليها حافظ إن شك الإنسان في حقيقة البعث فلينظر في أصل نشأته وجائز أن تكون الفاء الفصيحة.

(٦) هذا جواب الاستفهام (مِمَّ خُلِقَ) إذ من ابتدائية وما استفهامية وحذف ألفها تخفيفا لتقدم حرف الجر عليها نحو عم؟ ولم؟ والجار والمجرور متعلق بخلق بعده والإنسان منكر البعث.

٥٥٣

العلم الحديث فشرح الموضوع وأثبت أن ماء الرجل يخرج حقا مما ذكر الله تعالى في هذه الآية وأن ماء المرأة كذلك يخرج مما وصف عزوجل وصدق الله العظيم. وقوله تعالى (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ (١) لَقادِرٌ) أي الذي خلقه مما ذكر من ماء دافق فجعله بشرا سويا ثم أماته بعد أن كان حيا قادر على إرجاعه حيا كما كان وأعظم مما كان. وذلك (٢) (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي تختبر (٣) الضمائر وتكشف الأسرار وتعرف العقائد والنيات الصالحة من الفاسدة والسليمة من المعيبة ويومها (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) ليس لهذا الكافر والمكذب بالبعث والحياة الثانية ما له قوة يدفع بها عن نفسه عذاب ربه ولا ناصر ينصره فيخلصه من العذاب. وقوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أقسم تعالى بالسماء ذات السحب والغيوم والأمطار ، والأرض ذات التشقق عن النباتات والزروع المختلفة على أن القرآن الكريم قول فصل وحكم عدل في كل مختلف فيه من الحق والباطل فما أخبر به وحكم فيه من أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها هو الحق الذي لا مرية فيه والصدق الذي لا كذب معه وقوله تعالى (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي وليس القرآن باللعب الباطل بل هو الحق من الله الذي لا باطل معه. وقوله تعالى (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي إن كفار قريش يمكرون بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدعوته مكرا ويكيدون لهما كيدا. وقوله (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي وأنا أمكر بهم أكيد لهم كيدا فمن يغلب مكره وكيده الخالق المالك أم المخلوق المملوك؟ (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) يا رسولنا (أَمْهِلْهُمْ) قليلا ، فقد كتبنا في كتاب عندنا (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقد أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين فلم يمض إلا سنيات قلائل ، ولم يبق في مكة من سلطان إلا الله ، ولا من معبود يعبد إلا الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد والبعث والجزاء.

٢ ـ تقرير أن أعمال العباد محصية محفوظة وأن الحساب يجري بحسبها.

٣ ـ بيان مادة تكوين الإنسان ومصدر تكوين تلك المادة.

٤ ـ التحذير من إسرار الشر وإخفاء الباطل ، وإظهار خلاف ما في الضمائر ، فإن الله تعالى عليم بذلك ، وسيختبر عباده في كل ما يسرون ويخفون.

__________________

(١) جائز أن يكون (عَلى رَجْعِهِ) ماء في الصلب كما كان قادرا إلا أن ما في التفسير أولى بقرينة يوم تبلى السرائر وذلك يوم القيامة الذي هو يوم البعث.

(٢) (تُبْلَى) نختبر وتمتحن لإظهار ما كان مستورا مخبوءا فيها من كفر وإيمان وخير وشر. ورد عن السلف أن الوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة من السرائر ، وأن حيض المرأة وحملها من السرائر إذ في إمكانها إخفاءه وإظهاره.

(٣) (السَّرائِرُ) جمع سريرة وهي ما يسر العبد ويخفيه في نفسه. وما يستره من أعماله. قال الأحوص :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشاء

سريرة ود يوم تبلى السرائر

٥٥٤

٥ ـ إثبات أن القرآن قول فصل ليس فيه من الباطل شيء وقد تأكد هذا بمرور الزمان فقد صدقت أنباؤه ونجحت في تحقيق الأمن والاستقرار أحكامه.

سورة الأعلى

مكية وآياتها تسع عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤))

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

شرح الكلمات :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) : أي نزه اسم ربك أن يسمى به غيره وأن يذكر بسخرية أو لعب أي لا يذكر إلا باجلال واكبار ونزه ربك عما لا يليق به من الشرك والصاحبة والولد والشبيه والنظير.

(الْأَعْلَى) : أي فوق كل شيء والقاهر لكل شيء.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) : أي الإنسان فسوى أعضاءه بأن جعلها متناسبة غير متفاوتة.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) : أي قدر ما شاء لمن شاء وهداه إلى إتيان ما قدره له وعليه.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) : أي أنبت العشب والكلأ.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) : أي بعد الخضرة والنضرة هشيما يابسا أسود.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) : أي القرآن فلا تنساه بإذننا.

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : أي إلا ما شئنا أن ننسيكه فإنك تنساه وذلك إذا أراد الله تعالى نسخ شيء من القرآن بلفظه فإنه ينسي فيه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٥٥

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) : أي للشريعة السهلة وهي الإسلام.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : أي من تذكر أو لم تنفع ومعنى ذكر عظ بالقرآن.

(وَيَتَجَنَّبُهَا) : أي الذكرى أي يتركها جانبا فلا يلتفت إليها.

(الْأَشْقَى) : أي الكافر الذي كتبت شقاوته أزلا.

(يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) : أي نار الدار الآخرة.

(لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) : أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيا فيهنأ.

معنى الآيات :

قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) هذا أمر من الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته تابعة له بأن ينزه اسم (٢) ربه عن أن يسمى به غيره ، أو أن يذكر في مكان قذر ، أو أن يذكر بعدم اجلال واحترام ، والأعلى صفة للرب تبارك وتعالى دالة على علوه على خلقه فالخلق كله تحته وهو قاهر له وحاكم فيه. (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي أوجد من العدم المخلوقات وسوى خلقها كل مخلوق بحسب ذاته فعدل أجزاءه وسوى بينها فلا تفاوت فيها (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدر الأشياء في كتاب المقادير من خير وغيره وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له أو عليه فهو طالب له حتى يدركه في زمانه ومكانه وعلى الصورة التى قدر عليها (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي ما ترعاه البهائم من الحشيش والعشب والكلأ. (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٣) أي فجعله بعد الخضرة والنضرة هشيما متفرقا يابسا بين سواد وبياض وهي الحوة هذه خمس آيات الآية الأولى تضمنت الأمر بتنزيه اسم الله والأربع بعدها في التعريف به سبحانه وتعالى حتى يعظم اسمه وتعظم ذاته وتنزه عن الشريك والصاحبة والولد وقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) هذه عدة من الله تعالى لرسوله. لعل سببها أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءه جبريل بالآيات يخاف نسيانها فيستعجل قراءتها قبل فراغ جبريل عليه‌السلام من إملائها عليه فيحصل له بذلك شدة فطمأنه ربه أنه لا ينسى ما يقرئه جبريل (إِلَّا ما شاءَ (٤) اللهُ) أن ينسيه إياه لحكمة اقتضت ذلك فإنه ينساه فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينسى وذلك لما أراد الله أن ينسخه من كلامه.

__________________

(١) روي في السنن لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعلوها في سجودكم. فكانوا يقولون في سجودهم سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر.

(٢) إن تنزيه الاسم مستلزم لتنزيه المسمى ، فلذا لا حاجة إلى القول بأن اسم صلة قصد بها تعظيم المسمى. استشهادا بقول لبيد :

إلى الحول تم اسم السلام عليكما

فتنزيه اسم الله وتقديسه مطلوب

بل من أسمى المطالب ، وتنزيه الله تعالى يكون بنفي الشريك عنه والولد ونفي كل نقص عنه قولا واعتقادا وما يقرر أن تنزيه الاسم مستلزم لتنزيه المسمى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعلوها في سجودكم. لأنها دالة على تنزيه الرب تعالى وتعظيمه.

(٣) الأحوى : الموصوف بالحوة وهي لون من الألوان سمرة تقرب من السواد ، وأحوى صفة لغثاء الذي هو اليابس من النبات.

(٤) الاستثناء مفرغ أي إلا الذي شاء الله أن تنساه فإنك تنساه.

٥٥٦

وقوله تعالى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) هذه الجملة تعليلية لقدرة الله تعالى على أن يحفظ على رسوله القرآن فلا ينساه ومعنى يعلم الجهر وما يخفى أي أن الله تعالى يعلم ما يجهر به المرء من قراءة أو حديث وما يخفيه الكل يعلمه الله بخلاف عباده فإنهم لا يعلمون ما يخفى عليهم ويسر به وقوله تعالى (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي للطريقة السهلة الخالية من الحرج وهي الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس أن لا حرج في الدين (وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ (١) الذِّكْرى) من آيسناك من إيمانهم أو لم تنفع. لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالبلاغ فيبلغ الكافر والمؤمن ويذكر الكافر والمؤمن. والأمر بعد لله. وقوله تعالى (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيذكر ويتعظ من يخشي عقاب الله لإيمانه به ومعرفته له (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي الذكرى (الْأَشْقَى) أي أشقى الفريقين فريق من يتذكر وفريق من لا يتذكر (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي يدخل النار الكبرى نار يوم القيامة (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) من جراء عذابها فيستريح (وَلا يَحْيى) (٢) فيهنأ ويسعد إذ الشقاء لازمه. وهذه حال أهل النار ونعوذ بالله من حال أهل النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب تسبيح اسم الله وتنزيهه عما لا يليق به كوجوب تنزيه ذات الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.

٢ ـ مشروعية قول سبحان ربي الأعلى عند قراءة هذه الآية سبح اسم ربك الأعلى.

٣ ـ وجوب التسبيح بها في السجود في كل سجدة من الصلاة سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر.

٤ ـ مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة والأعلى وفي الثانية بالفاتحة والكافرون ، وفي ركعة الوتر بالفاتحة والصمد أو الصمد والمعوذتين.

٥ ـ أحب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الأعلى لأنها سورة ربه وأن ربه بشره فيها بشارتين عظيمتين الأولى انه ييسره لليسرى ، ومن ثم ما خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما والثانية أنه حفظه من النسيان بأن جعله لا ينسى. ولذا كان يصلي بهذه السورة الجمع والأعياد والوتر في كل ليلة فصلى الله عليه وسلم.

__________________

(١) في الجملة تعريض بأن بين كفار قريش من لم تنفعهم الذكرى ، ومع هذا فالتذكير متعين للجميع إقامة للحجة.

(٢) قوله (وَلا يَحْيى) في الجملة احتراس مما قد يظن أنه ما دام الجهنمي أنه لا يموت فسوف يحيى حياة عادية لا عذاب فيها فرفع هذا التوهم بهذه الجملة (وَلا يَحْيى) أي حياة راحة من العذاب كما قال القائل :

ألا ما لنفس لا تموت فينقضي

عناها ولا تحيا حياة لها طعم

٥٥٧

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

شرح الكلمات :

(أَفْلَحَ) : أي فاز بأن نجا من النار ، ودخل الجنة.

(مَنْ تَزَكَّى) : أي تطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) : أي في كل أحايينه عند الأكل وعند الشرب وعند النوم وعند الهبوب منه وفي الصلاة وخارج الصلاة من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير.

(فَصَلَّى) : أي الصلوات الخمس والنوافل من رواتب وغيرها.

(تُؤْثِرُونَ) : أي تقدمون وتفضلون الدنيا على الآخرة.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) : أي إن هذا وهو قوله قد أفلح إلى قوله وأبقى.

(صُحُفِ إِبْراهِيمَ) : إذ كانت عشر صحف.

(وَمُوسى) : أي توراته.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) يخبر تعالى بفلاح عبد مؤمن زكى نفسه (١) أي طهرها بالإيمان وصالح الأعمال ، وذكر اسم ربه على كل أحايينه عند القيام من النوم عند الوضوء بعد الوضوء في الصلاة وبعد الصلاة وعند الأكل والشرب وعند اللباس فلا يخلو من ذكر الله ساعة فصلى الصلوات الخمس وصلى النوافل. ومعنى الفلاح الفوز والفوز هو النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. والمراد منه في الآية النجاة من النار ودخول الجنة لآية آل عمران (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). وقوله تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أيها الناس أي تفضلونها على الآخرة فتعملون لها وتنسون الآخرة فلا تقدمون لها شيئا.

__________________

(١) قوله (تَزَكَّى) فيه معنى المعالجة وهي أنه عمل على تزكية نفسه بإبعادها عما يخبثها من الشرك والآثام ، ثم بتحليتها بالعبادات المزكية لها وهي الإيمان وصالح الأعمال.

٥٥٨

هذا هو طبعكم أيها الناس إلا من ذكر الله فصلى بعد أن آمن واهتدى في حين أن الآخرة خير من الدنيا وأبقى خير نوعا وأبقى مدة حتى قال الحكماء (١) لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف .. طين لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية وقوله تعالى (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أي إن قوله تعالى قد أفلح من تزكى إلى قوله خير وأبقى مذكور في كل من صحف ابراهيم وكانت له عشر صحف ولموسى (٢) ، التوراة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الترغيب في الزكاة والذكر والصلاة ، ويحصل هذا للمسلم كل عيد فطر إذ يخرج زكاة الفطر أولا ثم يأتي المسجد يكبر ، ثم يصلي حتى أن بعضهم يرى أن هذه الآية نزلت في ذلك.

٢ ـ التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة لفناء الدنيا وبقاء الآخرة.

٣ ـ توافق الكتب السماوية دليل أنها وحي الله وكتبه أنزلها على رسله عليهم‌السلام.

سورة الغاشية

مكية وآياتها ست وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

__________________

(١) قال مالك بن دينار ونص كلمته كالتالي : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى. قال فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟

(٢) لقد كان لموسى صحف كثيرة إذ هي مجموع صحف أسفار التوراة والصحف جمع صحيفة على غير قياس إذ القياس صحائف وصار صحف أشهر وأفصح من صحائف كما قالوا في جمع سفينة سفن فكان أفصح من سفائن.

٥٥٩

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتاكَ) : أي قد جاءك.

(الْغاشِيَةِ) : أي القيامة وسميت الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ تقوم الساعة.

(خاشِعَةٌ) : أي ذليلة أطلق الوجوه وأراد أصحابها.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) : أي ذات نصب وتعب بالسلاسل والأغلال وتكليف شاق الأعمال.

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) : ترد هذه الوجوه نارا حامية قد اشتدت حرارتها.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) : أي بلغت أناها من الحرارة يقال أني الحميم إذا بلغ منتهاه.

(إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) : أي أخبث طعام وأنتنه ، وضريع الدنيا نبت يقال له الشبرق لا ترعاه الدواب لخبثه.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) : أي حسنة نضرة.

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) : أي لعملها الصالحات في الدنيا راضية في الآخرة لما رأت من ثوابها.

(لاغِيَةً) : أي كلمة لاغية من اللغو والباطل.

(وَأَكْوابٌ) : أقداح لا عرا لها موضوعة على حافة العين للشرب.

(وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) : أي ومساند جمع نمرقة مصفوفة الواحدة إلى جنب الأخرى للاستناد إليها.

(وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : أي بسط وطنافس لها خمل وما لا خمل لها يسمى سجادة ومعنى مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ (١) حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (٢) هذا خطاب من الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول له فيه هل أتاك نبأ الغاشية وخبرها العظيم وحديثها المهيل المخيف إن لم يكن أتاك فقد أتاك الآن إنه حديث القيامة التي تغشي الناس بأهوالها وصعوبة مواقفها واشتداد أحوالها وإليك عرضا سريعا لبعض ما يجري فيها : (وُجُوهٌ (٣) يَوْمَئِذٍ) تغشاهم الغاشية (خاشِعَةٌ) ذليلة (ناصِبَةٌ) أي

__________________

(١) افتتح تعالى هذه السورة بالاستفهام بهل المفيد لمعنى قد التي هي للتحقيق من أجل التشويق إلى ما يخبر به لما فيه من العلم والمعرفة وما يحوي من موعظة كبرى.

(٢) (الْغاشِيَةِ) : القيامة علم لها بالغلبة واشتق لها هذا الاسم من الغشيان الذي هو التغشيان الذي هو التغطية إذ هي تغطي الناس بأهوالها وتذهل عقولهم وتغطيها.

(٣) هذه الجملة بيان لجملة حديث الغاشية بينها بذكر أحوالها وأهوالها إذ المقصود العبرة وتقرير البعث الذي أنكره المشركون وذكر الوجوه كناية عن أصحابها إذ يطلق الوجه ويراد به الذات.

٥٦٠